مقتطفات من السيرة [3]


الحلقة مفرغة

السؤال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث، وقد بعثت آخر الزمان لئلا تطلع الأمم على فضائح أمتي) أو كما قال، فنريد منكم شيخنا الحكم على هذا الحديث؟

الجواب: الشطر الأول من الحديث: (أنا أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث) حديث معروف، وهو من أحاديث الجامع الصغير، ومن معروفه أنه حديث ضعيف الإسناد لا تقوم الحجة به، ولا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ثبوته، هذا من حيث إسناده.

وأما من حيث متنه، فلا يتصور أن يقول الرسول عليه السلام: إنه أول الأنبياء في الخلق، فأول الأنبياء كما نعلم آدم عليه الصلاة والسلام، وهو أبو البشر مطلقاً، فكيف يتصور أن يكون حفيده بعد مئات الأجيال محمد بن عبد الله قد خلق قبل جده الأول آدم عليه الصلاة والسلام؟!

وقد يتأول بعض الناس مثل هذا الحديث بأن المقصود بالخلق الخلق المعنوي. فنقول: بهذا المعنى يخرج الحديث عن النكارة الظاهرة، ولكن هذا أيضاً يحتاج إلى إثبات، كون الرسول عليه السلام خلق من حيث المعنى قبل الأنبياء جميعاً، فهذا أمر غيبـي يحتاج إلى إثبات، وليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا قوله عليه الصلاة والسلام الثابت عنه: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) وفي رواية: (كتبت نبياً) فهذا معنىً صحيح، أي: إن الله عز وجل كتب نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام.. قبل تمام خلق آدم عليه الصلاة والسلام، (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) هذا هو لفظ الحديث الصحيح المروي في مسند الإمام أحمد وغيره من كتب السنة المعروفة.

وقد اشتهر الحديث عند الصوفية بمعنى: (كنت نبياً لا آدم ولا ماء ولا طين) الحديث بهذا اللفظ من الأحاديث الموضوعة المعروف وضعها عند العلماء.

فإذاً حديث: (كنت نبياً -وفي اللفظ الآخر:- كتبت نبياً وآدم بين الروح والجسد) هذا صحيح، أما أنه كان أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث، فهذا حديث ضعيف.

أما تمام الحديث وهو: (وقد بعثت آخر الزمان لئلا تطلع الأمم على فضائح أمتي) فهذا لا أعرفه حديثاً، وأظنه تعليلاً من بعض الشراح أو المعلقين على الحديث الضعيف.

السؤال: هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول ما خلق الله من البشر؟

الجواب: ليس صحيحاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو أول ما خلق الله من البشر؛ لأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز للمسلم أن يتحدث فيها بالظن؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس:36] .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) فإذا قال إنسان ما: إن الله عز وجل أول ما خلق -لا نقول: شخص محمد، وإنما كما يزعمون خلق- نور محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نقول: قال الله تبارك وتعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]. فمن أين علم هذا الزاعم الراجم بالغيب أن أول ما خلق الله خلق نور محمد عليه الصلاة والسلام، فسيقول في الحديث المعروف: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر !) فنقول: هذا حديث ليس له أصل في كتب الأمهات الست المشهورة، ولا السنن المعروفة عند أهل الحديث، ولا غيرها مما يبلغ المئات من الكتب، فهذا الحديث ليس له أصل إلا في أذهان الجهال، من الذين اتخذوا مديح النبي صلى الله عليه وسلم بالحق وبالباطل مهنة يعيشون من ورائها، فلا يجوز عند كثير من العلماء إثبات عقيدة بحديث صحيح، وإنما يشترطون في إثبات العقيدة بأن يكون الحديث متواتراً، ولا يكفي أن يكون صحيحاً فقط، ولو كان له طريقان أو ثلاثة، لا بد أن يكون جاء من عشرين طريقاً، أي: عن عشرين صحابياً؛ حتى تثبت العقيدة بذلك الحديث، ونحن وإن كنا لا نتبنى هذا الرأي؛ لأننا لا نفرق بين ما جاءنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم من عقيدة وما جاءنا عنه من حكم، فكل ذلك يجب اتباعه والاستسلام له، ولكننا نذكر بأن كثيراً من العلماء لما اشترطوا التواتر في الحديث الذي يراد إثبات العقيدة به، ما اشترطوا ذلك إلا حرصاً على ألا يعتقد المسلم ما قد يكون وَهِم فيه بعض الرواة، فمع الأسف نجد جماهير الناس اليوم يعتقدون عقائد قامت على أحاديث ضعيفة، بل وأحاديث موضوعة، كهذا الحديث: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر!) لذلك فلا يجوز للمسلم أن يعتقد مثل هذه العقيدة، لعدم ورودها في شيء من الأحاديث الصحيحة.

السؤال: هل صحيح ما يقال في الرسول صلى الله عليه وسلم:

لو أبصر الشيطان طلعة نـوره     في وجه آدم كان أول من سجد

هذا سمعته من بعض المنشدين، فما حكم الإنشاد والمديح هذا؟

الجواب: البيت المذكور لا شك أنه ضلال، لا يجوز إنشاده، فضلاً عن مدح الرسول به؛ لأن مدحك للرجل بالباطل هو طعن في الواقع فيه، سواء شاء هذا المنشد أو أبى؛ لأنك إذا مدحت إنساناً بما ليس فيه، فكأنك تعني أن هذا ليس فيه من الممادح الحقيقية القائمة فيه حتى نمدحه بها؛ لذلك نحن نختلق من عند أنفسنا أشياء نمدحه بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، فقد اصطفاه الله عز وجل لنبوته ورسالته، وخلَّقه بالأخلاق الكاملة، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] .

فليس هو عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى أن يمدح بمثل هذه الأباطيل، لا سيما وفي السنة الصحيحة -قسم منها متواتر، وقسم دون ذلك، وكله صحيح- ما يمكن للمسلم أن يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام به، أما أن يأتي إلى مثل هذا المديح الباطل، فهذا غلو في الدين، والله عز وجل قد حذرنا بتحذيره أهل الكتاب من الغلو في الذين فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171] .

وقال عليه الصلاة والسلام موجهاً نفس هذا المعنى إلينا نحن معشر المسلمين مباشرة، وذلك حينما كان قريباً من منى، وأمر عبد الله بن عباس أن يلتقط له حصيات، وأشار إلى أن تكون الحصيات صغيرة بقدر حصى الخذف، وقال: (مثل هذه، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم غلوهم في دينهم).

فالغلو في الدين لا يجوز مطلقاً، وبخاصة ما كان منه متعلقاً بالعقيدة مثل الأمور الغيبية، فمثل هذا الزعم الذي زعمه هذا المنشد:

لو أبصر الشيطان طلعة نـوره     في وجه آدم كان أول من سجد

هذا من كلام الشعراء الذين يتبعهم الغاوون.

إذاً: مثل هذا الإنشاد لا يجوز قطعاً؛ والكلام والنطق والتلفظ به لا يجوز؛ لأنه باطل، ولذلك حذر الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين من أن ينصاعوا في مدحه ولو في حدود الواقع، خشية أن يجرهم ذلك إلى مثل هذا الكلام الباطل، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) (لا تطروني) أي: لا تمدحوني، وبهذه المناسبة يجب التذكير بأنه ليس معنى هذا الحديث كما يذكر بعض الشراح: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، لا. وإنما لا تمدحوني مطلقاً؛ لأنه ليس بحاجة إلى أن يمدح، وذلك لأن اليهود النصارى إنما ضلوا ووصلوا إلى جعل عيسى ابن الله بسبب أنهم فتحوا لأنفسهم باب مدح عيسى عليه الصلاة والسلام.

وكلنا يعلم أن معظم النار من مستصغر الشرر، فالشيطان من كيده لبني الإنسان، لا يفزعه بالموبقات وبالعظائم من الأمور المحرمة؛ لأن ذلك مما ينبه عدوه الإنسان فلا يتورط معه، وإنما يأتيه خطوة خطوة، فسداً للذريعة قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني) أي: لا تمدحوني مطلقاً (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) ومن الدليل على هذا الذي قلته: أن هذا الحديث أورده علماء الحديث ومنهم الإمام الترمذي في كتابه الشمائل النبوية، أورده تحت باب: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان الإمام الترمذي يفهم هذا الحديث: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، لم يتصل هذا المعنى بالباب، أو لم يكن الحديث مترجماً للباب؛ لأن هذا لا يدل على التواضع، وهو واجب على أي إنسان أن يقول للناس: لا تمدحوني بالباطل، هذا ليس تواضعاً، لكن التواضع هو إذا فهم الحديث على ظاهره، لا تمدحوني مطلقاً، هذا هو التواضع.. لماذا يا رسول الله وأنت أهل لأن تمدح؟ لأن فتح هذا الباب قد يؤدي بكم إلى الوقوع في مثل ما وقع فيه النصارى من الإسراف، وهذا في الواقع مشاهد اليوم بين المسلمين، وهذا بيت شعر أمامكم من أبيات كثيرة وكثيرة من قصيدة البوصيري وغيره:

فإن من جودك الدنيا وضرتهـا     ومن علومك علم اللوح والقلم

هذا مدح؛ لكنه كفر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع الجارية في زمنه وهي تقول:

وفينا نبي الله يعلم ما في غد

فقال: (لا يعلم الغيب إلا الله، دعي هذا)، فكيف لو سمع الرسول عليه الصلاة والسلام قول البوصيري :

ومن علومك علم اللوح والقلم
؟!

لاشك أن هذا ضلال لا يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

إذاً: فقطع دابر هذه المبالغات هو ألا يفتح المسلم باب المديح خاصة بالأناشيد هذه، ويكتفي بقراءة ما ثبت في السيرة من أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معجزاته وآدابه التي فتح بها هذه القلوب التي كانت عمياً.

وإليك بعض الأمثلة الموضحة لهذا المعنى:

عن عبد الله بن الشخير قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال عليه الصلاة والسلام: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد.

ماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان

أي: لما قالوا للرسول عليه السلام: أنت سيدنا، قال لهم عليه الصلاة والسلام: (السيد الله) أي: السيد الحقيقي هو الله، ولما قالوا له: (وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً) قال لهم عليه الصلاة والسلام: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) أي: لا تفتحوا على أنفسكم باب الانحراف عن الصراط المستقيم، بالغلو في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فيجركم الشيطان إلى الطرق المنحرفة عن الصراط المستقيم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).

كذلك يشير الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (ولا يستجرينكم الشيطان) إلى الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط على الأرض خطاً مستقيماً، ثم خط من حوله خطوطاً قصيرة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يمد أصبعه على الخط المستقيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ).

فالمبالغة في مدح الأنبياء والصالحين هي من الطرق التي يجر الشيطان المبالغين في المدح إلى طرق قصيرة، ويخرجهم بها عن الصراط المستقيم الذي هو طريق واحد لا ثانيَ له، هذا هو المقصود بقوله عليه السلام: (ولا يستجرينكم الشيطان) وبعبارة أصولية: إن الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (لا يستجرينكم الشيطان) وضع باب سد الذريعة، فهو ينهى عن المبالغة في المدح؛ خشية أن يؤدي إلى ما لا يجوز من الكلام كما فعل النصارى.

السؤال: نرجو البيان بالتفصيل في حكم استعمال كلمة (سيد) مثلاً: (سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم)، مع أنه ورد حديث: (السيد الله) .

الجواب: (السيد الله) هو حديث صحيح بلا شك، وكذلك هناك أحاديث صحيحة أطلق فيها الرسول عليه الصلاة والسلام السيادة لنفسه بحق، وهو قوله في صحيح مسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة، أتدرون مما ذاك...) ثم ذكر حديث الشفاعة، وهو حديث طويل جداً، كذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، آدم فما دونه تحت لوائي يوم القيامة).

فالسيادة سيادتان:

سيادة لا تليق إلا لله عز وجل، فهي التي عناها الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الأول حينما قال: (السيد الله) وهي السيادة المطلقة، والمناسبة التي ذكر هذا الحديث فيها تؤيد ذلك، فقد جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا وأنت كذا وكذا...) -وذكروا ألفاظاً أخرى، فقال في الحديث هذا: (السيد الله) وفي حديث آخر قال لهم: (قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)، أيضاً نفهم من مجموع الروايتين أن قوله عليه الصلاة والسلام: (السيد الله) هو تنبيه إلى أن السيادة الحقيقة إنما هي لله عز وجل، فخشي عليه الصلاة والسلام من مبالغتهم في وصفه، أن يؤدي بهم ذلك الوصف إلى الإشراك بالرسول صلى الله عليه وسلم مع الله ولو في اللفظ؛ لأنه من الفقه في التوحيد الذي يخفى على كثير من أهل العلم فضلاً عن غيرهم، أن الشرك له أقسام كثيرة، والذي يهمنا الآن هو التفصيل الآتي: شرك اعتقادي، وشرك لفظي، فحينما نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أولئك وقال لهم: (السيد الله) خشي عليهم أن يقعوا في الشرك اللفظي، أي: أن يقولوا لفظاً يمكن أن يطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المعنى الحقيقي له إنما هو لله تبارك وتعالى، فبياناً لهذه الحقيقة قال: (السيد الله) وبياناً للسيادة اللائقة به عليه الصلاة والسلام، التي هي دون ودون ودون -أكرر ملايين (دون)- سيادة الله الحقيقية، هي هذه السيادة التي قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، أنا سيد ولد آدم) فبناء على هذا التفصيل:

إذا قال المسلم في بعض الأحيان: سيدنا رسول الله، وهو إنما يعني السيادة اللائقة به، وهو نبي مصطفىً مخلوق، فهذا جائز بلا شك؛ لأنه سيد حقاً، لكن إذا قال: سيدنا، وضمن هذه اللفظة معنىً فوق مستوى البشر، فحين ذلك يقال له: السيد الله، السيادة الحقيقية هي لله عز وجل.

ونجد أن الصحابة رضي الله عنهم نادراً ما كانوا يستعملون لفظة السيادة هذه؛ لأن الغالب عليهم أنهم يقولون: قال رسول الله، وإنما جاء في حديث موقوف في سنن ابن ماجة على ابن مسعود، أنه ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام لفظ: سيد المرسلين، ومع ذلك ففي السند ضعف، فإذا قال المسلم أحياناً: قال سيدنا رسول الله، من باب بيان أن للرسول عليه الصلاة والسلام هذه السيادة على جميع البشر، كما سمعتم آنفاً؛ فهذا حق، لكن الغالب أن يقول: قال رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام.. كما جرى عليه السلف الصالح، إلا في العبادات في الأوراد والأذكار التي جاءتنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تعليماً منه لنا، فلا يجوز أن ندخل لفظة سيد في ورد من تلك الأوراد؛ وذلك لأن التعليم النبوي للمسلمين ليس فيه نقص حتى يأتي أحدنا فيستدرك هذا النقص عليه، فالله عز وجل حينما أنزل قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] قالوا: (يا رسول الله! هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال عليه الصلاة والسلام: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ... إلخ) لم يقل لهم: قولوا: اللهم صلِّ على سيدنا.

وهنا أذكر وهماً شائعاً للتنبيه على خطئه، يقول بعضهم، ومع الأسف أنه من أهل العلم: كيف يأمر الرسول الناس أن يقولوا: سيدنا، وهو رسول الله وهو متواضع، ولا يليق بتواضعه أن يأمر الناس أن يسودوه، وأن يقولوا: اللهم صلِّ على سيدنا؟ هذه غفلة تشبه غفلة المستبيحين للتصوير الفوتوغرافي، بحجة أن الرسول لا يعرف ما يصير فيما بعد، ونسوا أن هذا الكلام: (كل مصور في النار) ليس من عنده، وإنما هو من الله، ونسوا أيضاً أن قول الرسول: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد) ليس من عنده، إنما هو من وحي السماء، فالله هو الذي أمر سيد الناس أن يأمر الصحابة أصالة وسائر الناس تبعاً بأن يقولوا: اللهم صلِّ على محمد، فلو أن الله عز وجل أراد أن يشرع للناس تسويد الرسول بالصلاة الإبراهيمية، لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: قولوا: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، ويُقَرِّب هذا المعنى ما يأتي:

تُرَى لما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام التحيات، وقال: (إذا جلس أحدكم في التشهد فليقل: التحيات لله) هل هذا تعظيم لنفسه أم تعظيم لربه؟ لا شك أنه تعظيم لربه، فهل يجوز لنا أن نقول: التحيات لله تعالى، التحيات لله عز وجل؟ هذا كله تعظيم لله عز وجل؟ ومع ذلك لا يجوز بهذه الصيغة؟ لأن هذا التعليم كامل أولاً، ثم هو من الله الذي أمرنا أن نعظمه ونبجله في صلاتنا بهذه الألفاظ: التحيات لله والصلوات والطيبات، فلو أراد الله زيادة التبجيل له لزاد هذه الألفاظ وعلمنا الرسول عليه السلام، وهذا كهذا، كما أنه لا يجوز للمصلي أن يقول: التحيات لله تبارك وتعالى، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وتحياته وسلامه ...إلخ، كذلك لا يجوز أن يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد.. إلخ.

والسر في هذا أن الأذكار توقيفية، أي: التعليم من الله للرسول والرسول بدوره للأمة، لذلك لا يجوز أن نقول: إن الرسول تواضعاً منه لم يقل: قولوا: اللهم صلِّ على سيدنا، وإنما نقول: إن كان الله أوحى إليه بلفظة (سيدنا) فما كان لرسول الله أن يكتم وحي السماء بحجة التواضع، وإن كان الله لم يوحِ إليه بذلك؛ فأحرى وأحرى ألا يجوز لنا أن نزيد شيئاً لم يوحَ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من السماء.

فهذا جواب زيادة سيادة الرسول عليه الصلاة والسلام له سيادته اللائقة التي فضل بها على الناس جميعاً، ولكن نقول أحياناً: سيدنا رسول الله، تخصيصاً لهذه السيادة، ولكن لا نزيد هذه اللفظة في الأوراد التي علمناها الرسول عليه الصلاة والسلام.

السؤال: رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام هل تحدث حقيقة؟ وما الدليل على ذلك؟

الجواب: إن كان الرائي رأى الرسول عليه السلام حقيقة فهي رؤية حقيقة، أي: إن رأى الرسول عليه السلام بأوصافه الثابتة في كتب السنة فقد رآه حقاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي).

أما إن رأى صورة وقيل له: إن هذا رسول الله، كأن رآه مثلاً شيخاً فانياً، لحيته بيضاء كالقطن، فهذه ليست صفة الرسول عليه السلام، ونحو ذلك من الصفات، فمن رأى الرسول بأوصافه المطابقة للشمائل النبوية؛ فقد رآه حقاً وإلا فلا.

السؤال: من رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنام هل يكون رآه على حقيقته؟ وما يدريه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريه أنه هو حيث لم يره في حياته؟

الجواب: إنه بعد أن يثبت أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام لا يكون هو في منامه متوهماً، وإنما هو على بصيرة بما يقول، فلا شك أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام.

وسؤال السائل: ما يدريه وهو ما رأى الرسول في حياته؟

الجواب: إنه ليس كل من ادعى أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يقال: إنه رأى الرسول في المنام حقاً، وإنما إذا كانت الأوصاف التي رآها في المنام على الشخص الذي يدعي أنه رأى الرسول مطابقة لما ورد في كتب الحديث من شمائل الرسول؛ حينئذٍ نقول: رؤياه حق، أما إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأوصاف وشمائل تخالف الشمائل النبوية، فحينئذ يكون لم يرَ الرسول عليه الصلاة والسلام، فأظن أن السائل مستشكل أنه يسمع كل من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام فقد رآه حقاً.

لا، إنما فيها تفصيل، من رآه مطابقاً لأوصافه وشمائله فقد رآه، وإلا فلا، وعلى هذا التفصيل يجب أن نفهم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) بعد ذلك تسأل الرائي وتقول له: من فضلك، صف لنا الرسول عليه الصلاة والسلام؟ مثلاً كيف كانت لحيته؟ سيقول لك: بيضاء مثل القطن، فهذا ما رأى الرسول عليه السلام؛ لأن الرسول ما شاب.

وجاء في صحيح البخاري وغيره: (أنه كان في لحيته عشر شعرات أو إحدى عشرة شعرة بيضاء فقط) فإذا قال الرائي: أنا رأيت لحيته بيضاء بالمرة، نعرف يقيناً أنه ما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وإلا فما فائدة قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (فإن الشيطان لا يتمثل بي) هل هذا الشيطان الذي أوهم الرائي في المنام أنه الرسول وأنه شايب؟ والرسول غير شايب، إذاً: ما تشبه بالرسول عليه السلام.

كذلك نسأله مثلاً: كيف رأيته، قاعداً أم ماشياً أم جالساً؟ فيجيب: رأيته ماشياً. ونسأله: كيف مشيته؟ يقول: مشي رافعاً عنقه. فهذا ليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن من شمائله وأوصافه أنه كان إذا مشى فكأنما ينصب من صبب عليه الصلاة والسلام، كان قوياً، وكان يسبق أقوى الرجال ...إلخ، فإذا كان الرائي يصف أوصاف الرسول عليه السلام التي رآها في شخصه في المنام، فطابقت أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام التي رواها أصحابه الكرام، فتكون الرؤيا حق، وإلا فلا.

ونستحضر بعض حالات للرائي:

كل من ادعى بأنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإما أن يستطيع أن يصفه وأن يكون في ذهنه أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام، أو في ذهنه أنه هو فعلاً رأى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستطيع أن يصف أوصافه، أو ليس في ذهنه، كثير من الناس -وأنا منهم- يرى رؤيا، أي رؤيا، وفي الصباح تتبخر من ذهنه وكأنه ما رأى شيئاً، فأنا رأيت، لكن كيف؟ لا أدري، القضية ضائعة عليّ تماماً.

فإذاً: الرائي للرسول عليه السلام هو بين حالة من حالتين:

الحالة الأولى: وفيها حالتان: إما أن يستطيع أن يصف، أو لا يستطيع أن يصف، إما بنسيان، أو ما رأى في الحقيقة الصورة واضحة، مثلاً: قيل له في المنام: هذا الشخص الماشي أمامك هو الرسول عليه السلام، أو الواقف أمامك، ولم يرَ وجهه -مثلاً- فإذا كان لا يستطيع أن يصف فلا نقدر أن نقول له: أصبت أو أخطأت، الله أعلم، هذه الحالة الأولى.

الحالة الثانية: يستطيع أن يصف؛ لأنه رآه فعلاً كما تقدم في التفصيل السابق، فإذا وصفه أوصافاً مطابقة لأوصافه عليه السلام، وما هو معروف في كتب الحديث والسنة؛ فهي رؤيا حق (.. فإنه رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) وإذا جاءت الأوصاف مخالفة فهي -كما علمتم- ليست الرؤيا التي عناها الرسول عليه السلام.

السؤال: كيف رأى النبي أهل الجنة وأهل النار قبل أن تقوم الساعة، حيث إن الجنة والنار لما يدخلها أحد؟

الجواب: هذا كما يقول الصوفية -تماماً-: كشف، لكن هذا كشف صحيح وخاص بالأنبياء والرسل، أما مثل هذا الكشف فلا يناله غير الرسول عليه الصلاة والسلام من بعده، هذا تمثيل يُمثَّل للرسول عليه السلام ما سيكون عليه أهل الجنة وأهل النار، وقد رأى ذلك في مناسبات شتى، منها في قصة كسوف الشمس، حين صلى الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف رأوه يتقدم كأنه يريد أن يقبض شيئاً، ثم رؤي يتقهقر، حتى تقهقرت الصفوف من خلفه فتداخلت الصفوف بعضها في بعض، ثم بعد الصلاة سألوه، فقال عليه الصلاة والسلام: (عرضت عليّ الجنة في جدار مسجدكم هذا، فرأيت نعيمها، ورأيت عنبها، فهممت أن أقتطف منها)، ثم تذكر -فيما يبدو، وهذا ليس في الحديث- أنها محرمة إلا لمن دخلها، ثم عرضت النار فرأى لهيبها وأحس بحرارتها، فتقهقر عليه الصلاة والسلام فهذا تمثيل من رب العالمين القدير القادر على كل شيء للرسول عليه السلام ما سيكون عليه أهل الجنة في نعيمهم وأهل النار في جحيمهم.

السؤال: لماذا تزوج صلى الله عليه وسلم مارية القبطية مع توفر زوجات عنده في ذلك الوقت؟ وهل هناك سبب شرعي أو تفسير لعدم إعتاق الرسول صلى الله عليه وسلم لها وتزوجها؟

الجواب: هذا السؤال يتضمن سؤالين: السؤال الأول: لماذا تزوج الرسول عليه السلام مارية القبطية مع توفر زوجات عنده في ذلك الوقت؟

أقول بكل صراحة: لا أدري لماذا تزوجها، وإنما أدري يقيناً أنه فعل ما أباح الله له، فقد أباح الله له أن يتزوج ما شاء من النساء، أما لماذا تزوج المرأة الفلانية بالذات؟ فلا أدري ما هو السر، لكن أدري يقيناً أنه تزوجها لصالحها لا للإضرار بها، ولإحصانها لا لإفسادها إلى غير ذلك من المسائل التي لا نقدر الإحاطة بها، ولبعض الكتاب الإسلاميين كتابات لا بأس بها في تعليل أو فلسفة تزوج الرسول عليه الصلاة والسلام بنسائه الكثيرات، ويبينون ويعللون كل واحدة لماذا تزوجها.. فأم سلمة تزوجها لأن زوجها مات عنها، وخلف لها صبية، فتزوجها ليكون ولياً على هؤلاء الأولاد، وأن يقوم بتربيتهم والإنفاق عليهم، ونحو ذلك، وهذه السيدة عائشة تزوجها لأنها بنت صاحبه في الغار، وهذه حفصة ... إلخ.

فلكل زوجة أسباب وجيهة تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام من أجلها، لكن الأمر أوسع من ذلك، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يحيط بهذه الأسرار وبالحكم التي من أجلها تزوج الرسول عليه السلام بمن تزوج به منهن من النساء.

أما الشطر الثاني من السؤال وهو قوله: هل هناك سبب شرعي لعدم إعتاق الرسول صلى الله عليه وسلم لها وتزوجها؟ كأن السائل يقول: لماذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل بزوجته مارية القبطية كما فعل بزوجته صفية؟

فـصفية من الثابت أنه عليه السلام أعتقها، وجعل عتقها صداقها، وهي في صحيح البخاري ومسلم، والسائل يقول: هل هناك سبب يوضح ويبين لماذا لم يعاملها معاملته عليه السلام لـصفية؟ لماذا لم يعتقها ويجعل عتقها صداقها؟

أقول أيضاً:لا أدري، ولكن من الأسباب الواضحة أن في ذلك بياناً لجواز التزوج بالأمة التي ليست بحرة، وأنه لا يجب على الحر أن يعتق الأمة إذا أراد أن يتزوجها، وإنما ذلك من فضائل الأعمال، فقد جمع الرسول عليه الصلاة والسلام حينما تزوج صفية وجعل عتقها صداقها، وحينما تزوج مارية القبطية على بقائها في رقها، قد جمع الرسول عليه الصلاة والسلام بهذين النقيضين بين بيان ما هو الأفضل، وبين بيان ما هو أمر جائز، هذا الذي يبدو لي من الإجابة على هذا السؤال.

السؤال: خلاصته أن خطيباً ذكر قصة رجل أصيب بالشلل، وذهب إلى ألمانيا للعلاج ولم يشف، فذهب إلى المدينة إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام وطلب منه الشفاعة، فرأى في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: اذهب إلى العالم الفلاني يقرأ عليك بعض الآيات ليزول عنك المرض! فما رأيكم في ذلك؟

الجواب: ممكن أن يقع للإنسان كما في الرؤيا السابقة؛ لأنه من الممكن أن يرى الإنسان الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام حقيقة، وممكن أن يكون ذلك توهماً، ودعاء الرجل الصالح كثيراً ما يظهر كالشمس في رابعة النهار، نحن لا ننكر هذا.

ولكن زماننا هذا فيه كذب كثير، وفيه خرافات، وفيه بدع ومبالغات، ثم يقولون: هذه الرواية صحيحة وصادقة وليس فيها أي شيء، إلا أنه جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم واستشفع به!!

فإنه فعل شيئاً لا يجوز في الشرع.