تقويم الله لغزوة أحد [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى يحكم العالم بسنن لا تتغير، لا يمكن أن يجد لها الإنسان تبديلًا ولا أن يجد لها تحويلاً، وهذه السنن هي عادة الله في خلقه، وهي حاكمة للعالم كله، فمنها سنة التدافع بين الحق والباطل ولو توقفت لتعطلت الدنيا كلها، ومنها كذلك سنة ظهور الباطل وانتشاره امتحانًا للناس، ومنها سنة التضحيات واقترانها بالنصر، إنما النصر مع الصبر، وغيرها من السنن.

ففي تقويم الله تعالى لغزوة أحد وبيانه لنتائجها يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137].

قد خلت: أي قد مضت من قبلكم يا معشر المؤمنين سنن، فما يحصل في التاريخ إنما هو تكرار لما حصل فيه في الماضي، فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:9].

فما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين جاء به الأنبياء من قبله، وما واجهه به المنذرون واجهوا به من قبله من الرسل ولذلك قال الله تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43].

فكل ما يحصل إنما هو تجارب مضت وهي معادة مكررة، ومن عادة الله سبحانه وتعالى أن تكون للباطل صولة ثم يضمحل بعد ذلك، ويظهر الحق فهو يعلو ولا يعلى عليه، ولذلك قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106].

وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:39-41].

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

وقال تعالى: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ[الأنفال:19].

وقال تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8].

أثر غفلة الناس عن سنة التداول وتغير الأمور

فكل هذه الآيات تبين هذه السنة من سنن الله سبحانه وتعالى وهي متحققة لا محالة، ولكن كثيرًا من الناس يغفل عنها، فما يحصل لدى الناس من الانهزام والاستعجال وتمني خلاف الواقع إنما هو غفلة عن التجارب وعما مضى في تاريخ هذه البشرية، فكثير من الناس إذا تعلقت آمالهم بأمر من الأمور أو لاح لهم بارق النصر في جهة من الجهات، ثم أخلف ذلك فلم يتحقق، وذلك بأمر الله تعالى وحكمته البالغة انهزموا وأصيبوا بالإحباط، وسبب ذلك عدم اطلاعهم على السنن وعدم أخذهم بها، فلو أخذوا بسنن الله الماضية وحال السابقين لما أصابهم ذلك الوهن ولما حصل في قلوبهم ما حصل من الإخفاق والإحباط.

إن على كل إنسان في خاصة نفسه أن ينظر إلى سنن الله المسيرة للعالم قبله، فكل إنسان في خاصة نفسه في حياته إخفاقات ونجاحات، وفي حياته تحقق لبعض الآمال وفوات لبعضها.

تأثير سنة التداول على حياة المؤمن ومواقفه

فإذا كان صاحب إيمان وتصديق يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فيتحقق قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23].

ومن هنا فلا يمكن أن يحزن المؤمن ولا أن يهزم بعلمه أن كلما يصيبه قد كتب من قبل، وأن مع العسر يسراً، وأن بعد الحال الذي هو فيه حال آخر قد يغاير ذلك الحال وينافيه، كل ذلك مضى في تاريخ الأمم والشعوب.

ومن هنا فعلى الإنسان إذا نال خيرًا عاجلًا أن لا يغتر به، وأن يعلم أنه ستأتي الدولة الأخرى بعد ذلك، فالدنيا دول فكل يوم لله فيه أمر، وقد جعل الله تعالى أحوال الناس متباينة، وكذلك إذا أصابته ضراء عليه أيضًا أن لا يتضعضع وأن لا يحزن لها؛ لأنه يعلم أن الدولة التي تلي تلك أيضًا على خلاف ذلك الواقع، ومن هنا فلا بد أن يتذكر الإنسان حال كل من سبقه، فالإنسان وارث لمن سبقه، وكل مكان أنت فيه قد سبقك إليه غيرك، فأنت وارث لآبائك وأجدادك ولتتذكر حالهم وما مر عليهم في هذه الدنيا، وبه تعلم أنك أنت لست بدعًا ولست تجربة جديدة، ولست نوعًا فريدًا، إنما أنت سالك لطريق الذين مضوا وسبقوا، والمقعد الذي تشغله قد شغله من قبلك آخرون فذهبوا، وهكذا في أمور الدنيا كلها، لا يمكن أن تتولى أمرًا ولا أن تقوم بوظيفة، ولا أن تشغل أي حيزٍ من الدنيا إلا وقد شغل قبلك ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

فكل هذه الآيات تبين هذه السنة من سنن الله سبحانه وتعالى وهي متحققة لا محالة، ولكن كثيرًا من الناس يغفل عنها، فما يحصل لدى الناس من الانهزام والاستعجال وتمني خلاف الواقع إنما هو غفلة عن التجارب وعما مضى في تاريخ هذه البشرية، فكثير من الناس إذا تعلقت آمالهم بأمر من الأمور أو لاح لهم بارق النصر في جهة من الجهات، ثم أخلف ذلك فلم يتحقق، وذلك بأمر الله تعالى وحكمته البالغة انهزموا وأصيبوا بالإحباط، وسبب ذلك عدم اطلاعهم على السنن وعدم أخذهم بها، فلو أخذوا بسنن الله الماضية وحال السابقين لما أصابهم ذلك الوهن ولما حصل في قلوبهم ما حصل من الإخفاق والإحباط.

إن على كل إنسان في خاصة نفسه أن ينظر إلى سنن الله المسيرة للعالم قبله، فكل إنسان في خاصة نفسه في حياته إخفاقات ونجاحات، وفي حياته تحقق لبعض الآمال وفوات لبعضها.

فإذا كان صاحب إيمان وتصديق يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فيتحقق قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23].

ومن هنا فلا يمكن أن يحزن المؤمن ولا أن يهزم بعلمه أن كلما يصيبه قد كتب من قبل، وأن مع العسر يسراً، وأن بعد الحال الذي هو فيه حال آخر قد يغاير ذلك الحال وينافيه، كل ذلك مضى في تاريخ الأمم والشعوب.

ومن هنا فعلى الإنسان إذا نال خيرًا عاجلًا أن لا يغتر به، وأن يعلم أنه ستأتي الدولة الأخرى بعد ذلك، فالدنيا دول فكل يوم لله فيه أمر، وقد جعل الله تعالى أحوال الناس متباينة، وكذلك إذا أصابته ضراء عليه أيضًا أن لا يتضعضع وأن لا يحزن لها؛ لأنه يعلم أن الدولة التي تلي تلك أيضًا على خلاف ذلك الواقع، ومن هنا فلا بد أن يتذكر الإنسان حال كل من سبقه، فالإنسان وارث لمن سبقه، وكل مكان أنت فيه قد سبقك إليه غيرك، فأنت وارث لآبائك وأجدادك ولتتذكر حالهم وما مر عليهم في هذه الدنيا، وبه تعلم أنك أنت لست بدعًا ولست تجربة جديدة، ولست نوعًا فريدًا، إنما أنت سالك لطريق الذين مضوا وسبقوا، والمقعد الذي تشغله قد شغله من قبلك آخرون فذهبوا، وهكذا في أمور الدنيا كلها، لا يمكن أن تتولى أمرًا ولا أن تقوم بوظيفة، ولا أن تشغل أي حيزٍ من الدنيا إلا وقد شغل قبلك ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

ومن هنا فلابد من الانتفاع من تجارب السابقين، فالذين يقبلون على الدنيا بلهف، وهم ينظرون إليها نظرة إكبار وإعظام، ويتمنون إكمال كل متطلباتهم فيها، ويلهثون وراءها لم يأخذوا بهذه السنة ولم يتحققوا بحال الذين جمعوها فأوعوا، ولم يبق لهم أرب فيها إلا وصلوا إليه، ثم بعد ذلك ماذا كانت النهاية؟ إنما كانت النهاية الموت، وأن يتركوا ما جمعوه فيفرقه من وراءهم.

كل من بلغ أملًا في هذه الحياة فنهايته عند انقطاع أجله، وبذلك يتفرق ما كان يجمعه ويتبدد ما كان يؤمله، وإذا أدرك الإنسان هذا الحال أخذ التجارب من أقرب الأقربين إليه ومن الذين يلونه، ثم الذين يلونهم وهكذا، وبهذا يدرك أنه لا يمكن أن يكون فلتة من الزمن ولا بدعًا من السابقين، وإنما هو سالك لطريق قد سلك من قبله.

زوال الوهم والوهن بالنظر في سنن الله

فإذا عرفنا ذلك وتأكدنا حصوله زال عنا أمران متضادان: أحدهما: الوهم، والثاني: الوهن.

فالوهم يقتضي من الإنسان أن يتصور أنه بالإمكان أن يصل إلى ما لم يصل إليه غيره، وبذلك يفرح بنجاحاته ويحزن حزنًا شديدًا لإخفاقاته، ويعلق آمالًا ضخامًا كبارًا بأمور لا يمكن أن يصل إليها، فهذا يحصل من الوهم.

أما الوهن: فإنه ضعف يصيب الإنسان إذا لم يصل إلى مبتغاه، وبذلك يتراجع عما يستطيع تحقيقه، فيكون ناقصا ًوهو قادر على التمام الممكن في حقه:

ولم أر من عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام

فلذلك قال: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].

والسنن: جمع سنة، والسنة المقصود بها سنة الله تعالى أي: عادته في الماضي، فالسنة تطلق على الطريقة خيرًا كانت أوشرًا، فمن إطلاقها على الخير قول الله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء:77].

وتطلق على الشر ومن ذلك قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137].

أمر الناس بالتفكر والنظر في أيام الله

إذا كان الخطاب لأمة الدعوة وهم الكفار؛ لأنهم بذلك يسلكون طرق من سبقهم من المكذبين، وهذا ما تدل عليه نهاية الآية: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137].

وقد قال بعض أهل التفسير المقصود بالسنن هنا ما يشمل أيام الله في نصرة أوليائه وأيامه في أخذ أعدائه، فيكون ذلك شاملًا للأمرين معًا، فيكون شاملًا لسنن الخير وسنن الشر، وذلك محتمل؛ لأنه سيأتي أيضًا التحدث عن حال الأنبياء السابقين ومجاهدتهم لقومهم.

فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]، هذا أمر معناه التسيير، معناه أن الإنسان لا يمكن أن يخرج من نطاق الأرض، بل إنما يسير في طرق السابقين الذين سبقوه إلى استعمالها وعمروها أكثر مما عمرها، وبذلك لا يستطيع الخروج عن أقطار السماوات والأرض، فالله سبحانه وتعالى يتحدى الثقلين الإنسان والجن بذلك، فيقول: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33].

فلا يستطيع الإنسان أن يبتغي نفقًا في الأرض حتى يخرج منها أو سلمًا في السماء حتى يصل إليها، بل إنما يسير على الأرض كما سار السابقون من قبله.

فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]: وإذا سرتم فيها ماذا ستكون النتيجة؟ لا يقصد مجرد السير فيها أو أن تعمرها فتبني المباني وتلد الأولاد.

لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب

إنما نتيجة ذلك أن تدرك العبرة، وأن تأخذ الحجة التي تقوم عليك من واقع السالفين الذين سبقوك إلى عمارتها، فلهذا قال: فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137].

فانظروا يا معشر السائلين في الأرض المتتبعين لآثار السابقين الذين عمروها وملئوها، ما ذا تجدون من آثارهم؟ هل تسمعون لهم حسًا؟ أو تجدون لهم أثرًا؟ إلا آثارا ًتدل على ما عمروا فيها وعلى ما استغلوا من خيراتها ثم ذهبوا، فذهب الأثر بعد العين ولم تبق لهم باقية.

أين قوم نوح الذين ملئوا أقطارها وضاقت بهم، وأين بعدهم عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15].

وأين بعدهم ثمود الذين لم يصل قوم قط إلى ما وصلوا إليه من قوة الأبدان والجسامة، أين فرعون الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى؟ أين عمرو بن كلثوم الذي قال: (متى ننقل إلى قوم رحانا).

فكل أولئك قد ذهبوا وتركوا آثارهم لمن يأتي بعدهم، ومن هنا فلن تعمر بيتًا في الدنيا إلا وقد عمره قبلك آخرون، حتى القبور نحن مسبوقون إليها، فما في الأرض موضع إلا وقد قبر فيه بعض السابقين، وسيقبر فيه بعض اللاحقين، ولهذا قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهد أوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويدًا لا اختيالًا على رفات العباد

رب لحدٍ قد صار لحدًا مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد

فاسأل الفرقدين عمن أحسا من قبيل وآنسا من بلاد

كم أقاما على زوال نهار وأنارا لمدلج في سواد

تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد

إن حزنا ًفي ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد

الاعتبار بحال المكذبين من الأمم السابقة وعاقبتهم

فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يأخذ العبرة من السابقين الذين سلفوا، فلذلك قال: ( فانظروا) أي: تفكروا، والنظر يطلق على نظر البصر ونظر القلب وكلاهما مقصود هنا.

(كيف كان عاقبة المكذبين)، ماذا كانت نتيجتهم، أليست الفناء والانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة؟ أليسوا جميعا ًقد قدموا إلى ما قد قدموا، وانقطعت آمالهم ولم يصلوا إلى مبتغاهم في هذه الحياة الدنيا، ولم يصل أحد منهم إلى الخلود.

كل ذلك مقتضٍ منا أن نأخذ العبرة منهم، وأن نعلم أن ما سبقونا إليه هو طريقنا نحن على آثارهم أيضًا، فالنتيجة إنما هي بالفوز يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

والمكذبون هم الذين كذبوا الرسل فتكذيب واحد من المرسلين تكذيب لكل المرسلين، ولهذا قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105].

ونوح أول الرسل إلى أهل الأرض فتكذيبهم له تكذيب لكل المرسلين؛ لأن ما جاءوا به هو أصل الدين عند الله كما قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13].

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36]، وهذه العاقبة معروفة، فالإنسان المؤمن يعلم أن وعد الله لا يخلف، وأن الله سبحانه وتعالى توعد الظالمين بسوء المنقلب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، فلذلك قال: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36].

فإذا عرفنا ذلك وتأكدنا حصوله زال عنا أمران متضادان: أحدهما: الوهم، والثاني: الوهن.

فالوهم يقتضي من الإنسان أن يتصور أنه بالإمكان أن يصل إلى ما لم يصل إليه غيره، وبذلك يفرح بنجاحاته ويحزن حزنًا شديدًا لإخفاقاته، ويعلق آمالًا ضخامًا كبارًا بأمور لا يمكن أن يصل إليها، فهذا يحصل من الوهم.

أما الوهن: فإنه ضعف يصيب الإنسان إذا لم يصل إلى مبتغاه، وبذلك يتراجع عما يستطيع تحقيقه، فيكون ناقصا ًوهو قادر على التمام الممكن في حقه:

ولم أر من عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام

فلذلك قال: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].

والسنن: جمع سنة، والسنة المقصود بها سنة الله تعالى أي: عادته في الماضي، فالسنة تطلق على الطريقة خيرًا كانت أوشرًا، فمن إطلاقها على الخير قول الله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء:77].

وتطلق على الشر ومن ذلك قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137].

إذا كان الخطاب لأمة الدعوة وهم الكفار؛ لأنهم بذلك يسلكون طرق من سبقهم من المكذبين، وهذا ما تدل عليه نهاية الآية: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137].

وقد قال بعض أهل التفسير المقصود بالسنن هنا ما يشمل أيام الله في نصرة أوليائه وأيامه في أخذ أعدائه، فيكون ذلك شاملًا للأمرين معًا، فيكون شاملًا لسنن الخير وسنن الشر، وذلك محتمل؛ لأنه سيأتي أيضًا التحدث عن حال الأنبياء السابقين ومجاهدتهم لقومهم.

فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]، هذا أمر معناه التسيير، معناه أن الإنسان لا يمكن أن يخرج من نطاق الأرض، بل إنما يسير في طرق السابقين الذين سبقوه إلى استعمالها وعمروها أكثر مما عمرها، وبذلك لا يستطيع الخروج عن أقطار السماوات والأرض، فالله سبحانه وتعالى يتحدى الثقلين الإنسان والجن بذلك، فيقول: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33].

فلا يستطيع الإنسان أن يبتغي نفقًا في الأرض حتى يخرج منها أو سلمًا في السماء حتى يصل إليها، بل إنما يسير على الأرض كما سار السابقون من قبله.

فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]: وإذا سرتم فيها ماذا ستكون النتيجة؟ لا يقصد مجرد السير فيها أو أن تعمرها فتبني المباني وتلد الأولاد.

لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب

إنما نتيجة ذلك أن تدرك العبرة، وأن تأخذ الحجة التي تقوم عليك من واقع السالفين الذين سبقوك إلى عمارتها، فلهذا قال: فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137].

فانظروا يا معشر السائلين في الأرض المتتبعين لآثار السابقين الذين عمروها وملئوها، ما ذا تجدون من آثارهم؟ هل تسمعون لهم حسًا؟ أو تجدون لهم أثرًا؟ إلا آثارا ًتدل على ما عمروا فيها وعلى ما استغلوا من خيراتها ثم ذهبوا، فذهب الأثر بعد العين ولم تبق لهم باقية.

أين قوم نوح الذين ملئوا أقطارها وضاقت بهم، وأين بعدهم عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15].

وأين بعدهم ثمود الذين لم يصل قوم قط إلى ما وصلوا إليه من قوة الأبدان والجسامة، أين فرعون الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى؟ أين عمرو بن كلثوم الذي قال: (متى ننقل إلى قوم رحانا).

فكل أولئك قد ذهبوا وتركوا آثارهم لمن يأتي بعدهم، ومن هنا فلن تعمر بيتًا في الدنيا إلا وقد عمره قبلك آخرون، حتى القبور نحن مسبوقون إليها، فما في الأرض موضع إلا وقد قبر فيه بعض السابقين، وسيقبر فيه بعض اللاحقين، ولهذا قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهد أوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويدًا لا اختيالًا على رفات العباد

رب لحدٍ قد صار لحدًا مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد

فاسأل الفرقدين عمن أحسا من قبيل وآنسا من بلاد

كم أقاما على زوال نهار وأنارا لمدلج في سواد

تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد

إن حزنا ًفي ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد

فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يأخذ العبرة من السابقين الذين سلفوا، فلذلك قال: ( فانظروا) أي: تفكروا، والنظر يطلق على نظر البصر ونظر القلب وكلاهما مقصود هنا.

(كيف كان عاقبة المكذبين)، ماذا كانت نتيجتهم، أليست الفناء والانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة؟ أليسوا جميعا ًقد قدموا إلى ما قد قدموا، وانقطعت آمالهم ولم يصلوا إلى مبتغاهم في هذه الحياة الدنيا، ولم يصل أحد منهم إلى الخلود.

كل ذلك مقتضٍ منا أن نأخذ العبرة منهم، وأن نعلم أن ما سبقونا إليه هو طريقنا نحن على آثارهم أيضًا، فالنتيجة إنما هي بالفوز يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

والمكذبون هم الذين كذبوا الرسل فتكذيب واحد من المرسلين تكذيب لكل المرسلين، ولهذا قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105].

ونوح أول الرسل إلى أهل الأرض فتكذيبهم له تكذيب لكل المرسلين؛ لأن ما جاءوا به هو أصل الدين عند الله كما قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13].

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36]، وهذه العاقبة معروفة، فالإنسان المؤمن يعلم أن وعد الله لا يخلف، وأن الله سبحانه وتعالى توعد الظالمين بسوء المنقلب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، فلذلك قال: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36].

هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ[آل عمران:138].

هذا البيان الذي جاء من عند الله تعالى ببيان سننه وببيان المعادلة الواضحة بين الحق والباطل، وبيان الفرق الشاسع بين أهل الجنة وأهل النار، بيان أي: إيضاح يحتاج الناس إليه، فهو علم من علم الله تعالى وهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، (هذا بيان للناس).

إقامة الحجة على الناس

وهو بيان لجميع الناس من كان مصدقًا منهم ومن كان مكذبًا، فمن كان مصدقا ًفهو حجة له وتثبيت ومن كان مكذبًا كان حجة عليه، وكان دامغًا له بالمعجزة الظاهرة الباهرة، هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ[آل عمران:138].

ومع ذلك فإن الحجية التي له تأخذ بألباب أهل الإيمان إذا أراد الله لهم الهداية، ففي هذا القرآن هداية لهم وهذا البيان سبب لهداية كثير من الناس، فالله سبحانه وتعالى يهدي به من شاء من عباده ويضل عنه من شاء منهم، فلهذا قال: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

وعظ المتقين وهدايتهم

والهدى إنارة طريق الحق، وهو اسم مصدر الهداية، وهو قسمان: هداية توفيق وهداية إرشاد.

فهداية التوفيق: أن يأخذ الله بناصية العبد إلى الخير، وهداية الإرشاد هي أن يقيم عليه الحجة، وأن يريه المحجة ببعثة الرسل وتنزيل الكتب، وهداية الإرشاد مثبتة، أثبت الله القدرة عليها للأنبياء، وهداية التوفيق إلى الله وحده.

وهداية التوفيق هي التي نسألها ربنا في كل ركعة من ركعات صلاتنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

وهداية الإرشاد هي التي بين الله أنه أعطى ثمود فلم يأخذوا بها: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

ولذلك بين الله تعالى قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الإرشاد فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

وبين أنه لا يستطيع هداية التوفيق فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

هذا البيان أيضًا فيه موعظة للمتقين، والموعظة مفعلة من الوعظ، والوعظ هو تحفيز النفس للطاعة أي: لامتثال الأمر واجتناب النهي، سواء كان ذلك بترقيق القلب أو كان بالترغيب والترهيب، أو كان ببيان الحكم، فالوعظ ثلاثة أقسام إما بترقيق القلب بذكر الموت وذكر الدار الآخرة، وذكر صفات الله سبحانه وتعالى وتمام قدرته.

والقسم الثاني من الوعظ: هو الوعظ ببيان الحكم، أي: ببيان الأحكام، فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ[البقرة:275]، أي: جاءه أمر أو نهي من ربه، فهذا النوع يسمى وعظًا أيضًا.

والقسم الثالث: هو الوعظ بالترغيب أو بالترهيب، فكل ذلك أيضًا يشمله الوعظ، فهي ثلاثة أقسام إذًا، فلذلك قال: وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138].

فالموعظة أهلها المنتفعون بها انتفاعًا كاملًا هم أهل الإيمان والتقوى، أما من سواهم فانتفاعهم بها ناقص، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11].

وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:9-13].