حكم الصيام وغاياته في ضوء القرآن والسنة
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
حِكَم الصيام وغاياته في ضوء القرآن والسنة مما لا مراء فيه أن العبادات التي شرعها الحق سبحانه وتعالى لها غايات وحكم تُحقِّق صالح العباد في العاجل والآجل، أدرك المؤمنون تلك الغايات والحكم أم لا، وقد حاول العلماء أن يستظهروا تلك المعاني والغايات من تشريع الصيام، ويمكن ردُّها إلى تصنيفات عديدة: أولًا: الحكم والغايات الإيمانية، ويتجلى أبرزُها في: ♦ إظهار العبودية لله: فشعار الصائمين إظهارُ خضوعهم وتذلُّلهم لربهم ومولاهم، الذي فرض عليهم هذا الصيام؛ فكأن الصائم يُجدِّد عبوديته الله، ويعلن ولاءه وخضوعه المطلق للواحد جل شأنه مُحقِّقًا قول الحق: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
♦ غرس مراقبة الله سبحانه وتعالى: وهي دوام علم العبد، وتيقُّنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه؛ فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه..
[1]، فيكون حارسًا لنفسه من نفسه؛ لئلا يصدر منه ما يخالف مقتضى الصوم، إذ يعلم أنه وإن نجا من مراقبة الخلق، فلن يغيب عنه الخالق الله، فهو ﴿ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق:16].
♦ الإخلاص: فيغرس الصيام الإخلاص؛ إذ الصوم أمر قلبي، لايعلم حقيقته إلا الله [2]، وهو سِرٌّ بين العبد وبين ربِّه سبحانه وتعالى، لا يخالطه رياء، ولا يطَّلع عليه أحد سوى الله، ففي الصوم تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، فالنفس إذا تعايشَتْ مع هذه الرؤية، صارت متحليةً بالإخلاص، ويشير إلى هذا المعنى الحديث القدسي: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ))[3].
♦ ومنها: أنه يعمق التقوى، ويُحقِّقها عند الصائمين؛ لأنه إذا انقادت نفس الصائم للامتناع عن الحلال؛ طمعًا في مرضاة الله تعالى، وخوفًا من أليم عقابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام؛ فكان الصوم سببًا لاتقاء محارم الله تعالى[4]، فالصوم يُنمِّي التقوى، التي هي امتثال الأوامر والنواهي، وهي الضمان لاستقامة الإنسان، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آخر آية الصوم: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
♦ ومنها: أنه يُوجِّه أنظار الصائمين إلى شكر الله، وتظهر تجليَّات الشكر في أمور منها: أ- شُكْر الله سبحانه وتعالى على نعمة الحياة والإسلام، وفضله علينا بإدراكنا فضائل ذلك الشهر، ومنح الحق سبحانه وتعالى لنا فيه من الغفران والعتق من النيران، وإليه الإشارة بأحاديث فضائل هذا الشهر، ومنها: قوله: ((إن في الجنة بابًا يُقَال له الريان، يدخل منه الصائمون، فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِق، فلم يدخل منه أحد))[5].
ب- شُكْر الخالق على نعم الشبع والري[6]، فالصوم وسيلة إلى شكر النعمة؛ إذ هو كفُّ النفس عن الأكل، والشرب، والجماع، وإنها من أهم النعم، والامتناع عنها زمانًا معتبرًا يعرف قدرها؛ إذ النعم مجهولة، فإذا فقدت عُرفت، فيحمله ذلك على قضاء حقِّها بالشكر، وإليه أشار بقوله تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114].
ت- شُكْر الله سبحانه وتعالى على الإعانة والتوفيق لإتمام الصيام في كل يوم من أيام الشهر، وكذا في نهاية الشهر؛ ولذلك يشعُر الصائم بسعادة، أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربِّه))[7].
ث- شُكْر الله سبحانه وتعالى على التيسير والتخفيف، ورفع للحرج عن المكلفين من المرضى والمسافرين، وغيرهم من ذوي الأعذار في هذا الشهر، وإلى ذلك الإشارة بقوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة:183].
ثانيًا: الحِكَم والغايات السلوكية، ويظهر ذلك في أمور منها:
♦ ضبط سلوك الفرد وتقويم اعوجاجه: فالصيام الحقيقي الذي يلتزم به الفرد المسلم يُعَدُّ خيرَ وسيلة لضبط سلوكه، وضبط أفعاله، وتقييد جوارحه عن المحظور، فيكتسب المسلم في هذا الشهر التأدُّب، والترقِّي عن طريق السلوك الحسن مع الآخرين، حتى وإن سابَّه أحدٌ، أو شاتمه، أو قاتله؛ فيكون سلوكه وتصرُّفه وردُّ فعله ردَّ الذي تهذَّب وتربَّى بالصيام، متَّسِقًا في منظومة واحدة، وتحت شعار واحد: ((إني صائم، إني صائم)) [8].
وإلى هذا المعنى أشار النبي بقوله: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)) [9]، وبقوله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ لم يدَعْ قولَ الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه))[10].
♦ الصوم فرصة للتغيير: إن الصيام تدريب يعد الصائم ويُغذِّيه بالطاقة الروحية التي تجعله قادرًا على إحداث التغيير في نفسه أولًا، وفي غيره ثانيًا، ثم في دائرة أوسع من دائرته، وهي دائرة أسرته، وبالتالي دائرة مجتمعه[11]، وإلى ذلك الإشارة بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد:11]، فالصوم فرصة للتخلُّص من سلطان العادات، والتخفُّف من أعبائها، وفرصة كذلك للعصاة والمذنبين؛ ليتوبوا إلى الله، ويعودوا إليه من قريب؛ فتتبدَّل حياتُهم إلى أفضل حال.
♦ كذلك الصيام فرصة لترشيد الاستهلاك والاقتصاد في أمور الطعام والشراب، وليس على عكس ما يقع في أغلب الأُسَر والمجتمات الإسلامية من تنافس في أمر الولائم، والتكالُب على أمر السلع والمواد الغذائية، وإلى هذا الضابط السلوكي قد أشار القرآن بقوله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، فالانشغال بغير العبادة يجعل الاستفادة الإيمانية من الشهر ومعانيه قليلةَ الجدوى.
♦ ومن المقاصد السلوكية: تعليم الأمة النظام في معيشتها؛ إذ في الصيام جميع المسلمين يفطرون في وقتٍ واحدٍ، لا يتقدَّم أحدٌ على أحدٍ آخر دقيقة واحدة، وقلما يتأخَّر أحدٌ عن الآخر دقيقة واحدة[12]؛ وبذلك يكون الصيام نقطة الانطلاق نحو تعظيم النظام، واحترام الأوقات.
ثالثًا: الحكم والغايات التربوية تتجلَّى في أمور أبرزها:
♦ تهذيب النفس وتزكيتها: ففي الصوم تخليص للإنسان من رقِّ الشهوة العاتية، وفطامها عن المألوفات، والعبودية للمادة, فالنفس إذا شبعت تمنَّت الشهوات، وإذا جاعت امتنعت عما تهوى[13]، وعلى ذلك فالصيام يُحقِّق التخلية والتحلية؛ فالتخلية من خلال التحرُّر، والبعد عن الشهوة طواعية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، والتحلية بالترقِّي، والسمو بالعبادة والطاعة؛ مما يترتب عليه تحلِّي النفس وتزكيتها.
♦ تربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها: إذ يكون الطعام والشراب أمام الإنسان ويترك كل ذلك لله، وكذلك إشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان، وخير الناس الذين يعيشون معهم, والإنسان إذا تحرَّر من سلطان المادة تحصَّن من الأخطار التي ينجم أكثرها من الانطلاق والاستسلام للغرائز والأهواء[14]، ولهذا المعنى أشار النبي بقوله: ((يا معشر الشباب، من استطاعَ منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) [15].
♦ تربية النفس وتعويدها على الصبر والتحمُّل، فللصوم علاقةٌ وثيقةٌ بالصبر، فيُسمَّى الصوم صبرًا؛ لما فيه من كفِّ النفس البشرية، وحبسها عن كلِّ مُفطِر من طعام أو شراب أو شهوة[16]، وإلى هذا المعنى جاء حديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((الصَّوم نِصْفُ الصَّبْر))[17]، وبعد ذلك ينطلق الإنسان نحو تعميم قيمة الصبر الذي تربَّى عليها في شهر رمضان من خلال صيامه على جميع أنواع حياته الأخرى، فيصبر على تحمُّل مشاق السعي وراء الرزق، ويصبر على آلام المرض، ويصبر على متاعب الحياة ومصائبها.....
[18].
رابعًا: الحكم والغايات الإنسانية: يتجلَّى أبرزها في:
♦ إظهار المساواة بين المسلمين جميعًا: ففي شهر رمضان يعيش المسلمون حياة المساواة المثلى الواقعية من خلال صومهم، هذه القيمة التي يُربِّي عليها الإسلامُ أتْباعَه، ويُثَبِّتها في نفوسهم من خلال أقوالهم، وأفعالهم ونشاطاتهم من عبادة وحركة حياة، فيبدأون الصيام في وقت واحد، وينتهون في وقت واحد، لا فرق بين أبيض وأسود أو أعجمي أو عربي، فالكُلُّ في القُرْب من الله أو البُعْد عنه بحسب تقواه وعمله الصالح [19]؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
♦ كونه موجبًا للرحمة والعطف على المساكين، فإن الإنسان إذا ذاقَ ألم الجوع والعطش في بعض الأوقات تذكَّرَ حال المسكين في عمومها؛ فيُسارع إلى رحمته ومواساته بما يمكن من ذلك، وبه ينال حسن الجزاء من الله تعالى...
[20]، ولعل الشارع قد فتح الأبواب لتطبيق ذلك من خلال:
1- الحث على تفطير الصائمين؛ فعن زيد بن خالد الجهني قال قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن فطَّر صائمًا، كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) [21].
2- حرص النبي على الجود والكرم في ذلك الشهر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل» [22] قال النووي: "وفي هذا الحديث فوائد، منها: بيان عِظَم جوده صلى الله عليه وسلم، ومنها استحباب إكثار الجود في رمضان، ومنها زيادة الجود والخير عند مُلاقاة الصالحين، وعقب فراقهم؛ للتأثُّر بلقائهم..." [23].
خامسًا: الحكم والغايات الطبية للصيام:
الحكم والمعاني الطبية للصيام حكم تبعية، تخدم معاني الصيام الأصلية، وتدل على عظمة الشارع في كل أحكامه وتشريعاته، فلا ينهى إلا عمَّا فيه مفسدة بالعباد، ولا يأمر إلا بما فيه النفع والخير لهم.
ومن أهم الفوائد الصحية للصيام أن فيه: راحة الجسم، وإصلاح أعطابه، وامتصاص المواد المتبقية في الأمعاء التي يؤدي طُولُ مكثِها إلى تحوِّلـها لنفايات سامَّة، وتحسين وظيفة الـهضم، وإعادة الشباب والحيوية إلى الخلايا والأنسجة المختلفة في البدن، وتقوية الإدراك، وتوقُّد الذهن، وتجميل وتنظيف الجلد [24].
وفي الجملة فالصيام "هو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين،....
فيه ترك محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته" [25].
[1] ينظر: مدارج السالكين؛ ابن القيم الجوزية، (ت: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي - بيروت، الثالثة، 1416 هـ)، 2 / 65.
[2] ينظر: تفسير القرطبي؛ أبو عبدالله القرطبي 2/ 274، (ت: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الثانية، 1384هـ).
[3] البخاري، كتاب الصوم، باب: هل يقول: إني صائم إذا شتم، رقم:1904.
[4] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع؛ علاء الدين الكاساني 2/ 76، (دار الكتب العلمية، الثانية، 1406هـ).
[5] البخاري، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، رقم: 1896.
[6] مقاصد الصوم؛ العز بن عبدالسلام، (دار الفكر، الأولى، 1993)، ص:17.
[7] مسلم، كتاب الصيام ، باب فضل الصوم، رقم: 1151.
[8] التربية الإسلامية بالصوم؛ د.
محمد القزاز، ص:56 (الطبعة الثانية، 1431ه).
[9] البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به ..، رقم: 1903.
[10] البخاري، كتاب الصوم، باب قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، رقم: 6057.
[11] التربية الإسلامية بالصوم؛ د.
محمد القزاز، ص:118.
[12] انظر: تفسير المنار؛ محمد رشيد رضا 2/ 119، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م).
[13] بدائع الصنائع 2/ 76.[14] ينظر: أحكام الصيام؛ للشيخ الصابوني، ص 49, أحسن الكلام؛ للشيخ عطية صقر 4/ 596.[15] البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج))، رقم 5065.[16] انظر: موسوعة الأخلاق الإسلامية 1/ 191.[17] أخرجه الترمذي في سننه 5/ 420، وقال: هذا حديث حسن.[18] انظر: محمد عثمان نجاتي؛ القرآن وعلم النفس، ص:273، نقلًا عن التربية الإسلامية بالصوم؛ د/ محمد القزاز، ص:124.[19] أخرجه الترمذي في سننه 5/ 420، وقال: هذا حديث حسن.[20] انظر: الدين الخالص؛ محمود خطاب السُّبْكي 8/ 354، (ت: أمين محمود خطاب، المكتبة المحمودية السبكية، الرابعة، 1397 هـ).[21] أخرجه الترمذي في سننه 2/ 163، رقم 807 ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.[22] مسلم في الفضائل، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس ...
رقم 2308.[23] شرح صحيح مسلم؛ للنووي (15/ 69).[24] ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته 3/ 1620.[25] زاد المعاد في هدي خير العباد 2/ 27.