تقويم الله لغزوة أحد [2]


الحلقة مفرغة

الحالة النفسية للمؤمنين وتضحيتهم بعد خذلان المنافقين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلا يزال هذا المقطع من سورة آل عمران في تقويم غزوة أحد، وبيان ما ترتب عليها من النتائج والآثار، فقد جاء في هذا المقطع الذي سمعتم تشخيص الحالة النفسية للمؤمنين عندما تخاذل عنهم المنافقون ورجعوا، وكانوا نصف الجيش، وجاءتهم الأحزاب، جاءتهم قريش وأحابيشها وأحلافها، فلم يبق لهم من الأنصار في ذلك المكان إلا إيمانهم وسيوفهم؛ ولذلك قال كعب بن مالك رضي الله عنه:

الناس إِلْب علينا فيك ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وَزَر

فقال الله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

خاطب أهل الإيمان بتذكير حالهم قبل المعركة، وهو أن الإنسان إذا سمع الوعد الوارد من الرب الكريم للشهداء في سبيل الله، وعرف المنزلة التي نالوها، والمحلة التي نزلوها من الإسلام، يتمنى أن يلحق بهم، وأن يصل إلى مستواهم، فقد قتل من المسلمين يوم بدر نفر قليل، ومع ذلك فقد نالوا درجة عالية في الجنان، ودرجة عالية في الإيمان كذلك، فكانوا في المقام الثالث بعد مقام الأنبياء والصديقين، فنزل الشهداء في ذلك المقام.

وفي يوم بدر ضحى أقوام من متفاوت الأعمار والمستويات، فمنهم عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان شيخًا كبيرًا قد تجاوز الثمانين، ولما تقدم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة يريدون البراز، تقدم إليهم رجال من الأنصار، فعرَّفوهم بأنفسهم، فقالوا: أكفاء كرام، ولكنا نريد بني عمنا، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وحمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فتقدموا إليهم، وكانوا يجتمعون جميعًا في عبد مناف، فـعتبة وأخوه شيبة ابني ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فلما تقدموا إليهم حصل بينهم الخصام في ذات الله، وقد قال علي رضي الله عنه: (أنا أول من يجثو للمخاصمة يوم القيامة)، وفيهم أنزل قول الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[الحج:19-21].

فتقدموا إليهم فحسمت المعركة لصالح المسلمين، فقتل الكفار الثلاثة، وضرب عتبة ساق عبيدة بن الحارث فأطن ساقه، فحمله صاحباه، فجاءا به إلى رسول الله عليه وسلم، فكان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: يا رسول الله لوددت أن أبا طالب حي؛ حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا ولـما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فامتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث.

تضحية عمير بن الحمام وحارثة

وكان فيمن قتل ذلك اليوم عمير بن الحمام ولم يبلغ الحلم بعد، فقد اختلف في سنه وقت استشهاده، فقيل: كان في الثالثة عشرة من عمره، وقيل: كان في العاشرة من عمره، ومنهم كذلك حارثة ، وكان شابًّا ليس لأمه ذكر ولا أنثى سواه، هو وحيد أمه، وكانت تحبه حبًّا شديدًا، فكان بيده تمرات، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (تقدموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال عمير: بخ بخ عرضها السموات والأرضّ؟! إنه لعمر طويل إن عشت حتى آكل هؤلاء التمرات، فرمى بهن فقاتل فقتل)، ولما قتل حارثة جاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( يا رسول الله، أخبرني عن مكان ابني حارثة أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أوجنة هي، إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها).

تسابق المؤمنين للشهادة

وسمع أهل الإيمان- من شهد منهم المعركة ومن لم يشهدها- ما أنزل الله تعالى في حق الشهداء، وما شهد لهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وعدهم الله تعالى من الخير الكثير الجزيل الذي لا انقطاع له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد عند أول قطرة تقطر من دمه ويزوج بسبعين من الحور العين)، وبين النبي صلى الله عليه وسلم منزلتهم في الإسلام، وأنهم يعرضون على الله فيقول: ( تمنوا، فيتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، فيقول: ولمَ؟ فيقولون: حتى نقتل فيك عشر مرات )، لما يرون من فضل الشهادة في سبيل الله، لا يريدون أن يرجعوا إلى الدنيا للحياة، إنما يريدون الرجوع إليها للموت.

فلما حصل ذلك تمنى كثير من المؤمنين الشهادة في سبيل الله، وذكرهم الله بذلك في هذا المقام في وقت الانهزام ووقت الشدة والضائقة، فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ[آل عمران:143].

ما كان الناس يتمنونه لما سمعوا الوعد العظيم للشهداء في سبيل الله، وما كانت عليه نفسياتهم في ذلك الوقت من الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وطلب الشهادة في سبيله، كل ذلك يغيب عن الأذهان في وقت المشكلات والهزات.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلا يزال هذا المقطع من سورة آل عمران في تقويم غزوة أحد، وبيان ما ترتب عليها من النتائج والآثار، فقد جاء في هذا المقطع الذي سمعتم تشخيص الحالة النفسية للمؤمنين عندما تخاذل عنهم المنافقون ورجعوا، وكانوا نصف الجيش، وجاءتهم الأحزاب، جاءتهم قريش وأحابيشها وأحلافها، فلم يبق لهم من الأنصار في ذلك المكان إلا إيمانهم وسيوفهم؛ ولذلك قال كعب بن مالك رضي الله عنه:

الناس إِلْب علينا فيك ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وَزَر

فقال الله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

خاطب أهل الإيمان بتذكير حالهم قبل المعركة، وهو أن الإنسان إذا سمع الوعد الوارد من الرب الكريم للشهداء في سبيل الله، وعرف المنزلة التي نالوها، والمحلة التي نزلوها من الإسلام، يتمنى أن يلحق بهم، وأن يصل إلى مستواهم، فقد قتل من المسلمين يوم بدر نفر قليل، ومع ذلك فقد نالوا درجة عالية في الجنان، ودرجة عالية في الإيمان كذلك، فكانوا في المقام الثالث بعد مقام الأنبياء والصديقين، فنزل الشهداء في ذلك المقام.

وفي يوم بدر ضحى أقوام من متفاوت الأعمار والمستويات، فمنهم عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان شيخًا كبيرًا قد تجاوز الثمانين، ولما تقدم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة يريدون البراز، تقدم إليهم رجال من الأنصار، فعرَّفوهم بأنفسهم، فقالوا: أكفاء كرام، ولكنا نريد بني عمنا، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وحمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فتقدموا إليهم، وكانوا يجتمعون جميعًا في عبد مناف، فـعتبة وأخوه شيبة ابني ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فلما تقدموا إليهم حصل بينهم الخصام في ذات الله، وقد قال علي رضي الله عنه: (أنا أول من يجثو للمخاصمة يوم القيامة)، وفيهم أنزل قول الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[الحج:19-21].

فتقدموا إليهم فحسمت المعركة لصالح المسلمين، فقتل الكفار الثلاثة، وضرب عتبة ساق عبيدة بن الحارث فأطن ساقه، فحمله صاحباه، فجاءا به إلى رسول الله عليه وسلم، فكان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: يا رسول الله لوددت أن أبا طالب حي؛ حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا ولـما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فامتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث.

وكان فيمن قتل ذلك اليوم عمير بن الحمام ولم يبلغ الحلم بعد، فقد اختلف في سنه وقت استشهاده، فقيل: كان في الثالثة عشرة من عمره، وقيل: كان في العاشرة من عمره، ومنهم كذلك حارثة ، وكان شابًّا ليس لأمه ذكر ولا أنثى سواه، هو وحيد أمه، وكانت تحبه حبًّا شديدًا، فكان بيده تمرات، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (تقدموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال عمير: بخ بخ عرضها السموات والأرضّ؟! إنه لعمر طويل إن عشت حتى آكل هؤلاء التمرات، فرمى بهن فقاتل فقتل)، ولما قتل حارثة جاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( يا رسول الله، أخبرني عن مكان ابني حارثة أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أوجنة هي، إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها).

وسمع أهل الإيمان- من شهد منهم المعركة ومن لم يشهدها- ما أنزل الله تعالى في حق الشهداء، وما شهد لهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وعدهم الله تعالى من الخير الكثير الجزيل الذي لا انقطاع له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد عند أول قطرة تقطر من دمه ويزوج بسبعين من الحور العين)، وبين النبي صلى الله عليه وسلم منزلتهم في الإسلام، وأنهم يعرضون على الله فيقول: ( تمنوا، فيتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، فيقول: ولمَ؟ فيقولون: حتى نقتل فيك عشر مرات )، لما يرون من فضل الشهادة في سبيل الله، لا يريدون أن يرجعوا إلى الدنيا للحياة، إنما يريدون الرجوع إليها للموت.

فلما حصل ذلك تمنى كثير من المؤمنين الشهادة في سبيل الله، وذكرهم الله بذلك في هذا المقام في وقت الانهزام ووقت الشدة والضائقة، فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ[آل عمران:143].

ما كان الناس يتمنونه لما سمعوا الوعد العظيم للشهداء في سبيل الله، وما كانت عليه نفسياتهم في ذلك الوقت من الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وطلب الشهادة في سبيله، كل ذلك يغيب عن الأذهان في وقت المشكلات والهزات.

تذكر معاني الثبات عند حصول الفتنة

وهذا درس عظيم ينبغي أن يأخذ منه المؤمنون العبرة، فإن الإنسان في كثير من الأحيان إذا تغير الحال الذي كان عليه تذهب قناعته، ولا يدري أين ذهبت من شدة الهول الذي هو فيه.

فالمؤمن مقتنع بمبادئه، وبأن ما عند الله خير وأبقى، ويعلم أن موتته التي كتب الله عليه واحدة وسينالها مطلقًا في أي مكان كان، وأن أشرف موتة يموتها هي الموت تحت ظلال السيوف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفى ببارقة السيوف شا )، أي: كفى ببارقة السيوف شاهدًا.

ولهذا فإن عامر بن فهيرة رضي الله عنه، وكذلك حرام بن ملحان، كلاهما لما أحس بوقع السيف في رأسه، قال: فزت ورب الكعبة، واغترف الدم على وجهه، يغترف دم نفسه على وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة.

فهذا الحال يحصل للإنسان عند سماع الوعظ، وعند الصلاة، وعند المرققات، وعند قراءة القرآن.

ولكن إذا جاء وقت الفتنة ووقت الهزة، يبقى مع الذين يثبتهم الله سبحانه وتعالى، فيتذكرون هذه المعاني والقناعات في وقت الحاجة إليها، وتزول عن أقوام آخرين لا يتذكرونها، فمنهم من لا يتذكرها مطلقًا، وهم المفتونون الذين لم يرتضِ الله لهم هذا المقام، ولم يريد لهم هذه المكانة العالية، فمقامهم أدنى من هذا، ولا يستحقون مثل ذلك ولو كانوا يقتنعون به، فليس مقامهم واصلًا إلى هذا المستوى، وآخرون يفوتهم ذلك في أول الأمر، ثم يتذكرونه فيما بعد، فيراجعون أنفسهم ويرجعون إلى قناعاتهم؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لما انهزم المسلمون عنه أمر العباس أن ينادي في آثارهم فنادى: يا أهل السمرة. فنادى في آثارهم يذكرهم ببيعتهم على الموت تحت شجرة الرضوان، فنادى العباس بأعلى صوته: يا أهل السمرة. فمن لم يستطع أن يثني فرسه أو دابته قفز عنها ورجع.

فتذكروا تلك المعاني وبيعتهم لله وما عاهدوا الله عليه وما أنزل الله فيهم في كتابه؛ فلذلك راجعوا قناعاتهم، ورجعوا إلى صوابهم بعد أن استزلهم الشيطان.

وهذا ما حصل لبني سلمة رضي الله عنهم، فإنهم في يوم أحد كذلك استزلهم الشيطان في وقت المعركة، فانشلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا المدينة أو كادوا، تذكروه فرجعوا، فقالوا: لا خير فيكم بعده. فرجعوا، وهذا ما أنزل الله تعالى فيه في كتابه: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران:122].

وقد قال جابر بن عبد الله: فينا أنزلت بني سلمة، وما أود لو أنها لم تنزل؛ لأنها ليست عيبًا، فقد قال الله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا[آل عمران:122].

فتولى الله أمرهم في الدنيا والآخرة؛ فلهذا ذكرهم الله بهذه المعاني، وهذا التذكير ليس لأولئك الذين شهدوا معركة أحد فحسب، بل هو تذكير للمؤمنين في كل زمان ومكان، فكل يوم من أيام الدنيا كما بينا هو مثل يوم بدر، أو يوم أحد، أو يوم الأحزاب، أو يوم الفتح، أو يوم حنين، أو غير ذلك من الأيام، منذ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم من الأيام إلا وهو مثل أيامه في العدو، وإنما تختلف الأيام باختلاف رجالها وقناعاتهم؛ فلذلك ذكرهم الله تعالى وذكركم جميعًا بهذه المعاني، فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

فالمؤمن إذا قرأ الوعد الوارد أو قرأ الوعيد في مقابله، فإن ذلك يحفز نفسه للتضحية والبذل في سبيل الله، سواء أكان ذلك بالتضحية بنفسه أو بماله أو بوقته أو بجاهه أو بغير ذلك، وهو يعلم أن ما فاته وما أخذ منه في سبيل الله مخلوف لا محالة، وأنه ميت لا محالة، وخير موتة يموتها هي أن يموتها في سبيل الله مقبلًا غير مدبر، ولا يموت إلا بأجله، لا يمكن أن ينتقص شيء من أجله، ولا من رزقه.

فذكرنا الله تعالى بهذا تثبيتًا لأهل الإيمان وبيانًا لأن هذه المعاني ينبغي أن يتذكرها الإنسان، وأن يراجعها في كل وقت، فالإنسان عرضة للفتن وهو عرضة في كل وقت لأن ينسى مبادئه أو أن ينسى قيمه، فذكره الله تعالى بذلك.

وهذا درس عظيم ينبغي أن يأخذ منه المؤمنون العبرة، فإن الإنسان في كثير من الأحيان إذا تغير الحال الذي كان عليه تذهب قناعته، ولا يدري أين ذهبت من شدة الهول الذي هو فيه.

فالمؤمن مقتنع بمبادئه، وبأن ما عند الله خير وأبقى، ويعلم أن موتته التي كتب الله عليه واحدة وسينالها مطلقًا في أي مكان كان، وأن أشرف موتة يموتها هي الموت تحت ظلال السيوف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفى ببارقة السيوف شا )، أي: كفى ببارقة السيوف شاهدًا.

ولهذا فإن عامر بن فهيرة رضي الله عنه، وكذلك حرام بن ملحان، كلاهما لما أحس بوقع السيف في رأسه، قال: فزت ورب الكعبة، واغترف الدم على وجهه، يغترف دم نفسه على وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة.

فهذا الحال يحصل للإنسان عند سماع الوعظ، وعند الصلاة، وعند المرققات، وعند قراءة القرآن.

ولكن إذا جاء وقت الفتنة ووقت الهزة، يبقى مع الذين يثبتهم الله سبحانه وتعالى، فيتذكرون هذه المعاني والقناعات في وقت الحاجة إليها، وتزول عن أقوام آخرين لا يتذكرونها، فمنهم من لا يتذكرها مطلقًا، وهم المفتونون الذين لم يرتضِ الله لهم هذا المقام، ولم يريد لهم هذه المكانة العالية، فمقامهم أدنى من هذا، ولا يستحقون مثل ذلك ولو كانوا يقتنعون به، فليس مقامهم واصلًا إلى هذا المستوى، وآخرون يفوتهم ذلك في أول الأمر، ثم يتذكرونه فيما بعد، فيراجعون أنفسهم ويرجعون إلى قناعاتهم؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لما انهزم المسلمون عنه أمر العباس أن ينادي في آثارهم فنادى: يا أهل السمرة. فنادى في آثارهم يذكرهم ببيعتهم على الموت تحت شجرة الرضوان، فنادى العباس بأعلى صوته: يا أهل السمرة. فمن لم يستطع أن يثني فرسه أو دابته قفز عنها ورجع.

فتذكروا تلك المعاني وبيعتهم لله وما عاهدوا الله عليه وما أنزل الله فيهم في كتابه؛ فلذلك راجعوا قناعاتهم، ورجعوا إلى صوابهم بعد أن استزلهم الشيطان.

وهذا ما حصل لبني سلمة رضي الله عنهم، فإنهم في يوم أحد كذلك استزلهم الشيطان في وقت المعركة، فانشلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا المدينة أو كادوا، تذكروه فرجعوا، فقالوا: لا خير فيكم بعده. فرجعوا، وهذا ما أنزل الله تعالى فيه في كتابه: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران:122].

وقد قال جابر بن عبد الله: فينا أنزلت بني سلمة، وما أود لو أنها لم تنزل؛ لأنها ليست عيبًا، فقد قال الله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا[آل عمران:122].

فتولى الله أمرهم في الدنيا والآخرة؛ فلهذا ذكرهم الله بهذه المعاني، وهذا التذكير ليس لأولئك الذين شهدوا معركة أحد فحسب، بل هو تذكير للمؤمنين في كل زمان ومكان، فكل يوم من أيام الدنيا كما بينا هو مثل يوم بدر، أو يوم أحد، أو يوم الأحزاب، أو يوم الفتح، أو يوم حنين، أو غير ذلك من الأيام، منذ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم من الأيام إلا وهو مثل أيامه في العدو، وإنما تختلف الأيام باختلاف رجالها وقناعاتهم؛ فلذلك ذكرهم الله تعالى وذكركم جميعًا بهذه المعاني، فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

فالمؤمن إذا قرأ الوعد الوارد أو قرأ الوعيد في مقابله، فإن ذلك يحفز نفسه للتضحية والبذل في سبيل الله، سواء أكان ذلك بالتضحية بنفسه أو بماله أو بوقته أو بجاهه أو بغير ذلك، وهو يعلم أن ما فاته وما أخذ منه في سبيل الله مخلوف لا محالة، وأنه ميت لا محالة، وخير موتة يموتها هي أن يموتها في سبيل الله مقبلًا غير مدبر، ولا يموت إلا بأجله، لا يمكن أن ينتقص شيء من أجله، ولا من رزقه.

فذكرنا الله تعالى بهذا تثبيتًا لأهل الإيمان وبيانًا لأن هذه المعاني ينبغي أن يتذكرها الإنسان، وأن يراجعها في كل وقت، فالإنسان عرضة للفتن وهو عرضة في كل وقت لأن ينسى مبادئه أو أن ينسى قيمه، فذكره الله تعالى بذلك.

فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ[آل عمران:143]، أي: تتمنون الموت؛ أي: الشهادة في سبيل الله.

مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ[آل عمران:143] أي: من قبل أن تواجهوه.

((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) فأتيحت لكم الفرصة لتحققوا أمنياتكم، وتصلوا إلى رغباتكم.

ولذلك فإن أنس بن النضر رضي الله عنه فاته يوم بدر فأسف لذلك أسفًا شديدًا، ونوى أن أول معركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يموت فيها شهيدًا، وعندما اتجه إلى جبل أحد قال لسعد بن معاذ: يا سعد- أو قال: يا أبا عمرو- والله إني لأجد ريح الجنة دون هذا الجبل. فاستشهد، وكان في آخر من استشهد في المعركة، حتى شهد على المعركة بكاملها.

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ[آل عمران:143]، ومثل الموت في ذلك كل الفرص، فالإنسان قد يتمنى أن ينال مقامًا يحتاج له فيه في نصرة الحق، أو أن يجد مقامًا يقول فيه كلمة الحق فتكون مشرفة له، يبيض لها وجهه يوم القيامة، أو أن يجد مقامًا يقرض الله فيه قرضًا حسنًا، فيقدم إليه بعض ما أنعم به عليه من المال، أو أن يجد مقامًا هو فيه في وجه العدو، يصبر ويصابر، كل هذه المقامات يتمناها الإنسان؛ لأنها فرص لا تعوض، وقد لا يجدها كثير من الناس، فيتمناها الإنسان قبل أن يجدها؛ فلذلك ذكرنا الله بها، فقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ[آل عمران:143]، فأتيحت لكم فرصة التضحية في سبيل الله، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143] تأكيد للرؤية، فهنا قال: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ[آل عمران:143]، والمقصود بالرؤية هنا: المقابلة وليست رأي العين، فالمقابلة تسمى رؤية، حتى في الجمادات، ومن ذلك قول الشاعر:

أيا نخلتي لوذ يرى الله أنني أحبكما والجذع مما يراكما

أيا نخلتي لوذ جرى النخل فيكما مع البان والرمان حتى علاكما

فهنا قال: والجذع مما يراكما؛ أي: مما يقابلكما.

فكذلك هنا قال: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) أي: قابلتم الموت؛ ولذلك كان قوله: (وأنتم تنظرون) تأسيسًا على ذلك، فالمقابلة الحاصلة بالمواجهة مؤكدة أيضًا برأي البصر، وهذا النظر ليس إلى الموت الذي هو ملك الموت الذي يقبض الأرواح، ولكن هو نظر إلى سبب الموت، وهو السيوف والرماح والسهام، فهذا سبب الموت وقد شاهدوه ورأوه، والعرب تطلق السبب على الـمُسبَّب والـمُسبَّب على السبب، فمن إطلاق السبب على الـمُسبَّب قول جرير:

ولقد قتلتك بالهجاء ولم تمت إن الكلاب طويلة الأعمار

ولقد قتلتك بالهجاء؛ أي: تسببت في قتلك، بالهجاء ولم تمت، إن الكلاب طويلة الأعمار.

وكذلك من تنزيل المسبب منزلة السبب قول الشاعر:

أكلت دماً إن لم أَرُعْكِ بِضَرَّة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

أكلت دمًا: أي أكلت مسبَّب الدم، فالدم المقصود به، قتل قريب له ومسبَّبه: هو الدية، وأكل الدية كان عارًا وعيبًا لدى العرب في الجاهلية؛ لأنهم يرون أن الثأر من الشرف، أن يثأر الإنسان لدمه من الشرف، فيدعو على نفسه بأن يأكل الدية وهي مسبب الدم؛ فلذلك نزَّل المسبَّب منزلة السبب.

وكذلك قال هنا: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) فنزَّل السبب منزلة الـمُسبَّب، فالسبب: هو السيوف والرماح والسهام، وقد رأيتموها مُشْرَعة في نحوركم.

وهذا المقام لا يمكن أن يثبت فيه إلا من كان من أهل اليقين والصبر، وكما قال أبو الطيب في سيف الدولة:

وقفت وما بالموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً ووجهك وضَّاح وثغرك باسم

فهذه المقامات هي مقامات الصدق، وهي التي جاء ذكرها في حديث وفد الأَزْد، أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس عشرة خصلة، خمس منها تخلَّقنا بها في الجاهلية، وخمس أمرَتْنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمَرْتنا أن نعمل بها، فسألهم عن الخمس التي تخلقوا بها في الجاهلية، فذكروا منها: والصدق في مواطن اللقاء.

فالصدق في مواطن اللقاء: أن يكون الإنسان صادقًا عند الضرب، وعند التقاء الصفين، فالإنسان الثابت الذي هو موقن بمبادئه، ويعلم أن الموت آت لا محالة، ويعلم أن الهرب لا ينجي من الموت: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78]، فإنه سيثبت في وجه العدو، ويكون ثباته شجاعة له، فقد سئل علي رضي الله عنه عن الشجاعة، ما هي؟ فقال: صبر ساعة.

الشجاعة أن يصبر الإنسان ساعة واحدة، فإذا صبر الإنسان ساعة فسيأتي الفرج بعدها، فأمر الله سبحانه وتعالى في هذ ا الكون نافذ بين الكاف والنون، يقلب الأمر كله في كل طرفة عين، ومن هنا قال الحكيم:

قد يموت الجبان في آخر الصف وينجو مُقارِع الأبطال

ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كَحَلِّ العِقَال

فيأتي الفرج من حيث لا يتوقعه الإنسان؛ ولهذا فإن الذين تعودوا على الصبر في مواطن اللقاء هم الذين يدركون قيمة المبادئ؛ لأنه لا يدرك الإنسان قيمة المبدأ حتى يضحي في سبيله، ولهذا قال أحد شعراء فلسطين في مرثيته للشيخ جمال الدين القاسمي- قائد الجهاد في فلسطين رحمة الله عليه- يقول فيه:

إن الزعامة والطريق مخوفة غير الزعامة والطريق أمان

فالوقت الذي يستطيع الصابر فيه التقدم في وقت الحرج، لا يمكن أن يقوم به كل الناس، إنما يقوم به أهل الصدق وأصحاب المبادئ وأربابها، وأما مَن سواهم فيمكن أن يتزعموا في وقت الراحة، ووقت الأمن والطمأنينة، ولكن هيهات أن يقع ذلك في وقت الهزات والأزمات، فحينئذٍ يعرف الرجال، ويعرف الرواحل الذين يمكن أن يتحملوا على كواهلهم أعباء المسئوليات، وأن يصدقوا فيما بايعوا الله عليه، وما أبدوه من الحق، وهم ينتظرون الجزاء عند الله تعالى؛ ولهذا فإن طلحة بن عبيد الله في هذا اليوم خرج من كفه عشرة سهام، وهو يرد بكفه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فشلت يمينه، شلت يمينه والسيف في يساره يقاتل به، فجعل يده بمثابة الدرقة يرد بها السهام عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأولئك القوم الذين صمدوا وصبروا كانوا مثالًا للمؤمنين في كل زمان ومكان، وإذا تذكر إنسان حالهم وتذكر قيامهم بالحق الذي بايعوا الله عليه، وعرف أنهم الأسوة الصالحة، وأنهم المثل له الذي ينبغي أن يأتسي به ويقتدي به، هم أولئك النفر الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه، فأثنى الله عليهم في كتابه، هم وأولئك الذين لا يمكن أن يرغب أحد بنفسه عنهم؛ ولهذا فإن رجلًا من الأنصار في يوم بئر معونة سولت له نفسه الفرار، أن يفر، فلما خرج فارًّا قال: أأرغب بنفسي عن مكان قُتل فيه المنذر بن عمرو؟! فرجع، فكان ذلك سببًا له للرجوع والمصابرة إلى أن لقي الشهادة في سبيل الله، فمكان قتل فيه المنذر بن عمرو لا يرغب مؤمن- وهو يعرفه- بنفسه عنه.

ولذلك فإن المصبرات التي تقتضي من الإنسان الثبات متعددة متنوعة، فمنها:

تذكر قدر الله سبحانه وتعالى

تذكر الإنسان لقدر الله سبحانه وتعالى، وأن الأمر قد كتب وحسم، وأن الأقلام قد رفعت، وأن الصحف قد جفت، وأن ما هو كائن قد كتب:

أيتها النفس أجملي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا

اقتداء الإنسان بغيره

والمثبت الثاني: هو ائتساء الإنسان واقتداؤه بغيره من الذين سبقوه، فله فيهم أسوة حسنة صالحة، والموت ليس عارًا ولا عيبًا على الإنسان، فقد سبقه إليه الأنبياء، والشهداء، والصديقون، والصالحون في كل القرون؛ فلذلك ليس عيبًا، وبالأخص إذا حال الأجل فلا منجى منه.

تذكر المروءة

كذلك مما يثبت الإنسان في مثل هذا الوقت: تذكر مروءته، وأنه إذا هرب بأي وجه يلقى الناس، بأي وجه يلقى الآخرين. ومثل هذا: الهروب المعنوي، وهو الانهزام والخوف والجبن، فهو هروب وإن كان هروبًا معنويًّا، فالحاصل واحد والنتيجة واحدة؛ ولذلك فإن معاوية رضي الله عنه قال: (والله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:

أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمة بالثمن الربيح

وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشئت وجاشت مكانك تُحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح

تذكر المسئولية

وكذلك من هذه المثبتات التي تثبت الإنسان: تذكره لمسئوليته عمن وراءه، كما حصل لـأبي الأعلى المودودي رحمه الله، عندما أُطلق الرصاص في القاعة وهو يحاضر فيها، فقال الناس له: اجلس. قال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟! فجعل من نفسه مثلًا لإخوانه الذين يقتدون به من بعده.

تذكر الجزاء العظيم

وكذلك من هذه المثبتات أيضًا: تذكر الجزاء العظيم، ومن يجتمع الإنسان بهم، فأنت لا شك محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحب للقاء به، وإذا كان الحال كذلك، فإذا كنت صادقًا، فيمكن أن تفطر معه في هذا اليوم من صومك، وهذا ما قاله يحيى عياش رحمة الله عليه في فلسطين لأولئك الشباب الذين كان يربيهم على الشهادة في سبيل الله، يقومون الليل ويصبحون على الصيام، فإذا تعالى النهار وهم في حلقة الذكر والقراءة، قال لهم: من يترشح منكم اليوم للإفطار على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللقاء به؟

وحينئذٍ يتحمسون للشهادة في سبيل الله، وينطلقون إلى ذلك الموعد الذي لا يخلف، فـابن رواحة رضي الله عنه لما تقدم للشهادة، قال: غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبه.

فذلك الموعد الذي لا يخلف، فالإنسان إذا قتل شهيدًا في سبيل الله، مقبلًا غير مدبر، صابرًا محتسبًا، لابد أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك جاء هذا التثبيت العجيب في هذه الآية: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

تذكر المصيبة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم بعد ذلك جاء تثبيت آخر، وهو أعظم من كل هذه المذكورات، وهو قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144].

كان من أسباب النكبة التي حصلت يوم أحد: أن الشيطان صاح بالناس لما قتل مصعب بن عمير: إن محمدًا قد قتل، وكان مصعب بن عمير يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سببًا لهزيمة بعض المؤمنين، فإن من عادة الله سبحانه وتعالى: أن القائد له تأثير على أتباعه؛ ولذلك كانت القيادة مركزية في كل الأعمال، فالقائد يلتف من حوله الناس، فيكون مركز ثقل وتوازن؛ ولهذا فإن العرب يقولون:

وألف ثعلب يقودها أسدْ خير من الف أسد إن لم تقد

فيحتاج إلى قيادة يسلم لها الناس أنفسهم، وتلك لا شك لم تتمثل في الأرض قط كما تمثلت في النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القائد الذي تسلم له النفوس؛ فلذلك لا عار إذا حصل انهزام في نفوس بعض الناس إذا قيل: إن هذا القائد العظيم قد قتل، لكن جاءت التسلية عجيبة جدًا، فخاطب الله أولئك بقوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[آل عمران:144].

فيجوز عليه ما يجوز على الرسل من قبله، فقد قتل بعضهم وأهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بني إسرائيل، ونشر زكريا بالمنشار حتى قسمت جثته، وقتل عدد كبير من الأنبياء في الجهاد في سبيل الله، ومن سواهم من الأنبياء ماتوا؛ فلذلك قال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[آل عمران:144].

فما هو بملك، ولا هو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، إنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل، فهو لا شك سائر على آثارهم، ((قد خلت من قبله الرسل)) وهذا تعزية للناس عن موته صلى الله عليه وسلم، فهو ميت لا محالة: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[الزمر:30].

فكان هذا تسلية وتعزية من الرب الكريم للمؤمنين جميعًا لهذا المصاب الذي لا يمكن أن تصيبهم مصيبة أعظم منه، وهو المصيبة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[آل عمران:144].

فليس ربًا ولا معبودًا حتى تتعلق به الآمال، إنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل، وسيسلك أثرهم لا محالة. أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144]، وهنا بيَّن الله سبحانه وتعالى ما يجيزه العقل والعادة في حقه من الموت والقتل، فكل ذلك جائز عقلًا وعادة، وإنما بدئ بذكر الموت لأنه الذي سيجري في علم الله، في علم الله أنه لا يقتل في معركة، وإنما يموت شهيدًا بالسم الذي جعله له اليهود عليهم لعائن الله في الشاة المسمومة؛ فلذلك قال: أَفَإِيْن مَاتَ[آل عمران:144]، ثم قال: أَوْ قُتِلَ[آل عمران:144]، ترديدًا؛ ليعلم المؤمنون أن الأمر سهل، وأن القتل في سبيل الله ليس عارًا ولا عيبًا، فهو يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن دونه؟!

أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144]، هل موته أو قتله يقتضي منكم الهزيمة، وأن تنقلبوا على أعقابكم؟! فالحل حينئذٍ ما هو؟ قال: أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144]، فمن كان هذا حاله ومآله فإن مصيره هو ما توعد الله به، وهو لا يضر إلا نفسه؛ فلذلك قال: أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا[آل عمران:144].

تذكر الإنسان لقدر الله سبحانه وتعالى، وأن الأمر قد كتب وحسم، وأن الأقلام قد رفعت، وأن الصحف قد جفت، وأن ما هو كائن قد كتب:

أيتها النفس أجملي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا

والمثبت الثاني: هو ائتساء الإنسان واقتداؤه بغيره من الذين سبقوه، فله فيهم أسوة حسنة صالحة، والموت ليس عارًا ولا عيبًا على الإنسان، فقد سبقه إليه الأنبياء، والشهداء، والصديقون، والصالحون في كل القرون؛ فلذلك ليس عيبًا، وبالأخص إذا حال الأجل فلا منجى منه.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تقويم الله لغزوة أحد [1] 3406 استماع
تقويم الله لغزوة أحد [4] 3158 استماع
تقويم الله لغزوة أحد [5] 2624 استماع
تقويم الله لغزوة أحد [3] 1747 استماع