مقدمات في العلوم الشرعية [24]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإن علم الفقه من أشرف العلوم الشرعية وأجلها، فهو الذي ينظم علاقات العباد بربهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، ويبين لهم أحكام ما يحتاجون إليه، ونبدأ أولاً -كما هي عادتنا- بتعريف الفقه.

وتعريف الفقه ينقسم إلى قسمين:

الأول: تعريفه بالمعنى الإضافي.

الثاني: تعريفه بالمعنى اللقبي.

فتعريفه بالمعنى الإضافي مركب من: (علم), و(فقه). والعلم: مصدر علم الشيء إذا أحاط به وأدركه.

معنى الفقه لغة واصطلاحاً

والفقه في اللغة: الفهم، ومنه قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91] أي: لا نفهمه.

والفقه في الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.

معنى الحكم وأقسامه

فقولنا: (العلم بالأحكام) الأحكام هي: جمع حكم، والحكم: هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عن الحكم.

والأحكام ثلاثة أقسام؛ لأن الذي يثبت أمراً لأمر أو ينفيه عنه إما عقل, وإما شرع, وإما عادة.

فالحكم الشرعي هو: ما جاء في خطاب الله عز وجل موجهاً إلى عباده بقصد العمل.

والحكم العقلي هو: ما يقبل الصدق والكذب بغير توقف على شرع ولا على عبادة.

والحكم العادي هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر مع صحة التخلف، كالعلوم الطبائعية كلها فإنما تؤخذ الأحكام منها من العادة والتكرار مع قبول التخلف.

معنى الشرع لغة واصطلاحاً

وقولنا: (الشرعية) الشرع في اللغة: الإظهار، وشرع الشيء: إذا بينه وأظهره، ومنه: شراع السفينة الذي يظهر فوقها لشهرته. ويطلق كذلك على الورود فيقال: شرع في المشرع أي: دخله ليشرب منه. ويقال: هذا شارع أي: داخل في الماء ليشرب منه، ومنه المشرع والشريعة في الماء الذي يرده الناس والدواب وغيرها، فهذا يسمى المشرع, ويسمى الشريعة.

والشرع في الاصطلاح: ما بينه الله لعباده من أحكام دينه. وإنما سمي شرعاً للبيان أي: لأن الله أظهره وبينه، ولأنه أيضاً مرجعهم الذي ينهلون منه، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالمثل الذي ضربه في قوله: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً، كذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به )، أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

أقسام الأحكام الشرعية

والأحكام الشرعية التي بينها الله لعباده تنقسم إلى قسمين: علمية, وعملية، فالعلمية هي التي لا يتعلق بها عمل، وإنما يعلمها العباد بما بين الله لهم مما يبنون عليه تصوراتهم ومعارفهم، وهذه منها العقائد, فهي لا يتعلق بها عمل بذاتها وإن كانت تقتضيه، فالأعمال كلها تقتضيها العقيدة؛ لكن العقيدة في ذاتها ليست بعمل، فهي من أعمال القلب التي تعلم, ولا تتعلق بالجوارح، وضدها وخلافها: ما يتعلق بالأعمال الفعلية أي: الجانب العملي من الدين، وهذا الذي يقصد بالفقه.

وقولنا: (العملية) بعضهم يقول: الفرعية؛ ليخرج الأصلية؛ وهي الأحكام العقدية، ولكن هذا يرجع إلى اصطلاح المعتزلة, فهم الذين يجعلون من الدين أصولاً وفروعاً، وقد درج مصطلحهم هذا وغزا أهل السنة, فاشتهر في كتب المتأخرين، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان من الذين لا يرون هذا التفريق؛ فيرى أن هذا التفريق في الأصل مأخوذ عن المعتزلة, وقد رتب الناس عليه أموراً كثيراً، فأصبحت الاجتهادات في الأمور العقدية مذمومة مردودة على أصحابها؛ بسبب أن الناس جعلوها أصولاً، وأصبحت الأخطاء فيها أكبر من الأخطاء في غيرها، وبالأخص في الأمور الاجتهادية منها، وهذا غلط، فالجميع دين الله, وكله من عند الله، فمنها ما يقتضي علماً ومنها ما يقتضي عملاً، ولذلك قال رحمه الله: فكل من اجتهد في طلب الحق فأصاب أو أخطأ فهو معذور، سواء كان ذلك في الأصول أو في الفروع؛ لأن كلاً من عند الله.

وأصل هذا التفريق: أن الأمور العقدية منها أصول لا يقبل من الإنسان العمل إلا بها، كأركان الإيمان الستة مثلاً، لكن يجاب عن هذا بأن الأمور العملية كالصلاة والزكاة وبقية أركان الإسلام كذلك لا يقبل من الإنسان إلا العمل بها، فمن لم ينطق بالشهادتين ومن لم يصلِّ ولم يزكِ ولم يصم ولم يحج لم يقبل منه كذلك، ومثل ذلك: الأعمال السلبية أي: المنفية، كتحريم الزنا والخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وغيرها من الموبقات، فهذه معلومة من الدين بالضرورة، ومن أنكر شيئاً منها فليس من المسلمين، فلا يمكن أن يعد الإنسان مسلماً إلا إذا عرف ضرورات الدين، سواء كانت علمية أو عملية، فالعلمية منها: كأركان الإيمان الستة، والعملية كأركان الإسلام الخمسة، وكالأمور المنفية أيضاً مما هي بمثابة الأركان، كتحريم قتل النفس وتحريم الزنا وتحريم شرب الخمر وتحريم لحم الخنزير، فهذه كبريات المنفيات في الدين، فلا يمكن أن يكون الإنسان من المسلمين وهو لا يعلم أن الدين يحرمها.

معنى اكتساب الفقه من الأدلة التفصيلية

وقولنا: (المكتسب من أدلتها التفصيلية)، فالعلم بالأحكام الشرعية العملية قسمان: قسم منه موحى غير مكتسب, كما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالمباشرة، فهذا لم يكتسبه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبوة لا تكتسب؛ بل هي اختيار رباني: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، فما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام لا يسمى فقهاً؛ لأن الفقه بمعنى: الفهم؛ لأنه استنتجه، وهذا لم يستنتجه؛ لأنه أوحي إليه، فلابد أن يكون الفقه مكتسباً، فالفقه لا يطلق إلا على الأمور المكتسبة، ولهذا فمواقع الإجماع التي فيها نصوص صريحة من الشرع لا يطلق عليها أنها مذهب لأحد، فلا يقال: مذهب فلان وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الحج, ولذلك هذه الأمور -إن كانت تعرف بالفقه- هي ليست من الفقه بمعنى الاصطلاح؛ لأنها أكبر من ذلك، بل هي من الدين والإسلام.

معنى التفصيل في الأدلة

وقولنا: (من أدلتها التفصيلية)، من المعلوم أن المشرع هو الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم الخبير، المطلع على سرائر الأمور ومصائرها، فهو الذي يستطيع أن يشرع لعباده، وعلى هذا فلا تشريع إلا من عنده، لكن التشريع من عنده ينقسم إلى قسمين: تشريع مبين، وتشريع مجمل، والتشريع المبين هو: ما جاءت التفصيلات فيه، والتشريع المجمل هو: ما بين فيه العلل الشرعية، فنقيس نحن على كل شبه ما يشبهه، وهذا كله من حكم الله، لكنه لم يأتِ تفصيلاً، ولم ينص عليه بالألقاب، وإنما جاء تشريعه بالإجمال.

معنى الأدلة لغة واصطلاحاً

وقولنا: (من أدلتها)، الأدلة: جميع دليل، والدليل يطلق على الحسي والمعنوي، فيطلق على الحسي والمقصود به: المرشد الذي يهدي الناس السبيل، ومنه قول الشاعر:

إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل

سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا بقالي قلا أو من وراء دبيل

فقوله: (واستعن بدليل) أي: بالذي يرشدك الطريق.

والدليل المعنوي الغير الحسي هو: ما يفهم منه الإشارة إلى الشيء، كقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً [الفرقان:45-46]، فتكون الشمس دليلاً على الظل أي: ملازمة له, ويعرف بها الظل، فلو غربت الشمس لم يكن الظل معروفاً كحالنا في الليل مثلاً.

والدليل في الاصطلاح: هو ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري؛ فقولنا: (ما يتوصل بصحيح النظر فيه) أي: بالنظر الصحيح؛ وهو: حركة النفس في المعقولات، وخلافه: التخيل؛ وهو حركة النفس في المحسوسات.

والنظر قسمان: نظر صحيح، ونظر فاسد، فالنظر الصحيح هو: النظر إلى الدليل من حيث يأتي بالمدلول، والنظر الفاسد: النظر إلى الدليل من حيث لا يأتي بالمدلول، ومن حيث لا يؤخذ منه المقصود، وهذا يشمل الحسيات والمعنويات، فمثلاً: الذي يريد أن يعمل شيئاً خشبياً أي: من خشب، فجاء يبحث في الخشب من ناحية القدم والحدوث، أو من ناحية كون هذه الخشبة ملكاً لفلان أو ليست ملكاً له، فهل هذا يوصل إلى المقصود؟ لا، فهذا النظر في غير موضعه، فالنظر الذي يقتضي العمل هو النظر فيها من حيث الاستقامة والعوج، والطول والقصر، والقساوة واللين، فهذا الذي يمكنه من أن يعمل به، أما النظر الآخر فهو في غير موقعه، فالدليل يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالمطلوب الخبري.

وقولنا: (إلى العلم) المقصود به: الإدراك مطلقاً, فيشمل اليقين والظن؛ لأن من الأدلة ما يقتضي يقيناً، وهذا الذي يسميه المناطقة بالدليل، ومنه ما يؤدي إلى ظن فقط، وهو ما يسميه المناطقة بالأمارة، أي: أنه أمارة فقط على الشيء لا دليلاً عليه.

إذاً: الفرق بين الدليل والأمارة: أن الأمارة علامة ترشد إلى الشيء؛ لكنها لا تقتضي جزماً، والدليل يقتضي جزماً بحصوله.

أقسام الأدلة الشرعية

والأدلة الشرعية تنقسم إلى قسمين: أدلة إجمالية، وأدلة تفصيلية، فالأدلة الإجمالية هي أجناس الأدلة كالكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، والأدلة التفصيلية كأجزائها، فكل آية من القرآن يؤخذ منها حكم فهي دليل تفصيلي على ذلك الحكم بخصوصه، والقرآن لا يمكن أن يقال: هو دليل تفصيلي؛ لأنه لا يمكن أن يؤخذ من جملة القرآن حكم واحد، ولا من جملة السنة، ولا من جملة الإجماع، ولا من جملة القياس، بل هذه أدلة إجمالية، لكن جزئياتها هي الأدلة التفصيلية.

فهذا هو حد تعريف العلم في حال إضافته.

والفقه في اللغة: الفهم، ومنه قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ [هود:91] أي: لا نفهمه.

والفقه في الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.

فقولنا: (العلم بالأحكام) الأحكام هي: جمع حكم، والحكم: هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عن الحكم.

والأحكام ثلاثة أقسام؛ لأن الذي يثبت أمراً لأمر أو ينفيه عنه إما عقل, وإما شرع, وإما عادة.

فالحكم الشرعي هو: ما جاء في خطاب الله عز وجل موجهاً إلى عباده بقصد العمل.

والحكم العقلي هو: ما يقبل الصدق والكذب بغير توقف على شرع ولا على عبادة.

والحكم العادي هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر مع صحة التخلف، كالعلوم الطبائعية كلها فإنما تؤخذ الأحكام منها من العادة والتكرار مع قبول التخلف.

وقولنا: (الشرعية) الشرع في اللغة: الإظهار، وشرع الشيء: إذا بينه وأظهره، ومنه: شراع السفينة الذي يظهر فوقها لشهرته. ويطلق كذلك على الورود فيقال: شرع في المشرع أي: دخله ليشرب منه. ويقال: هذا شارع أي: داخل في الماء ليشرب منه، ومنه المشرع والشريعة في الماء الذي يرده الناس والدواب وغيرها، فهذا يسمى المشرع, ويسمى الشريعة.

والشرع في الاصطلاح: ما بينه الله لعباده من أحكام دينه. وإنما سمي شرعاً للبيان أي: لأن الله أظهره وبينه، ولأنه أيضاً مرجعهم الذي ينهلون منه، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالمثل الذي ضربه في قوله: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً، كذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به )، أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

والأحكام الشرعية التي بينها الله لعباده تنقسم إلى قسمين: علمية, وعملية، فالعلمية هي التي لا يتعلق بها عمل، وإنما يعلمها العباد بما بين الله لهم مما يبنون عليه تصوراتهم ومعارفهم، وهذه منها العقائد, فهي لا يتعلق بها عمل بذاتها وإن كانت تقتضيه، فالأعمال كلها تقتضيها العقيدة؛ لكن العقيدة في ذاتها ليست بعمل، فهي من أعمال القلب التي تعلم, ولا تتعلق بالجوارح، وضدها وخلافها: ما يتعلق بالأعمال الفعلية أي: الجانب العملي من الدين، وهذا الذي يقصد بالفقه.

وقولنا: (العملية) بعضهم يقول: الفرعية؛ ليخرج الأصلية؛ وهي الأحكام العقدية، ولكن هذا يرجع إلى اصطلاح المعتزلة, فهم الذين يجعلون من الدين أصولاً وفروعاً، وقد درج مصطلحهم هذا وغزا أهل السنة, فاشتهر في كتب المتأخرين، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان من الذين لا يرون هذا التفريق؛ فيرى أن هذا التفريق في الأصل مأخوذ عن المعتزلة, وقد رتب الناس عليه أموراً كثيراً، فأصبحت الاجتهادات في الأمور العقدية مذمومة مردودة على أصحابها؛ بسبب أن الناس جعلوها أصولاً، وأصبحت الأخطاء فيها أكبر من الأخطاء في غيرها، وبالأخص في الأمور الاجتهادية منها، وهذا غلط، فالجميع دين الله, وكله من عند الله، فمنها ما يقتضي علماً ومنها ما يقتضي عملاً، ولذلك قال رحمه الله: فكل من اجتهد في طلب الحق فأصاب أو أخطأ فهو معذور، سواء كان ذلك في الأصول أو في الفروع؛ لأن كلاً من عند الله.

وأصل هذا التفريق: أن الأمور العقدية منها أصول لا يقبل من الإنسان العمل إلا بها، كأركان الإيمان الستة مثلاً، لكن يجاب عن هذا بأن الأمور العملية كالصلاة والزكاة وبقية أركان الإسلام كذلك لا يقبل من الإنسان إلا العمل بها، فمن لم ينطق بالشهادتين ومن لم يصلِّ ولم يزكِ ولم يصم ولم يحج لم يقبل منه كذلك، ومثل ذلك: الأعمال السلبية أي: المنفية، كتحريم الزنا والخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وغيرها من الموبقات، فهذه معلومة من الدين بالضرورة، ومن أنكر شيئاً منها فليس من المسلمين، فلا يمكن أن يعد الإنسان مسلماً إلا إذا عرف ضرورات الدين، سواء كانت علمية أو عملية، فالعلمية منها: كأركان الإيمان الستة، والعملية كأركان الإسلام الخمسة، وكالأمور المنفية أيضاً مما هي بمثابة الأركان، كتحريم قتل النفس وتحريم الزنا وتحريم شرب الخمر وتحريم لحم الخنزير، فهذه كبريات المنفيات في الدين، فلا يمكن أن يكون الإنسان من المسلمين وهو لا يعلم أن الدين يحرمها.

وقولنا: (المكتسب من أدلتها التفصيلية)، فالعلم بالأحكام الشرعية العملية قسمان: قسم منه موحى غير مكتسب, كما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالمباشرة، فهذا لم يكتسبه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبوة لا تكتسب؛ بل هي اختيار رباني: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، فما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام لا يسمى فقهاً؛ لأن الفقه بمعنى: الفهم؛ لأنه استنتجه، وهذا لم يستنتجه؛ لأنه أوحي إليه، فلابد أن يكون الفقه مكتسباً، فالفقه لا يطلق إلا على الأمور المكتسبة، ولهذا فمواقع الإجماع التي فيها نصوص صريحة من الشرع لا يطلق عليها أنها مذهب لأحد، فلا يقال: مذهب فلان وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الحج, ولذلك هذه الأمور -إن كانت تعرف بالفقه- هي ليست من الفقه بمعنى الاصطلاح؛ لأنها أكبر من ذلك، بل هي من الدين والإسلام.

وقولنا: (من أدلتها التفصيلية)، من المعلوم أن المشرع هو الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم الخبير، المطلع على سرائر الأمور ومصائرها، فهو الذي يستطيع أن يشرع لعباده، وعلى هذا فلا تشريع إلا من عنده، لكن التشريع من عنده ينقسم إلى قسمين: تشريع مبين، وتشريع مجمل، والتشريع المبين هو: ما جاءت التفصيلات فيه، والتشريع المجمل هو: ما بين فيه العلل الشرعية، فنقيس نحن على كل شبه ما يشبهه، وهذا كله من حكم الله، لكنه لم يأتِ تفصيلاً، ولم ينص عليه بالألقاب، وإنما جاء تشريعه بالإجمال.

وقولنا: (من أدلتها)، الأدلة: جميع دليل، والدليل يطلق على الحسي والمعنوي، فيطلق على الحسي والمقصود به: المرشد الذي يهدي الناس السبيل، ومنه قول الشاعر:

إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل

سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا بقالي قلا أو من وراء دبيل

فقوله: (واستعن بدليل) أي: بالذي يرشدك الطريق.

والدليل المعنوي الغير الحسي هو: ما يفهم منه الإشارة إلى الشيء، كقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً [الفرقان:45-46]، فتكون الشمس دليلاً على الظل أي: ملازمة له, ويعرف بها الظل، فلو غربت الشمس لم يكن الظل معروفاً كحالنا في الليل مثلاً.

والدليل في الاصطلاح: هو ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري؛ فقولنا: (ما يتوصل بصحيح النظر فيه) أي: بالنظر الصحيح؛ وهو: حركة النفس في المعقولات، وخلافه: التخيل؛ وهو حركة النفس في المحسوسات.

والنظر قسمان: نظر صحيح، ونظر فاسد، فالنظر الصحيح هو: النظر إلى الدليل من حيث يأتي بالمدلول، والنظر الفاسد: النظر إلى الدليل من حيث لا يأتي بالمدلول، ومن حيث لا يؤخذ منه المقصود، وهذا يشمل الحسيات والمعنويات، فمثلاً: الذي يريد أن يعمل شيئاً خشبياً أي: من خشب، فجاء يبحث في الخشب من ناحية القدم والحدوث، أو من ناحية كون هذه الخشبة ملكاً لفلان أو ليست ملكاً له، فهل هذا يوصل إلى المقصود؟ لا، فهذا النظر في غير موضعه، فالنظر الذي يقتضي العمل هو النظر فيها من حيث الاستقامة والعوج، والطول والقصر، والقساوة واللين، فهذا الذي يمكنه من أن يعمل به، أما النظر الآخر فهو في غير موقعه، فالدليل يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالمطلوب الخبري.

وقولنا: (إلى العلم) المقصود به: الإدراك مطلقاً, فيشمل اليقين والظن؛ لأن من الأدلة ما يقتضي يقيناً، وهذا الذي يسميه المناطقة بالدليل، ومنه ما يؤدي إلى ظن فقط، وهو ما يسميه المناطقة بالأمارة، أي: أنه أمارة فقط على الشيء لا دليلاً عليه.

إذاً: الفرق بين الدليل والأمارة: أن الأمارة علامة ترشد إلى الشيء؛ لكنها لا تقتضي جزماً، والدليل يقتضي جزماً بحصوله.

والأدلة الشرعية تنقسم إلى قسمين: أدلة إجمالية، وأدلة تفصيلية، فالأدلة الإجمالية هي أجناس الأدلة كالكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، والأدلة التفصيلية كأجزائها، فكل آية من القرآن يؤخذ منها حكم فهي دليل تفصيلي على ذلك الحكم بخصوصه، والقرآن لا يمكن أن يقال: هو دليل تفصيلي؛ لأنه لا يمكن أن يؤخذ من جملة القرآن حكم واحد، ولا من جملة السنة، ولا من جملة الإجماع، ولا من جملة القياس، بل هذه أدلة إجمالية، لكن جزئياتها هي الأدلة التفصيلية.

فهذا هو حد تعريف العلم في حال إضافته.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمات في العلوم الشرعية [18] 3787 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [39] 3561 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [42] 3511 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [30] 3436 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [16] 3388 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [4] 3368 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [22] 3322 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [13] 3259 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [6] 3250 استماع
مقدمات في العلوم الشرعية [35] 3141 استماع