مقدمات في العلوم الشرعية [28]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد انتهينا من الكلام عن المذاهب الفقهية، وما تتميز به، وبقي الكلام عن الكتب الفقهية المقارنة بين المذاهب، وقبلها نستكمل الإجابة على بعض الأسئلة.

السؤال: ما هي مصطلحات المذاهب؟

الجواب: لا شك أن لكل مذهب مصطلحات تدور في كتب المذهب كله, ومصطلحات مختصة للمؤلفين في كتبهم، وهذا النوع الأخير يعتني به الشراح في كل كتاب, فمثلاً: في المذهب الحنبلي يعتني الناس ببعض المصطلحات التي يكثر دورانها في المذهب, وبالأخص في كلام ابن قدامة وشراح كتبه, فمثلاً: عند الحنابلة: الرويتان, والوجهان, والقولان, والرواية المخرجة، والشيخ مثلاً، ونحو ذلك من المصطلحات المعروفة لديهم.

وكذلك عند الشافعية: أصحاب الوجوه، والقولان، والجديد والقديم, وكذلك عند الحنفية: وجه الرواية، والزيادات، والنوادر, وكذلك عند المالكية كثير جداً من المصطلحات من هذا النوع, والمصطلحات التي ما كان منها متعلقاً بالكتب ألف فيه بعض الكتب المختصة مثل: رفع نقاب الحاجب عن مصطلحات ابن الحاجب, مصطلحات فقط في مختصر ابن الحاجب في جامع الأمهات, فألف فيه ابن فرحون كتابه: رفع النقاب الحاجب عن مصطلحات ابن الحاجب, وكذلك فإن خليلاً رحمه الله في مقدمة المختصر ذكر مصطلحاته في الكتاب غالباً وأهمل بعضها، فإنه يقول فيه: يقول العبد الفقير المضطر لرحمة ربه، المنكسر خاطره لقله العمل والتقوى خليل بن إسحاق بن موسى المالكي رحمه الله تعالى: الحمد لله حمداً يوافي ما تزايد من النعم، والشكر له على ما أولانا من الفضل والكرم, لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه, ونسأله اللطف والإعانة في جميع الأحوال, وحال حلول الإنسان في رمسه, والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد العرب والعجم، والمبعوث لسائر الأمم, وعلى آله وأصحابه, وبعد:

فقد سألني جماعة أبان الله لي ولهم معالم التحقيق، وسلك بنا وبهم أنفع طريق، مختصراً على مذهب الإمام مالك بن أنس، مبيناً لما به الفتوى، فأجبت سؤالهم بعد الاستخارة مشيراً بـ (فيها) للمدونة، وبـ (أول) إلى اختلاف شارحيها في فهمها, وبـ (الاختيار) لـلخمي؛ لكن إن كان بصيغة الفعل فذلك لاختياره هو في نفسه, وبالاسم فذلك لاختياره من الخلاف, وبـ (الترجيح) لـابن يونس كذلك, وبـ (الظهور) لـابن رشد كذلك، وبـ (القول) لـلمازري كذلك, وحيث قلت: (خلاف) فذلك للاختلاف في التشهير، وحيث ذكرت قولين أو أقوالاً فذلك لعدم اطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة, وأعتبر من المفاهيم مفهوم الشرط فقط, وأشير بـ (صحح) أو (استحسن) إلى أن شيخاً غير الذين قدمتهم قد صحح هذا أو استظهره، وب وبـ (التردد) لتردد المتأخرين في النقل أو لعدم نص المتقدمين, وبـ (لو) إلى خلاف مذهبي، والله أسأل أن ينفع به من كتبه وقرأه وحصله وسعى بشيء منه, ثم أعتذر لذوي الألباب، من التقصير الواقع في هذا الكتاب، فقلما يخلص مصنف من الهفوات أو ينجو مؤلف من العثرات.

فهنا ذكر مصطلحه في الكتاب في الغالب, وأهمل بعض المصطلحات، مثل: إشارته بـ(إن) إلى خلاف خارج المذهب, ومثل: إشارته بطي الخلاف إلى أن القول غير المطوي هو الراجح عنده, وهكذا، فلديه بعض المصطلحات القليلة التي أهملها وهي موجودة في شراحه.

لدى بعض المؤلفين مصطلحات أخرى بمثابة اختصار لأسماء بعض الكتب أو المؤلفين, وهذه المصطلحات مشكلة؛ لأنها رموز بالحروف فقط، فمثلاً: ابن عبد الهادي الحنبلي في كتابه الفقهي يشير للمذاهب بالحروف, فـ (الهاء) لـأبي حنيفة, و(الميم) لـمالك و(الشين) لـلشافعي, ويشير كذلك لبعض علماء الحنابلة ببعض الحروف, وهذا النوع من المصطلح أخذ عن الغزالي في كتابه الوجيز, ثم تبعه عليه عدد من المؤلفين في الفقه, وأصبح كثير من الكتب تختصر بإشارات, وقد سلك ذلك أيضاً بعض شراح الحديث فمثلاً: الأبي في شرحه لصحيح مسلم -المسمى: إكمال الإكمال, وهو إكمال لإكمال المعلم للقاضي عياض، الذي هو إكمال لشرح المازري المعلم- يشير فيه بالحروف إشارات، فـ (الميم) لـلمازري، و(العين) لـعياض.

وكذلك فإن السنوسي الذي ألف تكملة إكمال الإكمال أيضاً يشير لكل شراح مسلم بحرف: فـ (النون) للنووي, و(الباء) للأُبي.. وهكذا, فكل شارح من الشراح يشير له بحرف من الحروف.

وهذا النوع من المصطلحات يصعب الإحاطة به، لكن في المذهب المالكي مثلاً يشتهر إشارات بالحروف لدى المتأخرين لبعض المؤلفين، مثلاً (عج) لـعلي الأجهوري و(من) لـمحمد البناني و(صر) لـناصر الدين اللقاني, و(مس) لـمصطفى المسناوي, وكذلك (ق) للمواق و(ح) لـلحطاب, وهكذا, فكثير من الحروف هي إشارات رموز لبعض المؤلفين أو المؤلفات, واشتهرت حتى أصبح بعض الناس ينظمها في نظمه كما هي, مثل قول الناظم:

وكل ما تشرع فيه البسمله فإنما كما لـ(بن) مكمله

كما لـ (بن) أي: البناني, ومثل قول محمد مولود في آداب الصلاة يقول:

وعج ومن تبعه قد اعتمد

فـ (عج) يقصد به: علياً الأجهوري, وكذلك قوله: (سر) و(صر), فـ(سر): الميسر, و(صر): ناصر الدين اللقاني, وكذلك (ضح) إشارة للتوضيح، فهي اختصار للتوضيح لـخليل بن إسحاق شرح جامع الأمهات لـابن الحاجب.. وهكذا.

فهذه مصطلحات يكثر دورانها في كتب المتأخرين, وهذه المصطلحات إذا لم يبينها المؤلف كثيراً ما تكون مشكلةً, فإن الإمام اليونيني لما حقق صحيح البخاري -وهو أول تحقيق عرف في الدنيا تحقيق اليونيني لصحيح البخاري - فإنه جمع ست عشرة نسخة لصحيح البخاري, وهي النسخ الصحيحة المعتمدة في الروايات, وكل نسخة سلمها إلى عالم من العلماء، وكان هو يقرأ عليهم فيجمع بين النسخ، ويكتب الرموز فوق الكلمات، فيكتب (لا) أي: أن هذا ليس في النسخة الفلانية، ثم يكتب بعدها رمز النسخة: (هاء) أو (كر) أو نحو ذلك, وهذه كلها إشارة للنسخ الصحيحة التي كانت لديه, وكانت لديه نسخة كريمة ونسخة الأصيلي وأبي ذر الهروي والكشميهني وابن عساكر ونسخ أخرى من النسخ المشهورة المروية, لكن مع الأسف بقي إلى الآن بعض رموز اليونينية غير معروفة, فقد طبعت عليها نسخة صحيح البخاري التي طبعتها الإسطنبولية النسخة العثمانية، وطبعت عنها طبعة دار الجيل لصحيح البخاري الآن في ثلاثة مجلدات وهي من أصح النسخ, وإلى الآن بعض الإشارات هذه غير معروفة, وقد اجتهد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في فهمها؛ لكنه لم يوفق لفهم بعضها، فإلى الآن ما فهمت الإشارة لبعض النسخ التي كانت مشهورةً إذ ذاك ولم تعرف, ولهذا فإن القسطلاني لما أراد شرح صحيح البخاري بحث عن اليونينية, وكانت وقفاً على مكتبة الأزهر، فوجد نصفها فعمل عليه ثم فقد النصف الآخر ما وجده، فإذا هو قد نهبه الأعراب -أعراب بني هلال- في إحدى غزواتهم للقاهرة، فحزن حزناً شديداً على ذلك النصف, وهذا داخل فيما كنا نتحدث فيه عن حزن العلماء على الكتب، حتى ذهب ذات مرة -بعد أن أكمل كتابه- في سفر إلى بعض قرى الصعيد، فوجد رجلاً يبيع بعض البقول يحملها على حمار له، ومعه بعض المبيعات الأخرى فيبيع للناس البقول، فلما رأى الشيخ عرف أنه من أهل العلم، فقال: أما أنت فلدي بضاعة أخرى لك، فقال: ما هي؟ فقال: كتاب، قال: ما هو؟ قال: لا أدري، فأخذ له الكتاب فإذا هو نصف اليونينية المفقود, فاشتراه منه بثمن زهيد, ورده وقفاً في مكانه, ثم إن الخلافة العثمانية أخذت اليونينية كلها من مصر, وذهبت بها إلى إسطنبول لطباعة صحيح البخاري عليها, وهذا مثل ما حصل لـأبي علي القالي مع جمهرة ابن دريد؛ فإنه لما ذهب إلى الأندلس في طريقه افتقر ونفدت دراهمه، فباع جمهرة ابن دريد, وهي كتاب شيخه الذي هو من أحسن كتب اللغة وأدقها، وقد سلم له معاصروه, حتى إن أعداء ابن دريد سلموا لكتاب الجمهرة، فلما ألفه كان بينه وبين نفطويه هجاء, و نفطويه يقول:

ابن دريد بقره وفيه عي وشره

ويدعي من حمقه وضع كتاب الجمهره

وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره

لكن مع هذا لا يستطيع الطعن في كتاب الجمهرة, وابن دريد يرد على نفطويه فيقول:

أفٍ على النحو وأشياعه إذ صار من أشياعه نفطويه

أحرقه الله بنصف اسمه وصير الباقي صراخاً عليه

فهو (نفط) (ويه) فـأبو علي القالي روى الكتاب عن مؤلفه, وكان يحبه حباً شديداً، فلما افتقر باع الكتاب مكرهاً، وكتب على الصفحة الأولى منه هذه الأبيات:

أنست بها عشرين عاماً وبعتها وقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لعجز وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شؤوني

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين

ثم بعد ذلك عندما استغنى وجد الكتاب فاشتراه.

السؤال: [ هل كان لمذهب الظاهرية أتباع؟ ]

الجواب: بالنسبة لأتباع المذهب الظاهري كانوا ذوي عدد في أماكن مختلفة, لكن يختلف انتشار المذهب بحسب قوة الشيخ أو العالم الذي يعتمدون عليه, ويكون ركيزتهم في البلد, فإذا كان لهم علَّامة مشهور في بلد من البلدان كثر الأتباع؛ أتباع المذهب, وإلا فهم ممكن أن يكونوا نصف أهل السنة من ناحية التصور العقلي؛ لأنهم الوحيدون من أهل السنة الذين لا يثبتون القياس, فلذلك يمكن إذا رجعت إلى التقسيم العقلي تجد أهل السنة مثبتة القياس ونفاة قياس, ففي الواقع في مجال القياس ما لأهل السنة إلا مذهبان: مذهب المثبتة, ومذهب النفاة, وقد كانوا ذوي عدد في أماكن مختلفة من العالم في المشرق وفي المغرب.

السؤال: [ يا شيخ أحسن الله إليك! أحياناً نجد دقة في بعض مؤلفات أصحاب البدعة, فما توجيهكم؟ ]

الجواب: بالنسبة لدقة بعض المذاهب التي أصحابها أصحاب بدعة أو إحسانهم للتأليف في مجالاتهم لا يقتضي ذلك الفتنة بما لديهم، فالمذاهب كما ذكرنا من قبل هي مجرد طرق للتعامل مع النصوص، ولهذا ففيها الحق والباطل, وفيها الصواب والخطأ, فلا يمكن أن يتبع أي مجتهد حتى ولو كان أبا بكر الصديق في خطأ, ولا يمنعنك من اتباع الحق أيضاً نسبته إلى أي مجتهد من المجتهدين، فالحق أحق أن يتبع مطلقاً، وعلى هذا فالباحث غير المقلد إذا وجد الحق؛ فوجد قوة الدليل، وقوة الطرح, وتكييف المسألة بوجه واضح لدى الظاهرية أو لدى الزيدية فلا مانع من أن يرجح ذلك المذهب، لكن ليس معناه: أن يرجحه بسبب انتسابه لأهل البدعة كالمذهب الزيدي مثلاً أو غير ذلك.

ولا يمكن أن يقال: إن تآليفهم مثلاً أحكم وأتقن من تآليف أهل السنة, لا, بل تآليف أهل السنة -كما لا يخفى مما ذكرنا- هي أضعاف مضاعفة لكل ما ألفوه، حتى لو أخذت كل كتاب للزيدية مثلاً وقارنته بمائة كتاب من كتب أهل السنة فماذا سيعدل هو في مقابله! وكذلك كتب الظاهرية قارن أي كتاب من كتبهم مثلاً: اجعل في مقابله ألف كتاب من كتب المذاهب الأخرى.

السؤال: أقوال التابعين ومن دونهم من المقطوعات المنسوبة المنتشرة في كتب التفسير وفي غيرها من الكتب، عن طريقة الثقة بها, من أين لنا أن نعرف إسنادها؟

الجواب: الآثار قد سبق أن ذكرنا في الحديث العناية بها, وأن بعض المؤلفين اعتنوا فقط بالآثار غير المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء أبو يوسف صاحب أبي حنيفة فله كتاب الآثار, وكذلك محمد بن الحسن الشيباني له كتاب الآثار, وكذلك الطحاوي له شرح معاني الآثار, وكذلك الإمام البيهقي في سننه أورد كثيراً من هذه الآثار, وكذلك عبد الرزاق في مصنفه, وابن أبي شيبة في مصنفه, فهم يوردون كل هذه الآثار بأسانيدهم، وهذه الأسانيد ينظر فيها مثلما ينظر في أسانيد الأحاديث المرفوعة تماماً, فما صح إلى صاحبه صح الإسناد إلى صاحبه، ثم بعد ذلك تبقى المناقشة في اجتهاد صاحبه، بينما ما صح إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تبقى مناقشة فيه.

ولا شك أن دواوين السنة الأخرى غير خالية من الآثار، فصحيح البخاري فيه عدد كبير من الآثار, وصحيح مسلم كذلك فيه عدد دون ذلك, وكتب السنن فيها كثير من الآثار, والموطأ فيه كثير من الآثار, فالآثار دراستها سهلة مثل دراسة الأحاديث المرفوعة تماماً, لكن بعض الباحثين المعاصرين -بل كثير منهم- يعتني بتخريج الأحاديث والحكم عليها, أما الآثار فلا يحكم عليها في الغالب, وهذا خطأ منهجي اعتمدته بعض الجامعات الموجودة اليوم، ولكن لا أرى له وجهاً من ناحية الصواب لا فرق بينه وبين الأحاديث.

والكثير من الآثار إذا لم يجدها الإنسان في الكتب التي ذكرنا يمكن أن يرجع إليها في كتب التراجم، وفي الكتب التي تعتني بإيراد مرويات الرواة، مثل: الكامل لـابن عدي , فإنه يعتني بإيراد مرويات كل راوي, وكذلك حتى في الإصابة للحافظ ابن حجر, فهو يعتني في بعض الأحيان بالرواية عن كل راوي، وكذلك حتى الذهبي قبله يعتني ببعض الآثار المروية عن بعض المترجمين.

كذلك ابن سعد في كتاب الطبقات يورد كثيراً من الآثار عن كثير من الصحابة والتابعين الذين ترجم لهم, وبعض كتب التفسير أيضاً تأتي بالأسانيد في الآثار، مثل: كتاب الطبري، ومثل كتاب النسائي، ومثل كتاب عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، فهم يوردون الآثار بأسانيدهم إلى أصحابها، وحينئذٍ لا مشكلة, أما إذا لم يجد الإنسان إسناداً للأثر بالكلية فيبحث عنه في الكتب الأخرى النادرة الوجود، مثل: العلل للدارقطني، ومثل العلل لـابن أبي حاتم الرازي, ومثل المراسيل لـابن أبي حاتم, ومثل المراسيل لـأبي داود, فهذه المراسيل في كثير من الأحيان يقصدون بها آثاراً، فليست بالمراسيل التي يراد بها في مصطلح الحديث, وإنما يقصدون بها الآثار.

السؤال: فرق الخوارج الأخرى غير الإباضية هل بقي لها شيء من الكتب؟

الجواب: آخر فرق الخوارج غير الإباضية هي الصفرية, وقد اندثرت في القرن الخامس الهجري، ولم يبقَ لها أثر, أما ما قبل ذلك ففرق الخوارج الأخرى مثل: الأزارقة، والطريفية أصحاب الوليد بن طريف، ومثل عدد من الفرق الأخرى فقد اندثرت ولم يبقَ لها شيء يؤثر, أما تأثير الاعتقاد في المؤلفات والمناهج فهو واضح جداً وكبير؛ لذلك فإن الشافعي رحمة الله قال في الأم: (لا أرد شهادة شاهد من أهل القبلة، ولا روايته). ويقصد بالشهادات والرواية في الأخبار وليست في الحديث, مثل: أن يقول: رأى الهلال أو نحو ذلك، (إلا الخطابية فإنهم يستبيحون الكذب للشهادة لمن وافقهم في رحلته). فالخطابية وحدهم يرد شهادتهم مطلقاً, ولا شك أن الجعفرية أصحاب المذهب الإمامي يشتهر فيهم كثير من الكذب والوضع, ولكن ذلك الوضع يكون من قبل الرءوس الكبار، أما من دونهم فيقدسون تلك الكتب تقديساً كبيراً ولا يستطيعون الجراءة على تغيير أي شيء فيها.

أما الخوارج فهم يرون أن الكذب كفر، فلذلك يعتنون في الدقة في النقل, ومع هذا لا تخلو كتبهم أيضاً من بعض الضعيف والموضوعات، وهم يعتمدون في كثير من الأحيان على أمور واهية جداً، مثل أهل السنة أيضاً يوجد عندهم الاستدلال بأحاديث واهية جداً.

السؤال: مذهب الإباضية والزيدية يقال: إنهما أقرب المذاهب المبتدعة لأهل السنة, فهل هذا صحيح؟

الجواب: نعم, هذا صحيح من الناحية الفقهية لا من الناحية العقدية, ومن الناحية العقدية صحيح إلى حد ما في بعض الجوانب, فمثلاً: الزيدية لا شك أنهم أقرب إلى الشيعة مطلقاً من أهل السنة، فهم يرون أن الصحابة لم يكفروا, فهم لا يكفرون أحداً منهم, وينزهون عائشة رضي الله عنها مما رماها به المنافقون, ويرون صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان؛ لكن يقولون: إن علياً أفضل منهم, وتجوز عندهم إمامة المفضول مع وجود الفاضل.

وبالنسبة للإباضية فهم يقتربون من المذهب الحنفي كثيراً في تطبيقاتهم وتقعيدهم، فكثير من المسائل يوافقون بعض الأقوال لدى الحنفية.

أما الزيدية فكثير من فقهم أيضاً قريب من فقه الحنابلة, وبالأخص فقه أئمتهم المتأخرين في اليمن؛ لأنهم يرجعون إلى الحديث مباشرة، وكلما وجدوا حديثاً أخذوا به، فيكون مذهبهم قريباً من مذهب الحنابلة في التطبيقات.

السؤال: الإمام الشوكاني هل هو مجتهد مطلق أو مجتهد تابع؟

الجواب: الإمام الشوكاني تأخر زمانه منعه من رتبة الاجتهاد المطلق؛ لأنه لم يبقَ شيء جديد يمكن أن يقوله في مجال أصول الفقه, فكل ما يفعله هو تلفيق بين أقوال من سبقوه, ونظير هذا لدى ما ذكرناه من قبل عن شيخ الإسلام ابن تيمية مع البون الشاهق بينهما في الزمان وفي المكانة العلمية وفي غير ذلك, فنحن إذا قلنا: إن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يصل إلى مرتبة الاجتهاد المطلق، فكيف بـالشوكاني! فالقضية أن الاحتمالات الأصولية التي تحتملها العقول قد انتهت، فمجرد التلفيق بينها يمكن أن يكون صاحبه مجتهداً مطلقاً؛ لأنه لابد أن يترجح لديه شيء من كلام من سبقه؛ تارةً بالنظر إلى دليله، وتارةً لكثرة القائلين به, وتارة يرجع عن ترجيحه إلى ترجيح الكفة الأخرى.. وهكذا, ولهذا فـالشوكاني رحمه الله أكثر كتبه هي تلخيصات لكتب السابقين، فكتابه في الأصول إرشاد الفحول -كما سنذكر إن شاء الله في كتب الأصول- هو تلخيص لكتاب البحر المحيط للزركشي, وكتابه في التفسير هو تلخيص لكتاب القرطبي وكتاب السيوطي الدر المنثور جمعهما فيه, وهكذا في كتبه الأخرى يحاول التلخيص دائماً والجمع, ولهذا فهو في الأصول تارةً يرجح قولاً ثم ينسى أنه رجحه, وفي المسألة اللاحقة يرجح ما يبنى على القول الآخر في المرجوح عنده في المسألة السابقة, وهذا حصل له في عدد من المواضع في إرشاد الفحول.

السؤال: القول بأن الاجتهاد المطلق ختم بأئمة المذاهب الأربعة, هل هو صحيح أو غير صحيح؟

الجواب: لا, هذا غير صحيح؛ لأنه جاء بعدهم داود الظاهري، وجاء بعدهم محمد بن جرير الطبري، ولا شك أنهما أتيا بأقوال جديدة، لكن المشكلة هنا أن بعض الذين ابتكروا أقوالاً في الأصول هم من أتباع المذاهب الذين ما وصلوا في الفقه إلى مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا في الحديث ولا في التفسير، لكنهم ابتكروا في الأصول, وهؤلاء من أمثال أبي بكر الباقلاني في المذهب المالكي، فلا شك أنه مبتكر في الأصول وأتى بأشياء جديدة ليست لدى المالكية من قبل, ومثله ابن القصار وابن خويز منداد أتوا بأشياء جديدة غير موجودة لدى المالكية من قبل, وكذلك القرافي من المتأخرين, والشاطبي بعده, فهؤلاء أتوا بأشياء جديدة غير موجودة لدى المالكية من القدماء, لكن لم تكن أهليتهم في العلوم الأخرى تمكنهم من الاجتهاد المطلق، فبقوا داخل المذهب, وكذلك في المذاهب الأخرى، فمثلاً: القاضي حسين وأبو المعالي الجويني والغزالي والفخر الرازي والآمدي في المذهب الشافعي لا شك أنهم أتوا بأشياء جديدة وكثيرة في الأصول، لكن لم تكن مؤهلاتهم في الأمور الأخرى ترتفع بهم إلى الخروج عن مذهب الشافعي.. وهكذا.

فالقضية هنا قضية التخصصات, فالاكتمال صعب, والذين حصل لهم الاكتمال إلى المرتبة التي توصل أصحابها إلى الاجتهاد المطلق كانوا في عصور متأخرة ما كانت الاحتمالات فيها باقية, ولهذا لا شك أن عصر ابن تيمية كان في ذلك الوقت نهضة علمية كبيرة جداً، وبالأخص في الشام ومصر, وظهر فيها فطالحة كبار جداً في علوم مختلفة, وكان هو قد تتلمذ على عدد منهم فجمع كثيراً مما لديهم، ففي ذلك الوقت مثلاً في الحديث الحافظ المزي, وهو لا شك أنه جمع فأوعى، وتلامذته كذلك, وكذلك الهيثمي لا شك أنه من أجمع الناس في الحديث وأبلغهم اطلاعاً عليه, وكذلك في الرجال الحافظ الذهبي, فهو آية الدنيا في الرجال, ما له مثيل في الإسلام في علم الرجال, وبعد هؤلاء تلامذتهم، فمثلاً: الحافظ زين الدين العراقي في الحديث، وقال هو: لقيت عدداً من الحفاظ وتركت بعدي حافظين فقط, يقول في آخر عمره: لم يبقَ في الدنيا إلا حافظان: ولدي أبو زرعة ابنه وهو ولي الدين، وأحمد بن علي بن حجر العسقلاني الحافظ, قال: لم يبقَ في الدنيا غير هذين الحافظين, ثم جاء بعد ابن حجر عدد من الحفاظ الذين كانت منزلتهم كبيرة، مثل: الديمي ومثل السخاوي، ومثل ابن فهد المكي، ومثل المحب الطبري، ومثل السيوطي, فهؤلاء الأعلام حفظوا كل شيء، فالسيوطي كان حفظه للمتون عجيباً جداً، والديمي كان حفظه كذلك في الحديث عجيب, والسخاوي في الرجال والعلل.

السؤال: انتشار المذهب الحنفي رغم أنه يعتمد على الرأي، هل هو مجرد قيام الحكومات عليه ودعمها له أو له قوة ذاتية في نفس المذهب تقتضي ذلك؟

الجواب: الاعتماد على الرأي أولاً هو ما قلنا من قبل: أنه مجرد اصطلاح، وإلا فلا يمكن أن يكون هذا المذهب الكبير الموافق لكثير من الأحاديث التي أدلته هي آلاف الأحاديث الآن مبنياً على الرأي فقط, ولذلك قال أحد المناظرين من الحنفية وهو الإمام العيني عندما ناظره أحد علماء مصر فقال له: إن أبا حنيفة لم يروِ إلا ثلاثة عشر حديثاً، فقال: هذه مزية لـأبي حنيفة ما مثلها مزية, إذا كان أنتج كل هذه المسائل الفقهية الموافقة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، فمعناه: أنه موافق للحديث, فعمر بن الخطاب وافق الوحي في مسائل قليلة فكانت مزيةً عظيمةً له فكيف بـأبي حنيفة الذي وافقه بآلاف المسائل, فآلاف المسائل عند الحنفية موافقة للأحاديث الصحيحة، فإذا كان هو لا يعرف الأحاديث، وإنما أداه عقله إلى موافقة الوحي فهذه مزية عظيمة جداً, وإذا كان يعرفها فكيف تقول هذا الكلام, فإذاً القضية ليست على إطلاقها, والحنفية مذهبهم مثل غيرهم من المذاهب, وأدلتهم لا تخلو عن أن تكون مثل أدلة غيرهم, وإذا رجعت إلى الأحاديث التي عليها مدار الإسلام مثلاً: أحد عشر ألف حديث في الأحكام, وهذه تتوزعها المذاهب، وليس نصيب مذهب أكثر من نصيب مذهب, ولهذا فكل مذهب اعتنى أصحابه بجمع أدلتهم, وقد ذكرنا أن من أحسن كتب التخريج نصب الراية للحنفية للزيلعي، فهو من أحسن كتب تخريج الأدلة, مع أن المالكية الذين اشتهروا بحفظ الحديث وعلم الدراية به، وتعبوا تعباً شديداً في جمع أدلتهم, لكن كتبهم لا تصل إلى مستوى كتاب الزيلعي، فمثلاً: كتب الحافظ عبد الحق الإشبيلي الأحكام الكبرى والأحكام الوسطى والأحكام الصغرى، مع تعبه هو وهو حافظ عملاق كان يحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها يمليها على الناس إملاءً، ومع هذا كتبه الآن ما لها من الذكر في الإسلام ما لكتاب الزيلعي، مع أن كتبه طار بها الناس في الشرق والغرب, واعتمدت عليها المذاهب كلها, وألف أبو الحسن بن القطان الفاسي كتاب: بيان الوهم والإيهام، وتتبع به أخطاء عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى, وهذا الكتاب أيضاً من كتب العلل البارزة القوية، التي يعتمد عليه الحافظ ابن حجر مثلاً ومن دونه, فعلى هذا القضية نسبية دائماً.

بالنسبة للقضية التي تقال: إنهم يردون الحديث بالرأي، هذه القضية أيضاً ليست على إطلاقها، ليست كما يقال, بل لابد أن ينظر الإنسان بتثبت, وأن يعرف ما المقصود حينئذٍ, فالحنفية عندهم قواعد عليها كثير من الأدلة المتواترة، وهذا القواعد جعلوها أصولاً, فحاولوا رد الشريعة كلها إليها, إذاً: هذه القواعد بثلاث مكاييل, فإذا وجدوا فرعاً شاذاً مستثنىً يسمونه استحساناً؛ استثناء من القواعد, ولذلك إذا وجدوا عدداً كبيراً من المتواترات في وجه ووجدوا حديثاً يخالفه وليس عليه العمل فإنهم يتركون العمل بالحديث، وهذا ليس مختصاً بهم؛ بل هذا عند المالكية وعند الحنابلة وعند الشافعية, كثير من نظائره, أما ما ذكر في حديث القلتين فالحديث أصلاً أنا أقتنع بأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعدة أمور:

الأول: الحديث مداره على محمد بن إسحاق والوليد بن أبي كثير, ومحمد بن إسحاق كلام مالك فيه معروف وكلام غيره أيضاً, والوليد بن أبي كثير إباضي خارجي, وكلاهما اختلف عليه فيه؛ فتارة يرويانه عن محمد بن عباد بن جعفر الزبيري وتارة عن محمد بن جعفر بن الزبير, ثم كل واحد من هذين اختلف عليه فيه؛ فتارة يرويانه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر المكبر، وتارةً عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر.

الثاني: أنه مضطرب في المتن, ففي رواية: ( إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً )، وهذا في سنن الترمذي، وفي رواية أخرى: ( إذا بلغ الماء مائة قلة ), وهذا في سنن الدارقطني, وأيضاً فإن القلال غير مقدرة، وبالأخص أنها لم يرد في تقديرها إلا ما ذكره البيهقي أنها من قلال هجر, وهذا الواقع مداره على المغيرة بن صقلان والمغيرة بن صقلان ضعيف لدى كل أهل الحديث، فإذاً لا اعتبار لهذا التقدير.

الثالث: أن الحديث في لفظه أيضاً إشكال, فالحديث عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ), فقوله: (لم يحمل الخبث) ما معنى هذه الكلمة؟ إذاً: الإشكال موجود على كل حال، فلهذا ترك الحنفية له ليس فقط من باب ترك الحديث بالرأي، بل من الناحية الحديثية؛ فمن ناحية الصحة فالحديث لم يصح, هذا أولاً.

ثانياً: من ناحية التقدير ليس هناك شيء يقدر القلتين, وحتى لو قلنا: إن رواية المغيرة بن صقلان لو وجدت لها متابعة وشاهد وصححناها فرضاً -وهذا ما لا يمكن- فالقلال أيضاً متفاوتة الأحجام, ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبه بها نبق سدرة المنتهى, قال: ( فإذا ورقها كآذان الفيلة, وإذا ثمرها كقلال هجر ), ونبق السدرة دائماً متفاوت الحجم، فكذلك قلال هجر.

السؤال: كيف نصل إلى الراجح من المذهب الحنبلي عند تعدد الروايات؟

الجواب: هذا هو الذي اشتغل به عدد من الأئمة، ومن أهم ذلك كتاب المرداوي الإنصاف، فهو يحاول أن يجمع الروايات ثم يبين لك ما هو المذهب منه, ولدى المتأخرين كذلك الزيادة عليه والمتابعات، لكن كتاب المرداوي من أهم الكتب في هذا الباب.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمات في العلوم الشرعية [18] 3787 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [39] 3561 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [42] 3511 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [30] 3436 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [16] 3388 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [4] 3368 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [22] 3322 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [13] 3259 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [6] 3250 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [35] 3141 استماع