الاختلاف والتفرق


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى حذر من الشقاق والفرقة في كتابه في عدد من الآيات، فجعله منافياً للرحمة في قوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ))[هود:118-119].

وجعله ضرباً من ضروب العذاب، فقال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ[الأنعام:65].

وجعله مظهراً من مظاهر الشرك فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الروم:31-32]؛ وبين براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المختلفين في الدين فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[الأنعام:159].

وبين أن الخلاف سبب لزوال الريح وللفشل فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:45-46].

وبين مقابله وهو الاعتصام بحبل الله وأمر به فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[آل عمران:103-105].

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذيره من الفرقة والخلاف في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، فمنها ما قاله في خطبته في حجة الوداع، تلك الخطبة التي لم يعش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذه الأرض إلا اثنين وثمانين يوماً، فكان ذلك وصيته إلى أمته فقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، وحذر من آثار الخلاف فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).

وقد بين الله سبحانه وتعالى أسباب الفرقة المذمومة فذكر منها ثلاثة عشر سبباً متوالياً في سورة الحجرات وحرمها جميعاً:

السبب الأول: هو تجاوز الصلاحيات وتعدي الإنسان على حقوق غيره، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الحجرات:1] .

السبب الثاني: هو سوء الأدب مع من يستحق الأدب، فهو سبب للفرقة والخلاف، ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحجرات:2-5].

السبب الثالث: هو عدم التثبت في نقل الأخبار، بأن يتكلم الإنسان بكل قول سمعه يتلقاه لسانه قبل أن تتلقاه أذنه وقبل أن يعرضه على قلبه، حتى يعلم هل هو صحيح أم باطل؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات:6] وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، فلابد من التثبت والتبين في نقل الأخبار، وإلا حصل الشقاق والفرقة والخلاف.

السبب الرابع: هو عدم الرد إلى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسعي وراء الأهواء والآراء، فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ[الحجرات:7]، ومن هنا ينبغي أن يعلم المسلمون أن الحكم لله سبحانه وتعالى في الأمور كلها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ[يوسف:40]، ولذلك فلابد أن يعلموا أن آراء الرجال غير المعصومين هي عرضة للرد والأخذ، كما قال مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان للناس مرجع غير معصوم يتحاكمون إليه في أمرهم فذلك عرضة للفرقة والخلاف؛ لأن كل مصدر غير معصوم فلن تجتمع عليه القلوب، فلابد أن يكون سبباً للخلاف، فإذا تعصب له بعض ناس دون بعض أدى ذلك إلى الفرقة والشحناء.

ثم بعد هذا قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً[الحجرات:7-8].

السبب الخامس: هو الاعتداء والظلم، فكل ظلم للآخرين وأي اعتداء على حقوقهم هو سبب للفرقة والخلاف؛ لأن المظلوم لابد أن ينتصر يوماً ما، فإما أن ينتصر عاجلاً أو ينتصر آجلاً: (فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:9-10].

السبب السادس: هو السخرية من المسلمين؛ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11] .

وهذا السبب بين سبحانه وتعالى ما ينفر منه، في أن الساخر يمكن أن يكون أدنى عند الله منزلة من المسخور منه، فكم من ساخر هو رذيل عند الله سبحانه وتعالى! وكم من مسخور منه هو كريم عند الله! فهذا نوح سخر منه قومه فكان جوابه لهم: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ[هود:38-39].

ومن هنا عطف الله ذكر النساء على ذكر الرجال لبيان أن السخرية كثيرة في النساء، فكثير ما يسخر بعضهن من بعض، ولذلك قال: وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ[الحجرات:11] مع أنها لو لم تعطف لدخل النساء في (قوم)؛ لأن القوم لفظ يشمل الرجال والنساء في الإطلاق الشائع، ومن ذلك قول الله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ[الأنعام:66] ، وفي ذكر الأنبياء جميعاً يذكر القوم ويقصد بهم الرجال والنساء، وقد يطلق القوم على الرجال فقط كما في هذه الآية وكما في قول زهير بن أبي سلمى:

وما أدري وسوف أخال أدري. أقوم آل حصن أم نساء

السبب السابع: هو اللمز والغمز بالطعن في الناس قال: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ[الحجرات:11] فهذا هو اعتراض على الله في خلقه، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، فيجعل الإنسان طويلاً ويجعله قصيراً ويجعله جميلاً ويجعله قبيحاً، ويجعله أبيض إذا شاء، ويجعله أسود إذا شاء، ويجعله ملوناً إذا شاء، ويجعله ذا شعر إذا شاء، ويجعله بخلاف ذلك إذا شاء.

ومن هنا فالغمز إنما هو طعن في خلقة الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا الخلق على هذه الصورة، وذلك اعتراض على الله في خلقه، وهو كثيراً ما يؤدي إلى الفرقة والخلاف، فينتصر بعض الناس للمطعون فيه والمغموز فيه ويكون ذلك سبباً للشحناء.

ومن العجائب في إعجاز القرآن أن الله قال: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ[الحجرات:11] ولم يقل: (ولا تلمزوا إخوانكم)؛ لبيان أن الإنسان إذا لمز أخاه فقد لمز نفسه، لأن الصفة التي يلمز بها يمكن أن تكون فيه صفة مثلها أو أشد، فعندك عورات وللناس ألسن.

ومن هنا كان لابد أن يعرف الإنسان أن طعنه في أخيه هو طعن في نفسه، فلابد أن يحافظ على عرض أخيه كما يحافظ على عرض نفسه.

السبب الثامن: هو التنابز بالألقاب في التصنيفات، وأن يقال فلان من الفرقة الفلانية، أو من الطائفة الفلانية، ويكون هو غير معلن بذلك، فهذا من النبز والتصنيف الذي حذر منه، أي: فهو من التنابز بالألقاب، وهذه الألقاب سواء كانت شخصية كما يكره الناس أن يدعوا به من أسماء، أو كانت غير شخصية كأسماء الفرق والقبائل والمجموعات التي تكرهها، فلا يحل إطلاق اسم على شخص أو مجموعة أو قبيلة وهي تكرهه؛ لأن ذلك من التنابز بالألقاب المحرم.

وإذا كان الإنسان لا يعرف إلا بذلك الذي يكرهه، فهذه مشكلة تكلم عنها المحدثون قديماً، فقد ذكروا بعضَ المحدثين الذين كانت لهم ألقاب يكرهونها كـابن علية و مسلم البطين، ولبعضهم ألقاب سيئة أيضاً وإن كانوا لا يكرهونها كـعارم وهو محمد بن الفضل شيخ البخاري رحمه الله كان يلقب بـعارم ، وعارم معناه: المفسد، وهذا اللقب مسلوب الدلالة لا يقصد معناه، فهو من الصالحين المصلحين، لكن اشتهر بهذا اللقب بين الناس، ومثل ذلك إطلاق جزرة على الرجل بسبب أنه كان يقرأ فأخطأ في القراءة فسمي بالكلمة التي أخطأ فيها.

فهذا النوع استشكله الأوائل وجعلوه من دغل أهل الحديث، وذكره الذهبي في دغل أهل الحديث لما ذكر أن كل طائفة من الطوائف الإسلامية لديها دغل وأخطاء، فذكر أن القراء دغلهم في المبالغات في القلقلة وفي إخراج الحروف من مخارجها حتى تتجاوز محلها وفي تتبع الأوجه والروايات، وأن الفقهاء دغلهم في ترك النصوص والعدول عنها إلى آراء الرجال، وعدم التثبت في نقل تلك الآراء بنسبة الروايات المخرجة إلى المجتهدين الذين لم يقولوا بها وإنما خرجت على أقوالهم وفتاويهم، وأن أهل الحديث دغلهم في ذكر الألقاب التي يكرهها أصحابها كما ذكرنا من الألقاب.

وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن هذا النوع اشتهر في علماء المسلمين، فعلماء المغاربة دخل عليهم الشيطان بسوء الأسماء وعلماء المشارقة بحسن الأسماء، فعلماء المغاربة يتلقبون بالألقاب القبيحة كالدباغ والفخار ونحو ذلك، وعلماء المشارقة يتلقبون بالألقاب الشريفة كشمس الدين وتقي الدين وسراج الدين إلى آخره، فقال: دخل الشيطان على علماء المشارقة بحسن الألقاب، ودخل الشيطان على علماء المغاربة بسوء الألقاب.

وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ[الحجرات:11] وقد حذر الله من هذا تحذيراً بليغاً إذ قال: بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ[الحجرات:11] فجعل هذا فسوقاً وجعله خروجاً للإنسان عن طريق الإيمان، فبعد أن قطع الإنسان أشواطاً من الإيمان وصار في هذا الطريق كأنه التفت ذات اليمين أو ذات الشمال فسلك هذا الطريق، إذ تبع الشيطان في التصنيف والترقيم، ولذلك قال: بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات:11]، وهذه فسحة كريمة أتاحها الرب الكريم تبارك وتعالى ممن وقع منه شيء مما ذكر، وهي أن يتوب إلى الله فباب التوبة مفتوح، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) ما أكرمه وأحلمه! فلذلك قال: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات:11] .

السبب التاسع: هو ظن السوء الذي ينتشر كثيراً في الناس، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات:12]، فكثير من الظنون ليس عليها دليل ولم تقم عليها بينة، فالأخذ بها هو من ظن السوء، وهو مما حرمه الله سبحانه وتعالى، ووصف به المشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات، فقال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ[الفتح:6] ، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من هذه الظنون في سورة النور، إذ قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[النور:12] وهذه الآية ظهر فيها الإعجاز الذي ذكرناه آنفاً، إذ قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا[النور:12] فمقتضى السياق أن يقول: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً، أو ظننتم بإخوانكم خيراً، لكنه أتى بالوصف المشتق الذي يدل على العلية والتعليل، فقال: (ظن المؤمنون والمؤمنات) أي: أن الدافع لهم إلى الظن الحسن وإلغاء ظن السوء هو الإيمان.

وهذا النوع هو مما يسمى بالإيماء عند الأصوليين، وهو أن يؤتى بالوصف المشتق مع الحكم؛ ليدل على العلية والتعليل مثل قول الله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[الانفطار:13-14] معناه: إن الأبرار لفي نعيم لبرورهم، وإن الفجار لفي جحيم لفجورهم، فكذلك قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا[النور:12] فإيمانهم يدعوهم إلى ظن الخير.

والمقصود بأنفسهم: إخوانهم، فجعلهم بمثابة الأنفس، فعرض أخيك هو مثل عرضك يجب عليك الدفاع عنه، وكل ما وصل أخاك من الضرر فهو واصل إليك؛ لأن المؤمن يحب للمؤمن ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، فلذلك قال: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:12-13] .

وإن هذه الظنون منتشرة في مجتمعاتنا، وهي سبب من أسباب البغضاء والشحناء، فكثير من الناس يتصرف على أساس الظنون، أو ينقل الأخبار على أساس الظنون.

وقد يكون ذلك الظن مبنياً على سوء فهم، فلمجرد سوء فهمه يحمل ذلك الكلام على ذلك الوجه وينقله عن الشخص بالمباشرة.

وقد وصلت إلي رسالة في نهاية المحاضرة الماضية في هذا المكان من طالبة تذكر فيها: أنها فهمت مما ذكرت في هذا المكان: أنني زرت مدينة من المدن من عواصم العلم في هذا البلد، وأنني ذكرت لبعض مشايخها أن علماءها قد نقصت أعدادهم؛ وذلك بسبب انشغال كثير من الشباب عن طلب العلم حتى لا يخلفوا السابقين. فتقول: إنها ظنت كلامي أنه من الشماتة، نسأل الله السلامة والعافية.

إن الشماتة في الأعداء حتى لو كانوا يهوداً ممقوتة شرعاً، فكيف بشماتة المسلمين؟! فكيف بشماتة النفس؟! فالشماتة لا يمكن أن تقع أصلاً في مثل هذا المكان، وليس لها مكان في مثل هذا.

وأنا دائماً أذكر في الحواضر العلمية وعواصم الإسلام من الناحية العلمية، مثل: مدينة قيرو ومدينة أبي تلميت وكذلك في مجلس آل الشغاموسى، أذكر أنه من المطلوب أن يستمر هذا العلم كما كان لدى الأسلاف؛ لأن هذه عاصمة من عواصم الإسلام من الناحية العلمية، ويلزم الحفاظ عليها واستمرارها على ذلك الوجه.

ولا يمكن أن يتم هذا إذا غفل الناس عن هذا الوجه، فترك الشباب تعلم العلم اتكالاً على أن الكبار يعرفونه، فإذا مات الكبار فمن يخلفهم؟

فإنني ذكرت هذا مرة من المرات في مجلس في بيت الشيخ الفاضل حمود بن سالم في قيرو، ونبهت عدداً من المشايخ هنالك إلى أن كثيراً من العلماء كانوا يعيشون في تلك المدينة؛ فكانت عاصمة من عواصم الإسلام، ومازالت ولله الحمد عاصمة من عواصم الإسلام العلمية، لكن إذا لم ينتبه أهلها إلى أنهم ليسوا فقط عاصمة للمنطقة بل عاصمة من عواصم الإسلام، يفد الناس إليها من مشارق الأرض ومغاربها، حتى إن المسلمين في أطراف البلاد وفي الجمهوريات الإسلامية وفي غيرها من البلاد الإفريقية يعولون على وجود العلماء في هذه المنطقة، فإذا تخلى أهلها عن ذلك ولم يشتغل شبابهم في دراسة ما كان يدرسه آباؤهم من العلم فهي رزية عظمى، ليست على أهل المنطقة وحدهم ولا على أهل هذه الدولة، بل على الإسلام والمسلمين.

وقلت هذا أيضاً في مجالس في مدينة أبى تلميت وقلته في قبيلة الشغاموسى وغيرها، فعواصم الإسلام الكبرى من الناحية العلمية لابد أن تحافظ على ذلك كما هو.

ومن هنا فالتنبيه إلى مثل هذا النوع لا يفهم على أنه شماتة، فهذا إنما هو من ظن السوء المذموم، وأنا أربأ بطلاب العلم وطالباته عن مثل هذا الفهم الساقط المخالف للشرع.

السبب العاشر: التجسس، إن الله سبحانه وتعالى ذكر بعد ظن السوء التجسس، فالتجسس والتحسس على الناس لنقل الأخبار على غير وجهها الصحيح يؤدي إلى الفرقة والخلاف؛ لأنه يقتضي أن يكون المتجسس مبغضاً لمن يتجسس عليه، والمتجسس نفسه جعل نفسه آلة لنقل السوء، فرضي بالهوان والمذلة! وكل ذلك سبب للفرقة والخلاف ولهذا قال: وَلا تَجَسَّسُوا[الحجرات:12] .

السبب الحادي عشر: الغيبة، فغيبة المسلم سبب من أسباب الفرقة والخلاف؛ لأن الذي يأكل لحم أخيه بالغيبة قد رضي بأن يكون صاحب إفساد وشر، والذي تمت غيبته أيضاً سيحاول الانتصار لنفسه، فيكون ذلك سبباً للفرقة والخلاف، ولهذا قال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ[الحجرات:12]، فحذر من الغيبة غاية التحذير، بأن ضرب لها أسوء الأمثلة، فالذي تغتابه كأنما تشرح جسده وتأكل لحمه وهو ميت بين يديك، فهل ترضى بذلك؟! لا يرضى أحد به؛ فمن أجل هذا حذر الله غاية التحذير من الغيبة، فما هي إلا بمثابة أكل لحوم البشر: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ[الحجرات:12] ، ثم بعد هذا عطف عليها الأمر بتقواه لبيان انتشار الغيبة أيضاً وكثرة الوالغين فيها من المسلمين فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ[الحجرات:10] .

السبب الثاني عشر: التفاخر بالأنساب والطعن فيها، وهذا من أمر الجاهلية لا يزال في هذه الأمة، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أمران من أمر الجاهلية في أمتي هما بهم كفر: الطيرة، والطعن في الأنساب) والمقصود بالكفر هنا: كفر دون كفر، فلا يزال في هذه الأمة من يطعن في الأنساب ومن يفخر بالأنساب، مع العلم بأنها كلها منقطعة يوم القيامة: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101] والناس لآدم وآدم من تراب، وقد نبه الله على ذلك بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، فلا عبرة بهذه الأنساب، فعمر الإنسان الدنيوي هو أقصر أعماره، هب للأنساب وجوداً في عالم الذر، وأن أول عمر الإنسان عالم الذر، أي: منذ أخرج الله ذرية آدم من ظهره فناداهم: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى! فقد دخل الإنسان الوجود من ذلك الوقت؛ لأنه سئل فأجاب، وذلك العمر طويل جداً هل هناك أنساب؟

وفي البرزخ إذا دفن الإنسان تحت الأرض فهل بينه وبين غيره نسب؟ الجواب: لا، حيث تنقطع الأنساب في ذلك، وكذلك عندما يحشر الناس إلى الساهرة وفي موقفهم عليها وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47] هل يبقى للأنساب وجود؟ ليس لها وجود.

وفي العمر الأبدي السرمدي في جنة أو في نار لا اعتبار للأنساب كذلك، إلا إذا أيدت التقوى كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ[الطور:21] أي: فكل إنسان إنما يسأل عن عمله وحده، ولذلك قال الله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95] ، وقال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى[النجم:36-41]، فلذلك لا بد أن نعلم أن التفاخر بالأنساب والأحساب إنما هو من عمل الشيطان ومن أمر الجاهلية ولا خير فيه؛ فهو يؤدي إلى الشحناء والبغضاء.

فالناس جميعاً من أسرة واحدة هي آدم وحواء، ثم بعد هذا ينقسمون إلى أسرتين فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ[هود:105] فلذلك لا مجال للتفاخر بالأنساب والطعن فيها.

السبب الثالث عشر: دعوى الإنسان ما ليس فيه، فادعاء الإنسان ما ليس فيه من أسباب الفرقة والخلاف، فقال: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[الحجرات:14].

فكل هذه من أسباب الفرقة والخلاف التي حذر الله منها في كتابه، وبين خطرها وضررها، وكلها محرمة.

ثم إن علينا عباد الله أن نعلم أن اجتماع الكلمة ووحدة الصف مما أمر الله به، كما ذكرنا في الآيات، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث الصحيحة عنه، وهو كذلك قوة للمسلمين.

فهذه الأمة تحف بها الأمم المعادية وتكيد لها بأنواع الكيد، ولا ترضى لها رفع راية ولا الوصول إلى غاية، فلذلك إذا بقيت هذه الأمة في تناحر وخلاف فيما بينها فمتى تنتصر على أعدائها؟ وإذا شغلنا كل وسائلنا في طعن بعضنا في بعض، وكان كل إنسان منا يعمل طاقته وقوته في تحطيم أخيه، فمتى نفرغ لقتال أعدائنا؟ ومتى يكون الانتصار عليهم؟!

إن علينا أن نعلم أن أعداءنا يتربصون بنا الدوائر، وأنه إذا أحس الإنسان بتهديد كيانه فذلك سبب لنصرته لأخيه ولو كان مخالفاً له، كما قال الشاعر:

لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تظاهر الأقياد

بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد

أنتم اليوم في شدة عظيمة، فأمر الدين في تولٍ، وأمم الشر كلها تداعت كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فلذلك لابد أن توحدوا صفوفكم وأن تجتمعوا على كلمة سواء، وأن تعلموا أن ذلك لا يتم إلا بالبدء أولاً بنقاط الاتفاق والتنقيب عنها، فلابد أن نبحث عن النقاط التي تجمعنا قبل أن نبحث عن النقاط التي تفرقنا.

فالإنسان يعلم أن له أعداء خارجيين، وهم الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أنواع الكفر، والكفر ملة واحدة، ويعلم أن له أعداء داخليين من المنافقين المتربصين، ومن أصحاب النزعات الضالة!

فلا يخلو مجتمع من هذه النزعات التي تغلغلت في المجتمعات، حتى بلغ سيلها الزبى، وانتشرت في مجتمعاتنا الإسلامية، فإذا أحس الإنسان بالتهديد من خارج الكيان ومن داخله، فلابد أن يبحث عن الأنصار إذا كان عاقلاً، ولا ينبغي أن يبحث عن التخذيل في مثل هذا الوقت، ألا ترون أن الإنسان الذي هو عرضة للابتزاز، وأعداؤه يتربصون به الدوائر، ينبغي هنا في مثل هذا الوقت أن يرتب الأولويات، وأن يبدأ بالأولى والأكثر عداوة والأقوى حتى يصل إلى غيره.

فإذا فتح عليه كل الجبهات في وقت واحد فإنه حينئذ غير عاقل وغير مدبر، فلذلك لابد أن يبدأ الإنسان بالجبهة العظمى، ولهذا فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة لما أراد بناء دولة الإسلام في المدينة بدأ أولاً فعقد هدنة مع اليهود الذين هم داخل المدينة؛ لأنهم أقرب الأعداء إليه، ثم لم يتعرض للمنافقين بسوء؛ خشية أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فلم يقتل أحداً منهم ولم يشهر به أمام الناس، وكان يعود مرضاهم، بل قد صلى على جنازة رأس من رءوسهم، حتى نهي عن ذلك، ثم بعد هذا ذهب إلى القبائل المجاورة للمدينة من الأعراب كبني ضمرة وبني مدلج، فعقد معهم الهدنة على أن لا يكثروا عليه سواداً، وأن لا يعينوا عليه مغيراً ، ثم بعد هذا حارب العدو الألد وهم قريش، الذين إذا انتصر عليهم فذلك انتصار على العرب كلها كما حصل.

إن هذا من سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي هي تابعة للوحي المنزل عليه من عند الله سبحانه وتعالى، ولابد من الاقتداء به في ذلك، فإن مهادنته لليهود إذ ذاك ليست على أساس أنهم أقل كفراً من قريش أو أقل ضرراً منهم، ولكن إنما هي على أساس أنهم أضعف منهم، فاليهود إذ ذاك أقل شوكة وأضعف من مشركي قريش، فلذلك بدأ بالأقوى، ثم فاضل بين اليهود أنفسهم، فأكثرهم ضرراً وعداوة هم بنو قينقاع، فهم أول من أخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ثم بعدهم بنو النضير أخرجهم إلى خيبر، ثم بنو قريظة حيث قضى عليهم في المدينة.

فهذا التدريج في الإعداد من المهمات جداً، والأعداء يعرفون هذا، ومن أجل هذا فهم يسلطون بعضنا على بعض، وينطلقون من سياسة واضحة لديهم وهي: سياسة (فرق تسد)، فيريدون أن يفرقوا جمعنا، فإذا فرقوه حينئذ استطاعوا التغلب على كل مجموعة يسيرة، ومن أجل هذا عقد مؤتمر (سايكس بيكو) لتوزيع العالم الإسلامي -الذي يسمونه تركة الرجل المريض- إلى دويلات.

وعندما قسموا بلاد الإسلام جعلوا الحدود بين كل دويلتين متجاورتين على منطقة حيادية؛ لتكون بؤرة للخلاف وسبباً للحرب في كل وقت، فما من بلدين إسلاميين إلا وبينهما منطقة محايدة يمكن أن يثار فيها الخلاف وتقوم فيها الحرب، وتعرفون أن منطقة الصحراء الغربية تركت بين موريتانيا والمغرب والجزائر من أجل إقامة حرب فيها متى تيسر ذلك ومتى أراد المستعمر ذلك، وكذلك منطقة صغيرة بين تونس والجزائر، ومنطقة أخرى بين ليبيا والجزائر، ومنطقة بين موريتانيا ومالي، ومنطقة على شاطئ النهر كذلك بين موريتانيا والسنغال، ومثل هذا منطقة بين تشاد وليبيا وقامت فيها حرب ضروس، وكذلك منطقة بين مصر وليبيا، وكذلك الحال في الحدود بين السعودية واليمن، وبين السعودية وقطر والإمارات والكويت، والعراق أيضاً، ومثل هذا منطقة الرميلة بين الكويت والعراق التي قامت على أساسها الحرب.

وهكذا الحدود بين كل بلدين إسلاميين، تجدون أنها قابلة للانفجار في كل وقت، فمنطقة أنطاكية بين تركيا وسوريا ومنابع الأنهار، ومنطقة حلايب بين مصر والسودان، ومنطقة جنوب السودان وغير ذلك من المناطق، ما من منطقة بين دولتين إسلاميتين متجاورتين إلا وقد جعل فيها المستعمر منطقة لم يحسمها بالحدود؛ لتكون قابلة للانفجار في أي وقت أراد أن يحركها.

وكذلك قضية الأقليات التي يلعب على أوتارها المستعمر في كل مكان، فإنهم عندما أرادوا توزيع البلدان حرصوا على أن لا يكون بلد بعرق واحد خاص، بل كل بلد تجمع فيه أعراق وتدمج فيه أعراق ويكون بعضها غالباً وبعضها مغلوباً، حتى تكون فيه أكثرية وأقلية، هذه الأعراق إن استطاعوا أن تكون طوائف دينية فعلوا، وإلا جعلوها طوائف عرقية، وتعرفون التقسيم الحاصل للأكراد حين قسموهم بين أربع دول، الأكراد مجموعة صغيرة في شمال العراق قسمها المستعمر بين سوريا وتركيا والعراق وإيران، كل دولة فيها أقلية كردية، وهذه الأقلية تطالب بحقوق، وهكذا في البلدان التي يجتمع فيها العرب والبربر، أو العرب والأفارقة يجعلون فيها أقلية من أحد الجانبين وأكثرية من الجانب الآخر؛ حتى تكون بؤرة للخلاف في أي وقت يمكن أن يثار الخلاف بينها.

وما تسمعونه في الجزائر من تحريك القبائل البربرية، وما يحصل بين الفينة والأخرى هنا وفي المناطق الأخرى كله من هذا القبيل، ومن المؤامرات الدولية التي يقصد بها تفريق جمع المسلمين وشتات أمرهم، وأن يكون بأسهم فيما بينهم حتى يمنع ذلك وصول البأس إلى الأعداء، وما دام أهل الإسلام لا ينتبهون لمثل هذا الخطر فالأعداء في أمان؛ لأنهم إذا أحسوا بقوة لدى دولة من الدول صرفوها إلى جيرانها، لما أحسوا بقوة ضاربة لدى العراق وجهوها إلى الكويت البلد الصغير الضعيف المجاور، وهكذا فالقوة المصرية التي ضربت ليبيا، والقوة الليبية التي توغلت في تشاد ثم قضي عليها بالكلية، قتل منها ألف وخمسمائة مقاتل في عشية واحدة، وهكذا كل هذا قوة للإسلام، ومع ذلك يراد أن تكون مشغلة وسبباً لزوال هذه القوة.

ومنطقة كشمير بين الهند وباكستان الآن من المناطق الساخنة في العالم، وتعرفون الآن الحاصل فيها، وكذلك الأقلية الطاجيكية في أفغانستان، والأقلية الأوزبكية فيها أيضاً، فهما أقليتان في مقابل البشتون الذين عندهم الكثرة هنالك.

فالمستعمر أراد هذا التقسيم مع أن طاجكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الطاجيكية وأوزباكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الأوزبكية، لكن المستعمر أراد أن يأخذ جزءاً من هذه حتى تكون أقلية قابلة للقتال في أي وقت، وبذلك تشهدون مثل هذا في عصرنا هذا.

إن المسلمين عليهم أن ينتبهوا لكل سبب من أسباب الفرقة والخلاف وأن يحذروا منه قبل أن يثور، وإذا حصل فعليهم أن يكونوا معالجين له على الوجه الصحيح، كما بين الله سبحانه وتعالى في كتابه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الحجرات:9] .

ومن العجائب في التفرقة ما حصل في لبنان، فإن النصارى فيه أقلية في الواقع، لكن المستعمر قسم المسلمين فيه إلى طوائف، فجعل منهم سنة وشيعة ودروزاً، وقسم أهل السنة إلى أقسام، وقسم كذلك الشيعة إلى أقسام، حتى أصبحت كل فرقة وحدها أقلية في مقابل المارونيين النصارى فأصبحت الرئاسة دائماً للمارونيين النصارى، وهذا النوع من المؤامرات لا يزال مستمراً، وعلينا أن ننتبه له في كل الأحيان، وأن نستشعر خطره وضرره.

ففي هذه الأيام تدور حرب ضروس في بعض الجمهوريات الإسلامية بين بعض الطوائف الصوفية فيما بينها، وما ذلك إلا بأيدي المستعمرين، فليس لهؤلاء المساكين مصلحة في التناحر والتقاتل فيما بينهم، ولكن المستعمر أراد أن يتقدم بعضهم على بعض حتى تذهب القوة فيما بينهم، وحتى يبيع هو سلاحه للطائفتين، ويكون بذلك قد حقق مصلحتين: فتح سوقاً للسلاح، فالمصانع تصنع السلاح يومياً تحتاج إلى سوق تفرغ فيه سلاحها، ورد كيد المسلمين في نحورهم، ورد قواهم إلى أنفسهم، ومن هنا يأمن هو الخطر.

وتعلمون أن أمريكا سعت لإقامة حرب في الجمهوريات الإسلامية عند تشتت الاتحاد السوفيتي؛ لأن هذه الجمهوريات تمتلك وسائل القوة، فلديها المفاعلات النووية، ولديها الخبرات العالمية الكبرى، فهذا لا يسر أمريكا أن يكون بأيدي المسلمين بحال من الأحوال، فلذلك كانت من وراء الحرب في الشيشان التي مازالت قائمة إلى الآن، ومن وراء الحرب بين جورجيا وأذربيجان، فهذا النوع من الحروب مقصود، وهو استراتيجي لابد من تحقيقه لئلا يكون للمسلمين قوة ضاربة، وفي هذه الأيام يريد الأمريكان كذلك ضرب بقية القوة في العراق لتحطيمها؛ لأنهم أحسوا أن العراقيين مازالت لديهم قوة ومال وخبرة، فيريدون تحطيم ذلك، ولا يمكن أن يغزوهم بالجيش الأمريكي، بل لابد أن تتحرك الجيوش الإسلامية أولاً، حتى تتحمل البأس العراقي عن الجيش الأمريكي، ومثل هذا ما يريدونه الآن وما يخططون له للحرب بين الهند وباكستان؛ ليكون ذلك قضاء على القوة النووية الباكستانية، التي هي ملك للمسلمين.

إن أسباب الفرقة والخلاف في مجتمعاتنا كثيرة جداً، وأغلبها وأكثرها إنما هو في الأمور الدنيوية، فكثيراً ما يختلف الناس ويتفرقون على أساس مصالح مظنونة غير حقيقية، فالخلافات التي تدور دائماً في إبان تحرك السياسات وإن كانت خلافات مؤقتة إلا أنها ليس لها مبرر لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية العقلية، فمن المعقول أن يختلف اثنان في السياسة فأحدهما يرى التوجه إلى كذا والآخر يرى التوجه إلى كذا، لكن أن يكون ذلك ذريعة للبغضاء والشحناء وإنفاق الأموال من أجل الضرر بإخوانك؛ فهذا لا يمكن أن يقبل بأي وجه من الوجوه.

ماهية الخلاف المقبول شرعاً

إن علينا أن نتفهم أن الخلاف المقبول شرعاً أحد أمرين: إما خلاف في أمور الدنيا وقد مر معنا، أو في أمور الدين وهذا لا يكون إلا في غير المحسوم بالدليل، أما ما حسمه الوحي القطعي الدلالة والورود فلا يمكن الخلاف فيه.

والأمور الظنية الاجتهادية تقبل الخلاف، ويمكن أن تتباين فيها المذاهب وأن تتعادل فيها الآراء، وحينئذ لا يحل التعصب لرأي من الآراء، بل ينظر إليها جميعاً على أنها من تراث هذه الأمة، ومن إنتاج عقولها، وأن هذه مأخوذة من الوحي معتمدة عليه، فما كان منها صواباً فمن توفيق الله، وما كان منها خطأً فخطؤه على صاحبه، وليس عليه إثم إذا كان أهلاً للاجتهاد، بل هو مثاب بأجر واحد، والمصيب مثاب بأجرين، ومن هنا فالمذاهب الفقهية المعتمدة على فهم المجتهدين في الأدلة الشرعية يقبل الخلاف بينها، وينبغي أن يأخذ طالب العلم بالراجح منها، وأن لا يحتقر المرجوح، بل يعلم أنه قول مقبول وأن له دليلاً، وأنه إن ترجح لديه هو خلافه فلم يحسم الخلاف، بل ازداد أحد القولين بصوت واحد، ومن هنا فلا يحسم هذا الخلاف، وستبقى المذاهب موجودة وتبقى المدارس موجودة.

ومثل هذا في المدارس الدعوية والجماعات الإسلامية، فالخلاف بينها مثل الخلاف بين الفقهاء المجتهدين، يختلفون في آراء غير محسومة من ناحية الدليل، ولكل منهم أن يجتهد فيها، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ولكن لا يحل التعصب والمصادرة بوجه من الوجوه، ولابد إذا حصل ذلك الخلاف أن يكون حله بالرجوع إلى أهل العلم الراسخين فيه، وأن ينظر في الأدلة الشرعية، فمن كان أسعد بالدليل وأقوى حجة تنازل له الآخر عن رأيه، فهذا هو الوجه الصحيح المقبول!

وإذا وجد أن لكل حجة ولكل دليلاً ولم يمكن الجزم بمصداقية أحد القولين، حينئذ لابد أن يعذر كل واحد منهما الآخر، وأن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطل على الناس وهو محصور في الدار فقال له رجل: (يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام البدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم).

ومن هنا فعلينا أن نستحضر نقاط الاتفاق بيننا أولاً، وأن نعلم أن أهل السنة من المسلمين نقاط الاتفاق بينهم أعظم وأكبر من نقاط الاختلاف، فنقاط الاختلاف في المجال العقدي محصورة يسيرة جداً، والذين يروجون لكثرتها ويريدون أن تكون شرخاً عظيماً لم يستوعبوها ولم يفهموا معاقل العلماء فيها.

إن علينا أن نتفهم أن الخلاف المقبول شرعاً أحد أمرين: إما خلاف في أمور الدنيا وقد مر معنا، أو في أمور الدين وهذا لا يكون إلا في غير المحسوم بالدليل، أما ما حسمه الوحي القطعي الدلالة والورود فلا يمكن الخلاف فيه.

والأمور الظنية الاجتهادية تقبل الخلاف، ويمكن أن تتباين فيها المذاهب وأن تتعادل فيها الآراء، وحينئذ لا يحل التعصب لرأي من الآراء، بل ينظر إليها جميعاً على أنها من تراث هذه الأمة، ومن إنتاج عقولها، وأن هذه مأخوذة من الوحي معتمدة عليه، فما كان منها صواباً فمن توفيق الله، وما كان منها خطأً فخطؤه على صاحبه، وليس عليه إثم إذا كان أهلاً للاجتهاد، بل هو مثاب بأجر واحد، والمصيب مثاب بأجرين، ومن هنا فالمذاهب الفقهية المعتمدة على فهم المجتهدين في الأدلة الشرعية يقبل الخلاف بينها، وينبغي أن يأخذ طالب العلم بالراجح منها، وأن لا يحتقر المرجوح، بل يعلم أنه قول مقبول وأن له دليلاً، وأنه إن ترجح لديه هو خلافه فلم يحسم الخلاف، بل ازداد أحد القولين بصوت واحد، ومن هنا فلا يحسم هذا الخلاف، وستبقى المذاهب موجودة وتبقى المدارس موجودة.

ومثل هذا في المدارس الدعوية والجماعات الإسلامية، فالخلاف بينها مثل الخلاف بين الفقهاء المجتهدين، يختلفون في آراء غير محسومة من ناحية الدليل، ولكل منهم أن يجتهد فيها، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ولكن لا يحل التعصب والمصادرة بوجه من الوجوه، ولابد إذا حصل ذلك الخلاف أن يكون حله بالرجوع إلى أهل العلم الراسخين فيه، وأن ينظر في الأدلة الشرعية، فمن كان أسعد بالدليل وأقوى حجة تنازل له الآخر عن رأيه، فهذا هو الوجه الصحيح المقبول!

وإذا وجد أن لكل حجة ولكل دليلاً ولم يمكن الجزم بمصداقية أحد القولين، حينئذ لابد أن يعذر كل واحد منهما الآخر، وأن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطل على الناس وهو محصور في الدار فقال له رجل: (يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام البدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم).

ومن هنا فعلينا أن نستحضر نقاط الاتفاق بيننا أولاً، وأن نعلم أن أهل السنة من المسلمين نقاط الاتفاق بينهم أعظم وأكبر من نقاط الاختلاف، فنقاط الاختلاف في المجال العقدي محصورة يسيرة جداً، والذين يروجون لكثرتها ويريدون أن تكون شرخاً عظيماً لم يستوعبوها ولم يفهموا معاقل العلماء فيها.

أنتم تعلمون أن أركان الإيمان ستة بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، هذه ست ثلاث منها ليس بين أهل السنة خلاف فيها أصلاً، لا في جزئياتها ولا في كلياتها، وهي: الإيمان بالملائكة فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، والإيمان باليوم الآخر فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، والإيمان برسل الله عليهم السلام فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، هذه الثلاثة لا خلاف في جزئياتها ولا في تفصيلاتها بل كلها محل اتفاق.

عقيدة أهل السنة في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته

أما الثلاثة الأخرى فأولاً: الإيمان بالله محل اتفاق في عمومه بين أهل السنة، بل بين المسلمين جميعاً، وإنما الخلاف في جزئيات يسيرة.

فالإيمان بالله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الإيمان بألوهيته، أي أنه خالق هذا الكون الذي يستحق العبادة والدعاء ويستحق أن يصمد إليه في الحوائج كلها.

الثاني: الإيمان بربوبيته: أي الإيمان بأنه لا خالق للكون سواه وأنه وحده المدبر لشئون هذا الكون كله، ولا يمكن أن يعطي أحد ما منعه، ولا يمنع أحد ما أعطى، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فهذان محل اتفاق بين أهل السنة كلهم.

الثالث: الإيمان بأسمائه وصفاته: وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: الإيمان بأسمائه وهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً. الثاني: الإيمان بصفاته وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يدرك العقل كونه صفات لله، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، فإنهم يؤمنون بكل ما يدرك العقل كونه صفة لله، والصفة إنما ينعت بها الموصوف.

ومن ذلك العلم، فالله عليم، والله عليم بذات الصدور، والإرادة كذلك، فيدرك العقل كونها صفة، فلذلك تقول: الله مريد، وكذلك القدرة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك الحياة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك القدم والبقاء يدرك العقل كونهما صفة، ولذلك يمكن أن يقال: الله باق، الله قديم إلى آخره، وكذلك الوحدانية يدرك العقل كونها صفة، وكذلك السمع والبصر والكلام يدرك العقل كونها صفات، ولذلك يوصف الله سبحانه وتعالى بها.

القسم الثاني: ما يدرك العقل كونه أفعالاً لله وهو أيضاً محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، إلا في جزئيات يسيرة من الأفعال سنذكر الخلاف فيها، فمثلاً: خلق السماوات والأرض وخلق الكون كله من أفعال الله سبحانه وتعالى، وإنزال المطر وإنبات النبات والهداية والإغواء والإماتة والإحياء، كل ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى التي لا يخالف فيها أحد من أهل السنة، فهم يعلمون جميعاً أن هذه الأفعال من أفعال الله ويتفقون عليها لا ينكرها أحد منهم.

من الأفعال ما يتوهم منه بعض الناس تشبيهاً لله بخلقه، كتلك التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وهو خلاف ضيق محصور.

فجمهور أهل السنة يعلمون أن كل ما أخبر الله به عن نفسه فهو حق وليس فيه نقص، فإن النقص محال عليه، ومن هنا أنه سبحانه وتعالى ينزل كل آخر ليلة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وبالليل ليتوب مسيء النهار، ويداه سحاءان بالعطاء لا تغيضان، والله سبحانه وتعالى يقبل الصدقات من عباده، والله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة لفصل الخصام، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ[الفجر:22-23] والله تعالى يغضب ويرضى، والله سبحانه وتعالى يضحك ضحكاً يليق به.

فكل هذه أفعال تليق به تخالف أفعال المخلوقين، ولا يشابهها فعل المخلوق وإن اشترك معها في الاسم، فلا أحد من أهل السنة يشبه هذه الأفعال من أفعال الله بأفعال المخلوقين أبداً، بل يؤمنون بأن الله يفعل فعلاً يليق بجلاله وهو كمال في حقه، وأن المخلوق يفعل فعلاً يليق بقدره أيضاً، وأن أفعال المخلوقين التي تنسب إليهم هي من أمرهم، وأن أفعال الله التي تنسب إليه هي من أمره سبحانه وتعالى، وأمر الله مباين لأمر المخلوقين.

ولا يشبه أحد من أهل السنة نزول الله أو استواءه أو تكلمه أو غضبه أو رضاه أو ضحكه بشيء من أفعال المخلوقين أبداً! بل يؤمنون جميعاً بأن ذلك لا يشبه شيئاً من أفعال المخلوقين، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بذلك وأنها صفات كمال في حقه.

إذاً الخلاف في صفات الأفعال خلاف يسير محصور، فلابد أن نعلم أن الذين يروجون هذه الأفهام ما أرادوا بذلك تكذيب الله ولا الرد عليه ولا الرد على رسوله، بل أرادوا بذلك تنزيهه عن خلقه حينما فهموا أن ذلك نقص، والغلط من قبل الفهم فقط وليس الخطأ في النص!، لكننا نعذرهم في خطئهم؛ لأنهم أعملوا عقولهم في تنزيه الله عما لا يليق به وآمنوا به وأحبوه وعبدوه، فلذلك أخطئوا في الاجتهاد في أمر يسير جداً، ليس من الأمور التي فصلها الشرع تفصيلاً وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، فإنما هو أمر محصور يسير.

القسم الثالث: ما لا يدرك العقل كونه صفة ولا فعلاً، فهذا قد اختلف فيه أهل السنة وهو فقط في أمور محصورة لا تتعدى تسعة: وهي الوجه والعين واليدان والأصابع والقدم والساق؛ فهذه أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عنه، وقد أجمع المسلمون جميعاً على أن ما قاله الله حق وأن ما قاله رسوله حق، وإنما اختلفوا فقط هل هي صفات لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين تقر كما جاءت ونؤمن بها كما هي، أم نؤولها بصفات أخرى من صفات الخالق، أو نحيل علمها إلى الله.

فهم إذاً جميعاً متفقون على أنها حق وأنها صدق وأنها من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن من أصاب منهم علم أنها لله سبحانه وتعالى كما يليق به وأنها لا تشبه صفات المخلوقين وأنها وصف كمال في حق الله، فوجه الله كمال له، ويداه مبسوطتان كمال له، وعينه سبحانه وتعالى لا يغيب عنها شيء من خلقه، وكذلك قدمه وساقه وأصابعه كل ذلك ثابت له سبحانه وتعالى، فكل هذا من صفات الكمال في حقه سبحانه وتعالى، والذين يؤولون أو يحيلون العلم في ذلك إلى الله ويفوضونه إليه اجتهدوا فأخطئوا، لكن اجتهادهم مقبول؛ لأنهم في مثل هذا الموقف إنما طلبوا الإيمان بالله وتنزيهه عن النقص، وأرادوا تحقيق الإيمان به وتحقيق محبته، فنحن نعذرهم في خطئهم.

ومن هنا فلا يحل التعصب في مثل هذا النوع، وبالأخص في الأمور التي تؤدي إلى تكفير المسلمين بغير حق، أو تفسيقهم وتبديعهم بغير حق، فكل ذلك من الممقوت شرعاً المذموم، ولهذا فإن الشافعي رحمه الله قال في الأم: كل الفرق تقبل شهادتهم وروايتهم إلا الخطابية فإنهم يستحلون الكذب لنصرة من وافقهم في المذهب، فجميع الفرق حتى وإن كانوا من القدرية أو من الشيعة أو من الخوارج من لم يصل منهم إلى درجة التكفير في بدعته تقبل شهادته وروايته، ولذلك فإن البخاري رحمه الله أخرج في الصحيح عن عبيد الله بن موسى وهو من الشيعة، وعن هشام الدستوائي وقد قال بالقدر، وعن عمران بن حطان وهو من الخوارج.

فأصحاب الفرق إذا لم يصلوا إلى حد التكفير في بدعتهم، ولم يكن مطعوناً عليهم في دينهم بالصدق، فإنه تقبل روايتهم وشهادتهم، ولذلك فإن في المذهب المالكي أن الاقتداء بهم في الصلاة يجوز، وأن الحرورية وهم من أوائل الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه تصح الصلاة خلفهم، وذلك أن علياً رضي الله عنه قال: حين سئل عنهم: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا)، وقال لهم: (إن لكم علينا ثلاثاً: ألا نبدأكم بقتال ما لم تقاتلونا، وألا نمنعكم مساجد الله ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا).

والتعصبات في مثل هذا النوع غير مقبولة.

الاختلاف في الإيمان بالقدر عند أهل السنة

الإيمان بقدر الله خيره وشره محل اتفاق في الجملة بين المسلمين، وبين أهل السنة والجماعة، فكلهم يؤمنون بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وإنما حصل الخلاف في أمر واحد وهو: أفعال العباد واستطاعتهم وقدرتهم عند صدور الفعل منهم؛ هل أفعال العبد هي من فعل العبد أم من فعل الله سبحانه وتعالى خلقها الله وقربها إلى العبد فجعلها من كسبه فتحصل عند إرادة العبد لا بها؟ هذا محل خلاف، ومذهب جمهور أهل السنة وهو مذهب الحق: أن تلك الأفعال هي من أفعال المخلوقين لهم قدرة وإرادة، قدرة يفعلون بها أفعالهم وإرادة يريدون بها، ولكنها من خلق الله، فالله خالق كل شيء وأفعال العباد من خلق الله، قال سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96] ومشيئته أي العبد موجودة لكنها معلقة بمشيئة الله، قال سبحانه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28-29].

ومع ذلك فمن قال من أهل السنة بنظرية الكسب وهو أبو الحسن الأشعري فإنه يعذر في اجتهاده؛ لأنه اجتهد فأخطأ، ومن هنا فهو مأجور على اجتهاده معذور في خطئه.

الإيمان بالكتب المنزلة عند أهل السنة

المسألة الثالثة: هي الإيمان بالكتب المنزلة، فقد أجمع أهل السنة جميعاً على أن الكتب المنزلة من عند الله هي من كلام الله، وأنها ليست من كلام المخلوقين، وأنها غير مخلوقة ولا صفة لمخلوق، وإنما اختلفوا فقط في الكلام اللفظي هل هو صفة الله أو الكلام النفسي هو صفته فقط؟

فالخلاف هنا نقطة يسيرة محصورة، وهي من الأمور الاجتهادية التي ما حسمها النص ولا تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعون، فيمكن أن يعذر المخطئ فيها، فإذا عرفنا هذا عذر بعضنا بعضاً، وعرفنا أن الخلاف بين أهل السنة في العقائد في نقاط يسيرة محصورة وهي التي بيناها، وأن ما سواها من الأمور الخلاف فيه إنما هو بين أهل السنة وبين الفرق الضالة المبتدعة كالجبرية والقدرية وغيرهم.

أما الثلاثة الأخرى فأولاً: الإيمان بالله محل اتفاق في عمومه بين أهل السنة، بل بين المسلمين جميعاً، وإنما الخلاف في جزئيات يسيرة.

فالإيمان بالله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الإيمان بألوهيته، أي أنه خالق هذا الكون الذي يستحق العبادة والدعاء ويستحق أن يصمد إليه في الحوائج كلها.

الثاني: الإيمان بربوبيته: أي الإيمان بأنه لا خالق للكون سواه وأنه وحده المدبر لشئون هذا الكون كله، ولا يمكن أن يعطي أحد ما منعه، ولا يمنع أحد ما أعطى، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فهذان محل اتفاق بين أهل السنة كلهم.

الثالث: الإيمان بأسمائه وصفاته: وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: الإيمان بأسمائه وهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً. الثاني: الإيمان بصفاته وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يدرك العقل كونه صفات لله، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، فإنهم يؤمنون بكل ما يدرك العقل كونه صفة لله، والصفة إنما ينعت بها الموصوف.

ومن ذلك العلم، فالله عليم، والله عليم بذات الصدور، والإرادة كذلك، فيدرك العقل كونها صفة، فلذلك تقول: الله مريد، وكذلك القدرة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك الحياة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك القدم والبقاء يدرك العقل كونهما صفة، ولذلك يمكن أن يقال: الله باق، الله قديم إلى آخره، وكذلك الوحدانية يدرك العقل كونها صفة، وكذلك السمع والبصر والكلام يدرك العقل كونها صفات، ولذلك يوصف الله سبحانه وتعالى بها.

القسم الثاني: ما يدرك العقل كونه أفعالاً لله وهو أيضاً محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، إلا في جزئيات يسيرة من الأفعال سنذكر الخلاف فيها، فمثلاً: خلق السماوات والأرض وخلق الكون كله من أفعال الله سبحانه وتعالى، وإنزال المطر وإنبات النبات والهداية والإغواء والإماتة والإحياء، كل ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى التي لا يخالف فيها أحد من أهل السنة، فهم يعلمون جميعاً أن هذه الأفعال من أفعال الله ويتفقون عليها لا ينكرها أحد منهم.

من الأفعال ما يتوهم منه بعض الناس تشبيهاً لله بخلقه، كتلك التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وهو خلاف ضيق محصور.

فجمهور أهل السنة يعلمون أن كل ما أخبر الله به عن نفسه فهو حق وليس فيه نقص، فإن النقص محال عليه، ومن هنا أنه سبحانه وتعالى ينزل كل آخر ليلة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وبالليل ليتوب مسيء النهار، ويداه سحاءان بالعطاء لا تغيضان، والله سبحانه وتعالى يقبل الصدقات من عباده، والله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة لفصل الخصام، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ[الفجر:22-23] والله تعالى يغضب ويرضى، والله سبحانه وتعالى يضحك ضحكاً يليق به.

فكل هذه أفعال تليق به تخالف أفعال المخلوقين، ولا يشابهها فعل المخلوق وإن اشترك معها في الاسم، فلا أحد من أهل السنة يشبه هذه الأفعال من أفعال الله بأفعال المخلوقين أبداً، بل يؤمنون بأن الله يفعل فعلاً يليق بجلاله وهو كمال في حقه، وأن المخلوق يفعل فعلاً يليق بقدره أيضاً، وأن أفعال المخلوقين التي تنسب إليهم هي من أمرهم، وأن أفعال الله التي تنسب إليه هي من أمره سبحانه وتعالى، وأمر الله مباين لأمر المخلوقين.

ولا يشبه أحد من أهل السنة نزول الله أو استواءه أو تكلمه أو غضبه أو رضاه أو ضحكه بشيء من أفعال المخلوقين أبداً! بل يؤمنون جميعاً بأن ذلك لا يشبه شيئاً من أفعال المخلوقين، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بذلك وأنها صفات كمال في حقه.

إذاً الخلاف في صفات الأفعال خلاف يسير محصور، فلابد أن نعلم أن الذين يروجون هذه الأفهام ما أرادوا بذلك تكذيب الله ولا الرد عليه ولا الرد على رسوله، بل أرادوا بذلك تنزيهه عن خلقه حينما فهموا أن ذلك نقص، والغلط من قبل الفهم فقط وليس الخطأ في النص!، لكننا نعذرهم في خطئهم؛ لأنهم أعملوا عقولهم في تنزيه الله عما لا يليق به وآمنوا به وأحبوه وعبدوه، فلذلك أخطئوا في الاجتهاد في أمر يسير جداً، ليس من الأمور التي فصلها الشرع تفصيلاً وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، فإنما هو أمر محصور يسير.

القسم الثالث: ما لا يدرك العقل كونه صفة ولا فعلاً، فهذا قد اختلف فيه أهل السنة وهو فقط في أمور محصورة لا تتعدى تسعة: وهي الوجه والعين واليدان والأصابع والقدم والساق؛ فهذه أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عنه، وقد أجمع المسلمون جميعاً على أن ما قاله الله حق وأن ما قاله رسوله حق، وإنما اختلفوا فقط هل هي صفات لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين تقر كما جاءت ونؤمن بها كما هي، أم نؤولها بصفات أخرى من صفات الخالق، أو نحيل علمها إلى الله.

فهم إذاً جميعاً متفقون على أنها حق وأنها صدق وأنها من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن من أصاب منهم علم أنها لله سبحانه وتعالى كما يليق به وأنها لا تشبه صفات المخلوقين وأنها وصف كمال في حق الله، فوجه الله كمال له، ويداه مبسوطتان كمال له، وعينه سبحانه وتعالى لا يغيب عنها شيء من خلقه، وكذلك قدمه وساقه وأصابعه كل ذلك ثابت له سبحانه وتعالى، فكل هذا من صفات الكمال في حقه سبحانه وتعالى، والذين يؤولون أو يحيلون العلم في ذلك إلى الله ويفوضونه إليه اجتهدوا فأخطئوا، لكن اجتهادهم مقبول؛ لأنهم في مثل هذا الموقف إنما طلبوا الإيمان بالله وتنزيهه عن النقص، وأرادوا تحقيق الإيمان به وتحقيق محبته، فنحن نعذرهم في خطئهم.

ومن هنا فلا يحل التعصب في مثل هذا النوع، وبالأخص في الأمور التي تؤدي إلى تكفير المسلمين بغير حق، أو تفسيقهم وتبديعهم بغير حق، فكل ذلك من الممقوت شرعاً المذموم، ولهذا فإن الشافعي رحمه الله قال في الأم: كل الفرق تقبل شهادتهم وروايتهم إلا الخطابية فإنهم يستحلون الكذب لنصرة من وافقهم في المذهب، فجميع الفرق حتى وإن كانوا من القدرية أو من الشيعة أو من الخوارج من لم يصل منهم إلى درجة التكفير في بدعته تقبل شهادته وروايته، ولذلك فإن البخاري رحمه الله أخرج في الصحيح عن عبيد الله بن موسى وهو من الشيعة، وعن هشام الدستوائي وقد قال بالقدر، وعن عمران بن حطان وهو من الخوارج.

فأصحاب الفرق إذا لم يصلوا إلى حد التكفير في بدعتهم، ولم يكن مطعوناً عليهم في دينهم بالصدق، فإنه تقبل روايتهم وشهادتهم، ولذلك فإن في المذهب المالكي أن الاقتداء بهم في الصلاة يجوز، وأن الحرورية وهم من أوائل الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه تصح الصلاة خلفهم، وذلك أن علياً رضي الله عنه قال: حين سئل عنهم: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا)، وقال لهم: (إن لكم علينا ثلاثاً: ألا نبدأكم بقتال ما لم تقاتلونا، وألا نمنعكم مساجد الله ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا).

والتعصبات في مثل هذا النوع غير مقبولة.

الإيمان بقدر الله خيره وشره محل اتفاق في الجملة بين المسلمين، وبين أهل السنة والجماعة، فكلهم يؤمنون بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وإنما حصل الخلاف في أمر واحد وهو: أفعال العباد واستطاعتهم وقدرتهم عند صدور الفعل منهم؛ هل أفعال العبد هي من فعل العبد أم من فعل الله سبحانه وتعالى خلقها الله وقربها إلى العبد فجعلها من كسبه فتحصل عند إرادة العبد لا بها؟ هذا محل خلاف، ومذهب جمهور أهل السنة وهو مذهب الحق: أن تلك الأفعال هي من أفعال المخلوقين لهم قدرة وإرادة، قدرة يفعلون بها أفعالهم وإرادة يريدون بها، ولكنها من خلق الله، فالله خالق كل شيء وأفعال العباد من خلق الله، قال سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96] ومشيئته أي العبد موجودة لكنها معلقة بمشيئة الله، قال سبحانه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28-29].

ومع ذلك فمن قال من أهل السنة بنظرية الكسب وهو أبو الحسن الأشعري فإنه يعذر في اجتهاده؛ لأنه اجتهد فأخطأ، ومن هنا فهو مأجور على اجتهاده معذور في خطئه.

المسألة الثالثة: هي الإيمان بالكتب المنزلة، فقد أجمع أهل السنة جميعاً على أن الكتب المنزلة من عند الله هي من كلام الله، وأنها ليست من كلام المخلوقين، وأنها غير مخلوقة ولا صفة لمخلوق، وإنما اختلفوا فقط في الكلام اللفظي هل هو صفة الله أو الكلام النفسي هو صفته فقط؟

فالخلاف هنا نقطة يسيرة محصورة، وهي من الأمور الاجتهادية التي ما حسمها النص ولا تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعون، فيمكن أن يعذر المخطئ فيها، فإذا عرفنا هذا عذر بعضنا بعضاً، وعرفنا أن الخلاف بين أهل السنة في العقائد في نقاط يسيرة محصورة وهي التي بيناها، وأن ما سواها من الأمور الخلاف فيه إنما هو بين أهل السنة وبين الفرق الضالة المبتدعة كالجبرية والقدرية وغيرهم.