خطورة التحريم
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
خطورة التحريمهذه كلمةٌ موجزةٌ، موجَّهةٌ إلى الذين هان عليهم إطلاقُ لفظة "حرام" في فتاواهم إذا أفتَوا، وفي بحوثهم إذا كتَبوا، وفي خُطَبهم ودروسهم، وفي كل ما من شأنه أن يكون سبيلًا للدعوة إلى الشريعة والدين: أن الواجبعليهم في قولهم هذا مراقبةُ الله الجليل عزَّ شأنه، وأن يعلموا يقينًا أن كلمة "حرام" كلمةٌ خطيـرةٌ، فهي تعني الإثم والعقاب من الله تعالى المترتِّبَ على الفعل المحرَّم، وهذا أمرٌ لا يُعرف بالتخمين، ولا بموافقة المزاج، ولا بالاغترار بكثـرة القائلين، ولا بشُهرة أسمائهم، ولا بمجرد وجوده في كتابٍ قديمٍ، ولا بالآثار والأخبار عن غير المعصوم صلى الله عليه وسلم، كما لا يُعرف هذا الأمر من خلال الأحاديث الضعيفة أو غيـر ذات الدلالة؛ وإنما يُعرف بنصوص الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة، ذات الدلالة الصريحة، أو بإجماعٍ قطعيٍّصحيح مستندٍ إلى الكتاب والسنة، وإلا فدائرة العفو والإباحة واسعةٌ، وهي الأصل بلا خلاف، بل يقول أهل الأصول: إن "تحريم الحلال أشدُّ من تحليل الحرام"[1]، وفي كُلٍّ منهما شرٌّ عظيمٌ.
ولنا في منهج السلف الصالح أسوةٌ حسنةٌ؛ فقد ثبت عن البراء بن عازب أنه قال: "لقد رأيتُ ثلاثَمائةٍ من أهل بدر، ما منهم من أحدٍ إلا وهو يحبُّ أن يكفيَه صاحبُه الفتوى"[2].
وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت في هذا المسجد (يعني مسجد الكوفة) عشرين ومائةً من الأنصار، ما منهم من أحد مُفْتٍ يُسأل عن فُتيا إلَّا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفُتيا"[3]، وفي رواية قال: "...
يُسأل أحدُهم عن المسألة، فيردُّها هذا إلى هذا وهذا، حتى ترجع إلى الأول"[4].
وسُئل الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سُئلتم؟ قال: "كان إذا سُئل الرجل، قال لصاحبه: أفْتِـهم؛ فلا يزال حتى يرجع إلى الأول"[5].
فهذا هو حال الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وكذلك هو شأن من جاء بعدهم من أهل الدين والاستقامة، المشهود لهم بالعلم والإمامة.
فعن مالك: أنه قال: "ما شيء أشد عليَّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركتُ أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سُئل عن مسألة كأنَّ الموت أشرَفَ عليه، ورأيتُ أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفُتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدًا، لقلَّلوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعليًّا وعامة خيار الصحابة كانت تَرِدُ عليهم المسائل، وهم خيـر القرْن الذي بُعث فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا يَجمعون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذٍ يُفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفُتيا، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم"[6]؛ أي: هو قدر قليل من العلم والفهم بسبب ذلك.
يقول هذا في زمانه، فكيف لو رأى زماننا؟!
وقال أيضًا: "ولم يكن من أمر الناس، ولا مَنْ مضى من سلفنا الذين يُقتدى بهم، ومعوَّل الإسلام عليهم - أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأرى كذا، وأما حلال وحرام، فهذا الافتـراء على الله، أمَا سمعت قول الله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 59]؛ لأن الحلال ما حلَّله الله ورسوله، والحرام ما حرَّماه"[7].
وقال أبو يوسف الأنصاري: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفُتيا أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام، إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بيِّنًا بلا تفسير.
حدثنا ابن السائب عن ربيع بن خُثَيْم - وكان من أفضل التابعين - أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحلَّ هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أُحِلَّ هذا ولم أَرْضَه، ويقول: إن الله حرَّم هذا، فيقول الله :كذبتَ، لم أحرِّم هذا ولم أنهَ عنه.
وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيمَ النخَعيِّ أنه حدَّث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتَوا بشيء أو نهَوا عنه، قالوا: هذا مكروهٌ، وهذا لا بأسَ به، فأما نقول: هذا حلال وهذا حرام، فما أعظَمَ هذا!"[8].
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116]، وقال جلَّ شأنه: ﴿ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 140].
[1] ابن عثيمين: مجموع الفتاوى والرسائل (13/ 208).
[2] الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه (2/ 349)، وإسناده صحيح.
[3] رواه الدارمي (137)، بسند صحيح.
[4] الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه (2/ 23)، وإسناده صحيح.
[5] رواه الدارمي (138)، بسند حسن.
[6] القاضي عياض: ترتيب المدارك (1/ 144).
[7] المرجع السابق (1/ 145).
[8] أبو يوسف الأنصاري: الرد على سير الأوزاعي (ص73).