التوبة وأثرها


الحلقة مفرغة

مراحل التوبة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى افترض على عباده أجمعين أن يتوبوا إليه، فقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، وهذه التوبة هي لطف من الله وفضل، وإقالة للعثرات، يقيل الله سبحانه وتعالى عثرات عباده الذين فرطوا في جنبه، فيفتح لهم باباً من قبل المغرب اسمه باب التوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وبهذا تتاح الفرصة لكل من أخطأ وأذنب أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيخرج من ذنبه بتوبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذه التوبة ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: هي توبة الله على العبد، وهي نور رباني يقذفه الله في قلب المذنب ليرجع عن ذنبه ويعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهي توبة الله الأولى على العبد.

المرحلة الثانية: هي توبة العبد نفسه، واستغفاره ورجوعه عمَّا فرط فيه بجنب الله، وندمه على ما مضى، وعزيمته أن لا يعود إلى ذلك الذنب، وإرجاعه للحق إلى مستحقه إن كان ذلك في حقوق العباد، وهذه التوبة هي من فعل المكلف، وهي التي يثاب عليها، وهي الواجبة عليه؛ لأن الأولى هي من فعل الله لا يستطيع العبد التدخل فيها.

المرحلة الثالثة: هي توبة الله الثالثة على العبد، بمعنى: قبوله لتوبته. والتوبة عمل من الأعمال، والأعمال كلها عرضة للقبول وللرد، فما شاء الله قبله من الأعمال، وما شاء رده وهو الغني الحميد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وبذلك إذا رضي الله توبة من عبده فإنه يتقبلها، ويسمى ذلك القبول توبة في عرف الشرع، ولهذا قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:117-118]، فهذه توبة الله على العبد ليتوب.

الإسلام الحسن هو الذي يكفر الذنوب

ثم بعدها إذا تاب العبد وأحسن تاب الله عليه، وأعظم التوبة الدخول في الإسلام بعد الكفر، فإنه يجب ما قبله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام يجب ما قبله)، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الإسلام المقصود هنا هو الإسلام الحسن لا كل إسلام، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان أزلفها)، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه.

فالإسلام الذي يكفر الذنوب هو الإسلام الحسن الذي يخلص فيه المرء لله، ويحسن ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، ويفعل ذلك تقرباً إلى مولاه واستسلاماً لأحكامه، فمن يعمل العمل ابتغاء ظهور أو ابتغاء التسمية أو ابتغاء الذكر في هذه الدنيا، أو يعمله لقصد حصوله على هدف من أهدافه أو غرض من أغراضه فإن ذلك العمل لا يقبل، بل يرد على صاحبه، وليس إسلامه حسناً، بل الإسلام الحسن هو الذي يقتضي الاستسلام الكامل لأمر الله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، فإذا كان العبد لا يستسلم تمام الاستسلام لأمر الله فما وافق هواه من الشرع أخذ به وما خالف هواه رده أو التمس المعاذير لنفسه فهو غير حسن الإسلام، وعمله مردود عليه، ولا يقبل الله توبته حينئذ، ولا تكفر عنه سيئاته السابقة لذلك الإسلام المزيف.

ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور:49-52]، فهذه التوبة المفترضة على المؤمن إذا أحسن إسلامه تكفر ما سبق، وهي بحسب الذنب الذي يتوب الإنسان منه، فإذا كان الذنب شركاً بالله فإن التوبة منه لا تكون إلا بالإسلام، وإذا كان الذنب بترك حق من حقوق الآدميين فإن التوبة منه لا تكون إلا بإرجاع ذلك الحق لمستحقه، وإذا كان الذنب بحق من حقوق الله المحضة فإن التوبة منه بالندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والإسراع للخروج منه إذا كان متلبساً بالجريمة في وقتها، وكذلك النية على أن لا يعود إلى هذا الذنب، فبهذا تصح توبته.

صحة التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر

وتصح التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر؛ لأن الإنسان له جهات متعددة، وكل هذه الجهات تقع فيها الذنوب والطاعات، فيمكن أن يكون طائعاً بجوارحه عاصياً بلسانه أو بقلبه أو بماله، فيتوب من إحدى الجهات وهو متلبس بذنب آخر، ولا يبطل ذلك توبته، بل قد تتقبل توبته في ذلك الذنب وحده ويبقى ما عدا ذلك في المشيئة، ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى في إعلان البراءة من المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[التوبة:11]، فإن تابوا من الكفر -ولا يكون ذلك إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدخول في الإسلام- وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، فجعل الإسلام توبة مما سبقه من الكفر، والتوبة بهذا المعنى تشمل كل ذنب من الذنوب، فكل ذنب سواءٌ أكان شركاً أكبر لا يغفر، أم كان ذنباً لا يترك كحقوق العباد، أم كان ذنباً في المشيئة كحقوق الله المتمحضة فالإنسان مطالب بأن يتوب منه.

الحالات التي لا تقبل فيها التوبة

تقبل التوبة إلا في حالين:

الحال الأول: حال الغرغرة فإذا غرغر الإنسان وهو قد ودع الدنيا وختم على صفحات أعماله وأصبح الموت أقرب إليه من شراك نعله فحينئذ لا تقبل توبته؛ لأن أعماله قد ختمت، وهو يشاهد قبل الموت أحوالاً عجيبة هي التي ذكرها الله في قوله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، فالمرء عندما يدبر عن الدنيا ويقبل على الآخرة يرى أموراً عجيبة لم تكن تخطر على باله، ولم يكن يتصورها بوجه من الوجوه، يشاهد ملائكة ربه، فيرى ملك الموت الذي يأتيه لقبض روحه، ويرى الملائكة الآخرين الذين كأن وجوههم الشموس يجلسون مد البصر وهم مادو أيديهم: أخرجوا أنفسكم.

ويشاهد كذلك الفتان الذي يدعوه للموت على غير الإسلام، فـيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ[إبراهيم:27]، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المؤمنين أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ففتنة المحيا هي قبل الموت عند الغرغرة، وفتنة الممات هي سؤال القبر الذي يسأل فيه الإنسان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ وفي هذه الحال حال الغرغرة لم يعد للإنسان أمل الرجوع، فلذلك توبته هي من قبيل توبة فرعون عندما أدركه الغرق فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ[يونس:90-91]، فلا يتقبل الله ذلك، فلهذا ترد التوبة ولا تقبل في حال الغرغرة، وأكثر الكفار يتوبون في وقت الغرغرة؛ لأنهم يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولهذا ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن النصارى جميعاً يبدو لهم عيسى قبل موتهم، فيخبرهم أنه عبد الله ورسوله وليس ابن الله، وذلك مصداق قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا[النساء:159]، فيعرض عليهم عيسى بن مريم بصورته عند الموت فيقول: أنا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، ولست ابن الله، ولست الله. فتقوم عليهم الحجة بذلك، ويشهد عليهم عيسى يوم القيامة، لهذا قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أي: ليؤمنن بعيسى قَبْلَ مَوْتِهِ أي: قبل موت الشخص من أهل الكتاب وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا[النساء:159] بذلك أنه قد بلغهم أنه ليس ابن الله، وليس هو الله، وإنما هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، هذا مذهب جمهور أهل التفسير.

وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود على عيسى بن مريم، فيكون معنى (إلا ليؤمنن به قبل موته) أي: قبل موت عيسى بن مريم فإن عيسى بن مريم سينزل في آخر الزمان، ولن يموت قبل ذلك، وإذا نزل آمن به كثير من أهل الكتاب وصدقوا عندما يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقاتل اليهود حتى يقتل المسيح الدجال.

الحال الثاني الذي لا تقبل فيه التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها. لأن الحجة قد قامت، فهذه الدنيا كلها دار امتحان، والناس فيها مبتلون بهذه الأعمال، والامتحان إذا انكشف وعرفت نتيجته وعرف جوابه فلن يعود النجاح حينئذ وارداً، فإذا وقف الأستاذ وحل الامتحان وشرحه للناس فما فائدة أن يأتي شخص في مؤخرة الركب ويقول: أنا أحل لك الأسئلة وأعيد عليك ما قلت لنا؟! هل يعتبر هذا ناجحاً في الامتحان؟! لا يعتبر ناجحاً فيه، فكذلك بعد أن تطلع الشمس من مغربها فإن الناس قد قامت عليهم الحجة النهائية في هذه الدنيا، وقد أقبلت الآخرة مرتحلة، وأدبرت الدنيا مرتحلة كذلك.

ومن هنا لا تقبل التوبة ممن كان حياً قبل مطلع الشمس من مغربها، والله سبحانه وتعالى يقول: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ[الأنعام:158]، فإذا طلعت الشمس من مغربها فهذا بعض آيات ربك، وإذا جاء ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويدخل في ذلك أنواع التوبة من الذنوب كلها.

أقسام التوبة

ثم إن هذه التوبة تنقسم إلى قسمين:

توبة نصوح صادقة صاحبها صادق في توبته، صادق في توجهه إلى الله، قاصد بذلك الخروج من الذنب، وهذه هي التوبة المقبولة.

وتوبة غير نصوح، فصاحبها عازم على الرجوع ناوٍ للتكرير، إنما يتوب بلسانه وقلبه يكذب ذلك، وهذه التوبة هي زيادة افتراء واقتراف -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن صاحبها لم يعزم على ترك المنهي عنه أصلاً، وإنما قال بلسانه قولاً لا ينويه بقلبه، وأشهد الله على ما يقول وهو كاذب، فكلامه الذي يقوله يلعنه، واستغفاره الذي يستغفر به يلعنه؛ لأنه يكذبه من باطنه وقلبه.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى افترض على عباده أجمعين أن يتوبوا إليه، فقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، وهذه التوبة هي لطف من الله وفضل، وإقالة للعثرات، يقيل الله سبحانه وتعالى عثرات عباده الذين فرطوا في جنبه، فيفتح لهم باباً من قبل المغرب اسمه باب التوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وبهذا تتاح الفرصة لكل من أخطأ وأذنب أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيخرج من ذنبه بتوبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذه التوبة ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: هي توبة الله على العبد، وهي نور رباني يقذفه الله في قلب المذنب ليرجع عن ذنبه ويعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهي توبة الله الأولى على العبد.

المرحلة الثانية: هي توبة العبد نفسه، واستغفاره ورجوعه عمَّا فرط فيه بجنب الله، وندمه على ما مضى، وعزيمته أن لا يعود إلى ذلك الذنب، وإرجاعه للحق إلى مستحقه إن كان ذلك في حقوق العباد، وهذه التوبة هي من فعل المكلف، وهي التي يثاب عليها، وهي الواجبة عليه؛ لأن الأولى هي من فعل الله لا يستطيع العبد التدخل فيها.

المرحلة الثالثة: هي توبة الله الثالثة على العبد، بمعنى: قبوله لتوبته. والتوبة عمل من الأعمال، والأعمال كلها عرضة للقبول وللرد، فما شاء الله قبله من الأعمال، وما شاء رده وهو الغني الحميد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وبذلك إذا رضي الله توبة من عبده فإنه يتقبلها، ويسمى ذلك القبول توبة في عرف الشرع، ولهذا قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:117-118]، فهذه توبة الله على العبد ليتوب.

ثم بعدها إذا تاب العبد وأحسن تاب الله عليه، وأعظم التوبة الدخول في الإسلام بعد الكفر، فإنه يجب ما قبله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام يجب ما قبله)، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الإسلام المقصود هنا هو الإسلام الحسن لا كل إسلام، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان أزلفها)، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه.

فالإسلام الذي يكفر الذنوب هو الإسلام الحسن الذي يخلص فيه المرء لله، ويحسن ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، ويفعل ذلك تقرباً إلى مولاه واستسلاماً لأحكامه، فمن يعمل العمل ابتغاء ظهور أو ابتغاء التسمية أو ابتغاء الذكر في هذه الدنيا، أو يعمله لقصد حصوله على هدف من أهدافه أو غرض من أغراضه فإن ذلك العمل لا يقبل، بل يرد على صاحبه، وليس إسلامه حسناً، بل الإسلام الحسن هو الذي يقتضي الاستسلام الكامل لأمر الله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، فإذا كان العبد لا يستسلم تمام الاستسلام لأمر الله فما وافق هواه من الشرع أخذ به وما خالف هواه رده أو التمس المعاذير لنفسه فهو غير حسن الإسلام، وعمله مردود عليه، ولا يقبل الله توبته حينئذ، ولا تكفر عنه سيئاته السابقة لذلك الإسلام المزيف.

ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور:49-52]، فهذه التوبة المفترضة على المؤمن إذا أحسن إسلامه تكفر ما سبق، وهي بحسب الذنب الذي يتوب الإنسان منه، فإذا كان الذنب شركاً بالله فإن التوبة منه لا تكون إلا بالإسلام، وإذا كان الذنب بترك حق من حقوق الآدميين فإن التوبة منه لا تكون إلا بإرجاع ذلك الحق لمستحقه، وإذا كان الذنب بحق من حقوق الله المحضة فإن التوبة منه بالندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والإسراع للخروج منه إذا كان متلبساً بالجريمة في وقتها، وكذلك النية على أن لا يعود إلى هذا الذنب، فبهذا تصح توبته.

وتصح التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر؛ لأن الإنسان له جهات متعددة، وكل هذه الجهات تقع فيها الذنوب والطاعات، فيمكن أن يكون طائعاً بجوارحه عاصياً بلسانه أو بقلبه أو بماله، فيتوب من إحدى الجهات وهو متلبس بذنب آخر، ولا يبطل ذلك توبته، بل قد تتقبل توبته في ذلك الذنب وحده ويبقى ما عدا ذلك في المشيئة، ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى في إعلان البراءة من المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[التوبة:11]، فإن تابوا من الكفر -ولا يكون ذلك إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدخول في الإسلام- وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، فجعل الإسلام توبة مما سبقه من الكفر، والتوبة بهذا المعنى تشمل كل ذنب من الذنوب، فكل ذنب سواءٌ أكان شركاً أكبر لا يغفر، أم كان ذنباً لا يترك كحقوق العباد، أم كان ذنباً في المشيئة كحقوق الله المتمحضة فالإنسان مطالب بأن يتوب منه.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4839 استماع
بشائر النصر 4290 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4062 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
اللغة العربية 3932 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع