يوم القيامة وتفاوت الناس فيه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى لحكمته البالغة، جعل لهذا الكون حياتين: حياة أولى دنيا، وهي هذه الحياة التي نحن فيها، وهي دار عمل ولا جزاء، وحياة أخرى عليا، هي الحياة الحقيقية: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، أي: هي الحياة المتجددة الحقيقية، فجعل تلك الدار دار جزاء ولا عمل، وجعلها دار دوام وخلود، وجعل هذه الحياة الدنيا دار تغير وانتقال، فكل ما فيها إلى زوال، ولا يستقر شيء مما فيها؛ لأنه عرض سيال، وبقاء الحال من المحال، وكل ما في هذه الحياة الدنيا سرعان ما يتغير ويتقلب، ويتراجع أدراجه، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه )، فلا يرتفع فيها شيء إلا اتضع، ولا يحصل فيها شيء إلا سمج وقبح، وكذلك الغني فيها آيل إلى الفقر، والفقير فيها ربما استغنى، والقوي فيها آيل إلى الضعف، والضعيف ربما قوي، وهكذا فأحوالها متقلبة.

وأحوال أهلها متقاربة، فتقارب أحوال أهلها يقتضي أن الإنسان إذا شعر بذاته وأحس بقوته وغناه، فإن وراء ذلك حالاً آخر، ستقلب له الدنيا ظهر المجن، وتنصرف عنه بعد أن أقبلت، فتعود من حيث أتت أدراجها، وكأنه ما عرفها ولا عرفته، كما قال الشاعر في أبياته المشهورة التي يقول فيها:

تغيرت الأحوال ما أنا بالذي عرفتِ ولا أنت التي كنت أعرف

فتتقلب أحوالها تقلب عجيباً مؤذناً بالزوال والانتقال.

أما الحياة الآخرة، فإن كل ما فيها مؤذن بالثبات والاستقرار، فنعيمها خالد لا ينقطع، وعذابها كذلك دائماً لا ينقطع، نسأل الله السلامة والعافية.

جعل الله تعالى للدار الآخرة علامات تدل على انتقال هذه الدنيا وانتقال أهلها إلى الدار الآخرة، وهي أشراط الساعة الكبرى المنتظرة:

خروج المسيح الدجال

منها خروج المسيح الدجال، فيخرج بين العراق والشام، يعيث يميناً ويعيث شمالاً، ويمكث في هذه الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول كسنة، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، ويجتمع عليه فلول اليهود من مشارق الأرض ومغاربها، وذلك بعد أن أذلوا وأهينوا، وانتزع منهم بيت المقدس، فإن اليهود قد تعهد الله لهم بدولتين:

الدولة الأولى: التي كانت في أيام داود وسليمان عليهما السلام، ومن بعدهما من الملوك.

الدولة الثانية: هي هذه التي هم فيها الآن، وأخبر أنهم سيعيثون فيها في الأرض، ويفسدون فيها، لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ [الإسراء:4-7]، والخطاب هنا: للمسلمين، (إذا جاء وعد الآخرة) أي: إذا جاء وقت الدولة الثانية، ليسوء اليهود وجوهكم معاشر المسلمين، وهذا ما حصل: (( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ )) وهو المسجد الأقصى، (( كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا )) أي: يفسدوا ويهلكوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، فـ(ما) هنا: يمكن أن تكون موصولاً اسمياً، فيكون المعنى: الذي علوه من الأرض، ويمكن أن تكون حرفاً مصدرياً، فيكون المعنى: وليتبروا مدة علوهم، ومدة حكمهم تتبيراً، أي: ليفسدوا في الأرض إفساداً مدة بقاء ملكهم، وإذا أراد الله إهلاك دولتهم، فإنهم سيحاولون غزو البلاد المقدسة، فيغزون المدينة المشرفة، وإذا فعلوا فسيخرج أهل المدينة منها، فيتركونها على خير ما كانت، لا يغشها إلا العوافي، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ( لتتركن المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي، قيل: وما العوافي يا أبا هريرة؟ قال: عوافي السباع، حتى يأتي ذئب أبيض -وفي رواية: كلب أبيض- فيدخل المسجد لا يرده أحد، حتى يغذي على المنبر) أي: حتى يبول على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (وآخر من يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما، حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما ).

وظاهر هذا الحديث أنهم سيضربونها بالسلاح الذي لا يهدم البنيان، ولكنه يهلك الناس، وقد عرف هذا السلاح في زماننا هذا بالغازات السامة ونحوها، وحينئذٍ يترك الناس المدينة، وخرابها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فتح بيت المقدس )، فخراب يثرب فتح بيت المقدس، فيفتح بيت المقدس، وينتزع من اليهود، (وفتح بيت المقدس فتح رومية) أي: تقع حرب دولية، وتستمر حتى تفتح روما.

ويخرج الدجال في السنة السابعة بعد فتح رومية، وقبل ذلك سيسلط الله على اليهود من يسومهم سوء العذاب، كما تعهد لهم بذلك في كتابه، فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167]، وإذا غزوا المدينة فسيجتمع أهل الحجاز على رجل منهم فيبايعونه، فإذا بايعوه بايعه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فتقوم الخلافة الثانية التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرج أحمد في المسند وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة وسكت )، وورد في أحاديث أخرى: ( أنه سيتداول على الخلافة في خلافة آخر الزمان أربع عشرة خليفة وآخرهم المهدي )، وهو الذي يسلم الأمر إلى عيسى بن مريم، بعد أن ينزل المسيح بن مريم عليه السلام.

نزول المسيح بن مريم

ومن هذه الأشراط كذلك: نزول المسيح بن مريم، فينزل وقت صلاة الفجر بين ملكين (كأنما خرج من ديماس) أي: كأنما خرج من حمام، وهو يلبس البيض، أي: الثياب البيض، (وله لمة) أي: شعر وافر، (فإذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تقاطر)، فيدخل المسجد الأموي، مسجد دمشق، (وينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيدخل المسجد ويجد الصلاة قد أقيمت، فيقولون له: يا نبي الله! تقدم، فيقول: ما أقيمت لي؟ فإمامكم منكم يصلي بالناس إمامهم، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات من حينه، أو ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره)، ويلتقي بجيش الدجال، ويأتي إلى ابن مريم عليه السلام، صفوف المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، ويلتحق به بدلاء الشام وعصائب العراق فينصرونه، ويجاهدون في سبيل الله، ويلتقي بـالمسيج الدجال برملة اللد، وهي المعروفة اليوم: بمطار تلابيب، والمطار اليوم يسمى مطار اللد، وفي هذا المكان يلتقي المسيح بن مريم عليه السلام بالمسيج الدجال فيقتله، وحينئذٍ يكسر الصليب ويقتل الخنزير في الأرض كلها، ويقتل اليهود حتى يتكلم الحجر والشجر، (يا عبد الله يا مسلم! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).

طلوع الشمس من مغربها

ومن هذه الأشراط الكبرى: طلوع الشمس من مغربها، بعد أن تحبس ثلاثاً ينتظرها أهل الأرض، فلا تطلع، لا يؤذن لها بالطلوع، ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، وتخرج من باب في المغرب قبل المغرب اسمه باب التوبة، فإذا خرجت منه الشمس أغلق، فلم تقبل توبة من لم يكن تائباً، أو عمل صالحاً من قبل.

ثلاثة خسوفات

ومنها كذلك: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم الخسفين الذين في المشرق وبالمغرب، إلا أنه بين الخسف الذي بجزيرة العرب، فبين أن جيشاً يأتي من قبل الشام يغزو البيت الحرام، حتى إذا كانوا بالبيداء، وهي أرض مستوية جنوب المدينة، خسف بأولهم وآخرهم، فقالت عائشة: (يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم، فقال: يبعثون على نياتهم ).

ومن هذه الأشراط: الدخان المنتشر والنار التي تسوق الناس من قعر عدن، تحشرهم إلى أرض الشام، ومنها يحشرون إلى المحشر.

ومن هذه الأشراط الكبرى: رفع القرآن، وخروج الدابة التي تخرج في أشد الحرمين حرمة، وتخرج والناس صائمون في رمضان، فتخرج من صدع خلف الصفا، فتدخل المسجد لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب، وتكلم الناس على الصفا بكلام يفهمونه، وتذهب في شعب أجياد، فتختفي عن الناس.

خروج يأجوج ومأجوج

ومنها وهو آخرها: خروج يأجوج ومأجوج، فهم آخر الأشراط الكبرى، يخرجون من قبل المشرق، فيعيثون في الأرض فساداً، ويحصرون المسيح بن مريم ومن معه من المسلمين، فيدعو عليهم، فيسلط الله عليهم عذاباً من عنده، فيهلكهم، لكنهم يملئون الأرض بزهمهم ونتنهم، فيستسقي المسلمون، فيأتي مطر فيذهب بجثثهم، فتعود الأرض كالكرسفة البيضاء، قد زال عنها كل ما فيها من الأدران والوسخ.

وهذه هي المرة الثانية التي تطهر فيها الأرض، وهذه الأرض التي نحن عليها تطهر ثلاث مرات:

التطهير الأول: بطوفان نوح حين طهرها الله به الشرك.

والتطهير الثاني: بالطوفان الثاني الذي يأخذ يأجوج ومأجوج ويذهب بهم.

والتطهير الثالث: عندما يتكفئها الجبار بيمينه، كما يتكفأ أحدكم خبزته، نزولاً لأهل الجنة، فيقلبها الجبار في يمينه، فتجتمع بركتها وخيرها، وتشهد على كل أهلها، بما عملوا عليها، إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:1-8]، يتكأفها الجبار بيمنه، فيجعلها نزلاً لأهل الجنة، (وإدامهم بالام ونون، فقيل: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: سمك وثور، يشبع من زائد كبدهما سبعون ألفاً )، أي: يشبع من القطعة الناتئة في الكبد، سبعون ألفاً، يشبعون من زائد الكبد فقط.

وهذه الأشراط هي إعداد لليوم الآخر، واستعداد له.

منها خروج المسيح الدجال، فيخرج بين العراق والشام، يعيث يميناً ويعيث شمالاً، ويمكث في هذه الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول كسنة، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، ويجتمع عليه فلول اليهود من مشارق الأرض ومغاربها، وذلك بعد أن أذلوا وأهينوا، وانتزع منهم بيت المقدس، فإن اليهود قد تعهد الله لهم بدولتين:

الدولة الأولى: التي كانت في أيام داود وسليمان عليهما السلام، ومن بعدهما من الملوك.

الدولة الثانية: هي هذه التي هم فيها الآن، وأخبر أنهم سيعيثون فيها في الأرض، ويفسدون فيها، لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ [الإسراء:4-7]، والخطاب هنا: للمسلمين، (إذا جاء وعد الآخرة) أي: إذا جاء وقت الدولة الثانية، ليسوء اليهود وجوهكم معاشر المسلمين، وهذا ما حصل: (( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ )) وهو المسجد الأقصى، (( كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا )) أي: يفسدوا ويهلكوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، فـ(ما) هنا: يمكن أن تكون موصولاً اسمياً، فيكون المعنى: الذي علوه من الأرض، ويمكن أن تكون حرفاً مصدرياً، فيكون المعنى: وليتبروا مدة علوهم، ومدة حكمهم تتبيراً، أي: ليفسدوا في الأرض إفساداً مدة بقاء ملكهم، وإذا أراد الله إهلاك دولتهم، فإنهم سيحاولون غزو البلاد المقدسة، فيغزون المدينة المشرفة، وإذا فعلوا فسيخرج أهل المدينة منها، فيتركونها على خير ما كانت، لا يغشها إلا العوافي، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ( لتتركن المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي، قيل: وما العوافي يا أبا هريرة؟ قال: عوافي السباع، حتى يأتي ذئب أبيض -وفي رواية: كلب أبيض- فيدخل المسجد لا يرده أحد، حتى يغذي على المنبر) أي: حتى يبول على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (وآخر من يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما، حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما ).

وظاهر هذا الحديث أنهم سيضربونها بالسلاح الذي لا يهدم البنيان، ولكنه يهلك الناس، وقد عرف هذا السلاح في زماننا هذا بالغازات السامة ونحوها، وحينئذٍ يترك الناس المدينة، وخرابها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فتح بيت المقدس )، فخراب يثرب فتح بيت المقدس، فيفتح بيت المقدس، وينتزع من اليهود، (وفتح بيت المقدس فتح رومية) أي: تقع حرب دولية، وتستمر حتى تفتح روما.

ويخرج الدجال في السنة السابعة بعد فتح رومية، وقبل ذلك سيسلط الله على اليهود من يسومهم سوء العذاب، كما تعهد لهم بذلك في كتابه، فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167]، وإذا غزوا المدينة فسيجتمع أهل الحجاز على رجل منهم فيبايعونه، فإذا بايعوه بايعه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فتقوم الخلافة الثانية التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرج أحمد في المسند وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهج النبوة وسكت )، وورد في أحاديث أخرى: ( أنه سيتداول على الخلافة في خلافة آخر الزمان أربع عشرة خليفة وآخرهم المهدي )، وهو الذي يسلم الأمر إلى عيسى بن مريم، بعد أن ينزل المسيح بن مريم عليه السلام.

ومن هذه الأشراط كذلك: نزول المسيح بن مريم، فينزل وقت صلاة الفجر بين ملكين (كأنما خرج من ديماس) أي: كأنما خرج من حمام، وهو يلبس البيض، أي: الثياب البيض، (وله لمة) أي: شعر وافر، (فإذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تقاطر)، فيدخل المسجد الأموي، مسجد دمشق، (وينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيدخل المسجد ويجد الصلاة قد أقيمت، فيقولون له: يا نبي الله! تقدم، فيقول: ما أقيمت لي؟ فإمامكم منكم يصلي بالناس إمامهم، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات من حينه، أو ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره)، ويلتقي بجيش الدجال، ويأتي إلى ابن مريم عليه السلام، صفوف المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، ويلتحق به بدلاء الشام وعصائب العراق فينصرونه، ويجاهدون في سبيل الله، ويلتقي بـالمسيج الدجال برملة اللد، وهي المعروفة اليوم: بمطار تلابيب، والمطار اليوم يسمى مطار اللد، وفي هذا المكان يلتقي المسيح بن مريم عليه السلام بالمسيج الدجال فيقتله، وحينئذٍ يكسر الصليب ويقتل الخنزير في الأرض كلها، ويقتل اليهود حتى يتكلم الحجر والشجر، (يا عبد الله يا مسلم! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).

ومن هذه الأشراط الكبرى: طلوع الشمس من مغربها، بعد أن تحبس ثلاثاً ينتظرها أهل الأرض، فلا تطلع، لا يؤذن لها بالطلوع، ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، وتخرج من باب في المغرب قبل المغرب اسمه باب التوبة، فإذا خرجت منه الشمس أغلق، فلم تقبل توبة من لم يكن تائباً، أو عمل صالحاً من قبل.

ومنها كذلك: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم الخسفين الذين في المشرق وبالمغرب، إلا أنه بين الخسف الذي بجزيرة العرب، فبين أن جيشاً يأتي من قبل الشام يغزو البيت الحرام، حتى إذا كانوا بالبيداء، وهي أرض مستوية جنوب المدينة، خسف بأولهم وآخرهم، فقالت عائشة: (يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم، فقال: يبعثون على نياتهم ).

ومن هذه الأشراط: الدخان المنتشر والنار التي تسوق الناس من قعر عدن، تحشرهم إلى أرض الشام، ومنها يحشرون إلى المحشر.

ومن هذه الأشراط الكبرى: رفع القرآن، وخروج الدابة التي تخرج في أشد الحرمين حرمة، وتخرج والناس صائمون في رمضان، فتخرج من صدع خلف الصفا، فتدخل المسجد لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب، وتكلم الناس على الصفا بكلام يفهمونه، وتذهب في شعب أجياد، فتختفي عن الناس.

ومنها وهو آخرها: خروج يأجوج ومأجوج، فهم آخر الأشراط الكبرى، يخرجون من قبل المشرق، فيعيثون في الأرض فساداً، ويحصرون المسيح بن مريم ومن معه من المسلمين، فيدعو عليهم، فيسلط الله عليهم عذاباً من عنده، فيهلكهم، لكنهم يملئون الأرض بزهمهم ونتنهم، فيستسقي المسلمون، فيأتي مطر فيذهب بجثثهم، فتعود الأرض كالكرسفة البيضاء، قد زال عنها كل ما فيها من الأدران والوسخ.

وهذه هي المرة الثانية التي تطهر فيها الأرض، وهذه الأرض التي نحن عليها تطهر ثلاث مرات:

التطهير الأول: بطوفان نوح حين طهرها الله به الشرك.

والتطهير الثاني: بالطوفان الثاني الذي يأخذ يأجوج ومأجوج ويذهب بهم.

والتطهير الثالث: عندما يتكفئها الجبار بيمينه، كما يتكفأ أحدكم خبزته، نزولاً لأهل الجنة، فيقلبها الجبار في يمينه، فتجتمع بركتها وخيرها، وتشهد على كل أهلها، بما عملوا عليها، إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:1-8]، يتكأفها الجبار بيمنه، فيجعلها نزلاً لأهل الجنة، (وإدامهم بالام ونون، فقيل: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: سمك وثور، يشبع من زائد كبدهما سبعون ألفاً )، أي: يشبع من القطعة الناتئة في الكبد، سبعون ألفاً، يشبعون من زائد الكبد فقط.

وهذه الأشراط هي إعداد لليوم الآخر، واستعداد له.

النفخ في الصور

أول مشاهد اليوم الآخر أن يأذن الله لإسرافيل بالنفخ في الصور، (وقد التقم الصور الآن وأصغى ليتاً)، أي: رفع أحد طرفي عنقه ينتظر الإذن له بالنفخ، فينفخ نفخة الفزع، فيصعق الناس لها جميعاً، ويمكث أربعين سنة، ثم ينفخ النفخة الثانية، فإذا هم قيام ينظرون، وينادى في الناس: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وينادي بهم إلى الساهرة، وهي أرض كالطبق مستديرة بيضاء كالكرسفة، أو كالصوفة البيضاء، يقف الناظر في طرفها فيرى طرفها الآخر، ومع ذلك تحيط بالناس جميعاً فيجتمعون فيها، يحشر إليها أولهم وآخرهم، والواقف في طرفها يرى طرفها الآخر، فتحوي الخلائق من لدن آدم إلى نهايتهم، لا يشذ عنها أحد، وإذا حشروا فيها جميعاً، يداركون فيها أولهم وآخرهم، كلما بعثت أمة وجدت الأمة التي قبلها، وتتخاصم الأمم، فكل أمة تشكو من التي سبقتها أنها التي أفسدت الدين، وأنها التي أورثتها البدع والفساد، فيقع الخصام بينهم في ذلك الوقت، وهذا أحد ثلاث مشاهد هي مشاهد الخصام.

الخصام الأول: في هذه الحياة الدنيا بين الداعين إلى الله وأعدائهم، وهذا الخصام مستمر طويل الأمد وسيبقى، وعليه دام خصام الرسل، فما أرسل الله نبياً قط إلا قال الناس له: كذاب، مجنون، ساحر، كاهن، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53]، وكذلك ما سلك هذا الطريق أحد قط إلا عودي وأوذي، كما قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جاءت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ).

الخصام الثاني: هو هذا الخصام في المحشر، عندما يجتمع الناس جميعاً في الساهرة، فإنهم يختصمون، فكل طائفة سلمت الدين إلى التي بعدها، إلى أولادها، تخاصمه الأمة التي بعدها، فتقول: أؤتمنتم على دين الله فحرفتموه، وبدلتموه، وما أوصلتموه إلينا خالصاً، ويختصم المستضعفون والمستكبرون، فـ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31]، ويخاصمهم المستكبرون كذلك بأنهم لو كانوا يملكون لأنفسهم شيئاً لوقوهم، ولحملوا عنهم بعض عذاب الله، ولكنهم لا يستطيعون ذلك.

الخصام الثالث: هو الخصام الذي سيعقد له الجبار سبحانه وتعالى محاكمةً، يجتمع فيها طرفان، طرف يمثل أهل الخير والإيمان، وطرف يمثل أهل الكفر والنفاق، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21]، وهذا الخصام يجثو فيه الناس، بين يدي رب العالمين للمخاصمة، ويتخاصمون فيه عند الملك الديان العدل الذي لا يظلم عنده أحد، وتعلمون لمن الغلبة في ذلك الخصام، ولمن العاقبة، فإن العاقبة للمتقين، وهذا الخصام هو مشهد من مشاهد القيامة بعد الحشر.

الإيتاء بجهنم

ثم بعده المشهد الآخر: عندما يؤتى بجهنم تقاد بسبعين إلف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب، فإذا أحاطت بالناس من كل جانب، وركب بعضها بعضاً، وطال ثبورها، ودعاؤها، وهي تدعو بالويل والثبور، وتتوعد وفدها الذين سيرسلون إليها، اشتكى الناس وبكوا من هول ما يرون عندما يرون جهنم يركب بعضها بعضاً، وفيها الظلال المتعاقبة من دخانها، ووبالها، وعندئذٍ تقول: يا رب! أكل بعضي بعضي، فإذا طال دعاؤها واستغاثتها، وقد ضمن الله لها أهلها، فحينئذٍ يأمر الله آدم أن يخرج بعث النار، فيقول: ( يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ [الحج:2] )، وحينئذٍ يخرج بعث النار إلى النار، ويساقون إليها ويهيئون لها، ويطول الموقف بالناس، ويؤتى بالشمس عقيرة، فترفع فوق رؤوسهم كالميل، وتدنو منهم، ويشتد العرق، فمنهم من يلجمه إلجاماً، ومنهم من يصل إلى حلقه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى خصريه، ومنهم دون ذلك، ويطول بهم الموقف حتى يسري عرقه في الساهرة أربعين، قيل: أربعين ذراعاً، وقيل: أربعين خريفاً، ثم بعد ذلك يلجؤون إلى الشفاعة، فيبدؤون بآدم عليه السلام، فيقولون: (يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيمنه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت الله فأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول نوح: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن بغضب بعده مثله، وإني سألت الله ما لم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتونه، فيقولون: يا إبراهيم! قد اتخذك الله خليلاً، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن رب غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث مرات، ولكن اذهبوا إلى موسى فيأتونه فيقولون: يا موسى! قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي، ربي لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيأتونه فيقول عيسى: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله، لا يجد شيئاً يأزره غير ذلك، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونه فيقول: أنا لها، فيخر ساجداً تحت العرش، فيلههم الله ثناءً، لم يكن يحسنه ولا يحسنه من سواه، فيثني به على الله، فيناديه: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وأسأل تعطه)، فيشفع في الناس إلى الله عز وجل، فيؤذن لهم بالخروج.

ويتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:22-24].

وضع الميزان

ثم بعد ذلك تتوالى المشاهد، فيوضع الميزان بالقسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً، فلا يمكن أن يفقد أحد أي شيء من أعماله سواءً كانت خيراً أو شراً، إلا جعلت بين يديه، وجعلت في كفة الميزان، وهو ينظر، ويقال له: إنك لا تظلم شيئاً، ويؤتى بكل إنسان ومعه سائق وشهيد، وهو يحمل طائره في عنقه، قد كتبت فيه أعماله خيرها وشرها، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].

نصب الصراط

ثم بعد ذلك ينصب الصراط، (وهو جسر منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأرق من الشعر، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم ومخدوش مرسل، ومكردس على وجه في نار جهنم)، وفي ذلك الموقف عندما ينصب الصراط يتسابق الناس إليه، فإذا استبقوا الصراط: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، فتبيض وجوه أهل الإيمان والسنة، وتسود وجوه أهل الكفر والبدعة، وحينئذٍ يتخبط أولئك في الظلام الدامس، لا يعرفون موطأ أقدامهم، ولا ما تلقاء وجوهم، وقد مثل الله حالهم مثالاً عجيباً فقال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20].

وحينئذٍ من لم يجعل الله نوراً فما له من نور، فيمتد النور أمام المؤمنين خمسمائة عام، ويبقى الكفار والمنافقون يتخبطون في الظلام، وينادون من يعرفونهم من أهل الإيمان، فيقولون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:13-14]، فقد كانوا يعاشرونهم في الحياة الدنيا، ويخالطونهم ويجاورونهم، لكن هيهات وشتان بين مصير هؤلاء، ومصير أولئك، فلذلك يقولون: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ [الحديد:14-15].

فأولئك بين الله سبحانه وتعالى سبب تخلفهم عن الذين كانوا يخالطونهم من أهل الإيمان، فقال: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14]، فأول الاستجابة للفتن الاستجابة لأوامر ابليس واتباع خطوات الشيطان، فهؤلاء كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، ولذلك فتنوا أنفسهم، وكذلك تربصوا بالمؤمنين، وانتظروا ما يئول إليه الأمر، فهم ينتظرون حسم المعركة، ويقولون: المعركة دائرة، ورحى الإسلام دائرة بين أهل الحق والباطل، ونحن متفرجون محايدون، فإذا غلب أهل الحق كنا معهم، وإذا غلب أهل الباطل لم نكن استعديناهم، وهذا حال المنافقين في وقتنا هذا، وفي سائر الأوقات الماضية، يرون المعركة قائمة بين الحق والباطل، فيحاولون أن يجعلوا لأنفسهم حياداً، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وينتظرون العاقبة فيقولون: إذا تغلب أهل الإيمان كنا معهم، وإذا تغلب الآخرون لم نكن استعديناهم، فلذلك يقال لهم: وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14]. وَارْتَبْتُمْ [الحديد:14]، فهم يشكون في العاقبة لمن هي؟ أما أهل الإيمان فهم جازمون بأن العاقبة للمتقين، وبأن وعد الله حق لا محالة ولابد أن يتحقق، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106].

فأهل الإيمان جازمون بأن وعد الله حق، وأن الله لا يخلف الميعاد، طال ذلك أو قصر، امتدت الدنيا أو لم تمتد، فلابد أن يحقق الله ما وعد، ولذلك فالمنافقون الأولون كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تغامزوا أن اخرجوا معهم، حتى إذا خرجوا من المدينة خرجتم لواذاً، وتسللتم من أرحلكم، ورجعتم إلى المدينة، فتعدون في الخارجين، وترجعون إلى دياركم وأهليكم، فكانوا يفعلون ذلك، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابع إلى خيبر لقتال اليهود، اجتمع نادي المنافقين فقالوا: يزعم محمد وأصحابه أنهم سينتصرون على اليهود، والله لن يرجع إليكم أي أحد منهم، فأنزل الله في ذلك سورة الفتح، وفيها يقول: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]، وبين (ظَنَّ السَّوْءِ) بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا [الفتح:12-13].

دخول أهل النار النار وأهل الجنة الجنة

فحينئذٍ يسير الناس على الصراط، ويرى أهل الإيمان النار، ويراها أهل الكفر، فأهل الكفر إذا عبروا تساقطوا، أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ [الفرقان:13]، وهي تستبشر بهم وتفرح لمجيئهم، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:13-14]، وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61]، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:102].

فيمرون مروراً ويعبرون عبوراً، وحينئذٍ إذا دخلوا الجنة، وتذكروا نعمة الله عليهم، وما أنجاهم منه من النار، تذكروا أحوال قرنائهم، والذين كانوا يخالطونهم ويشغلونهم عن ذكر الله وعبادته، ونصرة دينه، فيتذكرون أحوالهم، فيقول بعضهم لبعض: تعالوا بنا نطلع عليها، هل نرى أصحابنا أولئك الذين كادوا يفتنونا عن ديننا، فيطلعون فيرونهم في غاية العذاب، فيقول القرين لقرينه: إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:56-61].

فأولئك القوم إذا جاؤوا إلى أبواب الجنة، أول من يقعقع الحلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشفع الشفاعة الثانية بدخول الجنة، فيشفعه الله عز وجل فتفتح أبواب الجنة الثمانية، وينادى من كل باب بأهله، فباب الصلاة ينادى منه بالمصلين الذين لم يكن يشغلهم شيء عن الصلاة، لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]، فينادون من باب الصلاة، ويرحب بهم الملائكة قائلين: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، والذين كانوا من أهل الصدقة ينادى بهم من باب الصدقة، وقد كانوا في ظل صدقاتهم في المحشر، فما من أحد إلا ويستظل بظل صدقته في المحشر، فمن مستقل أو مستكثر، وينادى بالصائمين من باب اسمه الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق، فلم يدخل منه أحد، وينادى بالمجاهدين من باب الجهاد، فيدخلون منه على مختلف رتبهم، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى [الحديد:10].

إن الذين عاشوا في مثل ما أنتم عليه في حالكم اليوم، في وقت غربة الإسلام، وفي وقت تكالب أعداء الدين عليه، إذا صبروا على الحق، وصمدوا عليه، وكانوا من أنصار الله، ووهبوا أنفسهم لله، وباعوها بالثمن الغالي الربيح، فأولئك هم الذين أنفقوا من قبل الفتح، ولا يمكن أن يستوي معهم من جاء ودولة الإسلام قائمة، فعاش في ظلالها، وتربى في أحضانها، وهو يجد السلامة والعافية، فشتان بين الطائفتين في الأجر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: ( أجرك على قدر نصبك )، فهذا النصب والتعب الذي تجدونه على قدره يكون الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى، وهكذا أبواب الجنة كلها.

بل إن من الناس رجالاً ينادون من جميع أبواب الجنة، ولهم الخيار، وما على صاحب الخيار من ضرورة، ما على صاحب الخيار من ضرورة إذا خير من أي أبواب الجنة شاء دخل، بل يكفي شرفاً أن يكتب اسم الإنسان على أبواب الجنة، فينادى به من الزمرة المفضلة المقدمة، الذين بيض الله وجوههم وآتاهم كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، وأعلى منزلتهم، وجعلهم شهداء على الناس، ولذلك فإنهم يلقون فيها تحية وسلاما، فالتحية سلام الملائكة لهم، يقولون: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، والسلام سلام الجبار سبحانه وتعالى.

وبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إليه، فإذا الجبار سبحانه وتعالى قد تجلى لهم من فوقهم، فيقول: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، ويرونه لا يضامون في رؤيته، كما يرى أهل الأرض القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، ويتفاوتون في القرب والتقريب، وفي قدر الرؤية بتفاوت خشوعهم في الصلاة، وإخلاصهم في العمل.

إخراج بعض أهل النار من النار

ثم بعد هذا تأتي الشفاعات الأخرى، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من عصاة أمته، ويشفع النبيون كذلك في عصاة أممهم، ويشفع الصالحون كذلك في ذويهم، ومنهم من يشفع في مثل ربيعة ومضر، وهم أقوام ليسوا بأنبياء، لكنهم يشفعون في مثل ربيعة ومضر، من ناحية العدد، فإذا انتهت شفاعات الشافعين، قال الله عز وجل: انتهت شفاعات الشافعين، وبقيت شفاعة أرحم الرحمين.

فيقول الله لملائكته: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم يمكث ما شاء أن يمكث، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يمكث ما شاء أن يمكث، ثم يقول: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، فيخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، فيلقون في نهر الحياة، فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل)، ويرجعون حينئذٍ فيدخلون إلى الجنة، وينالهم من روحها، وريحانها، ما يذهب عنهم كآبة النار، وما شاهدوه فيها من العذاب، فإن أهون أهل النار عذاباً: رجل تحت أخمصه جمرة، يغلي منها دماغه، فتوضع جمرة واحدة تحت أخمص رجله، فيغلي منها دماغه، وهذا أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة.

توالي النعيم لأهل الجنة والعذاب لأهل النار

ثم بعد ذلك يتوالى النعيم لأهل الجنة، والعذاب لأهل النار، بأصناف عجيبة، لا تخطر على قلب أحد، وأبلغ ما في الجنة من النعيم رؤية الباري سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26-27].

وأبلغ ما في النار من العذاب: إعراض الملك الديان عنهم، وإهانتهم لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، فما أهونهم على الله.

ويستمر النعيم بأهل الجنة، فلا يملون أي شيء من ملذاتها وشهواتها، كلما جاءتهم نعمة من نعمها، قالوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، فكل ما في الحياة الدنيا من الملذات والشهوات يملها أصحابها، ولا يمكن أن يدوم عليهم شيء منها، بل تنقطع وتزول، وإذا لم تزل هي زال آثرها، أما ما في الجنة من النعيم، فإنه يستمر ولا ينقطع، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يتجاوز عتبة الباب، ويناله من روحها وريحانها، تستمر معه مليارات السنوات، لا تنقطع ولا تزول ولا تحول، ويأتي بعدها مليارات اللذات ولا تنقطع هي، وكل لذة تبقى وتأتي بعدها أخرى، وهكذا دون انقطاع ولا ملل ولا تعب.

أما أهل النار كذلك فإن كل عذاب يجدونه لا ينقطع به ما قبله، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، فتضخم أجسامهم، فمقعد أحدهم في النار كما بين مكة والمدينة، ليشتد نصيبه من العذاب، وضرس أحدهم في النار كجبل أحد، وأقدامهم فيها في الأغلال والسلاسل كالجبال السود المتراكمة، فتبسط أشداقهم بالمجاديف، فتطول وتعرض، ويحمى على أموالهم فتكوى بها أشداقهم وجنوبهم وظهورهم، هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35]، ويلقون من المهانة والمذلة ما يزول به كل ما كان في نفوسهم من الكبرياء والتعاظم، ويستمرون على ذلك وهم ينادون: يا مالك! نضجت منا الجلود، يا مالك! أخرجنا منها، فإن خرجنا فإنا لا نعود، فيطول دعاؤهم بذلك حتى إذا مكثوا زماناً طويلاً يقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فهذا جوابهم وهو في غاية المذلة والمهانة.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4061 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4001 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع