خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الإسلام والسياسة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم الخبير، يعلم السر وأخفى ، لا تحجب عنه السماء سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، وقد دبر الكون كله فأحسن تدبيره، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ[الزمر:5]، وجعل من تدبيره لهذا الكون تقسيمه للأرزاق، فقد خلق أرزاق أهل الأرض في الأيام الأولى من خلق العالم، وقال في ذلك: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9] وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، ولم يشأ أن يجعل أمر العالم سدى، بل نظم هذا الكون تنظيماً دقيقاً عجيباً، فجعل بعض الناس محتاجاً إلى بعض، وجعل هذا الإنسان نكتة هذا العالم ومصدر نمائه وتطوره، وكان قادراً على أن يجعل العالم منقسماً إلى عوالم كما تتعايش الوحوش في الغابات ولكنه أراد أن يجعل في الأرض خليفة، فخلق آدم بيمينه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وكرمه بالعلم، وجعله خليفة في الأرض؛ ولذلك قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30].
وهذا الاستخلاف يقتضي تقييض كل ما في الأرض من أنواع الخلائق للإنسان، فأكبر الحيوانات و أقواها مذلل له، كما قال الله تعالى: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72]، وذلل له الأرض فأجرى له فيها الأنهار التي يمكن أن يزرع بها، وأقام فيها البحار التي تحمل له الأرزاق والمؤن في السفن، وسخر له الأمطار التي تسقي وتروي الآبار وتروي الزروع، ثم بعد ذلك هداه النجدين وعلمه المصالح، وبعد كل ذلك إذا كان الإنسان محتاجاً إلى تنظيم ينظم علاقاته بالله جل جلاله، وينظم علاقاته فيما بينه فأرسل الرسل وأنزل معهم الكتب التي هي من علم الله ووحيه وكلامه، فجاء الرسل بكل ما ينظم علاقات البشر، وجاءوا بنظام أساسه المحافظة على استخلاف الإنسان في الأرض وقيامه بشئون أهلها، فقد قال الله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29].
فكل ما في الأرض خلق لمصلحة ابن آدم إما انتفاعاً وإما اعتباراً وإما اختباراً، فلم يبق من حاجته بعد الأمور الكونية إلا الأمور التشريعية، فشرّع الله هذه الأمور، ولما كان البشر يمرون بأطوار متعددة، عُبّر عنها في نذارة نوح بقوله: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:14]، وفي نذارة محمد صلى الله عليه وسلم لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19]، احتيج إلى ألا يأتي التشريع دفعة واحدة، فلو جاء التشريع دفعة واحدة في الطور الأول أو الطور الثاني أو الطور الثالث لتوقف نمائه، ولاحتاج البشر إلى أن يعدلوه ويغيروه كما تسمعون في القوانين الأرضية، يوضع قانون ثم يعدل فيقال المعدل بالقانون رقم كذا بتاريخ كذا، وأصل ذلك أن علم البشر قاصر وأن علم الله تعالى كامل، فالله تعالى يقول في علم البشر: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
أما علم الله تعالى فيقول: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من عموم إلا تحته خصوص إلا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، ومعنى ذلك أن جميع عمومات القرآن مخصوصة إلا هذا العموم، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الزمر:62]هذا عموم لكنه مخصوص فلا يدخل فيه ذات الله وصفاته وكلامه، فالقرآن غير مخلوق وهكذا، وكذلك ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، المقصود ما تتعلق به القدرة، فلا تتعلق القدرة مثلاً بإفناء صفاته أو كلامه أو غير ذلك مما هو مستحيل عليه، لكن إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، لا استثناء فيها فهو عليم بذاته وعليم بصفاته وعليم بمخلوقاته، وعليم بأفعاله، فهذا العموم شامل لكل ذلك، ومن هنا قال الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فلما كان علمه محيطاً بأطوار البشرية، وبمصالحها وبأعراضها وأمراضها، وبكل ما ينشأ بينها من الخلافات والمشكلات، كان التشريع الذي ينزله حاكماً، قاضياً على كل ما سواه، وهو الفصل بين الناس فلا يمكن أن يجدوا ما هو أحسن مما أنزل الله، ولا يمكن أن يجدوا ما هو مساوِ له، ولا يمكن أن يجدوا ما هو مقارب له، بل المصلحة كل المصلحة هي فيما شرعه الله جل جلاله لعباده؛ فلذلك نزل الشرائع من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كلما خاضت البشرية تجربة ومرت بطور تأتيها شريعة مناسبة لذلك الطور، ثم تنسخ وتبدل بشريعة أخرى إذا تغيرت حياة البشرية ومرت بطور جديد، حتى إذا أكملت البشرية تجاربها ووصلت إلى النضج وخاضت جميع التجارب أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة التي هي الدين عند الله، فكل الأديان السابقة ليست هي الدين عند الله، هي دين مؤقت لمدة محددة، وهي حق.
ولذلك ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى مطبق لما بين يديه من الحق، فالتوراة التي كتب الله بيمينه لموسى في الألواح حق من عند الله، لكن علم الله أنها لا تصلح للتطبيق المستمر إلا لمدة محصورة فنسخها، والإنجيل الذي أنزل الله على عيسى بن مريم عليه السلام من كلام الله ووحيه وهو حق، لكن علم الله أنه لا يصلح للتطبيق المستمر إلا مدة محددة فنسخه، لكن هذا القرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم علم الله أنه صالح للتطبيق في كل زمان ومكان وأن البشرية لا يمكن أن تتطور إلى وقت تستغني فيه عن القرآن، أو تكون فيه محتاجة إلى تشريع آخر، أو تكون فيه يلائمها تشريع أعدل منه، فهو أعدل التشريعات كلها.
ولذلك بين الله سبحانه وتعالى إحكامه له فقال: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، فهذا كتاب أحكمت آياته، والإحكام هنا هو الإحكام العام وهو الإتقان، أحكمت آياته، ثم فصلت فجاء بيانها بالسنة القولية والفعلية، من لدن حكيم لا يتصرف عن الغرض ولا الأهواء وإنما يتصرف بالحكمة البالغة، خبير: فهو المحيط علماً بكل ما في هذا الكون.
فلذلك لو علم الله أن البشرية ستصل إلى وقت تستغني فيه عن القرآن لأنزل بعد محمد صلى الله عليه وسلم كتباً أخرى، ولو علم أنها تمر بطور يصلح لها فيه غير القرآن لأنزل عليها كتاباً آخر، فهو الحكيم الخبير علمه لا ينقص، كل ما أنزل في الكتب السماوية من علم الله لم ينقص من علم الله تعالى قدر ذرة، بل علمه جل جلاله في وفرته وكماله محيط بجميع الأشياء على التفصيل والإجمال، لا تخفى عنه خافية جل جلاله.
وقد علم الله أن البشر فيهم كثير من الأمراض، منها الظلم، فهو من طباع البشر، ومن طباع الحيوانات كلها إلا ما هذب منها، فالحيوان غير المهذب ـ معناه المتروك على أصله ـ لا بد أن يصدر منه الظلم، وقد قال الحكيم:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
ولذلك فمن تمام المخالفة أن الله سبحانه وتعالى نفى الظلم عن نفسه جملة وتفصيلاً فقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، أما البشر فهم مخالفون لله جل جلاله في صفاتهم؛ فلذلك شاع فيهم الظلم وانتشر، إلا من هذبت نفسه فهو الذي يستطيع التغلب على هذه الغريزة، وهذا الظلم ضرر بين؛ لأنه إفساد في هذه الأرض التي بناها الله على العدل، ودبر أمورها هذا التدبير الدقيق؛ لأن الظلم يغير الوضع الأصلي الذي وضعه الإله جل جلاله عما هو عليه؛ ولذلك كان مقيتاً، وكان إفساداً كبيراً في الأرض، أرأيتم لو أن البشر سلطوا على ذرات الشمس الكثيرة النافعة للعالم؟ فإنهم حينئذٍ لا بد أن يحجبوا نفعها عن أهل الأرض ما استطاعوا، ولو جعلت قسمة الأرزاق تحت أيديهم لمنعوا كثيراً من الناس، ولو جعلت قسمة الأمطار إليهم لمنعوا كثيراً من الناس، وهذا معروف في لغات البشر، فلا نزال نذكر قول زياد بن حمل في الجاهلية:
إذا سقى الله أرضاً صوب غادية فلا سقاهن إلا النار تضطرم
فالبشر لو جعل شيء من الأمور تحت أيديهم لمنعوه، حتى لو كان ذا وفرة كبيرة كالهواء والماء وغير ذلك، لا يمكن أن يجعل تحت أيديهم شيء من ذلك إلا منعوه.
كذلك فإن الإنسان إذا أحس بالغنى أو بالقوة فيتصف بوصف آخر نضير للظلم وهو الطغيان، والطغيان يقتضي منه التكبر والفسوق، والفسوق معناه: الخروج عن الطاعة، يقال: فسقت البيضة إذا خرج الفرخ منها، فالفسق معناه: الخروج عن طاعة المولى جل جلاله، فكل ذلك ينتشر في البشر إذا أحسوا بالقوة والغنى ولم يجدوا ضغطاً عليهم.
وكذلك داء آخر هو داء الغفلة، يصاب به الإنسان فيغفل عن المحاسبة، وينسى أنه مستخلف فيما تحت يده، فهو خليفة، تكريماً وتشريفاً له، لكنه مستخلف ويده يد وكيل ينتظر العزل في كل حين، كما قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7].
ثم إن الله سبحانه وتعالى بتدبيره جعل أملاك الناس تنقسم إلى قسمين :
إلى أملاك خصوصية ، وإلى أملاك عمومية.
فالأملاك العمومية عادة تتصف بصفتين:
الصفة الأولى: الوفرة، لا بد أن تكون كثيرة، فالشيء اليسير لا يمكن أن يتحاص الناس فيه بالعدل؛ فلذلك جعل الله الأملاك العمومية ذات وفرة وكثرة.
الخاصية الثانية: هي الحاجة، أن يكون محتاجاً إليه حاجة كبيرة، فالشيء الذي لا يحتاج إليه إلا عدد يسير من الناس لماذا يقسم بين الناس على السوية وكثير منهم غير محتاج إليه؟ فلذلك كانت الأملاك العمومية محل حاجة لدى الجميع.
من هنا ترتب على هذا ما يتعلق بنشأة الناس، فالإنسان يولد صغيراً ضعيفاً، محتاجاً إلى من يقوم بشئونه، ويغذي بدنه ويغذي عقله بزيادة المعلومات، ويدربه على أساليب حياته حتى يبلغ أشده، وكثير من الذين يبلغون أشدهم يبلغون وهم عاجزون عن الكسب والانتاج وفيهم كثير من الضعف، ثم بعد ذلك يصل الإنسان بعد تمام أشده إلى قوته إلى الضعف فيكون محتاجاً إلى من يرعاه ويقوم بشئونه كلها، كما قال أمية بن الأسكر رضي عنه:
يا أم هيثم! ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان
إما تري حجري قد رَكَّ جانبه فقد يسرك صلباً غير كَذَّان
أو ما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان
ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني
أمسيت هُزْءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في نجم تحفره من المواضع واحبسها بجمدان
إن ترع ضأناً فإني قد رعيتهمُ بيض الوجوه بني عمي وإخواني
يا ابني أمية! إني عنكما غانٍ وما الغنى غير أني مرعش فانٍ
يا ابني أمية! إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان
إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان
فالإنسان إذا تقدم به العمر لا بد أن يعود إلى الضعف والشيبة فيحتاج إلى من يقوم بشئونه ويرعاه، فإذا كان الحال كذلك عرفنا أن مدة الإنتاج في البشر مدة محصورة هي بين الصغر والكبر، هي مدة التوسط بين الصغر والكبر، عندما يتم عقل الإنسان ويتم بدنه وتتكامل قواه، وسرعان ما يعود إلى النقص والانمحاق، فالله تعالى خلقه من ضعف ثم بعد ذلك جاء إلى القوة، ثم يعود إلى الضعف والشيبة؛ فلذلك يحتاج إلى من يرعاه ويقوم بشئونه في مرحلتين: مرحلة صغره، ومرحلة كبره، وكثير من الناس يحتاج إلى الرعاية المطلقة، إما لضعف في العقل أو لضعف في البدن، أو لضعف في التدبير والركن، وكل ذلك هو من عوارض الأهلية فالأصل أن الإنسان مؤهل لهذا الاستخلاف، لكنه يعرض له عوارض تمنعه أهليته كالصغر، وكضعف العقل وكالمرض، وغير ذلك من العوارض التي تمنع الإنسان أهليته للتصرف في ماله أو في بدنه، فاحتاج الإنسان إذاً إلى ولاية عليه، وهذه الولاية هي لمصلحته في الواقع، ليست إهانة له ولا إذلالاً كما يتصوره بعض الناس أن ولاية الرجل على ابنته أو على أخته هو من باب الإذلال والإهانة، وتجدون أهل القوانين الوضعية اليوم يبحثون هذه المسألة، هذا غاية في عدم الفهم وعدم الإدراك، فالمرأة كرمت وشرفت بأن أضيف إليها عقل إلى عقلها، زيادة في التمكين والتدبير والاختيار، والصغير احتاج إلى أن يضرب عليه الحجر لمصلحته هو؛ لأنه يخفى عليه كثير من الأمور؛ ولذلك إذا تقدم به العمر يقول: يا ليتني لم أهمل سنوات مضت! ويا ليتني فعلت! ويا ليتني فعلت! والكبير كذلك مقر بعجزه عن التصرف فيحتاج إلى أن يقوم أحد بشئونه.
فلذلك كانت الولاية شرعاً للمصلحة، وهذه الولاية إما أن تكون على مال خاص وبدن خاص، أو أن تكون عمومية.. عامة.
فالولاية الخصوصية يشترط لها الرشد وكمال التدبير، لكن لا يشترط لها أكثر من ذلك من تمام الصلاح والعلم والاستقامة؛ لأنه لو شرط ذلك لما وجد من يقوم بشئون اليتامى والفقراء والضعفة والكبار والصغار، وهم ذووا عدد كبير، ولا يمكن أن يكون في البشر من يتولى شئون جميع هؤلاء من الصالحين الذين تشترط فيهم الشرط الكثيرة.
أما الولاية على الملك العام والتصرف العام فهي السلطان، وهذه لا بد أن يشترط لصاحبها كثير من الصفات؛ لأنه ستجعل تحت يده الأرزاق، وستجعل تحت يده الأسلحة والجيوش، وستجعل تحت يده القسمة إما أن يعدل فيها وإما أن يجور؛ فلذلك لا بد أن يشترط له كثير من الصفات، فاختار الله الرسل لقيادة البشر، وهم معصومون لا يمكن أن يتهموا، ولا يمكن أن يجوروا في حكمهم، ولا بد أن يعدلوا، وبين الله تعالى أنه امتحن إبراهيم بكثير من الامتحانات فنجح إبراهيم في جميعها، فجميع المواد يحرز فيها مائة على مائة، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ[البقرة:124]، أتمهن: العلامة كاملة ليس فيها نقص، فما هي الجائزة؟ قال: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، إمامة عامة على البشر جميعاً، قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، أراد أن تكون الإمامة في ذريته فاشترط الله عليه شرطاً قَالَ [البقرة:124]، من كان من أهل الظلم لا يناله هذا العهد بالإمامة؛ لأن الإمامة يقصد بها انتظام أمور البشر ورعاية دينهم ودنياهم، وإحسان التصرف في مالهم العام الذي هم شركاء فيه؛ ولذلك اشترط الله هذا الشرط: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].
ولاية الأنبياء العامة وما فيها من المشاق والأعباء
ثم بعد هذا جاءت ذريته فكان بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى عهد بني إسرائيل ووصلت البشرية إلى نضجها، أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم وولاه على شئون الناس، سواء منها ما كان عمومياً وما كان خصوصياً، فقال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[الأحزاب:6]، وبين أن هذه الولاية أيضاً هي لمصلحة المؤمنين فقال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، حتى نرى تمام القرب وتمام الرحمة والرأفة، فالمؤمنون جميعاً كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً، أقوياء وضعفاء كأنهم عيال النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بهم من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم، وهذا تمليك من الله جل جلاله للنبي صلى الله عليه وسلم للسلطان والتصرف، لا يستطيع أحد أن يتعقبه ولا أن يعقب عليه، فالله تعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36].
فليس للبشر الخيار بعد حكم الله جل جلاله، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرسل والأمر غير ممهد، لم يسلمه الله مفاتيح الدنيا عياناً بياناً، ولم يهيئ له الناس فيأمرهم بطاعته جميعاً أمراً كونياً حتى ينقادوا له، بل جعل الله ذلك جهاداً واستعداداً عظيماً لا يمكن أن يصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بكثير من المجاهدة والتكوين؛ فلذلك طهره الله من البداية فشق صدره وأخرجت منه المضغة السوداء، التي هي قابلية أمراض القلوب، وغسل قلبه بماء زمزم، ثم بعد ذلك شق مرة ثانية للإسراء والمعراج، وأنزل إليه الوحي، وهيئ نفسياً (فما من نبي إلا وقد رعى الغنم)، قيل: ولا أنت يا رسول الله! قال: ( كنت أرعى غنماً لقريش على قراريط).
وكذلك فإنه درب على تحمل المشاق والأعباء، وعلى تحمل الطعن والذم والشتم، فأنتم تعلمون أنه هو أكرم الناس، وأنه أجمل الناس وأكملهم، وأحسنهم خلقاً، ولكن مع ذلك إذا كان الإنسان لا يواجه ما يكره فستكون شخصيته ضعيفة، لا يستطيع الصمود ولا اتخاذ القرارات الحاسمة؛ فلذلك سلط الله المشركين على أنفسهم فعادوا النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الحكمة، والرسول صلى الله عليه وسلم منتفع بعداوتهم ومنتفع بذمهم وشتمهم؛ لأن هذا مما يقوي شخصيته ويزيد تمام رجولته، وخلقه، فدعا الناس إلى سبيل الله ، وشاء الله أن يختلفوا كما بين الله أن سره في الكون كله، أن يكون الناس أمة واحدة فيبعث الله فيهم نبياً فيفترقوا على أساس ذلك: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ[البقرة:213].
فبعثة الرسل هي التي تفرق الناس، لا بد أن يفترق الناس بين مصدق ومكذب كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، فسنة الله أن يصدق بعض الناس ويكذب بعضهم، فحصل هذا ومكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق إليه.
ثم بعد هذا جاءت ذريته فكان بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى عهد بني إسرائيل ووصلت البشرية إلى نضجها، أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم وولاه على شئون الناس، سواء منها ما كان عمومياً وما كان خصوصياً، فقال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[الأحزاب:6]، وبين أن هذه الولاية أيضاً هي لمصلحة المؤمنين فقال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، حتى نرى تمام القرب وتمام الرحمة والرأفة، فالمؤمنون جميعاً كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً، أقوياء وضعفاء كأنهم عيال النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بهم من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم، وهذا تمليك من الله جل جلاله للنبي صلى الله عليه وسلم للسلطان والتصرف، لا يستطيع أحد أن يتعقبه ولا أن يعقب عليه، فالله تعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36].
فليس للبشر الخيار بعد حكم الله جل جلاله، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرسل والأمر غير ممهد، لم يسلمه الله مفاتيح الدنيا عياناً بياناً، ولم يهيئ له الناس فيأمرهم بطاعته جميعاً أمراً كونياً حتى ينقادوا له، بل جعل الله ذلك جهاداً واستعداداً عظيماً لا يمكن أن يصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بكثير من المجاهدة والتكوين؛ فلذلك طهره الله من البداية فشق صدره وأخرجت منه المضغة السوداء، التي هي قابلية أمراض القلوب، وغسل قلبه بماء زمزم، ثم بعد ذلك شق مرة ثانية للإسراء والمعراج، وأنزل إليه الوحي، وهيئ نفسياً (فما من نبي إلا وقد رعى الغنم)، قيل: ولا أنت يا رسول الله! قال: ( كنت أرعى غنماً لقريش على قراريط).
وكذلك فإنه درب على تحمل المشاق والأعباء، وعلى تحمل الطعن والذم والشتم، فأنتم تعلمون أنه هو أكرم الناس، وأنه أجمل الناس وأكملهم، وأحسنهم خلقاً، ولكن مع ذلك إذا كان الإنسان لا يواجه ما يكره فستكون شخصيته ضعيفة، لا يستطيع الصمود ولا اتخاذ القرارات الحاسمة؛ فلذلك سلط الله المشركين على أنفسهم فعادوا النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الحكمة، والرسول صلى الله عليه وسلم منتفع بعداوتهم ومنتفع بذمهم وشتمهم؛ لأن هذا مما يقوي شخصيته ويزيد تمام رجولته، وخلقه، فدعا الناس إلى سبيل الله ، وشاء الله أن يختلفوا كما بين الله أن سره في الكون كله، أن يكون الناس أمة واحدة فيبعث الله فيهم نبياً فيفترقوا على أساس ذلك: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ[البقرة:213].
فبعثة الرسل هي التي تفرق الناس، لا بد أن يفترق الناس بين مصدق ومكذب كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، فسنة الله أن يصدق بعض الناس ويكذب بعضهم، فحصل هذا ومكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق إليه.
وكان يقسم الناس إذ ذاك بحسب مستواهم وإدراكهم فقسمهم إلى ثلاثة أقسام:
قسم الرواحل الذين يستطيعون تحمل الأعباء والمشاق
القسم الأول: الاختيار الاستراتيجي.. الرواحل الذين يستطيعون تحمل الأعباء والمشاق، وسيجاهدون جهاداً مريراً يضحون فيه بأرواحهم وأجسامهم وأهليهم وأوطانهم، وهم مستعدون لذلك استعداداً كاملاً، وهؤلاء المستعدون الذين هم الرواحل جعلهم في دار الأرقم، فليس لديهم أي نقص يمنعهم من تحمل الأعباء، وليس عليهم ضغوط للمجتمع من حولهم، وليس لديهم نقص في شخصياتهم وإدراكهم فكانوا أهلاً لتحمل الأعباء، ولحمل هذه الرسالة والتضحية من أجلها، وهؤلاء جعلهم في دار الأرقم ورباهم تربية مريرة، مكثوا فيها ثلاث عشرة سنة، لكن كل سنة جاءت بقرن كامل من عمر السياسة في الإسلام، من عمر دولة الإسلام، فدامت هذه الدولة ثلاثة عشر قرناً، كل قرن يقابل سنة من سنوات العهد المكي.
قسم ليسوا أقل شأناً من السابقين ولكن عليهم ضغوط للمجتمع
القسم الثاني: ليسوا أقل شأناً من السابقين من ناحية استعدادهم وتحملهم المشاق والأعباء، فليس لديهم نقص في أنفسهم ولكن عليهم ضغوط للمجتمع من حولهم، فلو التحقوا بالمجموعة الأولى لاكتشفت وعرفت، وكان ذلك ضرراً ماحقاً فمن سنة الأنبياء أن تبدأ دعوتهم بالسرية، كما قال نوح: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح:5]، فبدأ بالليل قبل النهار وهذا إشارة إلى السري، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:5-9]، وكذلك إبراهيم قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، وكذلك لوط قال الله له: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر:65]، وكذلك موسى قال الله له: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان:23]، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:24]، و يعقوب قال لابنه يوسف عليه السلام: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا[يوسف:5]، وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ[يوسف:67]، و يوسف قال الله عنه: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ[يوسف:77]، وأصحاب الكهف قال الله حكاية عنهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19] إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20].
فلذلك كان هؤلاء القوم عليهم ضغوط للمجتمع فجعل النبي صلى الله عليه وسلم محضناً آخر غير دار الأرقم، وهو دار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وزوجته فاطمة بنت الخطاب، وهؤلاء منهم مثلاً عبد الله بن مسعود وكان راعياً يرعى الغنم على الناس، فلو أضل قوم شاة من الليل وجاءوا يطلبون ابن مسعود فوجدوه في دار الأرقم لا كتشف العمل، ومنهم خباب بن الأرت وكان حداداً يصلح للناس الأبواب والنوافذ فلو جاء قوم يطلبونه من الليل فوجدوه بدار الأرقم أيضاً لا كتشف العمل، ومنهم عمار بن ياسر وكان تاجراً يبيع للناس ... فلو جاء قوم يطلبونه من الليل فوجدوه بدار الأرقم أيضاً لا كتشف العمل، فجعل لهم داراً مستقلة، وانظروا إلى الحكمة التي اختار بها رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتين العظيمين، فقريش أهل مكة كانوا منقسمين في الجاهلية إلى قسمين:
تحالف قسم يسمى: حلف المطيبين، وقادتهم بنو هاشم، والحلف الثاني اسمه: حلف لعقة الدم وقادته بنو مخزوم وبنو عدي، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما اختار هذا المحضن السري جعله في حلف لعقة الدم ولم يجعله في دور المطيبين، فلو كانت تربيته لهؤلاء القوم في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في دار رجل من بني هاشم أو من بني المطلب أو أحد حلف المطيبين لا كتشف الأمر؛ لأن هذه الدور مراقبة؛ فلذلك اختار دار الأرقم بن أبي الأرقم وهو شاب من بني مخزوم الذين كانوا أصلاً أعداء لبني هاشم في الجاهلية، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان منهم أيضاً قادة أعداء الدعوة كالوليد بن المغيرة، وابن أخيه أبي جهل ، وغيرهما من الذين ناصبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء، وبنو عدي بن كعب أيضاً إذ ذاك يقودهم عمر بن الخطاب وكان معادياً لهذه الدعوة في بداية نشأتها، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم هذين البيتين، وأيضاً فدار الأرقم كانت على الصفا فلا يستغرب خروج الناس منها ودخولهم إليها في أية ساعة من ليل أو نهار، فالناس يطوفون بين الصفاء والمروة دائماً؛ فلذلك إذا خرج إنسان من دار الأرقم فرأى من يتابعه يمكن أن يجعلها طوافاً سعياً بين الصفا والمروة فلا يكتشف، وهكذا.
قسم لا يصلحون لتحمل الأعباء والمشاق ولكنهم يؤازرون
والقسم الثالث: علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يصلحون لتحمل هذه الأعباء والمشاق ولكنهم مع ذلك يؤازرون، وهم مد للجسور والعروق في داخل المجتمع، ورفع للأشرعة الخارجية، وهؤلاء قبل منهم الإسلام وبايعهم عليه، لكنه لم يقبل منهم الالتحاق بهذا العمل التربوي الذي كان يقوده صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ومن هؤلاء أبو ذر رضي الله عنه، فقد كان من أفاضل الصحابة ومن أصدق الناس لهجة لكنه لم يكن يتحمل كتمان السر، وليس ذلك نقصاً في فضله ولا مزيته بل هو من أفاضل الصحابة رضوان الله عليه، وقد حدثنا عن نفسه فذكر أنه لم يزل يسمع بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما كثر عليه ذلك قال: أرسلت أخي فقلت: ائتني بجلية أمر هذا الرجل، فذهب إلى مكة فعاد، فقال: وجدته وقومه عليه جرآء والناس فيه مختلفون بين مصدق له ومكذب. فقلت: لم تشف لي غليلاً، فصعدت على راحلتي فأتيت مكة، فاستقبلوني الملأ من قريش عند البيت، قالوا: لعلك غريب بهذا الوادي، قلت: أجل. قالوا: إن في هذا الوادي رجلاً هو أسحر خلق الله، فحذار أن تسمع شيئاً من كلامه لئلا يسحرك. فجعلت القطن في أذني لئلا أسمع شيئاً من كلامه ـــ انظروا إلى التأثر الشديد، مجرد السماع، فهو جاء لطلب الحق ومع ذلك يسمع من طرف فيتأثر به ـــ قال: فجلست عند الكعبة.
حتى إذا تعالى النهار أتاني علي بن أبي طالب وهو شاب فتى صغير، فقال: هل لك فيمن يضيفك؟ قلت: لوددت ذلك، فقال: اتبعني! فكنت أتبعه، فإذا رأى من ينظر إليه تشاغل بإصلاح نعله، حتى أدخلني على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس وجه كذاب، فجعل أبو ذر ينتزع القطن من أذنيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثه ويكرمه فعرض عليه الإسلام فأسلم، ثم قال: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، واكتم إيمانك عن قريش فإني أخافهم عليك )، قلت: والذي بعثك بالحق! لأرمين بها بين أظهرهم، لا يستطيع كتمان إسلامه، فذهبت إلى الملأ حول الكعبة، فقلت: ألا إني أسلمت وبايعت محمداً، فقاموا إلي فضربوني حتى أدموني وأسقطوني على الأرض، فجاء العباس بن عبد المطلب فمنعهم أن يقتلوني، فلما كان في المساء، وقفت بينهم فصحت فيهم ألا إني أسلمت وبايعت محمداً فقاموا إلي حتى كادوا يقتلونني فجاء أبو بكر الصديق فحال بيني وبينهم، وقال: اخرج إلى قومك، وقال لهم: أتقتلون رجلاً من غفار وتجارتكم تمر على غفار.
وقد عرفتم من هذه القصة لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر أن يدخل في دار الأرقم، أو أن يذهب إلى دار سعيد بن زيد ؟ ونظير ذلك أيضاً ما تجدون في الصحيحين في حديث إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، فإنه لما أسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ارجع إلى قومك فكن فيهم فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، قال: فأتيت قومي من الليل فاستقبلني أبي فقلت إليك عني فلست منك ولست مني! قال: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قال: ديني دينك. فاستقبلتني أمي فقلت: إليك عني ولست مني! قالت: ولم يا بني ؟ قلت: تابعت محمداً و دخلت في دينه. قالت: ديني دينك. فاستقبلتني صاحبتي، فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني! قالت: ولمه؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قالت: ديني دينك ).