شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فيقول الإمام النووي رحمه الله تعالى:

عن أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ .

عظمة معاني هذا الحديث على غيره

إن هذا الحديث الشريف ليعتبر من أهم وأعظم وأجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه مدار جميع طوائف علماء الإسلام: من فقهاء ووعاظ وزهاد وعباد، وهو مع طوله يضع منهجاً تعليمياً بجانب المنهج العلمي، فقد أرشد فيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام جاء يعملهم أمر دينهم، فجمع الدين كله بتعليم من جبريل عليه السلام في هذا الحديث، ولهذا مهما عُني به الإنسان ومهما تناوله العلماء فلا أعتقد أن أحداً يوفيه حقه إلا إذا تكلّم على الدين كله.

يبدأ هذا الحديث بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتقدمت ترجمة عمر في الحديث الأول: (إنما الأعمال بالنيات) .

يقول رضي الله تعالى عنه: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ ).

المكان الذي أتى فيه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم

جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل المتعلم، وفي بعض الروايات: (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) .

وكلمة: (بينما) أو (بينا) يتفق علماء اللغة والمحدثون على أن (بينما) أصلها (بين) الظرفية التي تأتي للزمان وللمكان، تقول: جئتك بين العشاءين، وجئتك بين الظهر والعصر، ولقيتك بين المنبر والحجرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وقد تأتي (ما) قبل (بين) وتكون موصولة، فإذا جاءت (ما) بعدها لم تضف (بينما) إلا إذا كانت بين مجموعتين لا بين فردين، و(ما) هنا ألحقت بها لتكفها عن الإضافة إلى الفرد فلا تعمل الجر بالإضافة فيما بعدها، ولهذا يعرب ما بعدها مرفوعاً على الابتداء.

(بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي بعض الروايات: (في المسجد).

وهو المسجد النبوي الشريف، يأتي جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم، ولهذا حُقّ لطلبة العلم في المسجد النبوي أن يفخروا ويحمدوا الله سبحانه، لأنهم يدرسون في المسجد الذي جاء فيه جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم.

تعظيم أهل الحديث لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم

وهو كذلك يعطينا أيضاً صورة طالب العلم كيف يأتي إلى المسجد النبوي وإلى المعلم بهذه الصورة: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر) فطالب العلم وخاصة العلماء تكون لهم هيئتهم ونظافتهم ومظهرهم.

وقد قالوا: كان مالك رحمه الله أشد الناس عناية باللباس، خاصة إذا درّس الحديث النبوي الشريف، وربما يبيع بعض أثاث بيته ليكمل هيئته في لباسه من أجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي قصة مجيء هارون الرشيد إليه، حينما جاء إلى المدينة وعلم بموطأ الإمام مالك ، وكان من قبل أبو جعفر المنصور أشار على مالك بهذا الكتاب المبارك.

وجاء هارون ومعه الأمين والمأمون وأراد لهما أن يسمعا الموطأ من مالك ، فطلبه بكتابه إلى دار الإمارة، فامتنع من الذهاب إليه، وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون الرشيد بنفسه ليسمع الموطأ من مالك ، فلما وصل إلى باب بيته وأخبرته الخادمة أن هارون الرشيد على بابه، أبطأ حتى جاء إلى هارون وأذن له بالدخول، فقال له هارون الرشيد : ما هذا يا مالك ! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فأوقفتنا على بابك؟!

قال: يا أمير المؤمنين! إن وقوف العلماء على أبواب الأمراء يزري بهم، ووقوف الخلفاء على باب العلماء يعلي شأنهم، ثم إني علمت أنك جئت إلى بيتي، لا تريد دنيا ولا مالاً إنما تريد العلم، فذهبت فاغتسلت، ولبست ثيابي وتهيأت كي ألقي عليك من سنة رسول الله وأنا على أحسن حال. وهكذا ينبغي لطالب العلم!

كان بعض إخواننا الذين درسنا معهم في هذا المسجد النبوي الشريف كتاب بلوغ المرام، ورياض الصالحين، ونيل الأوطار، وهذا الكتاب المبارك الموطأ، كانوا في النهار يعملون في الأسواق على لقمة العيش بعفة وباستغناء عن الناس، فإذا جاء وقت الدرس بين المغرب والعشاء، كأنهم أقمارٌ في هذا المسجد في نظافتهم وهيئتهم ونور وجوههم، وهكذا: فقد كانوا في النهار عمالاً يسعون على أرزاقهم وعند الدرس لا تفرق بين أحسن إنسان في المسجد وبين هؤلاء الطلبة.

وهكذا يرسم لنا جبريل الطريق، ثم ها هو يأتي في بعض الروايات: (أنه وقف بعيداً وقال: يا محمد أأدنو؟ قال: ادن، ثم دنا قليلاً، وقال: أأدنو؟ قال: ادن، إلى أن وصل إلى مكانه وجلس).

وبعض الكتب تذكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلس خاص؛ لأن الأعراب حينما كانوا يأتون إليه لا يفرقون بينه وبين سائر المسلمين ولا يعرفونه، فجعل له مجلساً خاصاً يميزه عند من يأتيه وهو لا يعرفه فيقصده صلى الله عليه وسلم، ولكني لم أجد في من أرّخ للمسجد النبوي هذا المجلس الخاص.. يذكرون أسطوانة الوفود في الروضة، التي كان يستقبل عندها الوفود، ويذكرون غيرها من الأسطوانات مثل أسطوانة السرير عند الاعتكاف، وأسطوانة التوبة لـأبي لبابة ، وأسطوانة المخلقة التي كان يجلس عندها ويجلس عنده شيوخ بني هاشم أو شيوخ المهاجرين الذين يوجدون بالمدينة.. إلى غير ذلك من الأماكن.

هيئة طالب العالم أمام شيخه

والذي يهمنا: أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الذي هو فيه، وأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلساً خاصاً في المسجد النبوي يستقبل فيه الناس.

ومن هنا أخذ العلماء كيفية حالة الطالب مع شيخه حين طلبه للعلم بين يديه، ومجيئه بكل وقارٍ واحترامٍ لأستاذه كما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك من حق العالم أن يتخذ مكاناً في المسجد يجلس فيه، ولا يحق لأحد أن يسبقه إليه، وإذا سبقه إليه أحد فمن حقه أن يقيمه عنه، وهذا موضوع سبق النزاع فيه في هذا المسجد في القرن السابع الهجري، وقام ابن فرحون وكتب كتاباً - وهو مخطوط موجود في مكتبة عارف حكمت، وتوجد منه نسخة في مكتبة الجامعة- وذلك عندما نازعه أشخاص في أن يختص بمجلس له، فكتب الرد عليهم، وبين مشروعية ذلك، وأتبعه بسؤال: هل الأفضل للعالم بعد أداء الدرس أن يجلس مع طلابه يتناقشون في مسائل درسهم ويصلي مكانه، أو أنه يتركهم ويذهب إلى الصف الأول لفضيلته؟

ورجح أن جلوسه مع طلابه يدارسهم ويسألونه ويجيبهم عما أشكل عليهم في درسه أفضل له من أن يتقدم إلى الصفوف الأول؛ لأنه حاضرٌ قبل أن يتم الصف الأول.

وفي تلك الهيئة، يسند جبريل ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع كفيه على فخذيه، أي: فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكر بعض العلماء، وفي رواية عند النسائي فيها التصريح بأن جبريل وضع كفيه على فخذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن هذا الحديث الشريف ليعتبر من أهم وأعظم وأجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه مدار جميع طوائف علماء الإسلام: من فقهاء ووعاظ وزهاد وعباد، وهو مع طوله يضع منهجاً تعليمياً بجانب المنهج العلمي، فقد أرشد فيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام جاء يعملهم أمر دينهم، فجمع الدين كله بتعليم من جبريل عليه السلام في هذا الحديث، ولهذا مهما عُني به الإنسان ومهما تناوله العلماء فلا أعتقد أن أحداً يوفيه حقه إلا إذا تكلّم على الدين كله.

يبدأ هذا الحديث بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتقدمت ترجمة عمر في الحديث الأول: (إنما الأعمال بالنيات) .

يقول رضي الله تعالى عنه: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ ).