خطب ومحاضرات
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فقد وصلنا في شرح الأحاديث أحاديث التجريد الصريح إلى قوله: باب: اعتكاف المستحاضة:
عقد هذا الباب لبيان الفرق بين المستحاضة والحائض، فالمستحاضة هي: التي خرج من قبلها دم، هو دم علة وفساد، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سببه، وأنه ركضة من الشيطان، وهذا الدم ليس مثل دم الحيض، وقد سبق التفريق بينهما من ناحية اللون والتألم وغير ذلك؛ فالمستحاضة لا يحرم عليها ما يحرم على الحائض من دخول المسجد والصلاة والاعتكاف والصيام، ولا يحرم وطؤها، بل يجوز وطؤها، ويجوز أن تصلي وأن تصوم وأن تعتكف؛ فلذلك قال: باب اعتكاف المستحاضة؛ أي: باب يجوز للمستحاضة الاعتكاف، والاعتكاف مصدر (اعتكف)؛ أي: عكف على العبادة؛ أي: قصر نفسه على العبادة وحبس نفسه لها، وذلك بملازمة المسجد للتعبد الخاص فيه، وهو الصلاة وقراءة القرآن، والاعتكاف سيأتينا بيانه إن شاء الله تعالى في كتاب مستقل.
قال: عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه، وكانت مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم)، هذا الحديث ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه؛ أي: في بعض ما كان يعتكفه هو من الاعتكاف، وقد كان يعتكف في البداية العشر الأوائل من رمضان، فقيل له: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فقيل له: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان، ولم يزل يعتكفها حتى لقي الله، وكان نساؤه يعتكفن معه في مسجده، فيتخذن أخبية في مؤخرة المسجد، وكانت إحدى نسائه تجد الاستحاضة، وهي زينب بنت جحش رضي الله عنها، فكانت بنات جحش ثلاثًا، كل واحدة منهن تستحاض، وهن: حمنة وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وحبيبة وتسمى أيضًا أم حبيبة، وزينب، فالثلاث كن يجدن الاستحاضة، فـزينب أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تجد هذا الدم، ومع ذلك لا يمنعها من الاعتكاف، فاعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة: (اعتكف معه بعض نسائه)؛ أي: إحدى نسائه، و(بعض) يطلق على القليل والكثير على الراجح، فيطلق على نصف الشيء وما فوقه وما دونه، بدلالة قول الشاعر:
داينت سلمى والديون تقضى فمطلت بعضًا وأدت بعضا
فإما أن تكون قسمت الدين فمطلت نصفه وأدت نصفه، وإما أن تكون أدت أكثره وتركت أقله، أو العكس؛ فكل ذلك أطلق عليه بعضًا، فدل هذا على أن البعض يطلق على القليل والكثير، والمقصود به هاهنا واحدة من نسائه، (وهي مستحاضة)؛ أي: وهي مصابة بداء، يخرج منها دم، وهذا الدم ليس دم حيض كما ذكرنا؛ فلذلك قالت: (ترى الدم)؛ أي: ربما نزل منها دم، وليس ذلك باستمرار كما يفهم من قولها: (ترى الدم)، فمعنى ذلك أنها ربما نزل منها دم ويقع ذلك في بعض الأحيان دون بعض، (فربما وضعت الطست) تحتها من الدم؛ أي: ربما كثر الدم حتى وضعت الطست، وهو إناء يتخذ من النحاس ونحوه، يتوضأ فيه، (ربما وضعت الطست تحتها من الدم)؛ أي: عند فورته وشدته.
وهذا الحديث يؤخذ منه جواز اعتكاف المستحاضة؛ لأن ذلك حصل بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أزواجه، ولا يمكن إلا أن يكون قد علم فأقر، وإقراره دليل على المشروعية، والإقرار هو القسم الثالث من أقسام السنة كما سبق، وهو ينقسم إلى قسمين: إلى إقرار بالاستحسان، وإقرار بالسكوت، فالإقرار بالاستحسان يدل على الندب، والإقرار بالسكوت يدل على الإباحة، الإقرار بالاستحسان مثل ما جاء في حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: أما علمتِ أن مجزز المدلجي رأى أسامة وزيداً قد لبسا كساءً فغطيا رءوسهما، فرأى أرجلهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، فقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن المنافقين كانوا يطعنون في نسب أسامة بن زيد؛ لأن أسامة كان شديد السواد، وكان أبوه زيد شديد البياض، فجاء مجزز، وهو من قبيلة مدلج، وكانوا أهل قيافة، يعرفون الأثر والشبه، فرأى أقدام أسامة وأبيه زيد قد خرج من كساء، فقال: (إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان هذا إقرارًا بالاستحسان.
والإقرار بالسكوت مثل الأمور التي يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم ويسكت عنها، لا ينكرها، وهي تحت سلطانه وفي دولته، أما الأمور التي علم بها وليست تحت سلطانه ولا في دولته فكانت من شأن المشركين أو أهل الجاهلية، فلا يعد سكوته عنها إقرارًا؛ لأنه لا يستطيع تغييرها، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها؛ فلذلك إنما يعتبر الإقرار فيما كان داخلًا تحت يده، ولدينا نوع آخر من الإقرار، وهو إقرار الله سبحانه وتعالى، فما حصل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي من الأمور ولم يرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحي بالنهي عنه دل ذلك على إباحته، ومن ذلك قول جابر رضي الله عنه: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، فدل هذا على جواز العزل عن النساء؛ لأن هذا العزل كان يقع في وقت نزول القرآن فلم ينهوا عنه، فدل ذلك على إباحته؛ لأنه لو كان منهيًّا عنه لنزل الوحي بتحريمه، فالله مطلع عليه عالم به قطعًا، فلما لم ينهَ عنه دل ذلك على إباحته.
والحديث يؤخذ منه أن المصاب بسلس دائم أو نحوه لا ينتقض وضوءه بسلسه، سواء كان السلس ببول أو ريح أو دم، ويدل أيضًا على أن صاحب السلس إذا كان لا يخشى تلوث فرش المسجد يجوز له المقام في المسجد، إذا كان لا يؤذي الناس، ولا يخاف تلوث المسجد وفرشه.
ثم قال: باب: الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض:
عقد هذا الباب لمشروعية التطيب للمرأة عند غسلها من المحيض؛ لأن دم الحيض- كما ذكرنا- يعرف؛ أي: له رائحة كريهة كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، فقد قال لها: (إن دم الحيض أسود يُعرِف)؛ أي: له رائحة كريهة، فإزالة أثر تلك الرائحة الكريهة باستعمال شيء من الطيب من السنة.
قال: عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (كنا نُنهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا ولا نكتحلُ)، وفي رواية: (ولا نكتحلَ ولا نتطيبَ...)، أو: (لا نتطيبُ ولا نلبسَ...)، أو: (نلبسُ ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار، وكنا ننهى عن اتباع الجنائز)، هذا حديث أم عطية، وقد سبق أن اسمها نسيبة أو نُسَيْبَة بالتصغير رضي الله عنها، وكانت من فقيهات الصحابة، وهي تقول: (كنا ننهى)، وإذا قال الصحابي ذلك، وكان من كبار الصحابة، فإنه يحمل على الرفع؛ أي: معناه كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، فيكون الحديث مرفوعًا ولو لم يذكر فيه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، (كنا ننهى)؛ أي: كان النساء ينهين (أن نحد) الإحداد هو: ترك المرأة الزينة من أجل المصيبة، ويحصل هذا للمرأة المعتدة عدة وفاة فإنها تترك الزينة، فلا تتكحل ولا تتطيب ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، وقد كان أهل الجاهلية إذا مات زوج إحداهن تمكث عامًا لا تمس ماءً ولا طيبًا ولا سواكًا، وتسكن في أخس مسكن، وتلبس أخس ملبس، فإذا كمل العام اتخذت بعرة فاستنجت بها ثم رمتها، وتؤتى بحمار فتركبه، وهذا من مختلقات أهل الجاهلية، وقد نزل الحكم في المتوفى عنها في البداية بالاعتداد حولًا، ثم بعد ذلك نسخ بـ«أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» والآية الثانية في ترتيب المصحف الآن في القراءة هي الأولى في النزول، فالآية السابقة في المصحف هي المتأخرة في النزول، فهي الناسخة، والآية الأولى في النزول هي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، والآية الثانية وهي الأولى في الترتيب: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، والإحداد من أحدت المرأة، من الرباعي، ولكن يجوز به الثلاثي، يجوز أن يقال: حدت المرأة وأحدت، فهي حاد وهي محد، فـ(حاد) من الثلاثي و(محد) من الرباعي.
(أن نحد على ميت فوق ثلاث)؛ أي: فوق ثلاث ليالٍ، (إلا على زوج)، فالزوج الإحداد عليه أربعة أشهر وعشرًا؛ فلذلك قالت: (إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا)؛ أي: عشر ليالٍ، (ولا نكتحل) اختلفت الرواية هنا، فقد جاء فيها النصب والرفع والجزم، وكل الأوجه الثلاثة في الإعراب جائزة، فيجوز أن تقول: (ولا نكتحلْ) فتكون (لا) ناهية، وقد صرح بالنهي من قبل، (كنا ننهى)، ثم قالت: (ولا نكتحلَ) معناه: ونهينا أيضًا أن نكتحلَ، ويجوز أن تقول: (ولا نكتحلُ) معناه: وكنا لا نكتحل في هذه المدة، ويكون ذلك خبرًا، وهو في قوة الأمر، مثل قول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233]، فهذا خبر في قوة الأمر معناه: ليرضع الوالدات أولادهن، ويجوز النصب على تقدير أن (لا) زائدة، و(لا) كثيرًا ما تزيد في الأسلوب، وبالأخص إذا كان المقام يقتضي نفيًا؛ كقول الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، فهي نفي لما سبق من مزاعم المشركين، ثم جاء بعدها الإثبات وهو: (أقسم بهذا البلد) أو (أقسم بيوم القيامة)، فكذلك هنا تكون (لا) زائدة، فمعنى الكلام: كنا ننهى أن نحد وأن نكتحل وأن نتطيب وأن نلبس، فـ(لا) في المواضع الثلاثة زائدة، ونظيرها في القرآن قول الله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12]، (ما منعك ألا تسجد) معناه: ما منعك أن تسجد، فـ(لا) زائدة وهي لتقوية الأسلوب وشدة الكلام وتقريعه، والزيادة في القرآن لا يقصد بها أنها ليس لها معنى، بل كل حرف زائد في القرآن فله معنى، وهذا المعنى إما لتقوية الأسلوب، وإما لتقوية النفي وزيادته، وإما لتقوية التشبيه ونحو ذلك، فكل ذلك تزاد له الحروف في اللغة، (ولا نكتحل) معناه: وأن نكتحل، معناه: كنا ننهى أن نكتحل، والاكتحال هو استعمال الكحل، والكحل هو المعدن الأسود، فيشمل ذلك الإثمد وغيره مما يكتحل به، يقال: كحل العين، ويقال: اكتحل فلان؛ أي: استعمل الكحل، (ولا نتطيب) معناه: وأن نتطيب، معناه: كنا ننهى أن نتطيب، والمقصود بذلك استعمال الطيب مطلقًا، سواء كان الطيب من اليابس وهو الذرور أو من الرطب وهو المسك ونحوه، (ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا)؛ أي: كنا ننهى أيضًا أن نلبس ثوبًا مصبوغًا؛ أي: فيه ألوان غير لون البياض، فاللون الأصلي للثوب هو الذي يكون عليه قبل صبغه، فكن ينهين عن لبس الثوب المصبوغ؛ أي: الذي صبغ بعد نسجه؛ ولذلك قالت: (إلا ثوب عصب)، معناه: إلا الثياب التي صبغ غزلها قبل نسجها، وكان العصب يستورد من اليمن، فكانوا يصبغون الغزل قبل نسجه فتكون الثياب معصوبة، وكانت تصبغ بالورس وهو صبغ شديد الحمرة قانٍ، وهذا هو لون الورس كما قال الشاعر:
منع البقاء تقلب الشمس وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها بيضاء صافية وغروبها حمراء كالورس
واليوم أعلم ما يجيء به ومضى بفصل قضائه أمس
(وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار)، (وقد رخص لنا)، هذا محل الاستشهاد من الحديث، (وقد رخص لنا)؛ أي: سهل لنا وألين لنا، ومعنى ذلك: أن المحد؛ أي: التي هي في عدة وفاة ولا يحل لها استعمال الطيب ولا الكحل ولا الثوب المصبوغ، مع ذلك رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم عند طهرها إذا اغتسلت من محيضها، (في نبذة) وهي: القطعة، (من كست أظفار)، و(الكُست) و(الكسط) و(الكفت) هو: العود الهندي الذي يسمى بـ(عود القسط)، وهو عود يتبخر به ويتعالج به، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة تدل على العلاج به، وفي رواية: (من كست ظفار)، وفي رواية: (من كست أظفار)، وفي رواية: (من كست وأظفار)، ثلاث روايات، فالرواية الأولى: (من كست ظفار)؛ أي: من عود الكست الذي يستورد من مدينة ظفار، وهي مدينة في اليمن على الشاطئ، وكانت تستورد إليها بضائع الهند، فتورد منها إلى جزيرة العرب، فتنسب إليها تلك البضائع؛ لأنها تورد منها، والرواية الثانية: (من كست أظفار)؛ أي: من الكست المنسوب إلى الأظفار، والأظفار نوع من البخور وهو عود يشبه العنبر هيئته هيئة ظفر الإنسان، فوقه غلاف يغطي جزءًا منه كالظفر يحيط اللحم بأسفله، والرواية الثالثة: (من كست وأظفار)؛ أي: من عود القسط ومن الأظفار، وهو هذا النوع من أنواع الطيب الذي يتبخر به.
(وكنا ننهى عن اتباع الجنائز)، وهذا الجزء من حديث أم عطية قد سبق وأنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)، فكان هذا النهي على سبيل الاحتياط، وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم قال بكراهة اتباع النساء للجنائز، وبعضهم قال بالتحريم، وبعضهم فرق بين من تخشى منها النياحة فلا يحل لها اتباع الجنائز، ومن لا تخشى منها النياحة فيجوز لها ذلك، وفصلنا نحن تفصيلًا آخر وهو: أنها إذا كانت ستجهز الميت بأن كان المتوفى امرأة، وكان النساء سيغسلنها ويجهزنها، فلا بد من اتباعهن لها، ولا ينهين عن ذلك، وإذا كان المتوفى رجلًا فلا حاجة لاتباع النساء لجنازته، ومع ذلك لا يحرم عليهن اتباع جنازته.
ووجه الاستشهاد بالحديث: الترخيص في استعمال نبذة من كست أو من أظفار تتبخر بها الحائض بعد غسلها من محيضها لتذهب عنها رائحة الحيض حتى لو كانت معتدة، فإذا كانت المعتدة التي لا يحل لها التطيب ولا التبخر قد رخص لها في استعمال ذلك فكيف بمن سواها من النساء، فإذًا هذا من دلالة مفهوم الموافقة، وهو قياس الأولى.
ثم قال: باب: دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض:
وعادة البخاري رحمه الله الترابط بين الأبواب، فهذا الباب سيذكر فيه بعض الطيب للحائض، والباب السابق كان في الطيب للمرأة الحائض أيضًا؛ فلذلك عقَّب هذا الباب بذاك، وعلاقة البابين واضحة، وهي أن الطيب ذكر في كل واحد منهما للحائض، فقال: باب: دلك المرأة نفسها، والمقصود بالدلك: المسح، والمقصود بنفسها: فرجها؛ أي: مكان الدم منها، إذا تطهرت من المحيض؛ أي: باب أنها يسن لها أن تمسح أثر الدم بخرقة فيها مسك أو طيب، فهذا المقصود بالدلك.
قال: عن عائشة رضي الله عنها: (أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض)؛ أي: عما يجب عليها، وعن صفة غسلها، (فأمرها كيف تغتسل)؛ أي: بين لها صورة الغسل، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم هيئة الاغتسال، وقد اختصرت عائشة ذلك في هذه الرواية، وفي رواية أخرى بيان ذلك، أنه بين لها طريقة الغسل، فبين أن الغسل من المحيض مثل الغسل من الجنابة، وأمرها أن تفيض على رأسها ثلاث غرفات، ثم تفيض على سائر جلدها، ثم قال: (خذي فرصة من مسك فتطهري بها)، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (خذي فرصة)؛ أي: قطعة من مسك، المقصود هنا بـ(الفرصة) قطعة من الصوف أو من الكتان أو من القماش، (من مسك)؛ أي: وُضع عليها شيء من مسك، وقيل: المقصود بالفرصة: قطعة من جلد الضأن فيها ما نبت عليها من الصوف، و(الصوف) يطلق على ما ينبت على الضأن، وأما ما ينبت على الإبل والأرانب فيسمى وبرًا، وما سوى ذلك يسمى شعرًا كما قال الناظم:
بإبل وأرنب يعزى الوبر والصوف للنعاج والباقي شعر
فكل ما سوى ذلك كشعر الإنسان وشعر البقر وشعر الماعز وشعر الخيل... إلى آخره، كله يسمى شعرًا.
فالفرصة إما أن تكون قطعة من الجلد وعليها صوفتها، أو أن تكون صوفًا قد نزع، أو أن تكون قطعة من قماش أو من كتان أو من قطن فيجعل عليها مسك، وفي رواية (من مَسْك)، والمسك: الجلد؛ أي: قطعة من جلد، والمقصود مع تطييبها وتمسيكها؛ ولذلك جاء في الرواية الأخرى: (بفرصة ممسكة)، ممسكة؛ أي: قد جعل عليها المسك، فإذًا المسك بالكسر هو الطيب المعروف، وأصله: زائدة تنبت في بعض غزلان العراق في حلقه فتكبر حتى إذا استوت وطابت سقطت، يحكها على جذع فتسقط، فيكون ما فيها من الدم يستحيل إلى طيب جيد، كما قال أبو الطيب المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ويستعمل المسك من غير هذا؛ فلذلك قال: (خذي فرصة من مَسك)، أو: (من مِسك فتطهري بها)، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تطهري بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فهو أشد حياء من العذراء في خدرها؛ فلذلك لم يقل لها: (ادلكي بها مكان الدم) حياءً، فقال: (تطهري بها)، فالمرأة لم تفهم هذا الكلام، قالت: (كيف أتطهر بها؟)، استغربت، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تطهري بها)، أعاد عليها الكلام، فلم تفهمه، قالت: (كيف؟)؛ أي: كيف أتطهر بها؟ قال: (سبحان الله! تطهري)، سبحان الله! هذا ذكر وتنزيه لله، ويذكره النبي صلى الله عليه وسلم عند استغراب أمر ما، فهو يستغرب أن هذه المرأة لم تفهم الكلام، مع أنه أعاده عليها ثلاثًا؛ فلذلك قال: (سبحان الله! تطهري)، وفي رواية في هذا الحديث: (فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحيا)، وفي رواية: (فاستحيا وأعرض)، استحيا من المرأة وأعرض بوجهه؛ أي: التفت عنها، فلما رأيت إعراضه- تقول عائشة- اجتذبتها؛ أي: جذبت المرأة إليَّ، فقلت: (تتبعي بها أثر الدم)؛ أي: ادلكي بها أثر الدم لتزول رائحته، وهذا هو وجه ذكر هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنه دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، وقد ذكرنا علاقة هذا الحديث بالباب السابق، وهذا يدل على مهارة البخاري في ترتيبه للأبواب.
ثم قال: باب: امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض:
عقد هذا الباب أيضًا لسنة من سنن الغسل، وهي أن تمتشط المرأة بالمشط أو المدري، وهو ما يُمتشط به فإذا كان صغيرًا سمي (مشطًا)، وإذا كان كبيرًا سمي (مدري)، وجمعه (مدارى)، كما قال امرؤ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلا تضل المدارى في مثنًى ومرسل
ووجه ذلك أن الشعر إذا كان شعثًا، فإنه يتراكم، فيصعب دخول الماء في أثنائه وبينه، ويصعب دخول الماء إلى أصوله، والجنابة تقتضي غسل ذلك كله، فالامتشاط يزيل عنه الشعث، ويزيل أيضًا ما مات من الشعر وسقط منه، والذي يموت من الشعر إذا لم يكن فيه شيء من جلد الإنسان، ومما كان في داخل الجلد، فهو طاهر إجماعًا، وإذا كان فيه أصول مما يكون في داخل الجسم، وقد انفصل عنه، فقد قال بعض الفقهاء بنجاسة تلك الأصول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما انفصل عن الحي)، أو: (ما أبين من الحي فهو ميتة)، ولا يكون ميتة إلا إذا كان الإنسان يشعر به؛ لأن النجس إذا لم يشعر به الإنسان لا يكلف به، فما كان في جسم الإنسان من النجاسات إذا لم يشعر به لا يبطل صلاته، ولا يخاطب به؛ لأنه لا يخاطب إلا بما علم به.
قال: وعنها رضي الله عنها؛ أي: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (أهللت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي، فزعمت أنها حاضت، ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة، فقالت: يا رسول الله هذه ليلة عرفة، وإنما كنت تمتعت بعمرة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: انقضي رأسك وامتشطي، وأمسكي عن عمرتكِ، ففعلت، فلما قضيت الحج أمر عبد الرحمن ليلة الحصبة فأعمرني من التنعيم مكان عمرتي التي نسكت)، هذه رواية من حديث عائشة الذي سبق في عدد من المواضع في حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وما أصابها من الحيض فيها، فقد قالت في هذه الرواية: (أهللت)؛ أي: أحرمت، والإهلال: هو رفع الصوت، ولما كان المحرم في العادة يرفع صوته بالتلبية إذا كان رجلًا، سمي الإحرام مطلقًا إهلالًا، ولو لم يكن المحرم يرفع صوته كالنساء مثلًا، (أهللت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع)؛ أي: في الحجة التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم مودعًا بها في العام العاشر من الهجرة، (فكنت ممن تمتع)، وقد ذكرنا من قبل أن أصحابه منهم من تمتع بالعمرة إلى الحج، ومن أحرم بالحج، وهو جمهورهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا بعمرة، ومنهم من أحرم بالحج مفردًا؛ كالنبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب الذي أحرم بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأنساك خمسة؛ أي: ما يحرم به الإنسان من النسك خمسة:
النسك الأول: الإفراد: وهو أن يحرم بحج ليس معه عمرة.
والنسك الثاني: القران: وهو أن يحرم بحج وعمرة معًا، أو أن يحرم بعمرة ثم يدخل عليها الحج، لكن إذا أحرم بالحج لم يحل له أن يدخل عليه العمرة؛ لأن الأصغر يندرج في الأكبر، ولا يندرج الأكبر في الأصغر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)، وشبك بين أصابعه.
والنسك الثالث: التمتع: وهو أن يحرم بعمرة وحدها، حتى إذا أكملها وانتهى منها وتحلل أحرم بحجة.
والنسك الرابع: أن يحرم بما أحرم به فلان من الناس؛ كقول علي: (أحرمت بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكقول أبي موسى لما كان في اليمن، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت؟ قال: أحرمت بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم).
والنسك الخامس: هو النسك المبهم: وهو أن يحرم الإنسان وهو لا يخطر في باله؛ أي: الأنساك، فلا يدري هل أحرم بعمرة أو بحجة، فحينئذ يلزمه القران؛ لأنه الذي يجمعهما معًا، إذا أحرم الإنسان إحرامًا مبهمًا، فكثير من الجهال يحرمون من الميقات ولا يدرون بما أحرموا، فإذا سألوا المفتي يقول لهم: أنتم على قران؛ أي: قد أحرمتم بحج وعمرة؛ لأن هذا النسك مبهم، فيحمل على الاحتياط، والاحتياط فيه هو القران؛ لأنه جامع بين الحج والعمرة.
فـعائشة قالت: (فكنت ممن تمتع)؛ أي: ممن أحرم بعمرة فقط، وقد سبق أنها قالت: (إنهم كانوا لا يذكرون إلا الحج)؛ أي: لا يعرفون العمرة في أشهر الحج، وقد كانوا يعدون ذلك ذنبًا من أعظم الذنوب، وكانوا يقولون: (إذا دخل صفر وعفا الأثر وبرئ الدبر فقد حلت العمرة لمن اعتمر)، لكن مع ذلك خيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يعتمروا أو يحجوا، فكانت طائفة منهم اختارت العمرة، ومنهم عائشة؛ لأنهم وافوا عند أول شهر ذي الحجة، فكانوا سيجلسون تسعة أيام بالإحرام؛ فلذلك اختاروا التمتع، فقالت: (فكنت ممن تمتع)؛ أي: أحرمت بعمرة فقط، (ولم يسق الهدي)؛ لأن الذين ساقوا الهدي قد استمروا على إحرامهم بالحج، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على الإحرام؛ ولذلك قال: (أما أنا فقد قلدت هديي ولبدت رأسي)، فذكر أنه لا يزال على الإحرام حتى يرمي الجمرة- صلى الله عليه وسلم- ولم يسق الهدي.
(فزعمت أنها حاضت)، زعمت معناه: ذكرت، ولا يقصد بها الزعم الذي هو القول بغير دليل، فالزعم يطلق على أمرين: يطلق على القول بغير دليل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، ويطلق على القول مطلقًا؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زعم جبريل)، معناه: قال ذلك، ومن هذا المعنى الأخير قول عنترة:
علقتها عرضًا وأقتل قومها زعمًا ورب البيت ليس بمزعم
(فزعمت أنها حاضت)، وقد سبق بيان وقت ذلك، وأنه كان بسرف قبل أن يصلوا إلى مكة، ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة، لم تطهر مدة مقامها بمكة، ولم تطهر إلا ليلة عرفة؛ أي: بعد أن أقامت بمنًى يوم التروية، فلما كان من الليل طهرت، وهي ليلة عرفة؛ أي: الليلة التي صبيحتها يوم عرفة، فقالت: (يا رسول الله، هذه ليلة عرفة، وإنما كنت تمتعت بعمرة)؛ أي: إنما أحرمت بعمرة فقط، والحج عرفة، إذا فات يوم عرفة ولم تحرم بالحج فلا حج لها؛ لأن الحج لا يكون إلا في هذا الوقت من العام كله، بينما العمرة تؤدى في أي وقت من أوقات السنة، إلا لمن أحرم بالحج، فلا يحل له الإتيان بعمرة حتى ينتهي أيام الرمي وتغرب الشمس من اليوم الأخير من أيام التشريق؛ فلذلك قالت: (وإنما كنت تمتعت بعمرة)، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انقضي رأسك)، وكان رأسها مضفورًا فأمرها بنقضه؛ أي: بإزالة ضفره، (وامتشطي)، وهذا محل الاستشهاد من الحديث؛ لأنها كانت حائضًا وطهرت، وهي تغتسل من حيضتها، فأمرها بالامتشاط وبنقض الضفر، وقد اختلف أهل العلم؛ هل يجب نقض ضفر المرأة أو الرجل إذا ضفر رأسه من أجل غسل الجنابة وغسل الحيض؟ فذهب جمهورهم إلى أنه لا يجب نقضه، ولكن إذا كان شديدًا فإنه ينكث؛ أي: يلين حتى يدخل فيه الماء، وذهب آخرون إلى أنه يجب نقضه في الغسل ولا يجب في الوضوء، وذهب آخرون إلى أنه يجب فيهما معًا، وذهب آخرون إلى أنه إن كان خاليًا من الخيوط، ليس فيه خيوط من غيره لا ينقض، وإن كان فيه خيوط فلا بد من نقضه، واستدل الجمهور لعدم النقض بحديث أم سلمة: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تنكث ضفرها من غسل الجنابة؟ فقال: لا)، وهذا الحديث صريح في أنها في غسلها لا يجب عليها نقض ضفرها، لكن يمكن أن يحمله الذين قالوا بالتفريق بين الشديد والسهل، وتليين الشديد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم من حال أم سلمة أن ضفرها لم يكن شديدًا، وأن الماء يدخل معه؛ فلذلك لم يأمرها بنقض ضفرها.
(انقضي رأسكِ وامتشطي، وأمسكي عن عمرتك)؛ أي: لا يجب عليك أداء شيء من عمرتك، فقد سقط طوافها وسعيها؛ لأن العمرة دخلت في الحج، فأصبحت قارنة بعد أن كانت متمتعة؛ لأنها أحرمت الآن بالحج؛ ولهذا قال لها: (وأمسكي عن عمرتك)؛ أي: أحرمي بالحج، فتدخل العمرة في الحج، ولم تؤد أي شيء من أركان العمرة إلا الإحرام، فإنها رضي الله عنها أحرمت من ذي الحليفة، وحاضت وهي بسرف قبل أن تدخل مكة، وقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (اقضي ما يقضيه الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، فلم تؤد طواف العمرة ولا سعيها، وقد اندرجت العمرة في الحج، فأصبحت قارنة.
(ففعلت)؛ أي: فعلت عائشة ما أمرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فلما قضت الحج)؛ أي: أكملته، (أمر عبد الرحمن ليلة الحصبة فأعمرني من التنعيم مكان عمرتي التي نسكت)، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة في الناس بمنى فقال: (إنا نازلون غدًا- إن شاء الله- بمحصب بني كنانة حيث تحالفوا على حرب الله ورسوله)، و(المحصب) هو: المكان الذي وضع فيه قريش الحصباء، ليجتمعوا فيه بعد رجوعهم من الحج، وهو ببطن وادي مكة، وهو حول الحجون وراءه، و(الحجون) هو مكان مقبرة مكة، وهذا المكان من قبل كان مساكن بني جرهم، حتى بغوا في الحرم، فأخرجهم الله منه، وفي ذلك يقول شاعرهم:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحصب، بعد أن رمى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة، اليوم الرابع عشر من ذي الحجة، أقصد اليوم لم يصل الظهر بمنى، بل ارتحل فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمحصب، أربع صلوات، ثم ذهب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع، ورجع إلى منزله وارتحل، وعندما رجع إلى منزله أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم، ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج بها أخوها عبد الرحمن إلى التنعيم، وهو وادٍ هو أقرب الحل إلى الحرم من جهة المدينة، فأحرمت عائشة منه، ومكان إحرامها هو المسجد المعروف الآن بمسجد عائشة رضي الله عنها، فأحرمت منه، فجاءت بعمرة، (مكان عمرتي التي نسكت)؛ أي: مكان عمرتي التي أحرمت بها أولًا؛ لأنها قالت: (يا رسول الله، أيرجع صواحبي بعمرة وحجة وأرجع بحجة فقط؟) فالرسول صلى الله عليه وسلم طيب خاطرها واسترضاها بهذه العمرة، وبعض الناس يتوهم أن كل من حج مفردًا يلزمه أن يعتمر بعد الحج، وهذا غير صحيح، فالعمرة لا تجب إلا مرة في العمر، وليست مرتبطة بالحج، إذا اعتمرها الإنسان قبل الحج في وقته في سفره كانت تمتعًا، وإذا جمعهما كان قرانًا، وإذا أفردها ففي أي وقت من السنة يستطيع أن يعتمر، ولا يلزم الحاج أن يعتمر بعد حجته كما فعلت عائشة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر بعد الحج، ولم يعتمر مع الحج أيضًا، فقد حج مفردًا ثم رجع إلى المدينة.
قال: باب: نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض:
ولا تخفى علاقة هذا الباب بسابقه، فهما يشتركان، فالباب السابق في الامتشاط، وهذا في النقض، في نقض الضفر، ونقض الضفر لا يمكن الامتشاط بدونه، فقال: (وعنها رضي الله عنها)، وهذه رواية أخرى من حديث عائشة السابق، قالت: (خرجنا موافين لهلال ذي الحجة)؛ أي: لأول شهر ذي الحجة، (فكان الوقت الفاصل بين الإحرام والتحلل وقتًا طويلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من أحب أن يهل بعمرة فليهل)؛ أي: من أحب أن يحرم بعمرة متمتعًا بها إلى الحج فليهل، (فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة)، هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من كلام عائشة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلولا أني أهديت)، معناه: سقت الهدي، (لأهللت بعمرة)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن لو كان أحرم بعمرة، كان يقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، ولكن الله اختار له الحج، فأحرم بالحج، وساق الهدي، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، فنحر منها ثلاثًا وستين بيده، ونحر علي باقيها بوكالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاش النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين سنة، كل سنة تقابل واحدة من الهدي الذي نحر بيده صلى الله عليه وسلم، (فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة، فأهل بعضهم)؛ أي: بعض أصحابه (بعمرة)، (وأهل بعضهم بحج)، (وساقت الحديث)؛ أي: ذكرت الحديث بطوله، (وذكرت)؛ أي: ذكرت في هذا الحديث (حيضتها)؛ أي: ما حصل لها من الحيض، (قالت: وأرسل معي)؛ أي: أرسل معي رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخي عبد الرحمن)، وهو أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو شقيقها، (إلى التنعيم)، وهو هذا الوادي، (فأهللت بعمرة)؛ أي: أحرمت بها، (ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة)، لم يكن في شيء من ذلك؛ أي: في سقوط طواف القدوم والسعي بعده- وهما طواف وسعي العمرة- شيء، وكذلك لم يكن في تأخيرها للطواف والسعي شيء، إذا كانت قد أحرمت بالحج على العمرة، والحج بدايته طواف القدوم، وقد اختلف فيه هل هو نسك من أنساك الحج يلزم الدم بتركه كما هو مذهب المالكية والجمهور، أو ليس نسكًا من أنساك الحج، وإنما هو سنة فقط كما هو مذهب الحنابلة، وإذا أدى الإنسان طواف القدوم، فإنه يشرع له أن يسعى بعده ويبقى على إحرامه إذا أكمل السعي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يسع بعد طواف القدوم لعلة أو لمرض أو كان مرهقًا أو نحو ذلك، فإنه يسعى بعد طواف الإفاضة، ومعنى قول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن في شيء من ذلك)؛ أي: لم يلزم بترك شيء من ذلك؛ أي: من تلك الواجبات (هدي)، والهدي: هو ما لزم بترك واجب، فالحج يلزم فيه الجبران بثلاثة أمور، هي: الجزاء والهدي والفدية.
أما الجزاء: فهو جزاء الصيد، وهو ما يقابل الصيد الذي قتله الإنسان في الحرم أو في الإحرام، ما قتله في الحل وهو محرم أو قتله في الحرم، سواء كان حلًّا أو محرمًا، وهذا الجزاء هو الذي بينه الله تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95].
والهدي: هو ما لزم بترك واجب، وقد أخرج مالك في الموطأ عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من ترك نسكًا فليهرق دمًا)، من ترك نسكًا؛ أي: ترك واجبًا من واجبات الحج غير الأركان، فليهرق دمًا؛ أي: فليذبح شاة نسيكة، أو لينحر، فالهدي يشمل ذلك، وقد سبق تفصيله.
أما الفدية: فهي ما لزم بفعل محظور، ما لزم الإنسان بسبب فعل محظور، ومحظورات الإحرام هي مثل التطيب أو أخذ الشعر أو الأظافر أو إزالة التفث والوسخ أو لبس المخيط، فهذه هي محظورات الإحرام، وأكبرها الرفث؛ أي: التلذذ بالنساء.
فمحظورات الإحرام يلزم بفعل شيء منها الفدية، والفدية ثلاثة خصال على التخيير، كما قال الله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وقد عطف بـ(أو) الدالة على التخيير، وقد فصلها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فرأى القمل على وجهه، فقال: ما كنت أظن أن المرض بلغ منك ما بلغ، فأمره أن يحلق رأسه وأن يفتدي، فقلت: يا رسول الله، ما الفدية؟ قال: شاة نسيكة أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام)، فهذا تفصيل للفدية التي جاءت في آية البقرة.
والفدية لا تختص بالحرم، وهي على التخيير، والهدي مختص بالحرم، وعائشة نفت كل ذلك فقالت: لم يكن في شيء من ذلك هدي، وهو لا يكون إلا ذبحًا أو نحرًا، (ولا صوم)، والصوم في التمتع لمن لم يجد الهدي؛ لأن الله قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196]، وقد ذهب الحنابلة والشافعية إلى أن كل دم لزم في الحج إذا عجز عنه الإنسان، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام إذا رجع، فيجعلون الصوم بدلًا عن الهدي دائمًا، ومذهب المالكية والحنفية أن الهدي إذا لم يستطعه الإنسان، حيث لا بدل عنه، فيتعلق بذمته، فيكون دينًا عليه، متى قدر عليه أرسله إلى الحرم.
(ولا صدقة)، والصدقة هي مثل ما ذكرنا في الفدية وكذلك في الجزاء، ومع هذا لا منافاة بين ما قالت عائشة وبين ما سبق في حديثها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عن نسائه البقر؛ لأنهن تمتعن بالعمرة إلى الحج، فالتمتع يلزم به هدي، وقد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر، ومنهن عائشة رضي الله عنها، لأنها قالت: (دخل علي بلحم يوم العيد وأنا بمنى، فقلت: ما هذا؟ فقيل: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر)، فهي أهدى عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقرة؛ لأنها أردفت الحج على العمرة، فكانت قارنة، فلزمها الهدي.
ثم قال: باب: لا تقضي الحائض الصلاة:
عقد هذا الباب لبعض أحكام الحائض، وهو أنها لا تقضي ما فاتها من الصلوات؛ لأن الحائض سقطت عنها الصلاة أداء وقضاء، وسقط عنها الصوم أداء فقط، فتقضي الصوم دون الصلاة، وعلة ذلك أن الصلاة متكررة، فيشق قضاؤها، وبالأخص أن بعض النساء قد تحيض زمنًا طويلًا كعشرة أيام أو خمسة عشر يومًا، فإذا أوجبت وألزمت بقضائها قضاء صلاتها جميعًا كان في ذلك مشقة، وقد رفعت المشقة والحرج عن هذه الأمة، فقد قال الله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
قال: (وعنها رضي الله عنها: أن امرأة قالت لها...)؛ أي: قالت لـعائشة، وهذه المرأة هي معاذة، وهي من الفقيهات من التابعين ممن كثرت روايتهن عن عائشة رضي الله عنها، (قالت لها: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت)، (أتجزي؟)، معناه: أتقضي إحدانا صلاتها، معناه: هل تقضي صلاتها إذا طهرت؟ (فقالت: أحرورية أنتِ؟ كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله)، معاذة سألت عائشة فقالت: (أتجزي إحدانا؟)؛ أي: المرأة إذا كانت حائضًا (صلاتها)؛ أي: هل تقضي صلاتها إذا طهرت؟ وذلك أنها قاست الصلاة على الصوم، فلما كانت الحائض إذا طهرت تقضي ما أفطرته من رمضان، بسبب حيضها بعدة من أيام أخر، فهل تقضي الصلاة؟ فاستغربت عائشة سؤالها فقالت: أحرورية أنتِ؟ معناه: هل أنتِ ممن ينتحل نحلة الخوارج؟ والخوارج كانوا يلقبون بالحرورية نسبة إلى حروراء، وهي قرية على بعد ميلين من الكوفة، خرج إليها الخوارج الأوائل الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد التحكيم، ورجوعهم لصفين، وكان من نحلة الخوارج أنهم يأخذون بنص القرآن، ولا يلتفتون إلى السنة، فلا يعتبرون تفسير القرآن من السنة؛ ولذلك فإن عائشة خافت أن يكون هذا الفهم فهمًا من فهم الخوارج ونحلتهم، وفي رواية: (أن معاذة قالت لها: لست حرورية ولكني أسأل)، ولكني أسأل؛ أي: لست من أهل التعنت، ولكني جهلت هذا الحكم، فأنا أسأل عنه، فأجابتها عائشة رضي الله عنها بالدليل، فبينت لها دليل ذلك، فقالت: (كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في بيته وتحت يده وبعلمه، (فلا يأمرنا به)؛ أي: لا يأمرنا بقضاء الصلاة، أو قالت: (فلا نفعله)؛ أي: فلا نقضي، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن دلالة قولها: (فلا نفعله) أقوى من دلالة الرواية الأخرى، وهي: (فلا يأمرنا به)، ما سر ذلك؟ ما سر كون دلالة (فلا نفعله) أقوى من دلالة (فلا يأمرنا)؟ ظاهر الكلام: أن (فلا يأمرنا) أقوى؛ لأن فيها ذكرًا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الحافظ ذكر وجهًا آخر يجعل دلالة (فلا نفعله) أقوى؛ لأنهن قد يفعلن ذلك دون أمره، (فلا يأمرنا)؛ أي: قد نفعله نحن دون أمره، أما رواية (فلا نفعله) فهي نافية لحصول الفعل مطلقًا، لا بأمره ولا بدون أمره، فهي أقوى في الدلالة على نفي ذلك.
وفي هذا الحديث- كما سيأتي- أنها قالت: (فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)؛ أي: كان يأمرنا بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة.
باب: النوم مع الحائض في ثيابها:
عقد هذا الباب لما يجوز للرجل من امرأته وهي حائض، وقد سبق ذكر توسط هذه الشريعة بين الملتين السابقتين في هذا الباب، فقال: عن أم سلمة رضي الله عنها حديث حيضتها؛ أي: الحديث السابق في حيضها، وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخميلة؛ أي: تلبس معه ثوبًا واحدًا، ملحفة واحدة، وهي الخميلة، ثم قالت في هذه الرواية؛ أي: التي أوردها البخاري في هذا الباب: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم)؛ أي: أورد البخاري في هذا الباب حديث أم سلمة السابق، وفيه أنها كانت تلبس مع النبي صلى الله عليه وسلم خميلة، وهو يباشرها، فأحست بالحيض، فقامت قومة شديدة تخاف أن يصل شيء من النجس إلى ثياب النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الخميلة التي تلبسها معه، فأخذت ثياب حيضتها فلبستها، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لعلكِ نفستِ؟ قالت: نعم)، قالت: (فدعاني، فأدخلني معه في الخميلة)، وفي رواية: (فأمرني، فرجعت إلى مكاني، فلبست معه الخميلة)، وهذا الحديث فيه جواز مباشرة الحائض، والاضطجاع معها، والنوم معها في ثيابها، ولو لم يذكر النوم؛ لأن النوم هو العرض الذي يزيل العقل ويغطيه، وليس مجرد الاضطجاع يسمى نومًا، والحديث ظاهره الاضطجاع، ولم يذكر فيه النوم، ولكنه مظنة ذلك، وفي هذا الحديث زيادة، وهي قولها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم)، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ذلك، وبينت عائشة أن هذا في حق من يملك إربه، ولا يخشى الإنزال، أما من يخشى الإنزال فلا يحل له أن يقبل وهو صائم.
قال: باب: شهود الحائض العيدين:
عقد هذا الباب لأمر الحيض بشهود العيدين، والخروج في التظاهرات الإسلامية العامة التي فيها إظهار لشعائر الدين، وإعلاء لكلمة الله، فالنساء من هذه الأمة، وهن مطالبات بالأحكام، وعليهن إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، وإظهار التمكين للدين؛ فلذلك يكثرن سواد المسلمين، ويخرجن في التظاهرات العامة التي تجمع المسلمين؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ودعوة المسلمين، وفي رواية: (ويكثرن سواد المسلمين)، فأورد هو هذا الحديث في هذا الباب، فقال: (عن أم عطية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لتخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، وليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى، قيل لها: آلحيض؟ قالت: أليس يشهدن عرفة وكذا وكذا؟) )، هذا حديث أم عطية رضي الله عنها، وقد جاء بتصريح أنها سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، وجاء عنها أيضًا أنها شهدته من فعله، أنها قالت: (كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية: (لتخرج العواتق...)؛ أي: لتخرج إلى المصلى الذي يصلى فيه العيد، و(العواتق): جمع (عاتق)، وهي المرأة المخدمة التي يكرمها أهلها، فلا تباشر أي عمل من أعمال الناس، (وذوات الخدور)؛ أي: ربات الخدور، وهن النساء الجميلات أو الأبكار اللواتي يدخلن في الخدر، وهو مركب يتخذه النساء، فيجعلن فوقه ثوبًا، فيجعل في حال الإقامة في طرف البيت، فتدخل فيه التي لا تخالط الناس، ويكون الثوب حجابًا بينها وبين الناس، والخدور: جمع (خِدر)، وهو المفرد، وهو بكسر الخاء وإسكان الدال، كما قال امرؤ القيس:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وإذا كان الناس في السفر، فعادة العرب أن يجعلوا الخدور فوق الخيام، فيركب النساء فيها، المحجبات يركبن فوق الخيام على الإبل، كما قال النابغة الذبياني- وقد جعلوا الخدور على الخيام:
أتاركة تدللها قطامِ وضنًّا بالتحية والسلام
فإن كان الدلال فلا تلجي وإن كان الوداع فبالسلام
فلو كانت غداة البين منت وقد رفعوا الخدور على الخيام
(والحيَّض) هن اللواتي يحضن، والمقصود اللواتي يتلبسن بهذا المانع، (وليشهدن الخير)، هذا عطف على قوله (لتخرج)، والمقصود بالخير: الصلاة والخطبة، (ودعوة المسلمين)؛ أي: الدعاء الذي يدعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، وكذلك دعاء الإمام لهم، وفي الرواية الأخرى: (يكثرن سواد المسلمين)، لتكثير السواد، وكان المسلمون إذ ذاك بالمدينة قليلًا، وحولهم كثير من الأعداء، فاليهود بالمدينة، والمنافقون فيها، والأعراب من حولها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يظهر لهم عزة الدين وكثرة أهله؛ فلذلك أمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور، وفي رواية: (ليخرج العواتق ذوات الخدور)، فجعلت العواتق هن ذوات الخدور.
(ويعتزل الحيض المصلى)، أمر الحيض أن يعتزلن المصلى؛ أي: مكان صلاة الناس؛ لأنهن لا يصلين، وجلوسهن بين الناس يقطع صفوف النساء، وإن كان المصلى ليس له حكم المسجد، فالمسجد هو الذي لا يجوز للحائض أن تدخله، وهو محوز أو مبني، أما المصلى الصحراوي فليس له حدود ولا تحويز، فيجوز أن تدخله الحائض والجنب، واختلف في المسجد البدوي- مسجد البدو- الذي تحويزه خفيف وليس فيه بناء، هل هو مثل المصلى أو هو مثل المسجد؟ والراجح أنه مثل المسجد في الأحكام، لا مثل المصلى، ومثل ذلك رحبة المسجد وهي أرضه التي تحيط به، وهي تابعة له مملوكة له، فهل يجوز فيها ما لا يجوز في المسجد أو لا يجوز فيها إلا ما يجوز في المسجد؟ محل خلاف بين أهل العلم، وقد قال العلامة محمد مولود رحمة الله عليه في هذا الباب:
ومسجد البدو وإن تخولف هل كسواه حرمًا وشرفا
لم ينفِ ذاك كونه بيت العلي أعد للصلاة والتبتل
وذا هو الوجه منه اكتسب الآخر ما اكتسب لا من الخشب
(قيل لها)؛ أي: قيل لـأم عطية: (آلحيض؟) معناه: أأمر هذا استفهام بالهمزة، معناه: هل أمر الحيض بالخروج إلى صلاة العيد؟ وهذا استغراب، و(آلحيض)، همزة الاستفهام إذا جاءت بعدها همزة أل فإنها تكون مدًّا لها، أو تحذف همزة أل وتبقى همزة الاستفهام؛ لأن همزة الاستفهام تدل على معنى، وقد قرئ في السبع بهما، فقراءتكم أنتم، قراءة الدوري؛ أي: قراءة أبي عمرو بن العلاء كلها: (قال موسى ما جئتم به آلسحر)، (ما جئتم به آلسحر)، معناه: هل هو السحر؟ (إن الله سيبطله)، وقراءة الجمهور ما عدا أبا عمرو: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ [يونس:81]، فهي خبر (( مَا جِئْتُمْ بِهِ ))، (( إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ)) استئناف؛ فلذلك قيل لها: (آلحيض؟) قالت: (أليس يشهدن عرفة وكذا وكذا؟) قالت: أليس يشهدن عرفة؛ أي: ألسن يشهدن الموقف، وفيه الصلاة والخطبة والدعاء، (وكذا وكذا)؛ أي: مبيت مزدلفة وقيامها ودعاءها، والمقام بمنًى وما فيها من الدعاء والصلاة، (وكذا وكذا)؛ أي: مزدلفة ومنى، فهن يشهدن ذلك بالإجماع، فكذلك شهودهن لصلاة العيد، فهي من مشاهد الإسلام وتظاهراته العامة.
قال: باب: الصفرة والكدرة في أيام الحيض:
عقد هذا الباب لبيان أحكام الصفرة والكدرة، وبين- بقوله: في أحكام الحيض- أن الصفرة، وهي اللون الأصفر الذي يخرج من رحم المرأة، والكدرة وهي اللون الأحمر الذي تخالطه غبرة ويخرج من رحم المرأة كذلك، ينقسم إلى قسمين:
إلى ما كان في أيام الحيض، وما كان في أيام الطهر، فما كان في أيام الطهر لا اعتبار له، فالصفرة والكدرة بعد الطهر منه، وبعد الحيض منه، وما كان في أيام الحيض فهو من الحيض، فإذا كانت المرأة طاهرًا فأحست بخروج شيء، فإذا هو صفرة أو كدرة لم تعتبر ذلك مانعًا حتى ترى الدم الأسود؛ لأن الصفرة والكدرة مشكوك في دمويتها، والشك في المانع لا أثر له، وهذه قاعدة عامة، هي: الشك في المانع لا أثر له، أما إذا كانت حائضًا وعند نهاية حيضها خرج منها صفرة أو كدرة فإنها تعد ذلك من الحيض وتصبر حتى ترى القصة البيضاء كما أمرت بذلك عائشة رضي الله عنها.
قال: (وعنها رضي الله عنها)؛ أي: عن أم عطية رضي الله عنها (قالت: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئًا) )، معناه: لا نعد الكدرة والصفرة في أيام الطهر شيئًا، وهذا مقصود البخاري بالإتيان بهذا الحديث بهذا الباب، فإذا جاءت قبل الحيض فلا اعتبار لها، وإنما تعتبر إذا جاءت في نهاية الحيض.
قال: باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة:
قد سبق أن الحيض في الحج ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
إلى حيض قبل الشروع؛ أي: قبل إحرام الحج أو قبل الشروع في أعماله.
وإلى حيض في الأثناء؛ أي: في الوسط بعد أن أدى الإنسان بعض مناسك الحج.
وإلى حيض في النهاية.
وذكرنا أن الحيض السابق واللاحق كلاهما يسقط به عن المرأة بعض تكاليفها في الحج، وأن الحيض في الأثناء إذا كانت قد طافت وسعت لا يسقط به شيء، فلا تستفيد منه شيئًا، أما إذا كان قبل طواف القدوم وقبل السعي فقد استفادت المرأة منه شيئًا، وهو أنها أسقط عنها طواف القدوم، وكذلك إذا كان في نهاية الحج فإنه يسقط عنها طواف الوداع، وإذا كان في الوسط بين ذلك وذلك فإنه لا يسقط عنها شيئًا؛ فعقد هذا الباب للمرأة تحيض بعد الإفاضة؛ أي: بعد أن أكملت حجها، والمقصود بالإفاضة: طواف الإفاضة، وهو الطواف الذي بعد رمي الجمرة؛ أي: في يوم العيد، والأصل أن يكون في النهار قبل صلاة الظهر، فهذا وقت الفضل فيه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه بات بمزدلفة حتى أصبح فيها، فصلى الصبح في أول يومها، صلى الصبح في أول وقتها، ثم بعد ذلك وقف بمزدلفة للدعاء، وكبر إلى الإسفار الأعلى، ثم انطلق إلى منًى فرمى الجمرة- جمرة العقبة- ونحر الهدي، وحلق رأسه، ثم ذهب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، ثم رجع إلى منًى قبل صلاة الظهر، فهذا الطواف هو الذي يسمى طواف الإفاضة، وبعض الفقهاء يسميه طواف الزيارة أيضًا؛ لأنه إنما هو زيارة للبيت بوقت يسير، يأتيه فيطوف ويرجع.
قال: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها-: (أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صفية قد حاضت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلها تحبسنا؟ ألم تكن طافت معكن؟ قالوا: بلى، قال: فاخرجي)، هذا الحديث هو من حديث عائشة في الحج، فذكرت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف طواف الوداع، وجاء فدخل منزله، وجد صفية بنت حيي أم المؤمنين تبكي رضي الله عنها، فقال: حلقى عقرى، أحابستنا هي؟)، (حلقى عقرى)، هذا كلام يجري على ألسنة العرب، ومعناه: الدعاء عليها بأن يحلق رأسها وبأن تعقر؛ أي: تجرح، ولا يقصد به الدعاء، بل المقصود به التوجع لها والتأسف لحالها، فقال: (حلقى عقرى، أحابستنا هي؟)، معناه: هل ستحبسنا لأنها لم تطف؟ وكان يظن أنها لم تطف طواف الإفاضة، فأخبرته عائشة أنها طافت طواف الإفاضة، قالت: (فقيل له: إنها قد أفاضت، قال: فلتنفر إذًا)؛ أي: لا تحبسنا، بل تنفر معنا إذًا، وهذا اللفظ هنا قالت فيه: إنها هي التي أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيض صفية، (أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صفية قد حاضت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلها تحبسنا؟)، إذا كانت حاضت قبل طواف الإفاضة، ثم تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بالإمكان أن تكون قد أفاضت، قال: (ألم تكن طافت معكن)؛ أي: طواف الإفاضة مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، (قالوا: بلى، قال: فاخرجي)؛ أي: قال لـصفية: فاخرجي؛ أي: قد سقط عنك طواف الوداع بسبب ذلك.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [15] | 3609 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2] | 3530 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [13] | 3463 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [3] | 3353 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [18] | 3200 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [19] | 3188 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1] | 3137 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [14] | 3074 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [20] | 2992 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [16] | 2919 استماع |