الشمائل المحمدية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أبشركم في اجتماعكم هذا الذي أتيتم فيه لتعربوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن محبتكم وولائكم ونصرتكم، ولتسلكوا طريق أصحابه والتابعين لهم بإحسان في نصرته ومحبته وإعلان ذلك على الملأ؛ أن هذا العمل الذي تقومون به من إيمانكم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ووالده والناس أجمعين ).

فأنتم تحققون الآن مقتضىً من مقتضيات الإيمان الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، وإذا كان الكفرة الفاجرون يعلنون بغضهم وكراهيتهم وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم الآن تعلنون محبتكم وولاءكم ومناصرتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلنون ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل

وأنتم تعلنون الآن أنكم تريدون أن تدعوا باسم النبي صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، وتريدون أن تحشروا تحت لوائه لواء الحمد، وأن تسقوا من حوضه شربة هنيئة لا تظمئون بعدها أبداً, في الوقت الذي يطرد فيه الذين غيروا وبدلوا, والذين أعانوا الظلمة عن حوضه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه في ذلك حديثان صحيحان:

أحدهما: ( إنه يطرد دونه أقوام قد غيروا وبدلوا, يضربون كما تضرب غرائب الإبل, فأقول: يا رب أمتي أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً ).

والحديث الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( أنه سيستعمل عليكم أمراء، يكذبون في الحديث، ويغلبون الناس, فمن صدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم؛ فلن يرد علي الحوض ).

فلذلك أنتم الآن تبحثون عن طريق ميسر لورود الحوض المورود إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وللشرب منه بيد النبي صلى الله عليه وسلم شربةً هنيئة.

إن هذا الرسول الكريم شرفه الله سبحانه وتعالى واختاره اختياراً سابقاً.

تشريف النبي صلى الله عليه وسلم على بني آدم

فقد شرفه وآدم مجندل في طينته، وكرمه بأنواع التكريم، فمنذ أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض فانفصل اثنان من ذرية آدم إلا كان هو في أزكاهما، وأنماهما، وأحبهما إلى الله سبحانه وتعالى.

ولذلك ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: ( إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم، ثم اصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ذرية إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر ).

أخذ الله العهد على جميع الأنبياء وأممهم بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم حال مبعثه

وما من نبي من أنبياء الله أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض إلا أخذ الله عليه العهد أن يأخذ على أمته العهد: إذا بعث هذا النبي وهم أحياء أن ينصروه، وأن يتبعوه، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[آل عمران:82].

وعندما أخذت موسى الرجفة هو وأصحابه، واشتد الحزن عليه تاب إلى الله سبحانه وتعالى، وأعلن البراءة مما فيه قومه، فأجابه الله سبحانه وتعالى بذلك الجواب الرفيع، الذي فيه أخذ العهد لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الأعراف:155-157].

تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بتزكية جوارحه

وقد نوه الله سبحانه وتعالى بمنزلته وقدره في كثير من آيات كتابه، فقد قال تعالى في تزكية عقله، وتزكية سمعه، وتزكية بصره، وتزكية منطقه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى[النجم:1-18].

قال تعالى في تزكيته أيضاً: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا[الفتح:1-3].

تشريف النبي صلى الله عليه وسلم باختيار أصحابه وآل بيته وأتباعه

ومن تمام تزكيته: أنه أختار له خيرة الأصحاب، وخيرة الآل، وأهل البيت، والتابعين، والعلماء المجددين، فكل أولئك يختارهم الله سبحانه وتعالى من الجيل الذي هو فيه؛ ليتخذهم شهداء ومجددين لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك زكاهم الله سبحانه وتعالى وأثنى عليهم، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

وقال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117].

وزكى أصحابه وأثنى عليهم، فقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].

ونوه بمنزلته عند الله فقال تعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5].

وقال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4].

وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3].

تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بالوسيلة

وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة كذلك في عدد كثير من الأحاديث الثابتة عنه، فإنه بين أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الوسيلة، وهي درجة في الجنة لا تنبغي إلا لرجل واحد، وقد كان الأنبياء يتمنونها، فخص الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم.

تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى

وأعطاه الشفاعة العظمى؛ فإن الناس يوم القيامة إذا وقفوا على الساهرة وطال بهم الوقوف، تدنو الشمس فوق رءوسهم حتى تكون كالميل، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك أي: يقودها أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة، يجرونها جراً حتى تحيط بالناس من كل جانب، ويشتد العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يعلو فوقها، فمن الناس من يصل إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وإذا طال بهم ذلك الموقف فإنهم يبحثون عن الشفاعة، فيأتون العلماء فيقولون: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: ( يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي، ربي لا أسألك إلا نفسي, إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد أكلت من الشجرة التي لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى نوح، فيأتونه فيقولون: يا نوح أنت أبو البشر بعد آدم، وأول الرسل إلى أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول نوح: نفسي نفسي، ربي لا أسألك إلا نفسي, إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله، وإني قد سألت الله ما لم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم, فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم أنت خليل الله، فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي نفسي, ربي لا أسألك إلا نفسي, إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وهل كنت إلا خليل من وراء وراء، وإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى، فيأتونه فيقولون: يا موسى قد اجتباك الله برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي, ربي لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبل مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى, فيأتونه فيقولون: يا عيسى أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي نفسي, ربي لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله, لا يجد شيئاً يذكره غير ذلك، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد أنت إمام الرسل وخاتمهم, فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لها, فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله ثناء عليه لا يحسنه هو في الدنيا، ولا يثني به أحد قط على الله تعالى، فيثني به عليه، فيناديه ربه جل جلاله، فيقول: يا محمد ارفع رأسك, واشفع تشفع، واسأل تعط )، فيشفع في الناس, ويدخر دعوة عنده لأمته، فيؤذن للناس للخروج من الموقف، ويعرضون على الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك يستشهده الله على الأمم هو وأمته، فما من نبي إلا ويخاصمه قومه، يقولون: ما جاءنا من بشير ولا من نذير, حتى نوح يخاصمه قومه، يقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته معه، فتشهدون أن نوحاً مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهذه حكمة تأخير هذه الأمة ورسولها الكريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن السابقون الآخرون, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا )، فأول أمة يفصل بينها يوم القيامة في عرصات المحشر هي هذه الأمة، وهي آخر الأمم من ناحية الوجود للشهادة على الأمم؛ لأنها لو جاءت في أول الأمم لا يمكن أن تشهد على ما يأتي بعدها؛ لأن الشاهدة من شرطها العلم، كما قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81]. وكما قال تعالى: إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].

وأيضاً فإن تأخيرها مؤذن بزيادة الأجر، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك مما رفع الله درجته أنه قال: ( إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل دعا عمالاً، فعملوا له من الضحى إلى الظهر على قيراط قيراط، ثم دعا عمالاً فعملوا له من الظهر إلى العصر على قيراط قيراط، ثم دعا عمالاً فعملوا له من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين، فقالت اليهود والنصارى: عملنا أكثر من هؤلاء وأعطيتهم أكثر مما أعطيتنا، فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء ).

فهذه الأمة أعمارها قصيرة إذا قورنت بأعمار الأمم السابقة، وأعمالها قليلة إذا قورنت بأعمال الرهبان وحواريي الأمم السابقة، ولكن البطال الفاسق الفاسد من هذه الأمة أفضل من الربانيين في الأمم السابقة, وأكثر أجراً, وعمله مضاعف، فهذا هو الفضل العظيم الذي ميز الله به رسوله صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل.

فقد شرفه وآدم مجندل في طينته، وكرمه بأنواع التكريم، فمنذ أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض فانفصل اثنان من ذرية آدم إلا كان هو في أزكاهما، وأنماهما، وأحبهما إلى الله سبحانه وتعالى.

ولذلك ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: ( إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم، ثم اصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ذرية إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر ).

وما من نبي من أنبياء الله أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض إلا أخذ الله عليه العهد أن يأخذ على أمته العهد: إذا بعث هذا النبي وهم أحياء أن ينصروه، وأن يتبعوه، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[آل عمران:82].

وعندما أخذت موسى الرجفة هو وأصحابه، واشتد الحزن عليه تاب إلى الله سبحانه وتعالى، وأعلن البراءة مما فيه قومه، فأجابه الله سبحانه وتعالى بذلك الجواب الرفيع، الذي فيه أخذ العهد لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الأعراف:155-157].

وقد نوه الله سبحانه وتعالى بمنزلته وقدره في كثير من آيات كتابه، فقد قال تعالى في تزكية عقله، وتزكية سمعه، وتزكية بصره، وتزكية منطقه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى[النجم:1-18].

قال تعالى في تزكيته أيضاً: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا[الفتح:1-3].

ومن تمام تزكيته: أنه أختار له خيرة الأصحاب، وخيرة الآل، وأهل البيت، والتابعين، والعلماء المجددين، فكل أولئك يختارهم الله سبحانه وتعالى من الجيل الذي هو فيه؛ ليتخذهم شهداء ومجددين لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك زكاهم الله سبحانه وتعالى وأثنى عليهم، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

وقال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117].

وزكى أصحابه وأثنى عليهم، فقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].

ونوه بمنزلته عند الله فقال تعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5].

وقال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4].

وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3].




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4792 استماع
بشائر النصر 4281 استماع
أسئلة عامة [2] 4123 استماع
المسؤولية في الإسلام 4049 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3987 استماع
نواقض الإيمان [2] 3941 استماع
اللغة العربية 3924 استماع
عداوة الشيطان 3924 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3897 استماع
القضاء في الإسلام 3885 استماع