مقدمات في العلوم الشرعية [37]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد تكلمنا فيما سبق عن موضوع علم القواعد الفقهية، واليوم نتكلم عن مستمده، أما مستمد القواعد الفقهية فقد ذكرت أنه من الفروع الفقهية وأدلتها، والفروع المقصود بها النوازل التي تكلم فيها الأئمة، وهنا ينبغي التعرض. فمستمد القواعد هو من الفروع وأدلتها.

خطر الفتوى وعظم شأنها

وهنا يحسن التعريج على مسألة، وهي فيما يتعلق بفتاوي الأئمة، فلا بد من وضع ضوابط في الأصل ينطلق منها الأئمة قبل وجود القواعد الفقهية. والإطار الأول الذي انطلقوا منه هو إطار الورع والخوف من القول على الله بغير علم.

ولذلك كان مجال الفتوى من أحرج الأمور عندهم، والذين يتكلمون في النوازل الجديدة اشتهروا لقلة أعدادهم وندرتهم في العالم الإسلامي طوله وعرضه عبر التاريخ.

وقد ذكرنا سابقاً خطر الفتوى وعظم شأنها، وأن علي بن أبي طالب قال: من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليفت في مسألة الجد والإخوة. وذكرنا أن فقهاء المدينة السبعة كانت تأتيهم النازلة فيتحامونها فيما بينهم، حتى ترجع إلى الأول.

وأن مالكاً كان يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: لا أدري، ليكون أصلاً في أيديهم يرجعون إليه.

وكان ابن دريد يقول:

ومن كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره لا أدري أصيبت مقاتله

وقد روى أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لا أدري نصف العلم، ولا أدري هي نصف العلم.

وقد حصل عندنا أن رجلاً من المشاهير بالعلم المعروفين به، وكان صاحب حدة وشدة لقيه رجل آخر دونه في العلم، فأراد أن يهدئه في مجلس فقال: أنا أعلم منك، قالها إبليس قبلك، قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، في أي شيء أعلم مني، أفي المنقول أم في المعقول أم في كذا، أم في كذا، وانطلق وهو مغضب؟ فأجابه الرجل فقال: أعرف نصف العلم وأنت لا تعرفه، فأنا أعرف لا أدري، وأنت لا تعرفها، فأسقط في يديه وسكت.

ومثل هذا ما يقوله شيخنا في المحاضرات: نتفق على تحمل العلم، فعلي نصفه وعليكم نصفه، فعليكم أنتم أن تحسنوا السؤال، وحسن السؤال نصف العلم، وعلي أنا أن أقول: لا أدري، ولا أدري نصف العلم، فيجتمع العلم كله، نصف العلم لا أدري، ونصف العلم حسن السؤال.

وكان كثير من السلف يكرهون الاستفتاء في النوازل التي لم تقع، وكان مالك أشد الناس تخويفاً من ذلك فيقول: دعوها فإن لها أهلاً يعاصرونها وهم أدرى بها، فكان إذا سئل عن مسألة سأل: هل وقعت أم لم تقع؟ ويقول: لست من الأرائيين، والأرائييون هم الذين يقولون: أرأيت لو كان كذا.

ضوابط لوجوب إجابة المستفتي

وقد وضعوا ضوابط لوجوب إجابة السائل، فلا بد أن يكون السائل صاحب المسألة أو تتعلق به، فإن كان السائل محتسباً ليس صاحب المسألة، ولا تتعلق به، فيعتبرونه فضولياً إن لم يكن طالب علم، فلا تجب إجابته، ثم لا بد أن يكون السائل عارفاً بالمسألة، فإن كان جاهلاً ببعض تفصيلاتها أو لا يفهما فلا يجاب عنها، ثم لا بد أن يكون المسؤول عارفاً بحكمها، فإن كان جاهلاً به لم يجز له التحدث فيه، ولذلك كان كثير من أهل العلم يقولون: لا تسألوني في باب كذا وباب كذا فلا أحسنها.

وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو من جلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: لا تسألوني ما دام هذا الحبر بينكم، يقصد ابن مسعود.

وعدد من أهل العلم كانوا يتفادون الإفتاء في مسائل لم يشاهدوها، فمن لم يحج منهم لم يكن يفتي في مسائل الحج، ومن لم يمارس الجهاد لم يكن يفتي في مسائل الجهاد، وهكذا في الأمور المعاصرة كأمور الدعوة التفصيلية، فمن لم يكن من أهل هذا الشأن لا يحل له الإفتاء فيه؛ لأنه لا يمكن أن يحيط بمتطلباته ومداخله، ولا يجوز أصلاً استفتاؤه عنه، ولهذا تجدون من هو على نصيب من العلم يستفتيه من لا يقارن به في العلم في مسائل من تفصيلات أمور الدعوة في زماننا، فيفتي فيها فتوى يعرف السائل أنها من الخطأ البين، فلا علاقة له بهذه الأمور التفصيلية ولا اطلاعاً له عليها.

وكذلك لا بد أن يكون السائل مكلفاً في وجوب الفتوى، وأن يكون المسؤول مكلفاً؛ لأنه الذي يجب عليه الفتوى كذلك.

وكذلك أن يكون خاف فوات النازلة، فإن كانت النازلة في متسع من الوقت لم يجب عليه تعجيل الفتوى فيها، أو أن يحيلها إلى غيره.

وكذلك أن تتعين عليه ألا يكون في البلد من يفتي فيها على الوجه الصحيح إلا هو، فإن كان في البلد من يستطيع الإفتاء فيها على الوجه الصحيح ذا علم وورع جاز له الإحالة عليه، وإن خشي أن يكون ذلك ناقص ورع أو ناقص علم بها لم يحل له إحالتها عليه، وقد كان المنذري رحمه الله مفتي أهل مصر، فلما دخلها العز بن عبد السلام امتنع عن الإفتاء ما دام العز فيها.

وهذه الشروط نظمها أحد علمائنا بقوله:

وعارف مكلف قد سأله مكلف عن الذي يجب له

سائله خاف فوات النافلة حتم عليه أن يجيب سائله

تقعيد فتاوي الأئمة على شكل قواعد

وفتاوي الأئمة ومسائلهم يؤخذ منها هذا التقعيد، وإن كانت الفتاوي لا تتضمن تلك القواعد باللفظ في أغلبها.

ومن غريب الموافقة أنه في بعض مسائل الأئمة قد تجد ما يلمح إلى القاعدة، أو ما يكون لفظاً قريباً من القواعد، كقول مالك: إعمال الدليلين أحب إلي من إلغائهما أو إلغاء أحدهما، فصار هذا اللفظ كالقاعدة.

وكقوله: انظر إلى اليد السابقة في الدفع، فإن عاد إليها أكثر مما دفعت فامنع، فهذا يشبه القواعد؛ لأنه لفظ محبوك، صيغ صياغة واضحة، فيشتمل على فروع كثيرة.

وقد يرد في بعض كلام المؤلفين ما يكون لفظه كلفظ القاعدة، أو يكون لفظه في النثر على وجه النظم، فيكون شبيهاً بالنظم، ففي مختصر ابن الحاجب مثلاً قال في الكلام على الإعادة لفضل الجماعة على النية فيها: "فرض ونفل وتفويض وإكمال"، فإذا صليت العشاء فذاً فوجدت جماعة، فيندب لك الإعادة معها، فماذا تكون نيتك؟ قال: فيها أقوال: فرض، ونفل، وتفويض، وإكمال. فإما أن تنوي الفرض، أو أن تنوي النفل، أو أن تنوي التفويض إلى الله أيهما شاء جعلها فرضاً، أو أن تنوي الإكمال لذلك الإكمال الماضي، فجاء أحد الشراح فقال:

في نية العود للمفروض أقوال فرض ونفل وتفويض وإكمال

فوجد القاعدة جاهزة كما هي منظومة، ويترتب على هذا الخلاف مسائل، منها: أنه إذا نوى الفرض فأيتهما تبين بطلانها لزمته إعادتها. وكذلك إذا نوى التفويض، أما إذا نوى النفل، فإن تبين بطلان الأولى وجب عليه إعادتها، وإن تبين بطلان الثانية لم يجب عليه إعادتها، وكذا إذا نوى الإكمال فإن تبين بطلان الأولى وجبت عليه إعادتها، وإن تبين بطلان الثانية لم يجب عليه إعادتها، وقد نظم ذلك أحد علمائنا فقال:

فإن يفوض يعد ما منهما بطلت والفرض الأخرى وغيراً غيرها قالوا

ميارة انظره والتفويض أشهرها وقال في كل ذي الأقوال إشكال

فكلها يترتب عليه إشكال الفقه.

إذاً هذا مستمد من القواعد الفقهية.

التوسع في مستمد القواعد الفقهية

قد يقال: إن بعض القواعديين يتوسعون فيأتون بمستمد غير ما ذكر، كـالبقري من المالكية، فإنه قد يستمد بعض القواعد من كلام الفلاسفة، كأفلاطون وأرسطو طاليس وغيرهما، ومع ذلك يكون كلامه مرجعاً في المسائل الفقهية، فقد روي عن القدماء من الفلاسفة أنهم قالوا: من تعجل الشيء قبل إبّانه عوقب بحرمانه، وهذه قاعدة عقلية ترجع إلى التجربة والعادة، فحولها البقري إلى قاعدة فقهية، وأتى عليها بكثير من النظائر الفقهية في أبواب شتى.

وهذه القاعدة فيها فروع كثيرة جداً في أبواب شتى، منها مثلاً من قتل مورثه فإنه لا يرث منه، تعجل الشيء قبل إبانه يعاقب بحرمانه.

لكن إذا كان أقسم على زوجته لا خرجت من بيته، فخرجت تريد تحنيثه بذلك، فتعامل بنقيض قصدها فلا حنث، فإذا تعمدت تحنيثه لا حنث، وإذا لم تتعمده يحنث، وهذا الذي يقول فيه شيخي رحمه الله:

وحالف لا خرجت فتاتي فخرجت فحانث فتى تي

فتى تي: أي هذه.

إن قصدته في الشهير مذهبا وعدم الحنث على قول لـأشهبا

وعاملوها بنقيض المقصد وذاك في الحطاب عند المرصد

وهنا يحسن التعريج على مسألة، وهي فيما يتعلق بفتاوي الأئمة، فلا بد من وضع ضوابط في الأصل ينطلق منها الأئمة قبل وجود القواعد الفقهية. والإطار الأول الذي انطلقوا منه هو إطار الورع والخوف من القول على الله بغير علم.

ولذلك كان مجال الفتوى من أحرج الأمور عندهم، والذين يتكلمون في النوازل الجديدة اشتهروا لقلة أعدادهم وندرتهم في العالم الإسلامي طوله وعرضه عبر التاريخ.

وقد ذكرنا سابقاً خطر الفتوى وعظم شأنها، وأن علي بن أبي طالب قال: من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليفت في مسألة الجد والإخوة. وذكرنا أن فقهاء المدينة السبعة كانت تأتيهم النازلة فيتحامونها فيما بينهم، حتى ترجع إلى الأول.

وأن مالكاً كان يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: لا أدري، ليكون أصلاً في أيديهم يرجعون إليه.

وكان ابن دريد يقول:

ومن كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره لا أدري أصيبت مقاتله

وقد روى أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لا أدري نصف العلم، ولا أدري هي نصف العلم.

وقد حصل عندنا أن رجلاً من المشاهير بالعلم المعروفين به، وكان صاحب حدة وشدة لقيه رجل آخر دونه في العلم، فأراد أن يهدئه في مجلس فقال: أنا أعلم منك، قالها إبليس قبلك، قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، في أي شيء أعلم مني، أفي المنقول أم في المعقول أم في كذا، أم في كذا، وانطلق وهو مغضب؟ فأجابه الرجل فقال: أعرف نصف العلم وأنت لا تعرفه، فأنا أعرف لا أدري، وأنت لا تعرفها، فأسقط في يديه وسكت.

ومثل هذا ما يقوله شيخنا في المحاضرات: نتفق على تحمل العلم، فعلي نصفه وعليكم نصفه، فعليكم أنتم أن تحسنوا السؤال، وحسن السؤال نصف العلم، وعلي أنا أن أقول: لا أدري، ولا أدري نصف العلم، فيجتمع العلم كله، نصف العلم لا أدري، ونصف العلم حسن السؤال.

وكان كثير من السلف يكرهون الاستفتاء في النوازل التي لم تقع، وكان مالك أشد الناس تخويفاً من ذلك فيقول: دعوها فإن لها أهلاً يعاصرونها وهم أدرى بها، فكان إذا سئل عن مسألة سأل: هل وقعت أم لم تقع؟ ويقول: لست من الأرائيين، والأرائييون هم الذين يقولون: أرأيت لو كان كذا.

وقد وضعوا ضوابط لوجوب إجابة السائل، فلا بد أن يكون السائل صاحب المسألة أو تتعلق به، فإن كان السائل محتسباً ليس صاحب المسألة، ولا تتعلق به، فيعتبرونه فضولياً إن لم يكن طالب علم، فلا تجب إجابته، ثم لا بد أن يكون السائل عارفاً بالمسألة، فإن كان جاهلاً ببعض تفصيلاتها أو لا يفهما فلا يجاب عنها، ثم لا بد أن يكون المسؤول عارفاً بحكمها، فإن كان جاهلاً به لم يجز له التحدث فيه، ولذلك كان كثير من أهل العلم يقولون: لا تسألوني في باب كذا وباب كذا فلا أحسنها.

وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو من جلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: لا تسألوني ما دام هذا الحبر بينكم، يقصد ابن مسعود.

وعدد من أهل العلم كانوا يتفادون الإفتاء في مسائل لم يشاهدوها، فمن لم يحج منهم لم يكن يفتي في مسائل الحج، ومن لم يمارس الجهاد لم يكن يفتي في مسائل الجهاد، وهكذا في الأمور المعاصرة كأمور الدعوة التفصيلية، فمن لم يكن من أهل هذا الشأن لا يحل له الإفتاء فيه؛ لأنه لا يمكن أن يحيط بمتطلباته ومداخله، ولا يجوز أصلاً استفتاؤه عنه، ولهذا تجدون من هو على نصيب من العلم يستفتيه من لا يقارن به في العلم في مسائل من تفصيلات أمور الدعوة في زماننا، فيفتي فيها فتوى يعرف السائل أنها من الخطأ البين، فلا علاقة له بهذه الأمور التفصيلية ولا اطلاعاً له عليها.

وكذلك لا بد أن يكون السائل مكلفاً في وجوب الفتوى، وأن يكون المسؤول مكلفاً؛ لأنه الذي يجب عليه الفتوى كذلك.

وكذلك أن يكون خاف فوات النازلة، فإن كانت النازلة في متسع من الوقت لم يجب عليه تعجيل الفتوى فيها، أو أن يحيلها إلى غيره.

وكذلك أن تتعين عليه ألا يكون في البلد من يفتي فيها على الوجه الصحيح إلا هو، فإن كان في البلد من يستطيع الإفتاء فيها على الوجه الصحيح ذا علم وورع جاز له الإحالة عليه، وإن خشي أن يكون ذلك ناقص ورع أو ناقص علم بها لم يحل له إحالتها عليه، وقد كان المنذري رحمه الله مفتي أهل مصر، فلما دخلها العز بن عبد السلام امتنع عن الإفتاء ما دام العز فيها.

وهذه الشروط نظمها أحد علمائنا بقوله:

وعارف مكلف قد سأله مكلف عن الذي يجب له

سائله خاف فوات النافلة حتم عليه أن يجيب سائله

وفتاوي الأئمة ومسائلهم يؤخذ منها هذا التقعيد، وإن كانت الفتاوي لا تتضمن تلك القواعد باللفظ في أغلبها.

ومن غريب الموافقة أنه في بعض مسائل الأئمة قد تجد ما يلمح إلى القاعدة، أو ما يكون لفظاً قريباً من القواعد، كقول مالك: إعمال الدليلين أحب إلي من إلغائهما أو إلغاء أحدهما، فصار هذا اللفظ كالقاعدة.

وكقوله: انظر إلى اليد السابقة في الدفع، فإن عاد إليها أكثر مما دفعت فامنع، فهذا يشبه القواعد؛ لأنه لفظ محبوك، صيغ صياغة واضحة، فيشتمل على فروع كثيرة.

وقد يرد في بعض كلام المؤلفين ما يكون لفظه كلفظ القاعدة، أو يكون لفظه في النثر على وجه النظم، فيكون شبيهاً بالنظم، ففي مختصر ابن الحاجب مثلاً قال في الكلام على الإعادة لفضل الجماعة على النية فيها: "فرض ونفل وتفويض وإكمال"، فإذا صليت العشاء فذاً فوجدت جماعة، فيندب لك الإعادة معها، فماذا تكون نيتك؟ قال: فيها أقوال: فرض، ونفل، وتفويض، وإكمال. فإما أن تنوي الفرض، أو أن تنوي النفل، أو أن تنوي التفويض إلى الله أيهما شاء جعلها فرضاً، أو أن تنوي الإكمال لذلك الإكمال الماضي، فجاء أحد الشراح فقال:

في نية العود للمفروض أقوال فرض ونفل وتفويض وإكمال

فوجد القاعدة جاهزة كما هي منظومة، ويترتب على هذا الخلاف مسائل، منها: أنه إذا نوى الفرض فأيتهما تبين بطلانها لزمته إعادتها. وكذلك إذا نوى التفويض، أما إذا نوى النفل، فإن تبين بطلان الأولى وجب عليه إعادتها، وإن تبين بطلان الثانية لم يجب عليه إعادتها، وكذا إذا نوى الإكمال فإن تبين بطلان الأولى وجبت عليه إعادتها، وإن تبين بطلان الثانية لم يجب عليه إعادتها، وقد نظم ذلك أحد علمائنا فقال:

فإن يفوض يعد ما منهما بطلت والفرض الأخرى وغيراً غيرها قالوا

ميارة انظره والتفويض أشهرها وقال في كل ذي الأقوال إشكال

فكلها يترتب عليه إشكال الفقه.

إذاً هذا مستمد من القواعد الفقهية.

قد يقال: إن بعض القواعديين يتوسعون فيأتون بمستمد غير ما ذكر، كـالبقري من المالكية، فإنه قد يستمد بعض القواعد من كلام الفلاسفة، كأفلاطون وأرسطو طاليس وغيرهما، ومع ذلك يكون كلامه مرجعاً في المسائل الفقهية، فقد روي عن القدماء من الفلاسفة أنهم قالوا: من تعجل الشيء قبل إبّانه عوقب بحرمانه، وهذه قاعدة عقلية ترجع إلى التجربة والعادة، فحولها البقري إلى قاعدة فقهية، وأتى عليها بكثير من النظائر الفقهية في أبواب شتى.

وهذه القاعدة فيها فروع كثيرة جداً في أبواب شتى، منها مثلاً من قتل مورثه فإنه لا يرث منه، تعجل الشيء قبل إبانه يعاقب بحرمانه.

لكن إذا كان أقسم على زوجته لا خرجت من بيته، فخرجت تريد تحنيثه بذلك، فتعامل بنقيض قصدها فلا حنث، فإذا تعمدت تحنيثه لا حنث، وإذا لم تتعمده يحنث، وهذا الذي يقول فيه شيخي رحمه الله:

وحالف لا خرجت فتاتي فخرجت فحانث فتى تي

فتى تي: أي هذه.

إن قصدته في الشهير مذهبا وعدم الحنث على قول لـأشهبا

وعاملوها بنقيض المقصد وذاك في الحطاب عند المرصد

أما اسم هذه العلم فهو علم القواعد الفقهية، وقد يطلق عليه لفظ القواعد فقط، وكثير من المؤلفين يسميه القواعد، وقد يطلق عليه علم الفروق وعلم الأشباه والنظائر، وهذه أسماؤه.

أما فضل هذا العلم فهو بحسب فائدته، وهي حصر الجزئيات الكثيرة في الذهن بحفظها؛ لأن الإنسان إذا حفظ هذا الأصل تشعب عنه وكل ما يدخل تحته من الفروع، فتكون حاضرة في الذهن إذا احتاج إليها، وهذا فضل عظيم، فالإنسان إذا حوى أصول المسائل كانت في طوع يده وملك يمينه، كما قال ابن مالك:

وبعده فالفعل من يحكم تصرفه يحز من اللغة الأبواب والسبلا

فكذلك من حفظ هذه القواعد ولو كانت يسيرة قليلة فإنه سيحفظ من ورائها ما لا يحصى من الفروع، ولهذا قال الونشريسي حين ألف كتابه إيضاح المسالك في قواعد مذهب الإمام مالك، ذكر فيه مائة وثلاثين قاعدة فقهية من قواعد المذهب المالكي، قال: من حفظها على قلتها استوعب أكثر المسائل الفقهية في المذهب، هي مجرد مائة وثلاثين قاعدة، وألفاظها مختصرة يسيرة، ومن حفظها حفظ أكثر فروع المذهب على كثرة فروعه.

أما حكم تعلمه فهو حكم غيره من العلوم الكفاية، فهو فرض كفاية على أهل البلد، فإن لم يكن فيه من يحسنه أثموا جميعاً، وإن كان فيه من يحسنه سقط الإثم عنهم.

والراجح في فرض الكفاية أن المقصود بالبلد هنا الذين تدور فيهم النازلة، فإن كان البلد متسعاً جداً وفي أطرافه من لا يعرفه الناس، فلا يكفي أن يكون في طرف البلد من هو مجهول لدى أهل البلد يعرف هذا العلم، وأهل البلد الآخر لا يعرفونهم، فلا بد أن يكون الشخص معروفاً بذلك مشهوراً حتى يرفع الإثم عن أهل البلد.

والمقصود بالبلد أيضاً من ناحية المسافة مسافة العدوى، أي: ما يقصد في الصباح فيراح منه مسيرة يوم على الأقدام، يذهب إليه الذاهب فيصل إليه في وقت الظهيرة ويرجع منه، فيصل إلى أهله قبل الليل، هذه مسافة العدوى، وهي أقل من مسافة القصر، نصف مسافة القصر تقريباً، التي تسمى بمسافة العدوى، أي: التي يعدي منها القاضي على الخصم.

وقد يتعين تعلم القواعد الفقهية في حق القاضي والمفتي وصاحب الاجتهاد الذي لا بد أن يكون مطلعاً على أقوال من سبق؛ لئلا يخالف الإجماع ونحو ذلك.

ثم فائدة هذا العلم أن يكون الإنسان ملماً بمآخذ أهل العلم، ومعيناً لذاكرته في حفظ الفقه الذي يحتاج إليه في الأمور، وعارفاً لأحكام النوازل المتشابهة، فإذا عرضت عليه نازلة ألحقها بما هو أشبه بها.