سرعان الناس
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
سَرَعَان الناسظاهرة محزنة مؤلمة فاشية، يفعلها كثير من الذين يصلون في المساجد، وهذه الظاهرة المشاهَدة هي خروج طائفة من المصلين سِراعًا بُعَيْدَ تسليم الإمام، حتى إن أحدهم لا ينتظر هُنَيْهَات، يقول فيها على الأقل: أستغفر الله ثلاثًا.
وهؤلاء يسمَّون سَرَعَان الناس، على خلاف في ضبط كلمة "سرعان"؛ أي أوائلهم الذين يسرعون إلى الخروج، من قبل أن يأتوا بشيء من أذكار ما بعد الصلاة، وقد يكون بعض هؤلاء - وهم قليل - معذورين في سرعة خروجهم، إلا أن أكثرهم لا عذر لهم؛ يدل على ذلك حالهم بعد انصرافهم.
ولعل من أسباب هذه الظاهرة الجهل بفضائل الجلوس بعد الصلاة، والإتيان بالأذكار المشروعة، وربما لو أنهم - عفا الله عنا وعنهم - ذُكِّروا بشيء منها، لَما فرطوا بعدُ فيها؛ حرصًا عليها، ورغبةً في نَيلها والظَّفَر بها، وفيما هو آتٍ من هذه الكلمات باقة من فضائلها، وطاقة من بركاتها؛ عسى الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها؛ فمن ذلك:
1- قراءة أذكار ما بعد الصلاة، وهي ذات فضل عظيم، وخير لو يعلمون عميم، ويكفي في الدلالة على ذلك:
• قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سبَّح الله في دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير - غُفرت خطاياه، وإن كانت مثل زَبَدِ البحر)).
• وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من قرأ آية الكرسي في دُبُر كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)).
• ثم تأمل - بارك الله فيك - فيما نصح به النبي صلى الله عليه وسلم فقراءَ المهاجرين لما قالوا له: ((ذهب أهلُ الدُّثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتِقون ولا نُعتِق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به مَن بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة، ثلاثًا وثلاثين مرةً))، وفي رواية أخرى أنه قال لهم: ((ألا أحدثكم إن أخذتم، أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خيرَ مَن أنتم بين ظهرانيه، إلا من عمِل مثله؛ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين)).
فمن من ذوي الألباب يسمع بهذا الفضل، ثم يتركه راغبًا عنه إلى ما سواه من متاع الدنيا الزائل؟
2- ومن ثمرات الجلوس بعد الصلاة المكتوبة: الفوز بدعاء الملائكة للعبد، ما دام في مُصلَّاه الذي صلى فيه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((...
والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تُبْ عليه، ما لم يؤذِ فيه، ما لم يحدِث فيه)).
فما أحوجنا - والله - يا إخواننا إلى هذا الدعاء من الملائكة الكرام، ونحن الغارقون في الذنوب، المقترفون لها صباحَ مساءَ! وعجبًا والله ما الذي يفعله أحدنا ليظفر بثمرة هذا الدعاء، سوى الجلوس في أحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل، والملائكة يدعون له بالرحمة والمغفرة والتوبة؟
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: "فمن كان كثير الذنوب، وأراد أن يحطها الله عنه بغير تعب، فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة؛ ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجوٌّ إجابته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28]".
فتأمل هذه النصيحة الطيبة، واعمل بها، وانصح بالعمل بها مَن تراه غافلًا عنها من إخوانك، يكن ذلك في ميزان حسناتك.
3- ومن الفوائد سوى ما سلف حثُّك - ببقائك جالسًا غيرك من المصلين بلسان الحال - على الجلوس بعد الصلاة؛ فمن المشاهَد أنه ما إن يقُم رجل حتى يتبعه غيره سراعًا.
4- ومنها كذلك أن تستشعر وأنت جالس في المسجد أنك في بيت الله جل وعلا، وأحب بقاع الأرض إليه وأنك مدعو منه سبحانه وتعالى؛ ليكرمك، وإكرامه لك لا ينتهي بانتهاء الصلاة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ في بيته، ثم أتى المسجد، فهو زائر الله عز وجل، وحق على الْمَزُور أن يكرم الزائر))، وأنت الزائر، وتستشعر أنك مدعو منه جل وعلا لمجلس هو أعظم المجالس؛ لتنال من خيرات هذا المجلس وبركاته؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((إن للمساجد أوتادًا، الملائكةُ جلساؤهم، إن غابوا يفتقدوهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة)).
هذه بعض فضائل وبركات الجلوس في المسجد بعد الصلاة؛ لقراءة الأذكار، أو لانتظار الصلاة الأخرى، فإناستطعت ألَّا تفوتك، فافعل واحرص عليها، ولا تكن فيها من الزاهدين.
والحمد لله رب العالمين.