تقويم الله لغزوة أحد [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى في سوقه لهذه الأحداث وتقويمه لتضحيات المؤمنين، يخلل ذلك بالأوامر والنواهي الموجهة إليهم؛ لبيان أن هذه الأحداث وما يقع في التاريخ من العبر والأمور، كلها ينبغي أن يأخذ منهما المؤمنون عبرة ودروسًا لمستقبلهم، ولتجارب حياتهم.

وينبغي أن يربطوا ذلك كله بالربانية والاتصال بالله سبحانه وتعالى؛ لعلمهم أن الأسباب لا تأثير لها في شيء من الكائنات، وإنما يقع ما أراده الله سبحانه وتعالى على نحو ما أراد، فلذلك يقدر من الأسباب ما شاء، ويرتب عليها من الأحداث ما شاء، ومن هنا قال في هذا المقطع:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، وهذا بيان لقاعدة عامة في سير المؤمنين في كل أمورهم، فالفشل والخلل إنما يقع للمسلمين إذا أطاعوا الكافرين، أو تقربوا إليهم بالتنازل عن مبادئهم، أو تركوا بعض ما أمرهم الله به خوفًا من الكافرين، أو طمعًا فيما عندهم، فلا يمكن أن يقع ذلك إلا ترتبت عليه أحداث عظيمة، ومحن تضر بهذه الأمة، فلذلك ناداهم، وربط هذا النداء بالإيمان الذي هو الدافع العقدي الذي يدفعهم إلى التضحية والبذل، فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)).

ثم ربط هذا الأمر بالشرط المشكك، فإن (إن)- كما سبق للمشكوك فيه؛ أي: أن ذلك مستغرب أن يقع من المؤمنين، وهو طاعتهم للكافرين، كيف يطيعونهم في مقابل طاعتهم لله؟! فالطاعة إنما تكون على أساس الخوف، أو الطمع، أو المحبة، وهذه الثلاثة كلها منقطعة بالنسبة للكفار.

فالمؤمنون يعلمون أن الكفار لا يملكون لهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا ولا حياةً ولا موتًا ولا نشورًا، ويعلمون أنهم لو كان لديهم نفع لبدءوا به بأنفسهم، ولا يحبونهم؛ لأنهم يعادونهم في الدين، فكل ذلك يقتضي منهم عدم طاعتهم، فلهذا قال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:149].

وهذه الطاعة جاءت بصيغة الفعل الذي يقتضي الإطلاق، فهو يشمل الطاعة في القليل والكثير، فطاعتهم بالامتثال لما يأمرون به ويخططونه، حتى لو كان ذلك أمرًا يسيرًا مدعاة للهزيمة والمذلة في المؤمنين.

ولهذا فإن الكفار قد يأمرون بأمر يسير، ولا يترتب عليه في الظاهر كبير خلل، ولكن من سنة الله تعالى أنهم إذا أطاعهم المؤمنون فيه، جاءت نكبة من عند الله تعالى تصيب المؤمنين؛ لتنبيههم على الخطأ الذي وقعوا فيه، وعلى الخطر الذي ينتظرهم إذا استمروا على هذا الطريق، وهو طاعة الكافرين، فلذلك قال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:149].

والطاعة: هي امتثال ما يأمرون به، أو اجتناب ما ينهون عنه، والطاعة امتثال أو اجتناب، فلا يدخل في ذلك مجرد العلاقة التي تقع بين الوالد وولده، أو بين الجار وجاره، أو بين الشريك وشريكه، فكل ذلك لا يدخل في الطاعة المنهي عنها هنا، فإنما الطاعة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في مقابل طاعة الله سبحانه وتعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:149].

وفي مقابل وصف أهل الإيمان بالإيمان في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[آل عمران:149] جاء وصف الكافرين بالكفر بنفس الصيغة، وهي صيغة الاسم الموصول المشترك وصلته التي هي جملة فعلية؛ ليدل ذلك على التناقض الكامل، فهؤلاء الذين آمنوا، وأولئك الذين كفروا، فالبون شاسع بين الطائفتين، وهذا يدلنا على الضدية الحاصلة بين أهل الإيمان، وأهل الكفر، فكما أن الإيمان ضد للكفر، فكذلك أهل الإيمان ينبغي أن يكونوا دائمًا ضدًا لأهل الكفر، فلذلك قال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:149]، ولم يقل: إن تطيعوا الكافرين؛ لأنه في مقابل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا[آل عمران:149]، وهذا وصف لهم بكفرهم بالله سبحانه وتعالى، وهذا كافٍ في تحطيم معنوياتهم، فأنتم يا معاشر المؤمنين، ارتفع شأنكم حين وصفتم بأكمل الأوصاف وأحسنها، فأكمل أوصاف المخلوقين: هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

وأدنى أوصاف المخلوقين وأذلها: هو الكفر بالله تعالى، فأهل الإيمان وصفوا بأشرف الأوصاف، وأكملها، وأتمها، حين ناداهم الرب الكريم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[آل عمران:149]، وأهل الكفر وصفوا بأقذر الأوصاف، وشرها وأدناها، حين قال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، بين الله سبحانه وتعالى أن طاعته سبب لرجوع المؤمنين إلى الأعقاب، وهذا الرجوع يشمل الرجوع الحسي والرجوع المعنوي، فالرجوع الحسي: هو بالتراجع عما قطعوه من الخطوات في سبيل التقدم في تحقيق الاستخلاف في الأرض، فهو شامل للتراجع عن المبادئ والتراجع عن المنجزات والأعمال التي أحرزوها، وهو شامل كذلك للتراجع المعنوي، وهو الرجوع عن الإيمان إلى الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.

وذلك أن هذا الإيمان له شعب كثيرة، وله طعم يذاق، وهو حلاوته، فشعبه إذا قطع الإنسان فيها شوطًا، فأنجز منها عددًا، فلا يزيده ذلك من الله إلا قربًا، ولا يزيده إلا ارتفاعًا في الدرجات، حتى يصل إلى أعلى مقام يمكن أن يصل إليه العابدون، وبذلك يكون من المقربين الفائزين برضوان الله سبحانه وتعالى، وقربه.

كلما ازداد الإنسان في شعب الإيمان، وتحصيله، وأعماله، كلما ازداد يقينًا، وسكينةً، ونورًا، وبصيرة، فهذه الأمور هي من الجوائز التي يهبها الله تعالى للمحسنين.

فإذا أحسن الإنسان في الطاعة، وكان من المبادرين إليها، واجتنب المعصية، وكان من المعرضين عنها، الفارين منها، فإن ذلك لا يزيده إلا قربًا من الله سبحانه وتعالى، وثباتًا على الأمر وسكينة به، وهي الطمأنينة التي تحصل في القلب بحيث لا يشك الإنسان في شيء من الأمر، ولا يزيده كذلك إلا إسراعًا إلى الخير؛ لأن الحسنة تدعو إلى الحسنة، كما أن السيئة تدعو إلى السيئة، كلما ازداد الإنسان في الطاعات كلما خفت عليه مئونتها وسهلت عليه، ودعته إلى طاعات أكبر منها؛ ولذلك يمثل الإسراع في طريق الإيمان بسرعة المركبة، فالسيارة أو الطائرة في أول انطلاقتها تكون بطيئة ثقيلة، لكن كلما تقدمت في السير، كلما خفت وازدادت سرعتها، فكذلك سير الإنسان في الإيمان في بداية أمره يتعثر، ويصعب عليه التخلص من عاداته، ومن أسر بيئته ومن محيطه، ولكنه كلما ازداد عملًا، كلما ازداد يقينًا، واستمر على طريق الاستقامة والهداية.

ولهذا فإن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، كلما ازداد الإنسان طاعة، كلما ازداد إيمانه ويقينه، وكلما ارتكب معصية، كلما خدش من إيمانه ونقص؛ ولذلك فإن الفواحش والكبائر تقتضي مزايلة الإيمان لصاحبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة ترفع إليه الرءوس حين ينتهبها وهو مؤمن ).

فكل هذه الفواحش تقتضي مفارقة الإيمان للإنسان، فيبقى كالظلة فوقه حتى يتوب فيعود إليه أصل إيمانه، ويبقى الخدش والجرح في أثره، حتى إذا جاء بالحسنات التي تمحو هذه السيئات، وتزيل آثارها، كانت علاجًا لتلك الجروح والخدوش التي في أصل الإيمان؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[هود:114]، أي: يزلن آثارها بالكلية، فتلتئم الجراح وتعود كما لو لم تكن أصلًا؛ ولهذا فإن التوبة النصوح تجب ما قبلها، والإيمان بعد الكفر يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، ما لم تغشَ الكبائر، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فهذه الحسنات تدعو إلى الحسنات، وتشجع عليها، وتزيد الإنسان قوة وطمأنينة فيها؛ ولذلك على الإنسان أن يجرب نفسه، إذا أراد الإقلاع عن أية معصية فليتطهر في وقت الناس فيه معرضون عن الطاعة، كوقت النوم، وليذكر الله سبحانه وتعالى، وليصل ركعتين، وليتضرع إلى الله، فسيجد نفسه خفيفة إلى الازدياد من الطاعة، وسيجدها بعيدة عن المعصية.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار).

فالخطيئة وهي الذنب اشتعال يشتعل في بصيرة الإنسان وقلبه، فيحرق إيمانه وأعماله الصالحة، لكن الصدقة تطفئ هذا الاشتعال، فيذهب كأن لم يكن، (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار).

إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ[آل عمران:149]، وهذا الرد نسب إلى الذين كفروا، وهو من نسبة المسببات إلى أسبابها، فالله سبحانه وتعالى في القرآن ينسب الأفعال إليه عز وجل إذا كانت خيرًا محضًا، أو كانت عامة تشمل كل ذلك، والشر المحض ليس من الأدب نسبته إلى الله وحده، بل لا ينسب إليه إلا مقرونًا بالخير، كقول الله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا[النساء:78].

وكذلك ينسب إلى السبب، فيقال: يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، فالرد هنا شر محض، وقد نسب إلى مسببه، وهو الكفار، وهو الذين كفروا، كما ينسب كذلك إلى مفعوله، فيحذف فاعله، أو ينسب عرضًا إلى الإنسان المتصف به؛ كقول الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ[الشعراء:78].

وهذه أفعال يتمحض فيها الخير، فنسبت إلى الله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ[الشعراء:78-79].

لكن لما جاء المرض، وهو في ظاهر الأمر شر، لم ينسب إلى الله تعالى، فلم يقل: (والذي يمرضني ثم يشفيني)، بل قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[الشعراء:80]، فنسب الشفاء إليه؛ لأنه خير محض، ولم ينسب إليه المرض، فقال: وَإِذَا مَرِضْتُ[الشعراء:80] فنسب ذلك إلى الأعراض التي تصيب الإنسان في نفسه: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[الشعراء:80].

ولهذا قال: (يردوكم) وهذا الرد هو من قدر الله لا محالة، والله تعالى يخلق العباد ويخلق أفعالهم، ولكن مع هذا، لما كان شرًا محضًا لم ينسب إلى الله، فنسب إلى السبب، وهو الذين كفروا، فقال: يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:149]، وهذا الرد ربطه بما يقتضي النفرة منه، واستقباحه، واستهجانه، وهو أن يرتد الإنسان على عقبيه، فعقب الإنسان هما آخر قدميه، وهما أسفل شيء فيه، والإنسان لا يرضى أن يتكور فيرجع رأسه إلى عقبيه؛ لأن ذلك يقتضي انقلابًا لحقيقته، وزوالًا لشرفه، فلا يرضى الإنسان بهذا، فلا يرضى بقيادة عقبيه له.

ومن هنا كانت الهيئة التي خلق الله عليها الإنسان هي أحسن تقويم، فأحسن التقويم هو الهيئة التي خلق الله عليها الإنسان، يقوده وجهه، وهو أشرف ما فيه وأحسنه، وهو موقع السمع والبصر والكلام منه، فهو الذي يقوده، وقد جعل في مقابل ذلك عقبيه، في مقابل الوجه تمامًا، فهما في الطرف الأسفل، وهما إلى الجهة الخلفية بخلاف الوجه، فهو في الطرف الأعلى، وهو إلى الجهة الأمامية، فلذلك قال: عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:149].

والعقبان يرتبط بهما الجبن والخور؛ لأن الإنسان إذا هرب أصيب في قفاه، فتقاطر دمه أو سال على عقبيه، وقد سبق قول الشاعر:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما

أو: (ولكن على أقدامنا تقطر الدِّما)، روايتان في البيت؛ (الدَّما) بالقصر، لغة من لغات الدم، أو (الدِّما) بالقصر أيضًا، قصر للدماء جمع دم.

ومن هنا قال: يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:149]، ولم يذكر وجه الرد للشمول، فالحذف يقتضي العموم، فالرد هنا قد يكون عن أصل الإيمان، فمن أطاعهم في معصية الله سبحانه وتعالى، اقتضى ذلك منه سوء الخاتمة- نسأل الله السلامة والعافية- فيكفر بذلك، وذلك بموالاتهم، وهي أعظم طاعتهم، فأعظم طاعة للكفار موالاتهم في دينهم، ومن والاهم؛ أي: نصرهم على المؤمنين، ونصر دينهم على الإيمان كان منهم بالصريح، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51]، فيكون الإنسان حينئذٍ منهم، فيحكم عليه بسوء الخاتمة- نسأل الله السلامة والعافية- فإذا فتن عند الممات فأتاه الفتان، قال له: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، فيتحقق فيه ذلك، نسأل الله السلامة والعافية، وربما ظهرت علامات ذلك واتضحت في أفعاله وأخلاقه، وحتى في صورته وهيئته.

فإني أعرف شخصًا من الزعماء قد والى الكفار، وتنكر لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكرها، وقد كان في شبابه محبوبًا لدى كثير من شباب هذه الأمة، وكانت صورته إذ ذاك جميلة في صور عصره، ولكن مسخ الله صورته، فأصبح الآن في أقبح ما تكون الصور، لا يستطيع الإنسان إدمان النظر إليه، وقد حدثني الثقات من أهل بلدنا هذا: أنه في أيام المستعمر كان رئيس قبيلة من القبائل مبالغًا في موالاة المستعمرين النصارى، ويدلهم على عورات المؤمنين، وينتزع لهم أموالهم، ويفشي إليهم أسرار المجاهدين، فلدغ من الليل، لدغته حية فسجوه بثوب ينتظرون الصباح لتجهيزه، فلما أصبح إذا جثته جثة فرنسي على هيئته تمامًا، في لونه ولباسه وصورته، يقول أحد الذين رأوه: والله لقد انقلب شعره، فقد كان شعره ما بين أبيض وأسود، فانقلب إلى أصهب، كشعور الفرنسيين تمامًا، وهذه آية من آيات الله، وبيان لصدق ما جاءت به النصوص، وهي تدل على أن هذا الانقلاب والرجوع حقيقي، يترتب عليه مسخ الصورة، ومسخ التصور، ومسخ العمل، وغير ذلك من أنواع المسخ، حتى إن الإنسان في فكره يمسخ، فيتعجب الإنسان الآن لكثير من أصحاب المبادئ الذين كانوا يدافعون عنها، ويتمدحون بها بعد موالاتهم للكفار، يرجعون عن تلك المبادئ ويتنكرون لها بالكلية، فأنتم تعرفون كثيرًا من الذين كانوا يتمدحون بالقومية العربية، وقد أصبحوا تظهرهم التلفازات وهم يصافحون إخوان القردة والخنازير من اليهود المحتلين المستعمرين.

وكل هذا يدل على أن الرجوع رجوع حقيقي في التصورات، وفي المحبة، وفي الكره، وفي غير ذلك، وهو رجوع إلى الوراء بكل المعايير، وبكل القيم والمفاهيم، وهو شامل كذلك لجهل الإنسان ما علمه؛ لأن الإنسان إذا علم من الحق شيئًا فقد قطع مسافة في الطريق، فإذا عمل على خلاف ما علم فقد انتكس على عقبيه ورجع مسافة أخرى.

نماذج من كراهة المؤمن وبغضه للكفر وأهله

ومن هنا فإن على المؤمن أن يحذر من هذا الرجوع في كل الأوقات، فهو حريص على أصل إيمانه، وحريص على طعم الإيمان، الذي هو الحلاوة، ويعلم أن هذه الحلاوة لا تذاق إلا بالجانب العاطفي بالمحبة والكراهة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

ولهذا فإني أعرف رجلًا من الإنجليز قد أسلم، منَّ الله عليه بالإسلام، فأحب هذا الإسلام حبًّا شديدًا، وقد حدثني أنه إذا رأى الكفار في ممارساتهم وأعمالهم في الحدائق في لندن يكاد يتقيأ من ازدرائه لما هم فيه، يكاد يتقيأ لازدرائه لحياتهم، ومخالطتهم للكلاب، وتقللهم في ملابسهم، وشأنهم في أطعمتهم ومخالطتهم للناس، يتقزز من هذه الأمور كراهة لها حتى يكاد يتقيأ بمجرد النظر إليها، وقد كان هذا الحال حاصلًا قديمًا عند سكان هذه البلاد، فعندما جاء المستعمرون إلى هذه البلاد غازين، كان المستضعفون من أهل هذه البلاد- الذين لا يستطيعون جهادًا ولا دفعًا على الأقل- يكرهونهم كراهة شديدة، فلا يشربون في إناء شربوا فيه، ولا يأكلون في إناء أكلوا فيه، ولا يواكلونهم، ولا يشاربونهم، ولا يجلسون على فراش جلسوا عليه.

وأذكر قديمًا أن امرأة من أهل البادية جاءت إلى العلاج إلى هذه المدينة، وكان فيها إذ ذاك طبيب نصراني من هيئة تنصيرية مشهورة، وهي أطباء بلا حدود، فجاءت للعلاج، فلما قيل لها: هذا الطبيب، كانت تظنه مسلمًا، فلما وقع بصرها عليه أغمضت عينيها بشدة شديدة، فسألناها عن السبب، فقالت: ما رأيت كافرًا قط، ولا أحب أن أراه.

وهذه الكراهة ليست مختصة بهذا الشعب المسلم، بل هي تربية الإسلام للمسلمين، أن يكرهوا الكفر وأهله، وأن يكرهوا عداوة الله، وأن يكرهوا المعصية وأهلها مطلقًا، فيكرهون كل ما يكرهه الله تعالى؛ لشدة محبتهم لله.

ولذلك فقد حدثني الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله تعالى، وهو من علماء السودان، ومشايخ ذلك القطر: أن القائد الإنجليزي المحتل للسودان ركب جواده، فمر على أحد العلماء يدرس صبيانًا في الطريق في أم درمان، فلما مر عليه قام الناس إجلالًا لذلك الحاكم المستعمر، وبقي الشيخ وطلابه مقبلين على العلم، لا يبالونه بالة، ولا يلتفتون إليه، فاشتد غيظ ذلك الحاكم شدة عجيبة، وغضب غضبًا شديدًا، وحاول تحريك الشيخ وطلابه، فحصبهم بالحصباء، فلم يتحركوا، فأتاهم فوقف عليهم، فهمزه بعصاه، فقال: أتعرفني؟ فقال: نعم. فقال: من أنا؟ فقال: الكافر. ليس له وصف عنده إلا هذا، قال: الكافر، وبقي في مجلسه.

وكذلك ما حصل من قبل لأحد علماء دمشق، عندما دخل إبراهيم باشا، وقد كان من أهل الجبروت والظلم، والطغيان، وقد دخل دمشق بجيوشه، فلما استقر له الحكم فيها سأل، قال: من بقي من الأعيان لم يأتني؟ فقيل: بقي الشيخ الفلاني. فقال: أين هو؟ فقيل: هو في المسجد الأموي، في الجامع الأموي. فقال: ولم لم يأتني؟ فقيل: لا يرغب في الاتصال بأهل الملك. فغضب غضبًا شديدًا، وذهب إليه، فلما وقف على الشيخ في المسجد وهو يدرس، وقد مد رجله من الإعياء إلى جهة هذا الطاغية، مد رجله في وجهه، وأهل تلك البلاد لا يتحملون مثل هذا النوع من التصرفات، وأهل المشرق جميعًا يكرهون كراهة شديدة أن يمد الإنسان رجله في وجه أحد منهم، ولا يمكن أن يحصل ازدراء لديهم أكبر من هذا، فجلس بين يديه، فلما انتهى السلام مد رجله في وجهه، ولكن أخذته هيبة عظيمة، فلم يستطيع أن يتصرف، فخرج من المسجد، فأرسل إليه بنقود، فلما أتاه العامل يحمل تلك النقود، قال: ارجع إليه فقل له: إن من يمد رجله، لا يمد يده، فكانت مثلًا عظيمًا وعرف بها إبراهيم هذا الدرس.

فكذلك هذه التربية لا بد أن تبقى في نفوس المؤمنين، وأن يبقى تذكر أن الإيمان ضد للكفر، وأن أهل المعصية يعادون الله سبحانه وتعالى، فمن كان يحب الله سبحانه وتعالى، ويؤمن به، ويرجو ثوابه ويخاف عقابه، لا يمكن أن يرضى عنهم أبدًا، لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله، يرجو ثوابه ويخشى عقابه، ويحبه حبًا شديدًا: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[البقرة:165]، فيرضى محبة من يعاديه، ومن يكرهه ويخالف أمره.

ولهذا أذكر أن مستشرقًا، أو منصرًا زار أحد علمائنا، وهو الشيخ محمد سالم حفظه الله، فلما جلس بين يديه، سأله الشيخ فقال: هل تحب من يكذب أباك؟ من يقول إن أباك كذاب وإن أمك كذابة مثلًا، هل تحبه؟ قال: لا، هذا يزدريني ويحتقرني. قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا، وأعظم عندنا من جميع الناس، فمن يزعم أنه كذاب، أو يكذبه في أي شيء مما جاء به، فإننا نعاديه، كما تعادي أنت من يكذب أباك وأمك، ويزدريهما.

ولذلك لا بد أن نربي أولادنا، وكل من يسمع منا على محبة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا رسخت هذه المحبة في النفوس فسيكره الإنسان ضد ذلك، إذا أحب الإنسان الله حبًا شديدًا فسيكره أعداء الله كراهة شديدة، وإذا أحب دين الإسلام حبًا شديدًا فسيكره كل ما يعارضه ويناقضه من الأفكار والمبادئ، وإذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا شديدًا فسيكره كل من يكذبه، أو يعتدي عليه بأي وجه من وجوه الاعتداء.

يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:149]، هذا الرد على الأعقاب ليس فقط أمرًا معتادًا يستطيع الإنسان بعده المراجعة، بل تترتب عليه أخطار كبيرة وعظيمة؛ فلذلك قال: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149].

لو كان الرد على الأعقاب كمجرد الرجوع يمكن بعده أن يستمر الإنسان في سيره، لكان الأمر ميسورًا، لكن هذا الرد على الأعقاب يترتب عليه خطر عظيم عند الله، وهو أن ينقلب الإنسان عند وروده على الله وإقباله عليه، أن ينقلب بسوء الخاتمة، وسوء العاقبة، نسأل الله السلامة والعافية؛ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، والمنقلب هو الخروج من الدنيا؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك مردًا غير مخز ولا فاضح)، فالمرد: هو الموت، الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، لابد أن يحرص الإنسان على أن يكون مرده إلى الله غير مخز ولا فاضح، فالمرد المخزي يكون بسوء الخاتمة، والمرد الفاضح أن يموت الإنسان في فتنة مضلة على ذلة ومهانة، فهذا كله مما يستعاذ منه، فيسأل الإنسان ربه أن يعيذه من المرد المخزي، أو الفاضح.

عاقبة الردة عن دين الله

فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، وهذا الانقلاب يعبر به عن الورود على الله سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ[الشعراء:227]، أي: أيَّ ورود على الله عندما يوقفون عليه سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ[الأنعام:30]، فنسأل الله السلامة والعافية، فهذا هو الذي توعدهم به في قوله: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ[الشعراء:227].

يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، فتنقلبوا خاسرين، حال والمقصود أن المنقلب سيكون حينئذٍ خسارة للإنسان؛ لأن الإنسان رأس ماله هو العمر، وربحه هو الطاعة التي ينفق فيها عمره، فإذا ذهب عمره سدًى فجاءت كفة حسناته خالية، وجاءت كفة سيئاته راجحة يوم القيامة، فقد خسر الدنيا والآخرة: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[الحج:11].

ولهذا فإن المرتدين، والذين يعلقون الآمال بغير الله سبحانه وتعالى، ويؤثرون غير الله على الله، هم الذين ينقلبون بهذا المرد المخزي الفاضح، كما قال الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[الحج:11]، فهذا هو الخسران المبين، من خسر الدنيا والآخرة فقد خسر الخسران المبين؛ ولهذا قال: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، والخسران: ضد الربح، فالخاسر هو من لم يربح في صفقته؛ فلذلك قال: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149].

ومن هنا فإن على المؤمن أن يحذر من هذا الرجوع في كل الأوقات، فهو حريص على أصل إيمانه، وحريص على طعم الإيمان، الذي هو الحلاوة، ويعلم أن هذه الحلاوة لا تذاق إلا بالجانب العاطفي بالمحبة والكراهة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

ولهذا فإني أعرف رجلًا من الإنجليز قد أسلم، منَّ الله عليه بالإسلام، فأحب هذا الإسلام حبًّا شديدًا، وقد حدثني أنه إذا رأى الكفار في ممارساتهم وأعمالهم في الحدائق في لندن يكاد يتقيأ من ازدرائه لما هم فيه، يكاد يتقيأ لازدرائه لحياتهم، ومخالطتهم للكلاب، وتقللهم في ملابسهم، وشأنهم في أطعمتهم ومخالطتهم للناس، يتقزز من هذه الأمور كراهة لها حتى يكاد يتقيأ بمجرد النظر إليها، وقد كان هذا الحال حاصلًا قديمًا عند سكان هذه البلاد، فعندما جاء المستعمرون إلى هذه البلاد غازين، كان المستضعفون من أهل هذه البلاد- الذين لا يستطيعون جهادًا ولا دفعًا على الأقل- يكرهونهم كراهة شديدة، فلا يشربون في إناء شربوا فيه، ولا يأكلون في إناء أكلوا فيه، ولا يواكلونهم، ولا يشاربونهم، ولا يجلسون على فراش جلسوا عليه.

وأذكر قديمًا أن امرأة من أهل البادية جاءت إلى العلاج إلى هذه المدينة، وكان فيها إذ ذاك طبيب نصراني من هيئة تنصيرية مشهورة، وهي أطباء بلا حدود، فجاءت للعلاج، فلما قيل لها: هذا الطبيب، كانت تظنه مسلمًا، فلما وقع بصرها عليه أغمضت عينيها بشدة شديدة، فسألناها عن السبب، فقالت: ما رأيت كافرًا قط، ولا أحب أن أراه.

وهذه الكراهة ليست مختصة بهذا الشعب المسلم، بل هي تربية الإسلام للمسلمين، أن يكرهوا الكفر وأهله، وأن يكرهوا عداوة الله، وأن يكرهوا المعصية وأهلها مطلقًا، فيكرهون كل ما يكرهه الله تعالى؛ لشدة محبتهم لله.

ولذلك فقد حدثني الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله تعالى، وهو من علماء السودان، ومشايخ ذلك القطر: أن القائد الإنجليزي المحتل للسودان ركب جواده، فمر على أحد العلماء يدرس صبيانًا في الطريق في أم درمان، فلما مر عليه قام الناس إجلالًا لذلك الحاكم المستعمر، وبقي الشيخ وطلابه مقبلين على العلم، لا يبالونه بالة، ولا يلتفتون إليه، فاشتد غيظ ذلك الحاكم شدة عجيبة، وغضب غضبًا شديدًا، وحاول تحريك الشيخ وطلابه، فحصبهم بالحصباء، فلم يتحركوا، فأتاهم فوقف عليهم، فهمزه بعصاه، فقال: أتعرفني؟ فقال: نعم. فقال: من أنا؟ فقال: الكافر. ليس له وصف عنده إلا هذا، قال: الكافر، وبقي في مجلسه.

وكذلك ما حصل من قبل لأحد علماء دمشق، عندما دخل إبراهيم باشا، وقد كان من أهل الجبروت والظلم، والطغيان، وقد دخل دمشق بجيوشه، فلما استقر له الحكم فيها سأل، قال: من بقي من الأعيان لم يأتني؟ فقيل: بقي الشيخ الفلاني. فقال: أين هو؟ فقيل: هو في المسجد الأموي، في الجامع الأموي. فقال: ولم لم يأتني؟ فقيل: لا يرغب في الاتصال بأهل الملك. فغضب غضبًا شديدًا، وذهب إليه، فلما وقف على الشيخ في المسجد وهو يدرس، وقد مد رجله من الإعياء إلى جهة هذا الطاغية، مد رجله في وجهه، وأهل تلك البلاد لا يتحملون مثل هذا النوع من التصرفات، وأهل المشرق جميعًا يكرهون كراهة شديدة أن يمد الإنسان رجله في وجه أحد منهم، ولا يمكن أن يحصل ازدراء لديهم أكبر من هذا، فجلس بين يديه، فلما انتهى السلام مد رجله في وجهه، ولكن أخذته هيبة عظيمة، فلم يستطيع أن يتصرف، فخرج من المسجد، فأرسل إليه بنقود، فلما أتاه العامل يحمل تلك النقود، قال: ارجع إليه فقل له: إن من يمد رجله، لا يمد يده، فكانت مثلًا عظيمًا وعرف بها إبراهيم هذا الدرس.

فكذلك هذه التربية لا بد أن تبقى في نفوس المؤمنين، وأن يبقى تذكر أن الإيمان ضد للكفر، وأن أهل المعصية يعادون الله سبحانه وتعالى، فمن كان يحب الله سبحانه وتعالى، ويؤمن به، ويرجو ثوابه ويخاف عقابه، لا يمكن أن يرضى عنهم أبدًا، لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله، يرجو ثوابه ويخشى عقابه، ويحبه حبًا شديدًا: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ[البقرة:165]، فيرضى محبة من يعاديه، ومن يكرهه ويخالف أمره.

ولهذا أذكر أن مستشرقًا، أو منصرًا زار أحد علمائنا، وهو الشيخ محمد سالم حفظه الله، فلما جلس بين يديه، سأله الشيخ فقال: هل تحب من يكذب أباك؟ من يقول إن أباك كذاب وإن أمك كذابة مثلًا، هل تحبه؟ قال: لا، هذا يزدريني ويحتقرني. قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا، وأعظم عندنا من جميع الناس، فمن يزعم أنه كذاب، أو يكذبه في أي شيء مما جاء به، فإننا نعاديه، كما تعادي أنت من يكذب أباك وأمك، ويزدريهما.

ولذلك لا بد أن نربي أولادنا، وكل من يسمع منا على محبة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا رسخت هذه المحبة في النفوس فسيكره الإنسان ضد ذلك، إذا أحب الإنسان الله حبًا شديدًا فسيكره أعداء الله كراهة شديدة، وإذا أحب دين الإسلام حبًا شديدًا فسيكره كل ما يعارضه ويناقضه من الأفكار والمبادئ، وإذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا شديدًا فسيكره كل من يكذبه، أو يعتدي عليه بأي وجه من وجوه الاعتداء.

يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:149]، هذا الرد على الأعقاب ليس فقط أمرًا معتادًا يستطيع الإنسان بعده المراجعة، بل تترتب عليه أخطار كبيرة وعظيمة؛ فلذلك قال: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149].

لو كان الرد على الأعقاب كمجرد الرجوع يمكن بعده أن يستمر الإنسان في سيره، لكان الأمر ميسورًا، لكن هذا الرد على الأعقاب يترتب عليه خطر عظيم عند الله، وهو أن ينقلب الإنسان عند وروده على الله وإقباله عليه، أن ينقلب بسوء الخاتمة، وسوء العاقبة، نسأل الله السلامة والعافية؛ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، والمنقلب هو الخروج من الدنيا؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك مردًا غير مخز ولا فاضح)، فالمرد: هو الموت، الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، لابد أن يحرص الإنسان على أن يكون مرده إلى الله غير مخز ولا فاضح، فالمرد المخزي يكون بسوء الخاتمة، والمرد الفاضح أن يموت الإنسان في فتنة مضلة على ذلة ومهانة، فهذا كله مما يستعاذ منه، فيسأل الإنسان ربه أن يعيذه من المرد المخزي، أو الفاضح.

فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، وهذا الانقلاب يعبر به عن الورود على الله سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ[الشعراء:227]، أي: أيَّ ورود على الله عندما يوقفون عليه سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ[الأنعام:30]، فنسأل الله السلامة والعافية، فهذا هو الذي توعدهم به في قوله: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ[الشعراء:227].

يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، فتنقلبوا خاسرين، حال والمقصود أن المنقلب سيكون حينئذٍ خسارة للإنسان؛ لأن الإنسان رأس ماله هو العمر، وربحه هو الطاعة التي ينفق فيها عمره، فإذا ذهب عمره سدًى فجاءت كفة حسناته خالية، وجاءت كفة سيئاته راجحة يوم القيامة، فقد خسر الدنيا والآخرة: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[الحج:11].

ولهذا فإن المرتدين، والذين يعلقون الآمال بغير الله سبحانه وتعالى، ويؤثرون غير الله على الله، هم الذين ينقلبون بهذا المرد المخزي الفاضح، كما قال الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[الحج:11]، فهذا هو الخسران المبين، من خسر الدنيا والآخرة فقد خسر الخسران المبين؛ ولهذا قال: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149]، والخسران: ضد الربح، فالخاسر هو من لم يربح في صفقته؛ فلذلك قال: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران:149].

وهنا لا شك أن النقد لا يكون نافعًا إلا إذا كان بناءً، بأن ذكر ما يقابله، فنحن الآن قد نهينا عن طاعة هؤلاء الكفار، وبين لنا ما يترتب على ذلك من المخاطر، لكن ما البديل؟ من الذي يستحق الطاعة؟ بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[آل عمران:150]؛ أي: بل الذي يستحق الطاعة هو الله، وهو مولاكم؛ أي: ناصركم على الكافرين، فالمولى هو الناصر والمعين: بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[آل عمران:150]، فلا يمكن أن يتكل الإنسان على غيره؛ لأن كل من سواه يموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت حي لا يموت، والإنس والجن يموتون)، فلهذا لا يمكن أن يتوكل الإنسان على من يموت، بل الذي يستحق أن يتوكل عليه هو الحي الدائم الباقي الذي لا يموت، فهو الذي لا ينتقص ما عنده من الرزق، وهو الذي لا تنتقص قدرته، وهو الذي تشمل إرادته كل ما يمكن، وهو الذي يرجو الإنسان ثوابه يوم القيامة، وهو الذي يخاف عقابه، وهو الذي أمره نافذ في السموات والأرض وما بينهما، وهو الذي يقبض السموات السبع والأرضين السبع يوم القيامة فيهزهن، فيقول: ( أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ) فلذلك يستحق وحده التوكل عليه، ويستحق وحده أن تعلق به الآمال والحوائج، وأن يصمد إلى وجهه الكريم في كلها.

وقد سبق أن أنشدتكم قول المكودي رحمه الله:

إذا عرضت لي في زمانيَ حاجة وقد أشكلت فيها عليَّ المقاصد

وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد

ولست تراني واقفًا عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد

فمن يرقد لا يستحق أن يتوكل عليه.

وكذلك أنشدتكم من قبل قول الآخر:

لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب

فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

فلذلك لابد أن يراجع الإنسان موفقه من التوكل على الله، لابد أن يراجع كل إنسان منا موقفه من التوكل على الله، فإذا علم أنه ينصاع للضغوط، ويمكن أن يخوف، أو أن تملى عليه المواقف بالطمع، أو الخوف، أو غير ذلك من الإغراءات، فليعلم أن توكله على الله ناقص، وأن إيمانه بقدر الله ناقص، فلابد أن يبادر لتكميل إيمانه قبل أن يفوت الأوان.

ومن هنا فمراجعة الإنسان لإيمانه هي من تجديده، والإيمان يخلق ويجد في النفوس، وعلى كل إنسان أن يجدده ويراجعه، فعقد الإيمان تجدد بالصلاة، فأنت في صلاتك تقول: ( لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ).

فتجدد عقد الإيمان، كما قال محمد مولود رحمة الله عليه:

حكمة مشروعية الصلاة جديد ذكر الله في الأوقات

صقل القلوب ورسوخ عقد الإيمان والأمور بالمقاصد

فترسيخ عقد الإيمان بهذه الصلاة مشاهد في حق الخاشعين، الذين يعون ما يقولون ويفعلون، فمن كان من أهل الخشوع، وكان واعيًا لما يقول مدركًا له، فستجدد هذه الصلاة الإيمان، وتشد عقده في قلبه؛ ولهذا كان لزامًا علينا في كل صلاة من الصلوات وفي أدبارها أن نراجع عقد الإيمان، وأن نراجع ما يتعلق بالعلاقة بالله، بالتوكل عليه ورجائه ومخافته ومحبته، فهذه أمور لا يمكن أن يغفل عنها المؤمن، ولابد أن يتعاهدها ويراجعها؛ لأن من غفل عنها فهو عرضة لسوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية، وبتوكل الإنسان على الله سبحانه وتعالى يزدري كل من دونه، ويعلم أنهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتًا ولا نشورًا: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74].

وقد قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمة الله عليه:

أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي

وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي

أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي

ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال

وكم رأينا ذليلًا بعد عزته من عزه بالموالي أو بالاموال

متى تفز بموالاة الإله يدي فعادِ يا أيها المخلوق أو وال

طاعة الكفار بسبب الخوف أو الطمع

وبذلك يستطيع الإنسان التجرد من الأغيار، والتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، ثم إن هذا الرجوع أيضًا منه مراتب دون ذلك، فمنه مرتبة طاعة الكفار بسبب الخوف منهم أو الطمع فيما في أيديهم، وهذا النوع دون الولاء، فالولاء هو أعلى درجات الرجوع إلى الوراء بطاعة الكفار، ودونه طاعتهم من أجل الخوف أو الطمع، وقد حذر الله منها في كتابه، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[التوبة:28]، وقال كذلك في التخويف: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:175]، وقال: فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا[المائدة:44].

فحذر من خوف المؤمن من أعداء الله، وبين أنه في مقابل خوفه من الله، فكلما كان الإنسان من الله أخوف كان آمن من أعداء الله سبحانه وتعالى، وكلما كان أقل خوفًا من الله كلما كان أخوف من أعداء الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فالشرك يلازمه الخوف من المخلوقين، والإيمان السالم من الشرك يلازمه الأمن منهم، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام:82].

ولهذا فإن إبراهيم عليه السلام لما خوفه أعداء الله سبحانه وتعالى لم يخف، فعندما رموه في النار قال: (حسبي الله ونعم الوكيل)، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[الأنبياء:69]، وانقلبت الموازين: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ[الصافات:98]، فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ[الأنبياء:70]، كل ما أرادوه بإبراهيم انقلب عليهم. وكذلك الحال بالنسبة لـموسى عليه السلام، لما قال له أصحابه وهم بنو إسرائيل: هذا البحر أمامنا، والعدو من ورائنا، فقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[الشعراء:61] قال: كلا، قال بكل ثقة: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء:62].

وكذلك هود عليه السلام، فإن الله سبحانه وتعالى بين أنه قال لقومه حين اجتمعوا جميعًا على عداوته: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[هود:56].

وكذلك قبله نوح عليه السلام، فقد حكى الله تعالى عنه أنه قال لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ[يونس:71].

وهكذا حال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أتاهم نعيم بن مسعود فقال: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ[آل عمران:173-174].

ومن هنا فطاعتهم من أجل الطمع بما في أيديهم، مع القناعة بأن ما يأمرون به ليس خيرًا، هي مقام نازل، واستعباد لهم ومذلة وهوان، فالإنسان الذي يقتنع بأن ما هم عليه باطل، وأن الإيمان خير مما هم فيه، ولكنه مع ذلك يطيعهم في بعض الأمر؛ خوفًا منهم، أو طمعًا فيما في أيديهم، هذا بشر المنازل، وأدنى الدرجات، وقد رضي بغاية الهوان، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[المائدة:54]، قال قبل هذا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ[المائدة:52]، فهم يسارعون فيهم، وهي التي يعبر عنها اليوم في الإعلام: بالهرولة، يقولون: الهرولة إلى التطبيع مع الصهاينة، هذه الهرولة هي الإسراع: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم[المائدة:52]، لماذا؟ هل هم مقتنعون بأن ما عندهم هو الحق؟ أبدًا لا يقتنعون بذلك، بل يقتنعون أنهم على ضلال، وأن ما عندهم غير مقنع، فالنصارى، مبادئهم اليوم، هل تظنون عاقلًا من المؤمنين يمكن أن تنطلي عليه؟ هل يمكن أن يستسلم أحد لأن الواحد ثلاثة، وأن الثلاثة واحد؟ هل يمكن أن يقتنع أحدٌ أن الرب ولد ولدًا مخلوقًا، وأنه قربه إلى الناس ليقتلوه ويصلبوه؛ ليكون تكفيرًا لسيئات الناس، لسيئات الآخرين، هل هذا مقنع عقلًا؟ لا يمكن أن يصدق هذا عقل ولا فطرة.

وكذلك مبادئ اليهود، هل يقتنع أحد بأن الرب يخنقه يعقوب (إسرائيل)، ويصرعه ويخنقه، فيفتدى منه بألا يعذب أولاده إلا أيامًا معدودات، لا يمكن أن يستسيغ هذا عاقل أبدًا، وهذا من مبادئ اليهود، وهو من المقدسات عندهم، فيعتقدون أن يعقوب صارع الرب فصرعه وخنقه، فلما أثقله شرط عليه ألا يعذب أولاده إلا أيامًا معدودات، فهذا ما لا يمكن أن يقبله عقل، فإذا كان ربهم هذا يصرع ويخنق، فكيف يخافون من عذابه؟! رب يصرع ويخنق لا يخاف أحد من عقابه أبدًا.

طاعة الكفار بالإعجاب بهم

ثم دون هذا أيضًا طاعتهم بالإعجاب بهم، فكل إعجاب بالذين كفروا- أن يعجب الإنسان بما هم فيه من أمور الدنيا- ينتقص ما يقابله من أمور الإيمان، كلما أعجب الإنسان بما عجل الله لهم من شهوات الدنيا ومفاتنها، فإنه سيحب ذلك، وينهزم أمامه وينبهر به، فيكون ذلك نقصًا لإيمانه، ونقصًا لرغبته في الآخرة، فأنتم تعلمون أن الدنيا ضرة الآخرة، هي ضرتها، فلذلك من أقبل على الدنيا وأحبها، لابد في مقابل ذلك أن ينتقص حبه للآخرة وإقباله عليها.

فالذي يعجب بالكفار، وبما هم عليه، وبما لديهم من أمور الدنيا، ويتعلق قلبه بالزخارف التي عجلت لهم في هذه الحياة، لابد في مقابل ذلك أن تنتقص أهمية الدين لديه، وأن تنتقص أهمية الدار الآخرة لديه، فيهتم بأمور الدنيا، ويعجب بها، وتكون أمور الدنيا مقدمة لديه على أمور الآخرة، وبهذا يؤثرها على الآخرة تمامًا، فيكون من أولادها وكلابها الذين يرتضعونها في هذه الحياة الدنيا، ويقال لهم يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا[الأحقاف:20].

طاعة الكفار في تحقيق بعض مآربهم

كذلك دون هذا المقام طاعتهم في تحقيق بعض مآربهم، فإن الكفار يضغطون على الناس بتحقيق بعض المآرب، وقد يكون ظاهرها أمرًا سهلًا ميسورًا، ولكن من ورائها كثير من الكيد والخداع، فأنتم تعلمون اليوم أن الدول المصنعة الكبرى هي التي تحتكر التكنولوجيا، ولا تريد تصديرها أبدًا، وإذا ذهب أولاد المسلمين للدراسة فيها فلن يدرسوا تلك الدائرة التي هي محفوفة بحاجز حصين، لا يمكن أن تصدر، وإذا تسرب شيء من الصناعة إلى بلاد المسلمين، فإن الكفار له بالمرصاد، يحاولون وأده في مهده، وذلك بالاتفاقيات التي يبرمونها مع قادة البلاد الإسلامية، الذين لا يعون هذه الأمور، أو يعونها ويتمالئون مع الكفار، فكثير منهم يريد الحفاظ على كرسيه في هذه العاجلة، ويريد مبالغ زهيدة عاجلة يقدمها له الكفار بدل تقدم بلاده وتطورها، ولو فكر لعلم أنه لو لم يوافقهم على ذلك ولم يواتهم عليه، لكان ما ينتجه في بلاده وتتقدم به بلاده، أثبت له، وأولى باستمراره، وأزيد محبة له في شعبه، ودفاعًا عنه، واستمرارًا لحكمه وسلطانه.

ولذلك فإن اتفاقية الجات التي سمعتم عنها، ثم جاءت بعدها اتفاقية منظمة التجارة العالمية، هي اتفاقيات وقع عليها أكثر زعماء العالم الإسلامي، وهذه الاتفاقيات تقتضي ألا يكون في العالم حدود للتجارة، فتجارات الدول المصنعة الكبرى ليس لها حدود، يمكن أن تفتح أمامها الأسواق على مصارعها كلها في جميع البلدان الإسلامية، وغيرها.

وهذا يظن الإنسان أنه أمر ميسور، تجلب إلينا تجاراتهم وليس فيها أيديولوجية ولا فكر، فنشتريها ونحن محتاجون إليها، لكن الواقع أن هذا يترتب عليه تحطيم الصناعة المحلية، فتصور أنك أنت مثلًا فتح الله لك، فأنتجت مصنعًا لصناعة السيارات هنا في نواكشط، وأردت إغناء بلادنا بالسيارات المصنعة محليًّا، ووجدت من المسلمين من يتقن هذه المهارة والخبرة، ووجدت في أرض المسلمين الحديد، والأدوات المحتاج إليها، والمادة الخام التي يمكن أن تصنع منها هذه الصناعة التي نحن محتاجون إليها، لكن فتحت السوق أمام السيارات التي صنعها الأمريكان وغيرهم، كالسيارات اليابانية، والسيارات الألمانية الفارهة، هل يمكن أن تصل أنت إلى مستوى هذه السيارات في سنواتك الأولى؟

أبدًا هذه السيارات، سيارة فورد، وهي أقدم السيارات في العالم، من السيارات الأمريكية التي مضى على صناعتها الآن مائة وست وعشرين سنة، فلا يمكن أن تأتي سيارة صنعت في هذا الأسبوع، أو في هذا الشهر، أو في هذا العام، لتنافسها، لا في الجودة، ولا في السلامة والقوة، ولا في السعر أيضًا، فالأسعار كلما تقدم المصنع وكلما كثر إنتاجه، كلما قلت تكاليفه، فتقل الأسعار تبعًا للتكاليف.

بذلك توأد الصناعة المحلية؛ لأن الصناعة الوافدة أحسن منها وأرخص، وأكثر تطورًا، فلا يمكن أن يشتري أحد الصناعة المحلية سواء كانت ساعة، أو قماشًا، أو جهازًا، أو نعلًا، أو سيارة، أو غير ذلك، وبهذا تتحطم الصناعات المحلية كلها، ويكون الناس عالة على الصناعة المستوردة من بلاد الكفر.

وهذا الواقع هو حالنا اليوم، لا يستطيع إنسان منا أن يفكر في إنتاج مهم يمكن أن يخدم به بلاده، ما دامت التجارة حرة مفتوحة؛ لأنه سينافس بصناعة أجود من صناعته، وأرخص.

وكذلك الحال بالنسبة للخدمات الاجتماعية، فكثير من قادة بلاد المسلمين يرخصون للهيئات التنصيرية والتهويدية التي تأتي متسترة بستار الإغاثة، وأنها تقدم الخدمات الاجتماعية، وتكفل الأيتام، وتعالج المرضى، وتقدم الإرشادات الزراعية، وربما صنعت السدود، أو حفرت الآبار، أو نحو ذلك.

وأيضًا ربما منحت الطلاب المحتاجين، أو أيضًا دفعت تكاليف المرضى الذين تجرى لهم عمليات كبيرة، لا يمكن توفيرها في بلادهم، لكن الواقع أن تلك الهيئات إنما هي دين مغلف مبطن، فتأتي بأيديولوجيتها، وبالدين الذي تحمله، وتقدم ذلك النفع إلى ضعاف العقول، وضعاف الإيمان، فيقتضي منهم محبة لذلك الدين الذي جاءت به، وتقبلًا لكل ما جاءت به، وقد شاهدنا في السجن هنا بعض القاصرين الصغار، الذين يعجبون بالذين ينفقون عليهم من أصحاب هذه الهيئات، فممثل (الكاريتاس) مثلًا أو غيره إذا جاء إلى أولئك الصبية الضائعين الصغار الذين طردهم آباؤهم وأمهاتهم، ولم يبق لهم عيش كريم في هذه الحياة، وأودعوا في السجن إذا جاءهم هذا النصراني أو اليهودي، فقدم لهم نفسه مثلًا، ولاعبهم وداعبهم، وأهدى لهم الهدايا، وأنفق عليهم، فسيعجبون به.

وهذه الهيئات هي التي تنفق على هؤلاء القاصرين، بل تنفق على جميع السجناء، ونستغفر الله سبحانه وتعالى مما أخذنا من نفقاتها في المياه والكهرباء.

فهذه الهيئات على ما هي عليه، تأتي بالدعوة المبطنة المغلفة، وكثير من قادة المسلمين وأهل الرأي فيهم لا يستشعرون هذا الخطر، ولو استشعروه لتحركت فيهم الغيرة، لا أقول غيرة الدين، فهذه إن بقي أثرها فلم تعد دافعة لاتخاذ القرارات، لكن غيرة الوطنية على الأقل.

لكن مع هذا فإنهم لا يفهمون هذا الخطر ولا يبالون بالة؛ ولذلك فإن هذه الهيئات عملت عملًا عجيبًا رهيبًا في إندونيسيا، فما تسمعونه هذه الأيام من الحرب على المسلمين في جزر الملوك، وإبادتهم، وإحراق أسواقهم في الليل، وإحراق سياراتهم ومدارسهم على أهلها، وتمثيل بمن قتل منهم حتى في المساجد، هذا الذي يحصل الآن في جزر الملوك في إندونيسيا سببه هذه الهيئات التي جاءت في الأصل متسترة بستار الإغاثة، وبدأت تعمل، فتنصر لها بعض الأفراد القلائل، وما زالوا يزيدون حتى أصبحوا جالية مقدرة معتبرة، ثم أصبحوا يطالبون بحكم تلك المناطق، ويشترون المزارع والأراضي، وأصبح المسلمون ضعافًا في مقابلهم؛ لأن هذه الهيئات تدعم أولئك المتنصرين الجدد، فيصبحون أغنياء، وفي مقابلهم يفتقر المسلمون، فيكونون عمالًا لديهم وخدمًا لديهم في المنازل والبيوت، وبهذا ضعف المسلمون في جزر الملوك، وقبل ذلك في جزيرة تيمور، فانفصلت جزيرة تيمور بسبب عمل هؤلاء المنصرين، ولم يكن فيها من قبل نصراني واحد، قبل مجيء الهيئات التنصيرية لم يكن فيها نصراني واحد.

وهذا الحال نشهده أيضًا في إفريقيا، ومن الغريب أن كثيرًا من القرى في السنغال قرًى إسلامية عريقة قديمة، وليس فيها نصارى، ومع ذلك تأتيها هذه الهيئات فتبني فيها مراكز دينية، وتنقلب بالتدريج شيئًا فشيئًا حتى تكون كنيسة، وأنتم تشهدون في هذه الأيام- وبالأخص في الأسبوع الماضي- إقبالًا رهيبًا على الكنيسة هنا، فترون طوابير كبيرة من الناس يجتمعون عندها، ويدخلون فيها ويعمدون فيها، وفي السنوات الماضية لم نكن نشاهد هذا، ولا نراه، فمن أين جاء هذا، ليس قطعًا من نشاط الكنيسة نفسها، فهي ليس لها نشاط، وليس لديها وسائل إقناع، إنما هذا بسبب فعل هذه المؤسسات التنصيرية التي تدفع للناس العون، وهم مستضعفون وجهال، لا يعرفون أحكام دينهم ولا عقائدهم، وهم محتاجون إلى من يدعمهم ويساندهم، فتدعمهم هذه المؤسسات.

وفي مقابل ذلك تغلق المؤسسات الإسلامية التي تقدم الدعم للناس، ولا تريد به جزاءً ولا شكورًا، المؤسسات التي لا تريد جزاءً ولا شكورًا ولا ذكرًا، ولا تريد إلا ثواب الله سبحانه وتعالى، وتأخذ من أموال المسلمين من أيديهم ما تعين به الفقراء منهم والمحتاجين، وما تكفل به اليتامى منهم، هي التي تحارب، وكأنها خطر داهم على شعوبنا الإسلامية، وكأنها سرطان لا بد من قطعه وإزالته.

وهذا النوع هو من سوء الفهم، ومن الاتباع الأعمى لمخططات الكفار؛ ولذلك لا بد أن ينتبه قادتنا (قادة المسلمين ورؤساؤهم وملوكهم) إلى هذا الخطر الداهم، وأن يعلموا أن المؤسسات الدينية التنصيرية والتهويدية هي التي تؤدي إلى الخطر، والتجربة ماثلة بين أعينهم في إندونيسيا وغيرها، وأن يعلموا أن المؤسسات الإسلامية الخيرية إنما يريد أصاحبها وجه الله سبحانه وتعالى، ويقولون للذين يطعمونهم: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا[الإنسان:9-10]، فلذلك لا يريد أصحابها جزاءً ولا شكورًا ولا ذكرًا ولا اهتمامًا ولا دعاية إعلامية؛ ولذلك لا بد أن يدرك قادتنا هذا البون الشاسع بين هذين النوعين، وأن يعلموا أنهم بإغلاقهم للمؤسسات الإسلامية، فإنما يطيعون الذين كفروا، وهم بذلك يتعرضون لهذه الآية، وهي ماثلة شاهدة عليهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[آل عمران:149-150].

فالله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق الطاعة، وهو الذي يستحق الموالاة، وهو الذي يستحق أن يمتثل لأمره؛ لأن هؤلاء الكفار إذا أطعناهم في بعض الأمر، فإنما ذلك لمصلحتهم هم، لا يمكن أن يأمروك بأمر إلا إذا كان لهم فيه مصلحة، أما الله سبحانه وتعالى فلا يمكن أن يبلغه عباده بنفع ولا بضر، فإذا أطاعوه لم يحققوا مصلحة لله تعالى، وإذا عصوه لن يضروه؛ ولذلك قال: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني )، فأنت إذا أطعت الله فإنما تنفع نفسك، وإذا عصيته فإنما تضر نفسك، والكفار إذا أطعتهم فأنت تنفعهم، وإذا عصيتهم فأنت تضرهم.

فالبون شاسع إذًا بين الطاعتين والامتثالين؛ ولذلك لابد من الانتباه لمثل هذا النوع، وأن نعلم أن الذين يأمرون قادة المسلمين، ويخططون لهم، ويقدمون لهم الاستشارات والنصائح، غاشون لهم، ولا يريدون لهم المصلحة أبدًا؛ ولذلك فإن المؤسسات النقدية العالمية عندما تخطط برامج لبعض الدول، فإنما تريد إثقال كواهلها بالربا، والفوائد التي تتراكم لمدة طويلة من الزمن، ولا تستطيع الشعوب المسلمة قضاء تلك الديون، ولا تسديد تلك الفوائد، وبهذا تبقى تلك الشعوب رهينة الضعف والمسكنة والمذلة، أبد الآبدين، هذا تخطيطهم وهذا عملهم.