خطب ومحاضرات
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [8]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فقد وصلنا إلى قول البخاري رحمه الله: (باب: الأسير أو الغريم يربط في المسجد).
هكذا جاءت هذه الترجمة في أغلب روايات صحيح البخاري بـ(أو) التي تدل على الشك، وجاء في بعضها بالواو، و(الأسير) معناه: المقاتل إذا أسر؛ أي: أخذ باليد، و(الغريم) معناه: من عليه دين إذا كان الدائن يريد منه قضاءه، (يربط في المسجد)؛ أي: حكم ذلك؛ أي: جواز أن يربط الأسير أو الغريم في المسجد، وقد علق البخاري هنا في هذه الترجمة حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه: (حين ربطوه بسارية من سواري المسجد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليه، فيقول له: يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تمنن علي مننت على شاكر، فقال لهم رسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث: أطلقوا ثمامة، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل فجاء وأسلم)، وهو سيد بني حنيفة أهل اليمامة، وهو أسير؛ لأنه جاءت به خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نجد، فالحديث المعلق إذًا هو المناسب للترجمة تمامًا.
والحديث الذي أسنده البخاري في هذا الباب، وهو قصة الشيطان الذي تسور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته في الليل في المسجد، ليس غريمًا، ولكنه من الممكن أن يكون أسيرًا؛ لأنه بمثابة المقاتل فهو معتدٍ، وقد مكن الله منه رسوله صلى الله عليه وسلم فأمسكه، فهو بمثابة الأسير، وعلى هذا يمكن أن تكون (أو) في الترجمة بمعنى الواو، فيكون المعنى: (باب: الأسير والغريم يربط في المسجد)، فالأسير مثاله ثمامة بن أثال، والغريم وإن كان لم يذكر في الحديثين، لا في المعلق ولا في المسند، لكن ملازمة كعب بن مالك لـابن أبي حدرد- وقد سبقت في الحديث السابق- هي من هذا القبيل وإن كان ابن أبي حدرد لم يربط في المسجد؛ وذلك أن الغريم قد لا يكون جانيًا فإنما يكون جانيًا بالمماطلة، إذا ثبتت المماطلة في حقه وكان لديه سداد يستطيع قضاء الدين به فامتنع من قضائه أو أخره عن موعده؛ فهو حينئذ عاص، وذلك يحل تأديبه، ومن تأديبه سجنه، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سجن- كما سبق- إلا المسجد؛ فلذلك يمكن أن يربط في المسجد.
ضوابط ربط الأسير والغريم في المسجد
ومحل ما ذكر من إباحة الربط إذا لم يخش تلويث المسجد أو تضييقه على المصلين، بأن كان المسجد واسعًا كما كان في العهد النبوي، قد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرًا، وكان يصلي فيه آلاف من أصحابه معه، وكان بعضه غير مسقوف، وكان بعضه صفة؛ أي: يوضع فوقه جذوع النخل فقط وليس مسقوفًا سقفًا كاملًا، وكان يسكن فيه سبعون من المهاجرين من الفقراء ينفق عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يسكنون في صفة المسجد، واتساع المسجد هو الذي يبيح ذلك؛ ولهذا بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة لـسعد بن معاذ كما سيأتي، وكان يبني فيه الخيام للضيوف الذين يأتون من الخارج، ومحل ذلك عند عدم تلويث المسجد، فإذا خشي تلويثه كمساجدنا اليوم الضيقة التي فيها الفرش ويسهل تلويثها فلا يربط فيها الأسرى ولا الغرماء، ولا يسجن فيها الناس لهذه العلة، وكذلك لا تدخله الدواب والرواحل كما سيأتينا في جواز إدخال البعير للمسجد للعلة، فذلك إنما كان عند اتساع المساجد كالصدر الأول، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متسعًا جدًّا، والمسجد المكي كان الفراغ المحيط بالكعبة وليس له حدود ولا سور ولا جدار، وكذلك مسجد البصرة الذي بناه عقبة بن غزوان بأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقد جعله أرباعًا وكبره، فكان يصلي فيه مائة ألف، وكذلك مسجد الكوفة مسجد علي بن أبي طالب فكان يعلق فيه مائة ألف سيف، وكان له أربعة مؤذنين، يؤذن كل مؤذن على زاوية من زواياه فلا يسمعه من يسمع الآخر؛ لاتساعه.
وهذه الجدران المحيطة إذ ذاك هي التي تسمى مساجد، وليس في بنائها كبير تكلفة، يسقف بعضه ويترك بعض، فيكون جدرانًا متسعة يصلي فيها الرجال والنساء، ويدخلها الضيوف، وتناخ فيها الإبل، ويقضى فيها بين الخصوم، ويحبس فيها الناس؛ لاتساعها.
وأما اليوم فلم يعد الحال كذلك، ومن هنا؛ فمن أحكام المساجد ما كان قديمًا في الصدر الأول ولم يعد الآن مما ينبغي؛ كالصلاة في النعال في المساجد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه في المسجد وكان أصحابه يفعلون، لكن لم تكن نعالهم كنعالنا اليوم، فنعالهم كانت جلدًا فقط محزوزًا من جلد الإبل أو من جلد البقر، كما قال الشاعر:
حذاني بعدما خذمت نعالي دبية إنه نعم الخليل
مقابلتين من صلوي مشب من الثيران وصلهما جميل
فهما مقابلتان من جلد فقط؛ ولذلك إذا صلى عليهما الإنسان يكون جلوسه على جلوس السنة، وليس فيه اختلال في التوازن، أما نعالنا الكبيرة العريضة اليوم فلو صلى فيها الإنسان وأراد الجلوس فيها لما تمكن من أن يجلس جلوس السنة، وأيضًا قلما تخلو من غبار وأوساخ يؤثر على الفراش، وبالأخص الكنادر التي كثيرًا ما تكون فيها الرائحة التي تجنب المساجد أصلًا، ومن المعلوم أن كل ذي رائحة كريهة لا يدخل به المسجد، ورائحتها قد تكون أشد من رائحة الثوم والكراث.
الحكمة من ربط الأسير والغريم في المسجد
وربط الأسير أو الغريم في المسجد محله في غير وقت حاجته للخلاء والبول وغير ذلك، فإذا احتاج لمثل ذلك اخرج لقضاء حاجته، والمقصود بالربط أيضًا ما لا يؤذي، كما سبق أن السجون في الإسلام لا يراد بها التعذيب ولا التشفي، وإنما يراد بها التأديب والإصلاح؛ فلذلك الربط الذي فيها ليس ربط تعذيب ولا أذى، وإنما هو ربط حبس عن الخروج وإسماع للحق، فالذين كانوا يحبسون في المسجد من الأسرى من المشركين كان يمتثل فيهم قول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ[التوبة:6]، فهم يسمعون كلام الله، ويربطون قريبًا منه حتى يسمعوه، وكثيرًا ما يؤثر ذلك عليهم فيسلمون به، فـجبير بن المطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف وكان من صناديد قريش جاء إلى المدينة وهو يفكر في اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الصلح بعد صلح الحديبية، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور في الصلاة، وفي آخر السورة جعل يفكر، فقال: هذا الرجل شاعر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ[الحاقة:41]، فقال: إذًا هو كاهن، قال: وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[الحاقة:42]، قال: إذًا من أين هذا الكلام؟ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الواقعة:80].. لا أقصد في آية الطور: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ[الطور:30-34]، وكلما خطرت في نفسه خطرة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها في هذه السورة، فلما أراد أن يقوم اعتقل ولم يستطع القيام لتأثير وقع القرآن عليه، فأسلم وحسن إسلامه.
ومثل ذلك رجل من الأعراب جاء إلى المسجد فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، فلما وصل إلى موضع السجدة بادر إلى السجود فسجد، فقيل له: أتعرف موضع السجود في القرآن؟ قال: لا، ولكن من سمع هذا الكلام سيسوقه إلى السجود، لا بد أن يسجد هنا، ونظير هذا أيضًا ما حصل لرجل من أهل نجران من أهل الكتاب وهو نصراني، وكان يتعبد في صومعته بالليل، والرهبان يوقدون القناديل بالليل فيراهم الركبان السائرون ويستأنسون بهم، فأوقد قنديله، فمر حوله رجل من الصحابة على بعير له راجع من اليمن إلى المدينة وهو يقرأ سورة النساء، حتى بلغ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا[النساء:47]، فنزل الراهب يجري ويمس قفاه هل طمس وجهه إلى قفاه، وأدرك الراكب، وجاء إلى المدينة وأسلم، وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بأيام معدودات.
فهذا القرآن له تأثير كبير على الناس؛ فلذلك من سمعه- إذا كان بالأخص من قارئ متقن، وكان ذلك في الصلاة وفي قراءة خاشعة- يؤثر عليه تأثيرًا بليغًا رهيبًا؛ فلذلك كانت الحكمة في ربط الأسير حول المسجد ليسمع.
ربط النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا من الجن في المسجد
قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة- أو كلمة نحوها- ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ص:35])، هذا الذي ذكر هنا في الاختصار من الحديث، وأصلحوا الآية: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ص:35]، فالرواية فيها إصلاح الآية كما هي: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ص:35]، وفي رواية إسقاط ذلك لكنها خطأ؛ لأنها تخالف القرآن، (فأرجعه خاسئًا)، هذه نهاية الحديث ولم تكتب هنا، اكتبوها: (فأرجعه خاسئًا)، (فذكرت قول أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ص:35]، فأرجعه خاسئًا).
هذا الحديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحدث عن حاصل حادثة حدثت له صلى الله عليه وسلم بنفسه فقد كان يصلي من الليل، وصلاته من الليل أغلبها كان في بيته، فكان يركع الركعتين بعد المغرب في بيته، والركعتين بعد العشاء في بيته، وقيام الليل في بيته، فهذا أغلب صلاته، لكنه في بعض الأحيان يكون معتكفًا فتكون صلاته جميعًا في المسجد، وقد اعتكف في رمضان واعتكف في غيره، فأغلب اعتكافه صلى الله عليه وسلم كان في رمضان، فقد اعتكف العشر الأوائل من رمضان، فأتاه جبريل، فقال: (إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فأتاه فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر، ولم يزل يعتكفهن إلا أنه في عام من الأعوام دخل المسجد ليعتكف فرأى الأخبية كثرت فيه..)؛ أي: أخبية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كل واحدة منهن اتخذت خباءً لتعتكف فيه في المسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (آلبر ترون بهن؟..)، وهذا تأديب وتعليم لإصلاح النية ولقصد المنافسة في الخير، وألا تكون من واقع الغيرة، قال: (آلبر ترون بهن؟ فلم يعتكف من عامه ذلك حتى كان يوم العيد فاعتكف عشرة أيام من شوال قضاءً عن عشر رمضان)، وهذا تشريع يدل على أن الاعتكاف غير مختص بشهر رمضان، وأنه يمكن في غيره، وأيضًا أن التعليم قد يوصل الإنسان إلى اختلاف الفاضل بأمر ما، فقد تترك التطويل في الصلاة تعليمًا، وقد تنقص قيام الليل لئلا تحرج من يتعلم منك ومن تربيه، وقد تنقص حزبك من القرآن تعليمًا، وقد تنقص حزبك من الذكر كذلك تعليمًا، وكل ذلك من التعامل الحسن مع الناس، فما كان من ذلك تعليمًا للناس وتدريبًا لهم وتعويدًا لهم على الطاعة فيؤخذون فيه بالأخف فالأخف، وما أردت لنفسك فخذ بالعزائم، فتقضي ما نقص من عبادتك مع الناس إذا خلوت بنفسك، لكن مع الناس تحاول أن تأخذ لهم بالأخف؛ لئلا تكون فتنة عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هنا أراد التعليم، وقال: (آلبر ترون بهن؟)، ولم يعتكف في العشر الأواخر فاعتكف عشرًا من شهر شوال، ومن المعلوم أن رمضان أفضل من شوال، وأن العشر الأواخر من رمضان هي أفضل ليالي السنة؛ لأنها فيها ليلة القدر.
و(العفريت) هو القوي الماكر، وتطلق على البشر والجن، ولكن أغلب إطلاقها على الجن، ويقال فيها: (عفر) و(عفريت) فـ(العفر) هو الداهي الماكر، وكذلك العفريت؛ ولهذا قيدت بـ(من) فقيل: من الجن، فمعناه أن العفريت قد يكون من الإنس وقد يكون من الجن، وهذا الذي تسور على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من الجن؛ فلذلك قال: (إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة..)، (تفلت) معناه: دخل خلسة وخفية، وهذه الكلمة شك فيها أبو هريرة هل هي اللفظ النبوي أو قال كلمة نحوها؟ أي: كلمة مثلها؛ ولذلك في الروايات الأخرى: (تسور علي)، و(التسور) معناه الدخول من السور؛ أي: الدخول من الجدار فجأة؛ كما في قصة داود عليه السلام: إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ[ص:21-22].
والتفلت هو مثل خروج الماء من القربة، فإنه يتفلت منها، ومثل: تفلت الإبل من العقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن فلهو أشد تفلتًا من صدور الرجال من الإبل في عقلها)، كذلك التفلت من القرب، فتفلت الماء من القرب هو من هذا القبيل، وكذلك الثوب إذا كان متشققًا فإنه يسمى (فلوتًا)؛ لأنه يتفلت منه البرد إلى بدن الإنسان؛ ولذلك سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه متمم بن نويرة عن أخيه مالك بن نويرة: ما أعجبك فيه؟ كان معجبًا به إعجابًا كبيرًا فسأله: (ما أعجبك فيه؟ فقال: كان أخي يبيت الليلة القارسة)؛ أي: شديدة البرد، (بين المزادتين غير المعتدلتين، يلبس الشملة الفلوت، ويركب الجمل الثفال، ويقود الفرس الحرونة، ثم يصبح يتهلل) معناه: أنه كان شديد الصبر، (فيبيت في الليلة القارسة)؛ أي: شديدة البرد، (وهو يركب الجمل الثفال)؛ أي: الحرون الصعب، (بين المزادتين)؛ أي: القربتين غير المعتدلين، هذا الركوب شاق جدًّا، (وهو يلبس الشملة الفلوت)؛ أي: الشملة المتفلتة التي قد تشققت فيدخل منها البرد، (ويقود الفرس الحرون) يجذبه إلى الوراء (ويصبح يتهلل) مبسوطًا على هذا الوضع، فهذا الذي أعجبه في أخيه من شدة صبره؛ ولذلك رثاه بقصائده المشهورة التي أنشدها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي أبي بكر وعمر، وبكى حتى دمعت عينه العوراء، كان أعور، العين العوراء عادة لا تدمع إلا لشدة الحزن، فسأله عمر أن يرثي أخاه زيد بن الخطاب كما رثى أخاه هو مالك بن نويرة، فقال: (لو علمت أن أخي صار إلى ما صار إليه أخوك لما رثيته)، وزيد بن الخطاب مات شهيدًا في سبيل الله في اليمامة، وقد قال عمر: (سبقني إلى الحسنيين)، فأسلم قبله واستشهد قبله، قال: (لو علمت أن أخي صار إلى ما صار إليه أخوك لما رثيته).
(تفلت علي البارحة)؛ أي: في أثناء الصلاة، (أو كلمة نحوها)؛ أي: نحو (تفلت)، ولا يقصد: نحو البارحة، فالبارحة معناه الليلة الفائتة، وهي من برح بمعنى غادر، فالبارح معناه المغادر الذي قد ذهب، (ليقطع علي الصلاة)؛ أي: مهمته التي جاء من أجلها هي أن يقطع علي الصلاة؛ أي: يقطع صلاتي، وهذا من شأن العفاريت.
أقسام قطع الصلاة
وهنا قطع الصلاة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قطع نورها، فإن بين يدي المصلي نورًا عظيمًا هو نور الصلاة، ويقطعه ثلاثة: الكلب الأسود، والحمار، والمرأة الحائض، فهذه الثلاثة إذا مرت بين يدي المصلي انقطع نور صلاته، ولكن هذا القطع لا يبطل الصلاة، والمصلي إذا مر بين يديه أي أحد فعليه أن يدرأه ما استطاع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أحدكم أن يصلي فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل وليدنُ منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان)، وهذا يشمل البهائم والأناسي؛ ولذلك في حديث ابن عمر في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى جدار المسجد، فجاءت شاة تريد المرور بين يديه، فتقدم حتى ألصق بطنه بجدار المسجد ليمنعها من المرور بين يديه).
النوع الثاني من أنواع القطع هو: قطع الصلاة بمعنى الإبطال؛ أي: إبطالها؛ وذلك كالحدث في الصلاة، فهو قاطع لها؛ أي: مبطل، وكذلك المبطلات التي تعتريها في الأثناء؛ كمن ذكر الحدث، ذكر أنه محدث، أو أنه يصلي إلى غير القبلة بانحراف شديد، والانحراف ينقسم إلى قسمين: انحراف خفيف، وانحراف شديد، فالانحراف الخفيف مثل الذي يصلي إلى هذه الجهة أو هذه الجهة مما بين هاتين، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بين هاتين قبلة..)، أو: (ما بين هذين قبلة)، (ما بين هذين)؛ أي: المشرق والمغرب بالنسبة لأهل المدينة، (أو ما بين هاتين)؛ أي: يديه، (قبلة) والمقصود بـ(قبلة) أن الصلاة لا تبطل ما دام الإنسان يستقبل، ولكن يجب على الإنسان أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وإذا تبين له أنه ليس كذلك وجب عليه أن يعدل جهته في الصلاة، وكثير من الناس يظن أن هذا معناه على التخيير: إن شئت صل إلى هذه الجهة، وإن شئت إلى هذه، هذا غلط، ليس بالتخيير، بل يجب عليك أن تجتهد في أن يكون وجهك تلقاء البيت الحرام؛ ولذلك فالقبلة ستة أقسام:
قبلة معاينة لمن كان بداخل المسجد يرى الكعبة.
وقبلة مسامتة وهي ما كان مقابلًا للكعبة لكن لا تراها؛ لأن بينك وبينها جدارًا أو أسطوانة أو نحو ذلك.
وقبلة وحي؛ كقبلة المسجد النبوي والمساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبلة إجماع؛ كقبلة الجامع الأموي، ومسجد عمرو بن العاص بمصر، ومسجد عقبة بن غزوان بالبصرة، ومسجد علي بن أبي طالب بالكوفة، وغيرها من المساجد التي صلى فيها مئات من الصحابة واجتهدوا في قبلتها وأجمعوا عليها.
والخامسة: قبلة اجتهاد؛ مثل قبلة مساجدنا اليوم.
والسادسة: قبلة النافلة على الراحلة في السفر، يصلي الإنسان على راحلته أنى توجهت به.
إذًا هذه ستة أقسام.
القسم الثالث من قطع الصلاة: هو ما يحصل من قطعها المتعمد من غير إبطال؛ كمن أحرم يريد أن يصلي الفريضة فأقام الناس الصلاة في المسجد، جاء إلى المسجد يظن أن الناس لم يصلوا، فأحرم يصلي العصر مثلًا، فأقام الناس الصلاة، فإذا كان قد صلى ركعة شفعها بأخرى ويسلم وصلاته صحيحة غير باطلة لكنها انقلبت إلى نافلة، فهذا نوع من القطع هو القطع الثالث، وهي تلتبس على كثير من طلبة العلم فيظنون أن حديث: (يقطع الصلاة ثلاثة)، أن المقصود به قطعها بمعنى الإبطال، وهذا غير صحيح، فالمقصود قطع نورها فقط، وليس ذلك قطع إبطال، مع أن الحنفية يرون أن المصلي إذا سامتته أو تقدمت عليه امرأة، ودخلت معه في نفس الصلاة التي هو فيها فإن ذلك مبطل لصلاته، إلا في صورة واحدة فيها خلاف عندهم، وهي من فروع القاعدة الاثنا عشرية، وهي إذا أكملت صلاتك حتى لم يبق لك إلا السلام وأكملت التشهد، فجاءت امرأة فأحرمت عن يمينك أو عن شمالك واقتدت بك، نوت الاقتداء بك، فعند أبي حنيفة بطلت صلاتك، وعند الصاحبين أبي يوسف ومحمد بن الحسن صلاتك صحيحة، ولكن سقط عنك السلام، خرجت منها بغير صنعك، وهذا راجع إلى قاعدة مشهورة لدى الحنفية يسمونها القاعدة الاثنا عشرية؛ وهي: (ما غير الفرض في أوله غيره في آخره عنده لا عندهما) (ما غير الفرض في أوله غيره في آخره عنده)؛ أي: عند أبي حنيفة، (لا عندهما)؛ أي: عند الصاحبين أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
(فأمكنني الله منه)، هذا من ربانية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ينسب النعم والخيرات كلها إلى الله جل جلاله، فكل نعمة أنعم الله بها عليه ينسبها إليه إقرارًا له بها، وتعبدًا له بشكرها، والنعمة تنقسم إلى قسمين:
نعمة جلب ونعمة دفع؛ فنعمة الجلب هي: ما يجلبه الله للعبد من المصالح التي تعينه على دينه ودنياه، ونعمة الدفع: ما يصرف عنه من المكروه، وهذا الحديث الآن اجتمعت فيه نعمة الجلب ونعمة الدفع، أما نعمة الدفع فقد دفع الله عنه شر هذا الشيطان الذي جاء ليقطع صلاته، وهذا القطع محتمل لأمرين من أنواع القطع الثلاثة: محتمل لأنه يريد الإبطال، وقد ورد في ذلك أنه يحمل شهابًا أراد أن يغمسه في وجهه؛ ليشغله به عن صلاته حتى يقطعها؛ لأن الإنسان إذا تأذى بشيء كمن هجمت عليه حية أو عقرب في الصلاة فله أن يقطعها، وكذلك كل من خاف أذًى؛ من خاف حريقًا أو نحوه فله الحق أن يقطع صلاته، والقطع هنا قطع إبطال، وقد يكون ذلك من النوع الأول من أنواع القطع فيكون مرور الجني بين يدي المصلي كمرور الكلب الأسود؛ لأن الكلب الأسود شيطان كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه سأله أبو ذر قال: (ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان)، فهذا يدل على أن الشيطان إذا مر ورآه الإنسان- لكن بشرط الرؤية- فإنه يكون قاطعًا لنور الصلاة أيضًا كالكلب والحمار والمرأة.
وعمومًا الحمار والمرأة جاء لهذا الحديث معارض فيهما في قطعهما للصلاة، والكلب الأسود لم يأت معارض في قطعه، فالمرأة جاء فيها معارض وهو حديث عائشة قالت: (رحمه الله! ما زال بنا حتى ساوى بيننا وبين الحمر والكلاب، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة في الفراش بين يديه، فإذا سجد غمزني، فإذا قام بسطت رجلي)، فإذًا هذا معارض لهذا الحديث؛ لأن عائشة تمر بين يديه لأنها تبسط رجليها وتقبضهما، والحمار أيضًا في حديث ابن عباس في الصحيح: (جئت أركب أتانًا لي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنًى إلى غير جدار، فمررت بالأتان بين يدي بعض الصف وأرسلتها ترعى، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد)، فهذا الحديث صريح في أنه حصل في العهد النبوي وبحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم أن مر ابن عباس بالأتان بين يدي الصف، ثم أرسلها ترعى، ودخل في الصف، فمعنى هذا أن الحمار لم يعد يقطع؛ لأن هذا كان في حجة الوداع؛ أي: قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بثمانين يومًا تقريبًا فقط.
والكلب الأسود لم يرد له معارض، لم يرد في أي حديث معارضة له، ومع ذلك فيمكن أن يكون القاطع ما كان إلى مسافة معينة، وانتبهوا إلى هذه النقطة فهي مهمة تحل كثيرًا من الإشكالات هي حريم المصلي؛ أي: ما يملكه المصلي من الحريم في الصلاة، كم قدره؟ فـابن عباس قال: (مررت بين يدي بعض الصف) فيمكن أن يكون مر من مسافة؛ عشرة أمتار، عشرين مترًا، وحينئذ لا يقطع ذلك، فلا يكون الحديث معارضًا للحديث السابق، فيحمل الحديث السابق على المرور القريب، ويحمل حديث ابن عباس على المرور البعيد، وحريم المصلي مختلف فيه؛ فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه ثلاثة أذرع، وأخذوا ذلك من طول السيف، فالسيف عادة الذي يقاتل به إذا تقاتل متقاتلان فالمسافة التي يتقاتل منها بالسيوف عادة هي ثلاثة أذرع؛ لأنه كون هذا يمد ذراعه وهذا يمد ذراعه والسيف بينهما مثلًا، فتكون المسافة ثلاثة أذرع، وحتى بعض السيوف يكون طولها كذلك ثلاثة أذرع وإصبع، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أبى فليقاتله)، والمقاتلة أشهر ما تكون لدى العرب بالسيوف، وعلى هذا يكون الحريم المخصوص للمصلي هو قدر المقاتلة بالسيف؛ أي: ثلاثة أذرع، ومنهم من قال: بل هي اثنا عشر شبرًا من الوسط، وذلك هو طول الرمح، فرماح العرب التي يقتتلون بها طولها اثنا عشر شبرًا من الوسط (بالشبر الوسط)، وهذا قيد الرمح الذي تسمعون في ارتفاع الشمس؛ أي: حوالي اثني عشر شبرًا، وهذا تقديري في الأفق؛ لأنه لا يمكن أن تذرع السماء، ولا أن تقيسها بالأشبار، وبعضهم قال: هي رمية بالقوس، وهذه مسافة لا بأس بها، يمكن أن تصل إلى ثلاثين مترًا أو أكثر، فأقوياء الناس يصل رميهم بالسهام إلى خمسين مترًا، هذا أقوى شيء تقريبًا، فالمقاتلة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أبى فليقاتله) أشهر ما تكون لدى العرب إما بالسيف، وإما بالرمح، وإما بالقوس، وكل هذه قال بها طائفة من أهل العلم، لكن قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: (تالله لقد زلت أقدام العلماء في هذه المسألة، ولا يملك المصلي من الحريم إلا موضع سجوده وركوعه)، قال: لا يملك إلا موضع سجوده وركوعه، فما مر دون مكان السجود والركوع فهو قاطع عليه، وما مر وراء ذلك لا علاقة للمصلي به، وهذه المسألة يدخل فيها أمر آخر وهو طهارة الفراش للصلاة، طهارة المكان الذي تصلي فيه، فإذا كنت تصلي في هذا المكان وحولك على الفراش نجس، أو أمامك ثوب متنجس أو حولك، فإذا كان في موضع سجودك وركوعك ولم تلامسه فكان في الجفوة التي بين الركبتين واليدين والجبهة- فهذا لا يبطل عليك على الراجح- ولكنه يكره أن تصلي فوقه، كما يكره أن يكون أمامك بالقرب، أن تجعل سترتك نجسًا؛ ولذلك إذا أردت أن تستتر للصلاة فيجوز أن تستتر بكل شيء طاهر حتى الدابة، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى راحلته معروضة بينه وبين القبلة، وكان ابن عمر يفعله.
(إلا إلى نجس أو حائض أو جنب) فالمرأة الحائض لا تجعل منها سترة، لا تستتر بظهرها، والجنب كذلك؛ لأن هذا ليس من شأن الصلاة؛ فلذلك يجتنب الانتفاع به في الصلاة كلها، كما أن كل ما هو نجس لا ينتفع به في المساجد ولا في أقوات الآدميين، فالنجس المعفو عنه المأذون في استعماله يجوز استعماله (فيما سوى أمرين: ذواق الآدمي والمساجد)، ذواق الآدمي؛ أي: تغذيته، ومثلها العلاج الداخلي، العلاج الباطني في داخل البدن:
وامنع دواء باطن الأجساد بنجس واختلفوا في البادي
أي: الظاهر.
بالمتنجس انتفع فيما عدا ذواق الآدمي والمساجدا
المتنجس ينتفع به فيما عدا هذين الأمرين: ذواق الآدمي والمساجد، فلا يستعمل فيها المتنجس مطلقًا.
(ليقطع علي الصلاة)، والمقصود بالصلاة هنا صلاة النافلة لا الفريضة، (فأمكنني الله منه)، فأمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات هذا الحديث: (أنه خنقه حتى أحس بلل لسانه بذراعه)، وهذا دليل للمالكية الذين يرون أن الحي طاهر مطلقًا، وأن الحياة علة للطهارة، فالمالكية يرون أن الحي طاهر مطلقًا، يقولون: (ولو إبليس عليه لعنة الله)، وقد سئل أحد علمائنا عن فائدة طهارة إبليس، فقال: (من تحكك عليه في الصلاة لم تبطل صلاته)، إبليس يمكن أن يتحكك على المصلي، فمن تحكك عليه في الصلاة لم تبطل صلاته؛ فلذلك يرى المالكية طهارة الكلب والخنزير ما دام حيًا، ويرون أن غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبعًا إنما هو تعبد لا تطهير، وأن التطهير يحصل بالغسلة الواحدة المنقية لكل نجس أيًّا كان، بينما يرى الحنابلة أن التطهير لا يكون إلا بثلاث غسلات منقيات إلا نجاسة الكلاب والخنازير فلا بد فيها من سبع غسلات إحداهن بالتراب، والحنفية يرون ثلاث غسلات فقط؛ فلذلك قال: (فأمكنني الله منه)، فقد قبضه في الصلاة وخنقه، فدل ذلك على أن الحي طاهر ولو كان جنيًّا، والجني أخس من الكلب والخنزير، وكذلك دل هذا على طهارة لعابه؛ لأنه خنقه حتى أحس بلل لعابه بيده، (فأردت أن أربطه)؛ أي: فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، (أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد)؛ أي: فيها، (أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد)، والسارية معناه: العمود الطويل، العمود الطويل يسمى سارية، وجمعه (سوارٍ).
تناط على مثل السواري سيوفنا فما بينها والكعب غوط نفانف
كما قال الفرزدق، وهذا محل الاستشهاد من الحديث؛ لأن هذا الجني هو أسير، فهو عدو وقد أمكنه الله منه، وقد هم أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد، (حتى تصبحوا وتنظروا إليه)؛ أي: هذا الربط لن يدوم، إنما أراد به فقط أن يراه الناس، (حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم)؛ وذلك لما في هذا من الموعظة والتشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتمكين له حين مكنه الله من الجن، (فذكرت قول أخي سليمان)، (فذكرت)؛ أي: تذكرت، قول أخي في النبوة سليمان عليه السلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد)، فدينهم التوحيد وهم يشتركون فيه جميعًا، وهم أبناء علات في التشريع، التشريع يختلفون فيه كل له شرعة، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة:48]، لكن اعتقادهم واحد، جميع الأنبياء عقيدتهم واحدة، ذكرت أخي سليمان بن داود عليهما السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[ص:35]، وذلك في سورة (ص)، فسأل الله المغفرة، وسأله أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وهذا محل الاستشهاد من الآية، لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ص:35]، وقد ملكه الله الجن والرياح، وسخر له عين القطر؛ أي: النحاس، وغير ذلك مما سهل الله له وسخر، فكان يسمع كلام الطير، ويصحبه الجنود من الطيور، وكذلك يسمع كلام البهائم كلها حتى كلام النمل عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ[النمل:16]، وهذا ليس ملكه كاملًا، لكن هو داخل فيه وهو التملك على الجن والسيطرة عليهم.
والحديث يدل على عدد من الأحكام والفوائد، فمنها:
أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك هذا الجني وخنقه، وأراد أن يربطه.
ومنها كذلك: أن الترك لا يعتبر نسخًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك ربط هذا الجني، ومع ذلك استدل البخاري بالحديث وأتى به على ربط الأسير في المسجد، وذلك أن الترك إذا لم يدل دليل على مشروعيته ومطلوبيته أنه مطلوب أن يترك؛ فإنه لا يقتضي نسخًا للأمر السابق، والرسول صلى الله عليه وسلم هنا هم بهذا الأمر ومنعه مانع من فعله، وهذا المانع هو الأدب مع الله سبحانه وتعالى ومع دعاء أخيه سليمان عليه السلام، فلم يفعله.
إمكان رؤية الإنسان للجن
وهو دليل كذلك على أن الجن يمكن أن يراهم البشر؛ لأنه قال: (حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم)، وقد ذهب بعض أهل الحديث إلى أن رؤيتهم تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قالوه لم يقم عليه أي دليل، بل يمكن أن يراهم الناس، ولا ينافي ذلك قول الله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ[الأعراف:27]، فمعنى الآية: يرونكم من جهة لا ترونهم منها، (من حيث)؛ أي: من الجهة التي لا ترونهم منها، فلا يمنع ذلك أن نراهم من جهة أخرى غير تلك الجهة، وبالأخص إذا كانوا في حال التشكل؛ أي: إذا تشكلوا بنوع آخر من البهائم، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أن هذا الجني كان متشكلًا في صورة هر؛ أي: قط، فإذا تشكلوا أمكن أن يراهم البشر، وهذا مشاهد معروف، وقد رآهم الصحابة رضوان الله عليهم، ورأى ابن مسعود الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة بيعة الجن له، رأى أشكالًا كثيرة وأنواعًا، وسمع أصواتًا مروعة، وكذلك رأى عمر رضي الله عنه وهو في سكك المدينة في الليل يعس جنيًّا يتابعه، فكمن له حتى أمسكه فتصارع معه، فصرعه عمر، فلما أمسك ذراعيه إذا هو نحيف أشعر؛ أي: نبت عليه كثير من الشعر، قال: (ما لي أراك شخيتًا ضئيلًا أهكذا خلقت الجن؟ قال: يا أمير المؤمنين، لقد علمت الجن ما فيها أضلع مني ولكنها قوة الإيمان)، فـ
ومحل ما ذكر من إباحة الربط إذا لم يخش تلويث المسجد أو تضييقه على المصلين، بأن كان المسجد واسعًا كما كان في العهد النبوي، قد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرًا، وكان يصلي فيه آلاف من أصحابه معه، وكان بعضه غير مسقوف، وكان بعضه صفة؛ أي: يوضع فوقه جذوع النخل فقط وليس مسقوفًا سقفًا كاملًا، وكان يسكن فيه سبعون من المهاجرين من الفقراء ينفق عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يسكنون في صفة المسجد، واتساع المسجد هو الذي يبيح ذلك؛ ولهذا بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة لـسعد بن معاذ كما سيأتي، وكان يبني فيه الخيام للضيوف الذين يأتون من الخارج، ومحل ذلك عند عدم تلويث المسجد، فإذا خشي تلويثه كمساجدنا اليوم الضيقة التي فيها الفرش ويسهل تلويثها فلا يربط فيها الأسرى ولا الغرماء، ولا يسجن فيها الناس لهذه العلة، وكذلك لا تدخله الدواب والرواحل كما سيأتينا في جواز إدخال البعير للمسجد للعلة، فذلك إنما كان عند اتساع المساجد كالصدر الأول، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متسعًا جدًّا، والمسجد المكي كان الفراغ المحيط بالكعبة وليس له حدود ولا سور ولا جدار، وكذلك مسجد البصرة الذي بناه عقبة بن غزوان بأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقد جعله أرباعًا وكبره، فكان يصلي فيه مائة ألف، وكذلك مسجد الكوفة مسجد علي بن أبي طالب فكان يعلق فيه مائة ألف سيف، وكان له أربعة مؤذنين، يؤذن كل مؤذن على زاوية من زواياه فلا يسمعه من يسمع الآخر؛ لاتساعه.
وهذه الجدران المحيطة إذ ذاك هي التي تسمى مساجد، وليس في بنائها كبير تكلفة، يسقف بعضه ويترك بعض، فيكون جدرانًا متسعة يصلي فيها الرجال والنساء، ويدخلها الضيوف، وتناخ فيها الإبل، ويقضى فيها بين الخصوم، ويحبس فيها الناس؛ لاتساعها.
وأما اليوم فلم يعد الحال كذلك، ومن هنا؛ فمن أحكام المساجد ما كان قديمًا في الصدر الأول ولم يعد الآن مما ينبغي؛ كالصلاة في النعال في المساجد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه في المسجد وكان أصحابه يفعلون، لكن لم تكن نعالهم كنعالنا اليوم، فنعالهم كانت جلدًا فقط محزوزًا من جلد الإبل أو من جلد البقر، كما قال الشاعر:
حذاني بعدما خذمت نعالي دبية إنه نعم الخليل
مقابلتين من صلوي مشب من الثيران وصلهما جميل
فهما مقابلتان من جلد فقط؛ ولذلك إذا صلى عليهما الإنسان يكون جلوسه على جلوس السنة، وليس فيه اختلال في التوازن، أما نعالنا الكبيرة العريضة اليوم فلو صلى فيها الإنسان وأراد الجلوس فيها لما تمكن من أن يجلس جلوس السنة، وأيضًا قلما تخلو من غبار وأوساخ يؤثر على الفراش، وبالأخص الكنادر التي كثيرًا ما تكون فيها الرائحة التي تجنب المساجد أصلًا، ومن المعلوم أن كل ذي رائحة كريهة لا يدخل به المسجد، ورائحتها قد تكون أشد من رائحة الثوم والكراث.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [15] | 3611 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2] | 3532 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [13] | 3465 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [3] | 3355 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [18] | 3204 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [19] | 3190 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1] | 3139 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [14] | 3076 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [20] | 2994 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [16] | 2921 استماع |