العدل في المعاشرة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد..

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: الحديث اليوم عن واحدٍ من المشاهد الاجتماعية المؤلمة، وهي مشكلةٌ قائمة ليست ضرباً من الخيال أو الافتراض.

عباد الله: ما هو ذلك المشهد؟ وما أسبابه ودوافعه؟ وقبل أن نخوض في هذا، سنقف لنعرض عليكم هذا المشهد الاجتماعي الأليم، الذي يحدث وكثيراً ما يحدث ويتكرر في كثيرٍ من بيوتنا.

أيها الإخوة: كثيراً ما نسمع ونعرف وينقل إلينا أن بعض المسلمين حينما يصلُ إلى سن الأربعين أو الخمسين وما حولها، يحلو له أن يتزوج امرأةً ثانية، لأسبابٍ عديدة، ولعل من أهمها: أن المرأة مع زوجها في هذا السن، قد تكون قاربت نهاية الشباب في أنوثتها وقوامها، لا سيما بعد أن قدمت أكبر وأجل واجباتها ممثلاً في إنجاب الأولاد، والقيام عليهم بحسن الرعاية والتربية، وإلى هذا الحد من هذا المشهد، فلا غبار ولا اعتراض على ما يحدث، لأن شباب الرجال أطول عمراً من شباب النساء، لكن المشكلة والمصيبة والمأساة، هي إعراض بعض المتزوجين عن زوجاتهم الأُول، وأعني بالإعراض عدم المبالاة والتقدير والمراعاة لشعور الزوجة أم الأولاد، فترى الواحد من أولئك ينقلب وحشاً فظاً غليظ القلب، لا يطيق أن يسمع من زوجته الأولى شكوى، ولا يجد فراغاً ليقضي لها حاجة، وكثيراً ما يتذرع بقلة ذات اليد؛ أو عدم أهمية حاجتها، وحينما تسأله زوجته الأولى شيئاً من المال لقضاء حوائجها ومتطلباتها، يدخل الواحد من أولئك عابساً أو مقطباً، ويخرج كذلك، ويغضب لأتفه سببٍ عند زوجته الأولى، ويقيم الدنيا ولا يقعدها، ويحمل الأمّ المسكينة مسئولية أي خطأٍ أو تقصيرٍ يقع من أولاده، والويل ثم الويل لها إن فقد شيئاً من حاجياته، وإن كانت زوجته الثانية -الجديدة- تسكن معه في نفس البيت، فالويل للأولى إن شكت الثانية منها، أو أبدت على الزوج تغيراً بسببٍ مزعومٍ ينسبُ إلى الزوجة الأولى، وفي جوٍ مدلهمٍ بالمشاكل والخلافات، يصل الأمر إلى غايته ونهايته، فتقف الزوجة الأولى أم الأولاد، لتفصح عن مكنون سترها، ولتكشف عن خفي سترها، فماذا تكون الإجابة من ذلك الزوج؟ وماذا تتوقعون أن يقول مجيباً؟!

إن الإجابة المريرة المؤلمة والتي سمعنا بها في كثيرٍ من هذه الحالات هي قول الكثير منهم: إن أعجبك هذا الوضع على ما فيه ورضيت به فأهلاً وسهلاً، وإن لم يعجبك فالطلاق الطلاق ليس عندي لك شيءٌ سواه.

وهنا تنكسر كبرياء الأمومة، وتضيع سنون العشرة، ويقابل المعروف بالأذى، والإحسان بالإساءة، ثم يحصل الطلاق في لحظةٍ من غضبٍ وجدال، أو تبقى الزوجة الأولى معذبة بين نارين مشتعلتين:

الأولى: نار الطلاق والفراق.

الثانية: نارُ الآلام والعيش المليء بالسخط والتبرم وسوء المعاملة وتحطيم المشاعر.

أيها الإخوة: أليست صورة واقعة؟! ألم تسمعوا بها؟! ألم تعرفوا عنها؟! ألم تقرءوا في رسائل المعذبات إلى الصحف والمجلات؟!

نعم، كل هذا واقعٌ وحاصل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الفهم الخاطئ لهذه الظاهرة

أيها الإخوة في الله: وفي خضم هذه المشاهد الاجتماعية المؤلمة، يقف من يقف من المخدوعين، أو الجاهلين، ليقول: هذه ثمرات تعدد الزوجات، وهذه نهاية الذين يجرءون على التعدد، ويغيرون على أنفسهم، إلى غير ذلك من عبارات الإرجاف والتشكيك والوسوسة الشيطانية، ليقف من أراد الزواج محتاراً خائفاً غير واثق، وحينها قد يفضل بعضهم السفر أو الالتفات يميناً أو شمالاً ليقضي مآربه وأوطاره في سبيلٍ حرام وبطريقٍ خفيٍ، ليسلم من سبة ما سمعه زوراً واختلاقاً عن مشاكل تعدد الزوجات.

لا اعتراض على تعدد الزوجات ولكن عاشروهن بالمعروف

أيها الإخوة: وأمام هذه الصورة المأساوية نقف قليلاً موضحين لما سبق أنه لا اعتراض لأحدٍ على تعدد الزوجات، وأنه أمرٌ شرعيٌ لا شك في سنيته وترغيب الشريعة فيه، ولكن هنا ألف اعتراض واعتراض على تعدد الزوجات لمن سيعامل زوجته الأولى بذلك الأسلوب، وهنا ألف اعتراض واعتراض على تعدد الزوجات لمن سيعامل زوجته الأولى بتلك الطريقة؛ لأن العدلَ شرطٌ في التعدد، ومن كانت تلك سجيته، وذاك سلوكه في معاملة زوجته الأولى، فهو في وادٍ والعدل في وادٍ آخر، فليتق الله، ولا يحمل نفسه من الإثم والعذاب ما لا يطيق، وذلك بالجور والجنف والميل المتعمد في المعاملة والمعاشرة.

فإلى الذين يقعون في تلك المشاهد السيئة من المعاملة والمعاشرة لأزواجهم، وأمهات أولادهم، وينسون المعروف والجميل، لسبب زوجةٍ عارضةٍ جديدة، وفتاةٍ صغيرة.

إلى أولئك الذين نسوا حق الزوجة الكبيرة التي صبرت على آلام الفقر، ورضيت بالعيشة قانعةً بزوجها على أقل القليل من الطعام والشراب، راضيةً بالضيق من السكن والمكان.

إلى أولئك الذين تزوجوا بنات الأمس، وأمهات اليوم، ولم يشترطن عليهم بالزواج خادماتٍ أو سائقين.

إلى أولئك الذين لم تثقل كواهلهم بالمهور الغالية والصداق الباهظ.

إلى أولئك الأزواج جميعاً نقول: اتقوا الله، اتقوا الله، اتقوا الله!

أهذا جزاء الإحسان؟!

أهذا جزاء الصبر والمصابرة على أيام عيشٍ مضت بين الفقر والضيق والضراء؟!

أهذا هو الوفاء بالمعروف؟!

أهذا هو رد الجميل أن تجعل ضرتها في وجهها وتسكن معها وهي كارهةٌ غير راضيةٍ بمساكنتها؟!

أمن حسن العشرة أن تجعل الزوجة الثانية الصغيرة أمام الزوجة الأولى الكبيرة لتجرح قلبها وفؤادها؟! حينما يضاحك الزوج هذه الزوجة الصغيرة، وحينما ترى الزوجة الكبيرة ضرتها الصغيرة، وهي في شباب أنوثتها وصغر سنها، وهي ترى زوجها يميل إليها بنظراته، ويضاحكها بعباراته، ويسارقها الحركات والألفاظ والعبارات.

إن هذا لأكبر جرحٍ لشعور أمٍ مسكينة، إن هذا لأكبر ظلمٍ لمشاعر وفية صادقة، إن هذا لأسوء جزاءٍ يجزى به المعروف والإحسان.

أيها الإخوة: نعود فنقول: إن هذه ليست دعوة إلى ترك التعدد وعدم الزواج، بل إنما هو دعوة إلى حسن المعاشرة، خاصةً مع ذلك الجيل الوفي الصادق من النساء الذي يندر أن نجد مثله في هذه الأيام، ذلك الجيل اللاتي قدمن أفضل التضحيات وأجملها في سبيل الحفاظ على رباط الزوجية الكريم، وتربية النشء الصالح، مهما كدرته شوائب الفقر والمرض، وضيق المسكن وقلة ذات اليد.

إلى أولئك الذين وقعوا في هذا المشهد الاجتماعي الأليم، ننصحهم ألا يجمع المرأة بجارتها أو ضرتها إلا برضىً منهما، وإلا فليقسم الدار قسمين، وليكن قريباً منهما، وهما منفصلتان عن بعضهما، أو فليجعل داراً مستقلةً أخرى إن قدر على ذلك.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين امرأتين تحت سقفٍ واحد، فلكم في رسول الله أسوةٌ حسنة، ننصح أولئك ألا يتحدث الواحد منهم بجمال زوجته الصغيرة أمام الأخرى، وخواص أمورها، من لباسٍ أو فراشٍ أو غيره، لأن ذلك يشعل الغيرة، ويؤجج نيرانها، وربما أدى ذلك إلى الانتقام بما لا تحمد عقباه، والعياذ بالله.

ننصح أولئك بحسن الخلق ولطف المعاشرة للجميع، وليتذكر الجميع قول الله سبحانه وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]

فأين المعروف في هذا التصرف؟! وأين الإحسان في هذا السلوك؟!

أمن المعروف أن تجعل الفتاة الصغيرة، تتباهى بجمالها وإظهار مفاتنها أمام زوجتك الأولى الكبيرة، لتجرح كبرياء الأم، وتكسر مشاعرها التي قدمت وتقدم كثيراً مما لا يتسع المجال لذكره.

أمن حق هذه الأم التي صبرت معك على الفقر والآلام، وعلى الضراء والسراء، وعلى الحل والترحال، أمن معاشرتها بالمعروف أن تبادل ضرتها الصغيرة بنظراتٍ وعباراتٍ لتجعل في ذلك خنجراً يطعن قلبها، ولتجعلها لا تجد شكوى إلا إلى ربها؟ فتنطلق مسكينةً مهرولة؛ هذا ما سمعته، وهذا ما نقل إلي، وليس افتراضاً كما قلته لكم، بل هو واقعٌ ويتكرر ويكثر وقوعه في مجتمعنا.

خيركم خيركم لأهله

إلى أولئك نقول لهم: تذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيارهم خيارهم لنسائهم).

نذكرهم بهذا الحديث، فلتنصت له الآذان، ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل) حديثٌ صحيح رواه الإمام أحمد وغيره، وليس الميل هنا في الأمور الغريزية الفطرية، إذ أن شهوة الرجل تغلب على نفسه، لكن الميل الذي ينهى عنه إنما هو في النفقة، وفي السكنى والعطاء، ومن أشد الظلم ومن أشد الميل جرح كبرياء الزوجة الأولى وكسر مشاعرها أمام ضرتها الصغيرة، هذا أعظم وأخطر من الميل، وأشد إثماً وعقوبة، ما يريد أولئك؟ ما الذي يدفع بعض الأزواج لكي يتلذذوا بإثارة غيرة أمٍ مسكينة قد بدأ الشيب في شعرها؟ ألا يحترم سنها؟! ألا يقدر عشرتها؟! ألا يقدر الحمل والولادة وإنجابها له عدداً من الأولاد والبنات؟! إن الذي يقع في ذلك ويصر عليه لمن اللؤم بمكان، وفي سوء العشرة بدرجةٍ عظيمة.

نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أيها الإخوة في الله: وفي خضم هذه المشاهد الاجتماعية المؤلمة، يقف من يقف من المخدوعين، أو الجاهلين، ليقول: هذه ثمرات تعدد الزوجات، وهذه نهاية الذين يجرءون على التعدد، ويغيرون على أنفسهم، إلى غير ذلك من عبارات الإرجاف والتشكيك والوسوسة الشيطانية، ليقف من أراد الزواج محتاراً خائفاً غير واثق، وحينها قد يفضل بعضهم السفر أو الالتفات يميناً أو شمالاً ليقضي مآربه وأوطاره في سبيلٍ حرام وبطريقٍ خفيٍ، ليسلم من سبة ما سمعه زوراً واختلاقاً عن مشاكل تعدد الزوجات.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2806 استماع
حقوق ولاة الأمر 2669 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2654 استماع
توديع العام المنصرم 2649 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2557 استماع
من هنا نبدأ 2497 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2463 استماع
أنواع الجلساء 2462 استماع
إلى الله المشتكى 2438 استماع
الغفلة في حياة الناس 2438 استماع