مقدمات في العلوم الشرعية [33]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فإن علم الجدل علم إسلامي صِرف، فلم يكن معروفاً من قبل لدى غير المسلمين، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى المسلمين إلى مجادلة خصومهم بالتي هي أحسن؛ فقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125], وقال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، وقد طبق ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناظرة نصارى نجران حين وفدوا إليه، وفي ذلك أنزلت آيات سورة آل عمران، في مجادلة نصارى نجران.

وتعريف هذا العلم أنه: آداب الخلاف، وأسس التحاكم عند الاختلاف.

وهذا العلم ينبني كما هو واضح من تعريفه على إمكانية التعدد في الرأي، فالعقول قابلة لأن تتوصل إلى آراء متباينة بخلقتها، وعلى ذلك يبحث في أولاها وأقواها، وقد لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى حسم الخلاف، والذين تشق عليهم الخلافات، ويظنون أنها تقتضي تشتيت الجهود، أو تقتضي إضاعة المجهود؛ مخطئون في هذا التصور؛ فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينزل الأحكام مرقمة بشكل مواد قانونية، ولم يفعل، وإنما نزلها في نصوص ذات دلالات مختلفة من ناحية الحجم، ومن ناحية الوضوح والخفاء، ومن ناحية الألفاظ أيضاً؛ ففيها اختلاف واضح جداً بين الأساليب: أساليب القرآن في الإباحة والتحريم، والإيجاب والأمر؛ مختلفة تماماً، مما يدل على أن الشارع ترك مجالاً كبيراً للعقول للاجتهاد.

وقد أرشد الله سبحانه وتعالى الناس إلى إعمال عقولهم في مواطن كثيرة من كتابه؛ فقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، وقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

وكذلك في آيات التفكر كثيراً ما يرشد إلى التدبر فيه؛ قال سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20]، وقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]، وفي غير هذا من آيات التفكر في القرآن.

وهذا الأدب قد جاء الإرشاد إليه في نصوص شرعية مثل قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، ومثل قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، ومثل قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وفي غير ذلك من النصوص.

وقد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث كقوله لعائشة رضي الله عنها: ( مهلاً، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان الخرق في شيء إلا شانه )، وكذلك في سنته صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( متى عهدتني فحَّاشاً )، وغير هذا من الأحاديث الكثيرة.

وهذا الأدب يقتضي من المتناظرين ألا ينتصرا لأنفسهما، وأن يبحثا عن الحق حيث كان.

وكذلك لا بد من ضوابط يرجع إليها لتكون أرضية متفقاً عليها بين المتناظرين، فإذا كانت الحجج غير متفق عليها بين المتناظرين كان أحدهما يستدل بما لا يعتبر دليلاً لدى الآخر، فيضرب في حديد بارد، والآخر أيضاً يستدل بما ليس الدليل الذي لديه، أو بمطاعن ليست طعناً لديه، فيضرب في حديد بارد؛ فلا بد من أرضية متفق عليها بين المتناظرين، ينطلقان منها، وهذه الأرضية تختلف باختلاف المناظر.

وقد بدأت المناظرة في صدر الإسلام مع أهل الكتاب، فهم الذين أوتوا الكتاب من قبلنا، وكانت المناظرة معهم في صدر الإسلام تحسم بالوحي، كما كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه جرى له خلاف مع اليهود ومع النصارى، وكل طائفة حصلت المناظرة معها حسمت بالوحي.

وبداية ذلك من اليهود فهم أول من جادل، وذلك قبل الهجرة، فإنهم حين أنزل الله تعالى سورة الأنعام وقد جاء فيها تحريم الميتات، قال اليهود لأوليائهم من قريش: يزعم محمد أن الله أباح ما ذبحه بيده، وحرم ما ذبحه الله بشمشار من ذهب، أو شمشير من ذهب، ويقصدون به الميتات، فأنزل الله في ذلك قوله: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121]، فسمى الله اليهود بالشياطين، وأخبر أنهم يوحون بهذه الأدلة إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم، فكان هذا بداية الجدل في صدر الإسلام.

وقد أيس اليهود من الانتصار في الجدل مع النبي صلى الله عليه وسلم، كما أيس النصارى من ذلك، فالنصارى حين قرأ عليهم آيات آل عمران، قال لهم مشيرهم -أي صاحب الرأي فيهم -: والله لقد علمتم أنه لنبي، وما باهل قوم نبياً فنجوا؛ فأدوا إليه الجزية، وارجعوا إلى بلادكم، ففعلوا.

وقد كان قد دعاهم إلى المباهلة: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61].

وكذلك اليهود عندما ناظروه حتى في التوراة نفسها، فعندما زنى رجل وامرأة من أشرافهم قالوا: ارفعوا هذه القضية إلى محمد؛ لعلكم تجدون عنده حكماً أسهل من حكم التوراة، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن حكم الزاني والزانية المحصنين في التوراة ما هو؟ فقالوا: نسخم وجوههما، ونفضحهما في الملأ، وذكروا بعض التعزيرات الخفيفة، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن في التوراة آية الرجم، فأنكروا ذلك، فشهد عبد الله بن سلام بصحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فجاء خازن التوراة منهم، فجعل يقرؤها، ووضع يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: (ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم تحتها، فرجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وقد بين الله سبحانه وتعالى ضوابط واضحة لهذا الجدل، فمنها الحسم التاريخي كما في قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65]، فاليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى كانوا يدعون أنه نصراني، فحسم الله الخلاف بضابط التاريخ، فإن اليهودية إنما بدأت من نزول التوراة، وإنما أنزلت على موسى، وأن النصرانية إنما بدأت من نزول الإنجيل، وإنما أنزل على عيسى؛ فأين موسى وعيسى من إبراهيم، وقد كان قبل التوراة، وقبل الإنجيل.

وكذلك في قوله في لحوم الإبل حين تخاصموا فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93].

وكذلك من هذه الضوابط التي جاء الإرشاد إليها في القرآن ما تضمنته قصص السابقين، فالحجة التي ألهمها الله إبراهيم عليه السلام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، وكذلك حجج موسى لفرعون وقومه، فقد كانت بمثابة ضوابط للجدل العقدي وحاسمة له، فإن إبراهيم عليه السلام حين قال له الرجل: أنا أحيي وأميت، فلم يناقشه إبراهيم في هذه المسألة هل هو فعلاً يحيي ويميت، أو لا يحيي ولا يميت، بل قال له: إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر.

وكذلك حين قال لقومه: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [المائدة:76]، سألهم! هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73]، فرجعوا إلى مجرد التقليد قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74]، فليس لهم أي منطق ولا أية تجربة، في نفع ولا ضر، ولا كلام، لا يكلمونهم، ولا يدركون شيئاً من هذا، لكن مجرد التقليد بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74].

وكذلك في جدال موسى مع فرعون فإنه حين قال له: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50]، وهذه المناظرة بينها الله سبحانه وتعالى أيضاً في سورة الشعراء، فقال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء:23-33]، فهذا الجدل بدأ أولاً جدلاً منطقياً، ثم لما هزم فرعون تدخلت القوة، فأراد أن يحسم الموقف لصالحه عن طريق القوة والسجن، وبالتهديد، فجاء ذلك الوقت دور المعجزة، فأخرج موسى المعجزة التي أيده الله بها، فجاءت هزيمة أخرى لفرعون، ثم لم يبقَ له إلا المكابرة بمجيء السحرة وجمعهم.

ولذلك يذكر أن المأمون قال: ما ناظرني أحد فغلبني إلا مجنون واحد، فقد أوتي بمجنون يزعم أنه موسى بن عمران، وأن عصاه التي معه هي عصا موسى، فقال هارون له: أنت موسى بن عمران؟ قال: نعم، قال: إن موسى كان يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، فأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء، قال: إنما فعل ذلك حين قال له فرعون: أنا ربكم الأعلى، فقل أنت: أنا ربكم الأعلى.

وموضوع علم الجدل هو إثبات القضايا العقلية أو نفيها.

والقضايا العقلية تنقسم لدى المسلمين إلى قسمين: إلى جانب عقدي، وجانب عملي، فالجانب العقدي الجدل فيه أدرج في علم الكلام، والجانب العملي فيه أدرج فيما يسمى بالجدل الفقهي.

فانقسم الجدل بهذا الاعتبار إلى قسمين: قسم عقدي، وقسم فقهي، بين طائفتين من المهتمين بالعلم، الطائفة الأولى المتكلمون، والطائفة الثانية الفقهاء.

أما واضع علم الجدل فيصعب نسبته إلى واضع بعينه؛ لما سبق أن ذكرنا أن الأنبياء كانوا يجادلون من أرسلوا إليهم، وأن الله قد أرشد إليه في القرآن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جادل أهل الكتاب، لكن اشتهر عن أبي حنيفة رحمه الله وأصحابه التواطؤ على بعض القواعد الجدلية التي عليها مبنى الجدل الفقهي، واشتهر كذلك عن النظام وضع القواعد الجدلية التي عليها مبنى الجدل العقدي، فيمكن أن يقال: واضع الجدل الفقهي أبو حنيفة، وواضع الجدل العقدي النظام، والنظام من أئمة المعتزلة.

أما مستمده فهو الحجج العقلية والنقلية.

والحجج العقلية مبناها على المسلمات الأوليات والمشاهدات والحدسيات والوجدانيات والمشهورات.

والحجج النقلية مبناها على الكتاب والسنة والإجماع، والآراء التي تأخذ قوة حجية، كإجماع أهل المدينة، وقول الصحابي، وإجماع أهل الكوفة عند أبي حنيفة، وإجماع الخلفاء الأربعة، واتفاق أبي بكر وعمر، فهذه الأقوال التي لها حجية وقوة في نفسها.

أما فضل علم الجدل فإنه يرجع إلى فائدته التي ستذكر، لكن مع هذا فلا شك أن من عرف دليل ما يتمسك به؛ فقد بنى على أصل شرعي، وهو قول الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وقد أمر الله بالتثبت والتبين عند تلقي الأخبار، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، وفي قراءة أخرى: (فتثبتوا)، وهذا يقتضي التثبت في نقل الأخبار، وفي سماعها والحكم عليها.

وقد جاء أيضاً في القرآن النهي عما ليس مبنياً على حجة، كقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وكقوله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].

وقد أخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت؛ فإثمه على مفتيه )، فهذا يقتضي التثبت في الإفتاء، والانطلاق من الدليل والاعتماد على الحجة، وأن ما ليس مبنياً على الدليل يكون كالبنيان الذي على شفا جرف هار، وسرعان ما يسقط، ولهذا شبه الأئمة ما لا دليل عليه من الاجتهادات ببيت العنكبوت، قال تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: لما أتى الشافعي مصر قال لي أبي: يا بني! الزم هذا الرجل فما بينك وبين أن يضحك الناس منك إلا أن تخرج من مصر فتقول: قال ابن القاسم، قال: فخرجت إلى بغداد لحاجة لي، فسألوني في مسألة فقلت: كان ابن القاسم فيها يقول كذا، فقالوا: ومن ابن القاسم ؟ فقلت: فقيه كان عندنا من مصر، فضحك الناس.

فكل ما ليس للإنسان فيه دليل، ولو نسبه إلى الأعلام والعلماء، لا يقتضي ذلك إثباتاً له، فيحتاج الإنسان إلى انطلاق من الدليل ليكون منطلقاً في كل ما يقوله، وإنما يتعود الإنسان على هذا إذا وجد من يخالفه في الأمر، فمن عاش في بيئة تلتزم بمذهب واحد، ولا يظهر فيها ما يخالف ذلك المذهب، فسيكون لديه ضيق أفق، ويكون متمسكاً بكثير من الأمور التي لا دليل عليها، وهو يظنها من الشرع، ويظنها ذات دليل ثابت، ومن عاش في بيئة فيها أطروحات متعددة متنوعة، أو يحصل فيها الخلاف والجدل، فإنه سيتسع فقهه لاستيعاب الجميع.

ثم حكم تعلم علم الجدل، فقد اختلف فيه أهل العلم على قولين:

القول الأول: ذهب بعضهم إلى تحريمه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المراء في الدين، فقالوا: الجدل يرجع إلى المراء، والمراء في الدين منهي عنه، وهذا القول ضعيف جداً؛ لأن الله أمر بالجدل في قوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقوله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، وقد نبه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أنه سيجادل: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ [آل عمران:20].

والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك أرشد إلى العناية بالدليل، وإقامة الحجة على الآخرين، ( من أفتي على غير ثبت؛ فإثمه على مفتيه )، مما يرشد إلى أن هذا الخلاف ممكن الوقوع، وأنه في الأمور الاجتهادية لا ذنب فيه، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في مسائل فتجادلوا فيها؛ فحكم لمن معه الدليل منهم، وقد جمع الزركشي ما ردته عائشة وحدها على الصحابة في كتاب (الإجابة في ردود عائشة على الصحابة)، وكذلك يتبعهم من بعدهم، فأصبح محل إجماع بين الأمة، فهذا القول إذاً معارض للإجماع.

وهنا يلزم التفريق بين الجدل والمراء، فالجدل ما طلب به إظهار الحق، والمراء ما قصد به مجرد الترف الذهني أو إزهاق الحق، وإظهار الباطل، وإذا قلنا: ما طلب به إظهار الحق، وإزهاق الباطل، وقلنا في العكس: ما طلب به إظهار الباطل، وإزهاق الحق؛ فلا يقصد بذلك لدى صاحبه؛ لأنه في الغالب ما من أحد إلا يقول: أنا أريد إظهار الحق، وما عندي هو الحق، والذي يستدل عليه هو الحق؛ وبالتالي أنا مجادل لا مماري. فليس المرجع إلى ما يراه الإنسان في نفسه، إنما المرجع في ذلك إلى قصد المتناظرين، فإن علم أن الإنسان يناظر عن أمر لا يقتنع به، وإنما يريد بذلك الترف الذهني، كحال كثير من الفلاسفة، الذين ينطلقون من قاعدة: الشك في كل شيء، ويرون أن من لم يشك لا يمكن أن يتثبت؛ لأن التثبت مبناه على الشك، والشك سابق عن التثبت في كل أمر، فهذا لا شك هو المراء المذموم، والمراء مشتق من المرية، وهي الشك والريب، بخلاف الجدل فهو مشتق إما من الأجدل وهو البازي لقوته، أو من الجدالة وهو التراب؛ لأن المتخاصمين كأن أحدهما يضرب بالآخر الأرض، فيجدّله.

القول الثاني: أنه فرض كفاية يلزم تعلمه؛ لأن الله أوجب علينا مناظرة أهل الكتاب، ولا يمكن مناظرتهم إلا بتعلم الأدلة المقنعة، وكذلك رد الشبه عن دين الله واجب بالإجماع، ولا يمكن ذلك إلا بتعلم هذه البراهين التي يرد بها ذوي الشبه، وهذا القول هو الراجح والذي يكاد يكون محل إجماع بين الأمة.

وقد سمي هذا العلم في الغالب بعلم الجدل، وقد يسمى بعلم المناظرة، وقد يسمى بعلم البحث.

وعلم الجدل قد ذكرنا اشتقاقه أنه إما أن يكون مشتقاً من الأجدل وهو البازي القوي، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:

ألا يكن مال يثاب فإنه سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهلِ

فما نلتنا غدراً ولكن لقيتنا غداة التقينا في المضيق بأخيل

تفادى كماة القوم من وقع سيفه تفادي بغاث الطير عن وقع أجدل

فالأجدل البازي القوي.

أو أن يكون مشتقاً من الجدالة وهي الأرض الغبراء؛ لأن المغلوب تضرب به الأرض، كالمغلوب في الصراع، في المصارعة.

وأما اسم المناظرة فهو مشتق من تناظر شخصين، أي: انطلاقهما من مبدأ سواء، فالمناظرة بداية سباق الرهان، تناظر الفرسان معناه تكون كل واحدة منهما نظيرة صاحبتها؛ لأنها إذا كانت إحداهما متقدمة عن الأخرى، فقد كان السباق مختلاً، فإنما يقع التوازن بالتناظر، يعني: أن تكون كل واحدة منهما نظيرة للأخرى ومناظرة لها، فكذلك انطلاق المتناظرين من مبدأ واحد.

وأهل الجدل يفصلون بين الناظرين والمتناظرين، فالناظران هم المتذكران في العلم، اللذان ينطلقان من غير مذهب، وإنما يبحثان في الدليل ويستنبطان منه، هذا الناظر، أي: الذي يبحث في الدليل فيستنبط منه.

وأما المناظر فهو الذي ينطلق من مذهب لديه يريد إثباته، ولهذا فالدليل سابق على المدلول لدى الناظر، ولاحق للمدلول المناظر، فالمناظر قد يتعدد لديه الدليل، والناظر لا يتعدد لديه الدليل، فالناظر دليله واحد، مثلاً وأنت تقرأ في المصحف، فمررت بآية فاستنبطت منها حكماً، فأنت ناظر لا مناظر، أما المناظر فقد درس هذا المذهب وعرف أدلته، وعرف الردود على خصمه، وهو مستعد لأن يزيد أدلة مذهبه، ويقويها بكل ما أوتي من قوة وملكة، فهذا الفرق بين الناظر والمناظر.

وأما البحث فهو في الأصل الحفر في الأرض، ومنه قول الله تعالى: فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31]، ولما كان طلب ما دق في الأرض يحتاج فيه إلى حفر؛ سمي طلب الحق كذلك بحثاً؛ كأن الإنسان كأنه عنه، فما علاه من الغبار، وما أخفاه من التراب يزال عنه حتى يظهر، وكذلك الحق لا بد أن يزال عنه ما يعلوه من الشبهات، حتى يظهر جلياً، ومن أجل هذا سمي البحث بحثاً.

وقد يجمع الاسمان فيقال: علم البحث والمناظرة، فيسمى هذا العلم بالكلمتين معاً، ولا مشاحة في الاصطلاح.