مظاهر الحرب على الإسلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى هو القوي المتين: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وقد أراد بحكمته البالغة أن يجعل هذه الدنيا مسرحاً للتعارض بين الحق والباطل، فهي كلها مسرح لهذا الصراع الأبدي المستمر الذي لو شاء الله لم يقع، ولو شاء كذلك لحسمه بإرادة وقوته، فلا معقب لحكمه، ولكنه أراد أن تبقى هذه الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الحكمة من الصراع بين الحق والباطل

وقد بين أن هذا الصراع لو توقف لحظة لفسدت الأرض، فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، وذلك أن حياة الناس على الأرض حياة عمل ولا جزاء، وحياتهم في الآخرة حياة جزاء ولا عمل، فإذا توقف العمل على هذه الأرض فقد فسدت؛ لأن الحكمة التي من أجلها خلقت وعليها بنيت لم تبقَ موجودة.

فلذلك لو تمحض الحق على الأرض فلم يبق للباطل صولة، لا ستحق أهل الأرض أن ينقلوا إلى الجنة، وإلى الجزاء، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبقَ للحق صوت كذلك لا ستحق أهل الأرض سخط الله عز وجل الأكبر، الذي يقوض الدنيا، وقد قال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

لذلك فليس مستنكراً ولا غريباً أن يتألب أهل الباطل على الحق، وأن يسعوا إلى مضايقته وتقويضه بما يستطيعون، لكن المستنكر الغريب أن يتراجع أهل الحق عن تحمل مسؤولياتهم في مقابل ما يقدمه أهل الباطل، فتراجع أهل الحق ليس له أي مبرر، فهم يعملون أن النتيجة حتمية، وهي محسومة لصالحهم، وهم يعلمون كذلك أن ما هم عليه هو الحق الذي لا غبار عليه، وهم يقتنعون به، ويدينون به، وهم يعملون كذلك أن ما يصيب أهل الباطل في سبيل باطلهم، زيادة وبال ونكال عليهم، وأن ما يصيب أهل الحق في سبيل حقهم رفع لدرجاتهم وتكفير لسيئاتهم ولا يضرهم شيئا، إن أهل الحق إذا راجعوا أنفسهم ومواقفهم وعرفوا أن ما هم عليه هو الذي من أجله خُلقوا، وهو الذي اختارهم الله له، واختاره لهم، وهو الذي ربط الله به رفع الدرجات في الدنيا والآخرة، وهو الذي علق عليه الثواب الجزيل والخير الكثير، وعلموا كذلك أن ما يصيبهم على سبيله وفي طريقه كله مكتوب محسوم من قبل، رفعت الأقلام وجفت الصحف عنه، فلا يمكن أن يصيب الإنسان أية مصيبة إلا وقد كتبت في سابق الأزل، كما قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23].

رفع الدرجات بالابتلاء

ومن هنا فإن الذين قتلوا يوم أحد، وبقرت بطونهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم لم يضرهم ما حصل بأي نوع من أنواع الضرر، وما أحسوا من الموت إلا كوخز الإبر، وقد رضي الله عنهم وأرضاهم، فبلغوا ما يمكن من درجات الكمال، وكان قدوة وأسوة لأهل الدنيا كلها، وقد تحدث الله عن حاله في كتابه، فقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].

وشهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذهب إلى أصحاب أحد قبل موته بثمانية أيام، فصلى عليهم وقال: إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه )، فإخوانهم الذين بقوا وراءهم، هل عاشوا إلى اليوم، وإن كان قد صار الأمر إلى أن يدركوهم في جنان النعيم، وأن يلحقوا بهم في ما نالوا من الخير والثواب، فلذلك لا يمكن أن يأسف أحد من الذين نالوا الشهادة في سبيل الله على ما حصل، ولا يمكن أن يندم على فراق شيء من هذه الحياة الدنيا.

وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في كتابه إلى عدي بن عدي : إن للإسلام فرائض وسنناً وحدوداً، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص، كذلك كل من نال الشهادة في سبيل الله ليس بحريص على صحبة الناس في هذه الحياة، ومن هنا فإن كيد أعداء الإسلام كلما ازداد واشتد، كلما رغب أهل الإيمان في التضحية في سبيل الله، وكلما أقدموا وزادوا تضحيةً وبذلاً وصدقاً مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعلمون أن وقت الشدة هو وقت الأرباح المضاعفة، فأنتم تعلمون أن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، قد فضلوا على بقية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى في محكم التنزيل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـخالد بن الوليد رضي الله عنه: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).

فمقصود النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه السابقين الأولين كعبد الرحمن بن عوف الذي كان هذا الحديث وارداً فيه، فإنه أسلم وجاهد وأنفق من قبل الفتح، ولذلك فضل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الطبقة على من بعدها من أصحابه، فالخطاب هنا لـخالد بن الوليد وأصحابه من الذين أسلموا قبل فتح مكة، ولكنهم لم يشهدوا من الشدة ما شهده أصحاب عبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلهذا قال: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فمد من الشعير أو من التمر، ينفقه أحد السابقين الأولين، وأحد الذين أنفقوا من قبل الفتح، هو أرجح عند الله سبحانه وتعالى من مثل جبل أحد من الذهب، لو أنفقه أحدنا من الذين لم ينفقوا ولم يجاهدوا من قبل الفتح، فإذاً هي فرصة عظيمة أن يشهد الإنسان هذا الحال الذي نحن فيه، حيث اشتدت المضايقة على دين الله، واشتد الضيق على أهل الإسلام، وتكالب أعداء الدين على أهل هذا الدين، فهذا فرصة يتيحها لله سبحانه وتعالى للباذلين المضحين الصادقين ليصدقوا الله ما عاهدوه عليه، وليدركوا الذين سبقوهم، فأولئك السابقون لا وسيلة لإدراك ما قدموا، ولا يمكن أن يدرك ما بذلوا، إلا إذا كان الإنسان في وقت السوق المضاعفة كحال الإسلام اليوم.

مضاعفة العمل في هذا الزمان

فهذا الوقت يضاعف فيه العمل بأضعاف مضاعفة لا يمكن أن تخطر على قلب أحد، ومن هنا كان البذل فيه فرصة نادرة، ويوشك أن تتغير فأحوال الدنيا لا تدوم، والضيق الذي يشهده أهل الإيمان سرعان ما يزول، فكل ذلك بتقليب أمر الله سبحانه وتعالى، يقلب الأمر بين الكاف والنون، فإذا أراد امتحان عباده المؤمنين واختبارهم جاء بالضيق، وإذا نجحوا وصدقوا رفعه فجاء بالسعة، وكل ذلك من أمره، له الحكمة البالغة: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

في زماننا هذا اشتد الكرب على أهل هذا الدين، وتكالب عليهم أعداؤهم، فلم يرضوا منهم إلا بأن يكونوا تابعين مذللين مخيسين، لا يستطيعون التفكير إلا فيما يفكر فيه أعداء الدين، ولا يستطيعون القناعة والاعتقاد إلا بما يعتقده أعداء الدين، ولا يستطيعون العمل بأي وجه من أوجه العمل إلا بما يحسن لدى أعداء الدين، ومظاهر هذا واضحة للعيان، فكل يوم يشاهد كثير من هذه المظاهر، يظن كثير من البلهاء المغفلين أن الغربيين يدينون بحرية الاعتقاد والتفكير، وأنهم ليسوا أعداء للدين بأصله، وإنما يحرصون على مصالحهم ويريدون تحقيق أغراضهم الدنيوية، وهذا التصور باطل، والواقع يكذبه، فكل يوم من أيامنا هذه نشهد تكذيباً له بما لا يدع مجالاً للشك، فالذين يظنون أن الحرب التي قامت في هذا العام وسابقه وما زالت تدو رحاها الآن في العراق، كانت حرباً من أجل المصالح ومن أجل النفط، كاذبون في تصورهم، وقد سبقتها حرب أخرى في أفغانستان أعلن فيها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وقائد النظام العالمي الجديد، أنها حرب صليبية، وهو يعي ما يقول، فإذا أعلن أن الحرب صليبية فمعناه: أنه يرتبط بتاريخ مضى، كان الصليبيون فيه يريدون تقويض الإسلام وإزالة دولته، وقد خرجت حملاتهم لذلك من أوروبا كلها، وغزوا بلاد الإسلام واحتلوا بيت المقدس، وعاثوا في الأرض فساداً، واحتلوا كثيراً من أطراف مصر كالإسكندرية ودمياطـ، وهدموا كثيراً من مدن الشام، واحتلوا بعضها وما زالت بقاياهم إلى الآن في بعض مدن الشام التي احتلوها، فنصارى الشام الموجودين الآن في لبنان وفي سوريا وفي فلسطين كثير منهم هم من بقايا الصليبيين الغازين، فإن النصارى الذين كانوا في الشام عند الفتح، دخل كثير منهم في الإسلام، ولم يبقَ هناك من ذرياتهم على دينهم المحرف المبدل أحد، بل بادروا للدخول في الإسلام لما رأوا به من حسن معاملة المسلمين، ولما اقتنعوا به من أمور هذا الدين المقنعة، ولذلك فإن والياً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه: إن بيت المال قد أفلس؛ لأن أهل الجزية قد أسلموا، فقلب عمر الورقة وكتب عليها ويلك إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابيا، فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي لهداية الناس، لا الجباية منهم، لهذا قال: ويلك إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً.

وقد بين أن هذا الصراع لو توقف لحظة لفسدت الأرض، فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، وذلك أن حياة الناس على الأرض حياة عمل ولا جزاء، وحياتهم في الآخرة حياة جزاء ولا عمل، فإذا توقف العمل على هذه الأرض فقد فسدت؛ لأن الحكمة التي من أجلها خلقت وعليها بنيت لم تبقَ موجودة.

فلذلك لو تمحض الحق على الأرض فلم يبق للباطل صولة، لا ستحق أهل الأرض أن ينقلوا إلى الجنة، وإلى الجزاء، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبقَ للحق صوت كذلك لا ستحق أهل الأرض سخط الله عز وجل الأكبر، الذي يقوض الدنيا، وقد قال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

لذلك فليس مستنكراً ولا غريباً أن يتألب أهل الباطل على الحق، وأن يسعوا إلى مضايقته وتقويضه بما يستطيعون، لكن المستنكر الغريب أن يتراجع أهل الحق عن تحمل مسؤولياتهم في مقابل ما يقدمه أهل الباطل، فتراجع أهل الحق ليس له أي مبرر، فهم يعملون أن النتيجة حتمية، وهي محسومة لصالحهم، وهم يعلمون كذلك أن ما هم عليه هو الحق الذي لا غبار عليه، وهم يقتنعون به، ويدينون به، وهم يعملون كذلك أن ما يصيب أهل الباطل في سبيل باطلهم، زيادة وبال ونكال عليهم، وأن ما يصيب أهل الحق في سبيل حقهم رفع لدرجاتهم وتكفير لسيئاتهم ولا يضرهم شيئا، إن أهل الحق إذا راجعوا أنفسهم ومواقفهم وعرفوا أن ما هم عليه هو الذي من أجله خُلقوا، وهو الذي اختارهم الله له، واختاره لهم، وهو الذي ربط الله به رفع الدرجات في الدنيا والآخرة، وهو الذي علق عليه الثواب الجزيل والخير الكثير، وعلموا كذلك أن ما يصيبهم على سبيله وفي طريقه كله مكتوب محسوم من قبل، رفعت الأقلام وجفت الصحف عنه، فلا يمكن أن يصيب الإنسان أية مصيبة إلا وقد كتبت في سابق الأزل، كما قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23].

ومن هنا فإن الذين قتلوا يوم أحد، وبقرت بطونهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم لم يضرهم ما حصل بأي نوع من أنواع الضرر، وما أحسوا من الموت إلا كوخز الإبر، وقد رضي الله عنهم وأرضاهم، فبلغوا ما يمكن من درجات الكمال، وكان قدوة وأسوة لأهل الدنيا كلها، وقد تحدث الله عن حاله في كتابه، فقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].

وشهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذهب إلى أصحاب أحد قبل موته بثمانية أيام، فصلى عليهم وقال: إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه )، فإخوانهم الذين بقوا وراءهم، هل عاشوا إلى اليوم، وإن كان قد صار الأمر إلى أن يدركوهم في جنان النعيم، وأن يلحقوا بهم في ما نالوا من الخير والثواب، فلذلك لا يمكن أن يأسف أحد من الذين نالوا الشهادة في سبيل الله على ما حصل، ولا يمكن أن يندم على فراق شيء من هذه الحياة الدنيا.

وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في كتابه إلى عدي بن عدي : إن للإسلام فرائض وسنناً وحدوداً، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص، كذلك كل من نال الشهادة في سبيل الله ليس بحريص على صحبة الناس في هذه الحياة، ومن هنا فإن كيد أعداء الإسلام كلما ازداد واشتد، كلما رغب أهل الإيمان في التضحية في سبيل الله، وكلما أقدموا وزادوا تضحيةً وبذلاً وصدقاً مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعلمون أن وقت الشدة هو وقت الأرباح المضاعفة، فأنتم تعلمون أن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، قد فضلوا على بقية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى في محكم التنزيل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـخالد بن الوليد رضي الله عنه: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).

فمقصود النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه السابقين الأولين كعبد الرحمن بن عوف الذي كان هذا الحديث وارداً فيه، فإنه أسلم وجاهد وأنفق من قبل الفتح، ولذلك فضل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الطبقة على من بعدها من أصحابه، فالخطاب هنا لـخالد بن الوليد وأصحابه من الذين أسلموا قبل فتح مكة، ولكنهم لم يشهدوا من الشدة ما شهده أصحاب عبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلهذا قال: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فمد من الشعير أو من التمر، ينفقه أحد السابقين الأولين، وأحد الذين أنفقوا من قبل الفتح، هو أرجح عند الله سبحانه وتعالى من مثل جبل أحد من الذهب، لو أنفقه أحدنا من الذين لم ينفقوا ولم يجاهدوا من قبل الفتح، فإذاً هي فرصة عظيمة أن يشهد الإنسان هذا الحال الذي نحن فيه، حيث اشتدت المضايقة على دين الله، واشتد الضيق على أهل الإسلام، وتكالب أعداء الدين على أهل هذا الدين، فهذا فرصة يتيحها لله سبحانه وتعالى للباذلين المضحين الصادقين ليصدقوا الله ما عاهدوه عليه، وليدركوا الذين سبقوهم، فأولئك السابقون لا وسيلة لإدراك ما قدموا، ولا يمكن أن يدرك ما بذلوا، إلا إذا كان الإنسان في وقت السوق المضاعفة كحال الإسلام اليوم.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع