خطورة الانشقاق بين المسلمين


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله عز وجل قد رضي لعباده أن يؤمنوا به ولا يشركوا به شيئاً، وأن يكونوا أمةً واحدة، كما بين ذلك في كتابه في كثير من الآيات، وحذرهم من الخلاف والشقاق، وجعله منافياً لرحمة الله عز وجل، فقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119].

وجعله مظهراً من مظاهر الشرك بالله عز وجل في قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30-32].

فـ(من) هنا بيانية، فبين المشركين الذين نهى عن أن نكون منهم بقوله: وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].

وقد بين كذلك أن الذين تفرقوا واختلفوا قد حادوا عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدلوا عن طريقه، وأنه قد قامت عليهم الحجة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم؛ ولذلك قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من التفرقة غاية التحذير حتى جعلها من الكفر، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، والمقصود هنا: كفر دون كفر، كما بين ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.

وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، فجعل الخلاف والشقاق الداعي إلى السباب والقتال بين المسلمين إما فسوقاً وإما كفراً، والمقصود هنا: كفر دون كفر، وهو الكفر غير المخرج من الملة.

ولا شك أن هذا الخلاف الذي تكلم المشايخ عن مظاهره، ودعوا إلى نبذه، وبيان الأسس الشرعية التي ينبغي أن يبنى عليها الاتحاد والاتفاق بين المسلمين يؤدي إلى كثير من المشكلات داخل صف المسلمين، من هذه المشكلات وهو من أعظمها:

رفع عون الله تعالى لهذه الأمة على ما كلفها به من تحمل أعباء هذه الرسالة، إن أعباء هذه الرسالة عظيمة جداً، وإن بني آدم لا يقوون على حملها إلا بعون الله عز وجل، وإنهم إذا اختلفوا في ذلك فسيرتفع عنهم عون الله تعالى، ويوكلون إلى أنفسهم، وهذه هي أكبر خطر يترتب على الشقاق والخلاف؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46]، (اصبروا إن الله مع الصابرين) فهنا بين أن حصول الخلاف والشقاق بينهم مدعاة لأن يرفع عنهم عون الله تعالى، ويترتب على ذلك ذهاب ريحهم، وذهاب عزتهم ومكانتهم التي قواهم الله تعالى بها، فإن الله نصر من يسعى لإعلاء كلمته وإعزاز دينه بالرعب بمسيرة شهر؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ونصرت بالرعب بمسيرة شهر )، لكن هذا الرعب الذي هو مقدمة الجيش يزول بحصول الخلاف بين هذا الجيش؛ ولذلك فإن أخطر الخلاف ما يكون بين الساعين لإعلاء كلمة الله أنفسهم، فنحن نعلم أن أمة الإجابة تشمل كثيراً من الطبقات وكثيراً من الناس المتفاوت الدرجات، المتنوع المشارب، ولكن الذين يسعون لإعلاء كلمة الله منهم، والذين يسعون لإقامة دينه الخلاف بينهم أخطر وأعظم من الخلاف بين عوام الناس؛ ولذلك إذا حصل الخلاف بين هؤلاء فإن مسيرة الدعوة ستتوقف، وسينشغل بعض هؤلاء عما يقوم به من التكاليف بالتراشق مع بعض، وسيقلب كل منهم ظهر المجن لأخيه، وبالتالي تتوقف المسيرة عند حد معين، ويبدأ الخلاف داخل صفوف المسلمين.

ولا يخفى عليكم في تاريخ المسلمين أن مسيرة الفتح التي بدأت منذ هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبدأ يغزو أطراف الأرض حتى ما توفاه الله إلا وقد دخلت جزيرة العرب كلها في دين الله، وارتفعت عليها كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وغزا أرض الشام في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك، فلما توفاه الله عز وجل واصل خلفاؤه السير على طريقه، فما مضت ثلاث عشرة سنةً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كانت الفتوح قد تضاعفت مساحتها، فشملت العراقين والشام وكثيراً من بلاد المشرق إلى حدود الهند، وشملت كذلك كثيراً من بلاد المغرب حتى غزي البحر، وحتى انتشرت هذه الدعوة في أقطار شاسعة، حتى إن الجيوش الإسلامية في أول خلافة عثمان وفي آخر خلافة عمر وصلت إلى أذربيجان، ووصلت إلى طاجاكستان، ووصلت إلى قلعة محج في داغستان وكل هذه الأماكن التي فتحت في زمن الخليفتين: عمر و عثمان رضي الله عنهما كانت طلائع للفتح، وعلى أساسها يتم التوسع والانتشار.

ولذلك كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابه المشهور إلى أهل أذربيجان، وأوصاهم فيه ببعض الأمور التي تقويهم على المكان الذي يعيشون فيه، فكان من وصيته لهم: تمعددوا واخشوشنوا وانزوا على الخيل نزوىً، ولا تتخذوا الركب التي تتخذها الأعاجم، والبسوا الأزر ولا تلبسوا السراويلات، والبسوا النعال ولا تلبسوا الخفاف، واتخذوا القسي وتنكبوها، وتقلدوا السيوف، والزموا العصي في أيديكم. كان هذا من رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل أذربيجان الذين يسكنون في بلاد شديدة البرد، وتختلف عن بلادهم التي نشئوا فيها، وتبعد كثيراً عن حضارة العرب وعن جزيرتهم، وأهلها أهل حضارة ورفاهية، فأراد عمر ألا تتوقف مسيرة الجهاد إذا وصلت إلى الرفاهية والحضارة، فأراد أن يبقى المسلمون على اخشيشانهم وقوتهم.

لكن عندما دب الخلاف بين المسلمين في السنة السادسة من خلافة عثمان رضي الله عنه توقفت هذه الغزوات، وبدأ المسلمون يقتتلون فيما بينهم، وتعطلت المسيرة تعطلاً كثيراً، حتى شكا من ذلك عثمان و علي رضي الله عنهما، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: إن قوماً يولون أعداءهم أدبارهم، ويولون خليفتهم وجوههم، لقد ضلوا عن سواء السبيل، فهم يرجعون من مكان الغزو ومن الثغور ليغزوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته في حرمه في الشهر الحرام، وكان هذا غاية ما يمكن من الضلال.

وكذلك يقول علي بن أبي طالب لأهل العراق: إنكم قد شغلتموني عن أمور ما كان ينبغي لي أن أشغل عنها، وقال فيهم: يا أهل العراق والشقاق والنفاق! لقد خالفتموني وعصيتموني حتى قال الناس: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، ووالله إني لجذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، فأبدلني الله خيراً منكم، وأبدلكم شراً مني.

وكذلك استمر هذا فترةً من خلافة معاوية رضي الله عنه حتى توطدت الدولة ورجعت إلى أمورها، ثم تذكر معاوية رضي الله عنه أن مسيرة الفتح لا ينبغي أن تتوقف، وأن المسلمين لا يمكن أن يشغلوا عن الخلافات فيما بينهم إلا بالغزو، وهذه قاعدة ربانية عجيبة بينها الله في آيتين من كتابه، فبينها في آية من سورة العنكبوت وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فالهداية ضد الضلال، والتفرق علامة الضلال، ولا يمكن أن يزول هذا الضلال إلا إذا حصلت الهداية، والهداية غير مضمونة على عمل إلا الجهاد في سبيل الله، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

وكذلك في الآية الأخرى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم وهي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6]، في القراءة السبعية: (والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم)، وهذا ضمان من الله تعالى لمن جاهد في سبيله أن يهديه سواء السبيل، وإذا اهتدى زال كل مظاهر الضلال من الخلافات؛ لأن الطريق واحدة، ( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )، فإذا استقام الناس عليها لا يمكن أن يضلوا، ومن تبع بنيات الطريق ضل يميناً وشمالاً، ولا يمكن أن نلتزم بهذه الطريق إلا إذا سرنا في الجهاد في سبيل الله الذي ضمن الله لمن سار عليه الهداية في هاتين الآيتين من كتابه، والله تعالى لا يخلف الميعاد، وأنتم تؤمنون بذلك أجمعين.

ثم إن من أخطر مظاهر هذه الفرقة والخلاف والنزاع بعد تعطل هذه المسيرة وتراجعها: أنها تؤدي أيضاً تأديةً عكسيةً إلى استعباد المسلمين واستذلالهم، وتمكين أعدائهم من رقابهم، وهذا ما ترونه وتشاهدونه، فكيف وقعت الأندلس في أيدي الأسبان؟ وكيف وقعت صقلية في أيدي الإيطاليين، وكيف وقعت قبرص في أيدي اليونانيين؟ وكيف سقطت الجمهوريات في شرق أوروبا في أيدي الشيوعيين؟ وكيف سقطت الجمهوريات الإسلامية في المشرق في أيدي الشيوعيين أيضاً وقبلهم في أيدي القياصرة في الاتحاد السوفيتي؟ كل ذلك كان بسبب إسلام بعض المسلمين لبعض، وتخاذلهم فيما بينهم وتنافرهم وتقاتلهم، وهذا المظهر مناف لأصل دينهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، ولا يسلمه )، فمن مظاهر الإسلام: أن لا يخذل المسلم أخاه، وألا يسلمه أبداً مهما كانت الأمور؛ ولهذا حرم الشارع الفرار من الزحف، وجعله إحدى الموبقات السبع، وشدد الله تعالى النكير فيه في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16].

فجعل هذا من الكبائر، وكذلك عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات في حديث أبي هريرة في الصحيحين أنه قال: ( اتقوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ).

فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن التولي من الزحف هو إحدى الموبقات التي توبق صاحبها في النار، فما ذلك إلا لأنه إسلام لإخوانه في الجبهة ورجوع عنهم في حال المواجهة، وهذا وصف من أوصاف المنافقين نعاه الله عليهم في كتابه.

ألا تذكرون يوم أحد حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد المشركين حين صالوا على المدينة بقضهم وقضيضهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، وخرج معه المنافقون في ألف أخرى، فلما وصلوا ديار بني حارثة بن الحارث رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءه وسلمه إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه، ورفع المنافقون لواءهم وسلموه إلى عبد الله بن أبي بن اسلول وشتان بين القائدين، فتراجع عبد الله بن أبي بالمنافقين وقالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، فرد الله عليهم ذلك ونعاه عليهم في كتابه، وأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله فوقف عليهم فقال: يا إخواننا! لا تخذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الوقت وهو يواجه أعداءه، وأنتم ترون الناس يلبسون السلاح، ويرفعون السيوف في وجوهكم، فوالله لئن خذلتموه ليبدلنه الله خيراً منكم، وليبدلكم شراً منه. فلم يرجع إليه أحد منهم، وأجابوه جميعاً بقولهم: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، وأخبر الله عنهم أن موقفهم إذ ذاك أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، ونعى عليهم هذا في كتابه في سورة آل عمران في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:156-159]، ووصف فيها حال هؤلاء المنافقين ورجوعهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهزامهم في مثل هذا الموقف.

تقسيم العلماء للكفار من حيث علاقة المسلمين بهم

إن التفرق والتخاذل في وقت الغزو والهجوم على دين الله تعالى يقتضي التمكين لأعداء الله تعالى في الأرض. وأنتم تشاهدون في هذا الزمان ما حصل للأمة الإسلامية حين قطعت إرباً إرباً، وأصبحت دويلات لا تستطيع واحدة منها أن تستبد بالقرار، ولا أن ترفع وجهها في وجه عدو أياً كان، وترتب على هذا كثير من الأمور التي لا عهد للمسلمين بها، حتى حيرت أهل الاجتهاد، فأنتم تجدون في الكتاب والسنة وفي كتب السلف في كتب الفقه كلها أن الكفار ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: إلى محارب وذمي وصاحب عهد.

فالمحارب ليس هو الذي يرفع السلاح في وجه المسلمين، بل هو الذي يجب على المسلمين أن يحاربوه، والمسلمون يجب عليهم أن يحاربوا كل كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ما لم يستسلم فيؤدي الجزية عن يد وهو صاغر، أو يكون بينه وبينهم عهد مؤقت؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى ).

وقد قال الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

وكذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123].

لا شك أن ما نراه اليوم في عصرنا يقتضي القضاء على هذه القسمة الثلاثية، فاليوم لا يوجد ذمي واحد يدفع الجزية للمسلمين في مشارق الأرض ولا في مغاربها، لا يوجد كافر واحد ذمي.

الأمر الثاني: لا يوجد أيضاً كافر واحد معاهد؛ لأن المعاهد كما هو منصوص في كتب السلف، ومنصوص أيضاً حتى في النصوص الشرعية هو الذي عقد مسلم العهد بينه وبينه على أن لا يظلم مسلماً أياً كان ولا يظلمه مسلم أياً كان في فترة معينة، وإن الذين يعقدون اليوم العقود الدبلوماسية لا تتعدى حدود الدولة التي توقعها، فمثلاً لو عقدت هذه الدولة اتفاقيةً دبلوماسيةً مع فرنسا أو مع أمريكا على عدم الاعتداء لا يعتبر ذلك شرعاً عهداً بين هذه الدولة الأمريكية أو الفرنسية مع المسلمين؛ لأنها لا تتجاوز في ذلك العهد حدود البلد الذي وقعت معه الاتفاقية، فتعتدي على البلدان الأخرى، فمثلاً البلدان اليوم التي توقع على العهود الدبلوماسية هل تشمل اتفاقياتها أراضي المسلمين الشاسعة ومناطقهم المختلفة، أو يقتصر الاتفاق بين دولتين فقط فيكون ثنائياً؟

إن هذه الوضعية غير سليمة فقهاً، ولا يمكن أن نجد لها مبرراً؛ ولهذا حيرت الحلماء من العلماء، وجعلت أهل الاجتهاد في حيرة من واقعنا اليوم، فلم يميزوا بين دار الحرب ودار الإسلام، وأصبحت الدار مشتركةً، فالمسلمون هم الذين يدفعون الجزية إلى الكفار، فهم أهل ذمة جميعاً عند الكفار، والكفار جميعاً اليوم يتمتعون بأقوى نفوذ في بلاد المسلمين، ولا يرد أحد من المسلمين لهم يداً ولا مطلباً، وهذا غاية الاستضعاف والذلة والمسكنة، ولا شك أنه ما جاء إلا من قبل المسلمين أنفسهم؛ ولهذا فإن الله تعالى حين وقعت الواقعة يوم أحد خاطب المسلمين لإقامة الحجة عليهم بقوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فما يحصل من الذلة والمسكنة ليس راجعاً إلى دين الله، فدين الله معصوم، لكنه راجع إلى تطبيق الذين يطبقونه، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

لذلك فإن ما ترونه اليوم من تنافر القلوب، وحصول الشقاق بين المسلمين، وإسلام بعضهم لبعض، وعدم اعتناء بعضهم ببعض، حتى إن بعضهم لا علم له عن أطراف أرض المسلمين، ولا يعلم شيئاً اسمه الثغور، ولا يعلم عنها أي خبر، ولا يسأل عن ذلك، ويظن هذا شيئاً من الفضول، فالمسلم الذي امتن الله عليه بالإيمان، وعاش بين أبوين مسلمين في دار الإسلام مثلاً في أرضنا هذه لا يفكر أنه يوجد من المسلمين إلا أهل محلته، ولا يفكر فيمن عداهم. لو غزيت الشيشان فدكت دكاً كما حصل تجده لا يتألم لذلك، ولا يتحرك له ضمير، ولا يشارك فيه بمال ولا بنفس، وحتى لا بكلمة. لو غزيت بوسنة كذلك لا تجد له أثراً، وكأن شيئاً لم يحصل، ولا تزال العزائم والولائم تقام وكأن المسلمين لا يضاموا ولم يستذلوا، وكأن حرماتهم لم تنتهك، وكأن أعراضهم لم تستذل، وكأن شيئاً لم يحصل، وهكذا تجدون هذا في مختلف بلاد الإسلام، وإن مما يعجب له أن تجد كثيراً من البلدان تشتهر فيها مواسم اللعب لعب الكرة، وتقدم فيها الجوائز الطائلة للاعبين من الكفار، وفي نفس الوقت تدك حصون المسلمين ويعتدى على حرماتهم في كثير من المناطق ومع ذلك تدعي هذه البلدان أنها دار الإسلام، وأن أهلها وحكامها من المسلمين الراعين لبيضة الإسلام والحامين لملتهم.

إن هذه المشكلة المترتبة على حصول الخلاف والشقاق التي ترونها لن تنتهي إلا إذا عاد المسلمون إلى ما كانوا عليه من الجهاد في سبيل الله، فهو الذي يعيدهم إلى مكانهم ومكانتهم، وإلى ربط الصلات فيما بينهم.

إن التفرق والتخاذل في وقت الغزو والهجوم على دين الله تعالى يقتضي التمكين لأعداء الله تعالى في الأرض. وأنتم تشاهدون في هذا الزمان ما حصل للأمة الإسلامية حين قطعت إرباً إرباً، وأصبحت دويلات لا تستطيع واحدة منها أن تستبد بالقرار، ولا أن ترفع وجهها في وجه عدو أياً كان، وترتب على هذا كثير من الأمور التي لا عهد للمسلمين بها، حتى حيرت أهل الاجتهاد، فأنتم تجدون في الكتاب والسنة وفي كتب السلف في كتب الفقه كلها أن الكفار ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: إلى محارب وذمي وصاحب عهد.

فالمحارب ليس هو الذي يرفع السلاح في وجه المسلمين، بل هو الذي يجب على المسلمين أن يحاربوه، والمسلمون يجب عليهم أن يحاربوا كل كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ما لم يستسلم فيؤدي الجزية عن يد وهو صاغر، أو يكون بينه وبينهم عهد مؤقت؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى ).

وقد قال الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

وكذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123].

لا شك أن ما نراه اليوم في عصرنا يقتضي القضاء على هذه القسمة الثلاثية، فاليوم لا يوجد ذمي واحد يدفع الجزية للمسلمين في مشارق الأرض ولا في مغاربها، لا يوجد كافر واحد ذمي.

الأمر الثاني: لا يوجد أيضاً كافر واحد معاهد؛ لأن المعاهد كما هو منصوص في كتب السلف، ومنصوص أيضاً حتى في النصوص الشرعية هو الذي عقد مسلم العهد بينه وبينه على أن لا يظلم مسلماً أياً كان ولا يظلمه مسلم أياً كان في فترة معينة، وإن الذين يعقدون اليوم العقود الدبلوماسية لا تتعدى حدود الدولة التي توقعها، فمثلاً لو عقدت هذه الدولة اتفاقيةً دبلوماسيةً مع فرنسا أو مع أمريكا على عدم الاعتداء لا يعتبر ذلك شرعاً عهداً بين هذه الدولة الأمريكية أو الفرنسية مع المسلمين؛ لأنها لا تتجاوز في ذلك العهد حدود البلد الذي وقعت معه الاتفاقية، فتعتدي على البلدان الأخرى، فمثلاً البلدان اليوم التي توقع على العهود الدبلوماسية هل تشمل اتفاقياتها أراضي المسلمين الشاسعة ومناطقهم المختلفة، أو يقتصر الاتفاق بين دولتين فقط فيكون ثنائياً؟

إن هذه الوضعية غير سليمة فقهاً، ولا يمكن أن نجد لها مبرراً؛ ولهذا حيرت الحلماء من العلماء، وجعلت أهل الاجتهاد في حيرة من واقعنا اليوم، فلم يميزوا بين دار الحرب ودار الإسلام، وأصبحت الدار مشتركةً، فالمسلمون هم الذين يدفعون الجزية إلى الكفار، فهم أهل ذمة جميعاً عند الكفار، والكفار جميعاً اليوم يتمتعون بأقوى نفوذ في بلاد المسلمين، ولا يرد أحد من المسلمين لهم يداً ولا مطلباً، وهذا غاية الاستضعاف والذلة والمسكنة، ولا شك أنه ما جاء إلا من قبل المسلمين أنفسهم؛ ولهذا فإن الله تعالى حين وقعت الواقعة يوم أحد خاطب المسلمين لإقامة الحجة عليهم بقوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فما يحصل من الذلة والمسكنة ليس راجعاً إلى دين الله، فدين الله معصوم، لكنه راجع إلى تطبيق الذين يطبقونه، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

لذلك فإن ما ترونه اليوم من تنافر القلوب، وحصول الشقاق بين المسلمين، وإسلام بعضهم لبعض، وعدم اعتناء بعضهم ببعض، حتى إن بعضهم لا علم له عن أطراف أرض المسلمين، ولا يعلم شيئاً اسمه الثغور، ولا يعلم عنها أي خبر، ولا يسأل عن ذلك، ويظن هذا شيئاً من الفضول، فالمسلم الذي امتن الله عليه بالإيمان، وعاش بين أبوين مسلمين في دار الإسلام مثلاً في أرضنا هذه لا يفكر أنه يوجد من المسلمين إلا أهل محلته، ولا يفكر فيمن عداهم. لو غزيت الشيشان فدكت دكاً كما حصل تجده لا يتألم لذلك، ولا يتحرك له ضمير، ولا يشارك فيه بمال ولا بنفس، وحتى لا بكلمة. لو غزيت بوسنة كذلك لا تجد له أثراً، وكأن شيئاً لم يحصل، ولا تزال العزائم والولائم تقام وكأن المسلمين لا يضاموا ولم يستذلوا، وكأن حرماتهم لم تنتهك، وكأن أعراضهم لم تستذل، وكأن شيئاً لم يحصل، وهكذا تجدون هذا في مختلف بلاد الإسلام، وإن مما يعجب له أن تجد كثيراً من البلدان تشتهر فيها مواسم اللعب لعب الكرة، وتقدم فيها الجوائز الطائلة للاعبين من الكفار، وفي نفس الوقت تدك حصون المسلمين ويعتدى على حرماتهم في كثير من المناطق ومع ذلك تدعي هذه البلدان أنها دار الإسلام، وأن أهلها وحكامها من المسلمين الراعين لبيضة الإسلام والحامين لملتهم.

إن هذه المشكلة المترتبة على حصول الخلاف والشقاق التي ترونها لن تنتهي إلا إذا عاد المسلمون إلى ما كانوا عليه من الجهاد في سبيل الله، فهو الذي يعيدهم إلى مكانهم ومكانتهم، وإلى ربط الصلات فيما بينهم.

ثم من أخطار هذا الشقاق والخلاف: أنه مدعاة أيضاً لانشغال العقول المفكرة من المسلمين، فالعقول المفكرة هي التي تكون وراء نهضة الأمم، فالأمم لا تنهض إلا بعقول المفكرين منها، فهم الذين يبتكرون ويأتون بالجديد في كل مجال، أما إذا شغلت هذه العقول بعدم الأمن والراحة والطمأنينة فإنها لا يمكن أن تنتج أبداً؛ ولذلك تجدون البلدان المهتمة بالإنتاج كاليابان مثلاً تخصص للنخبة الذين برزوا في مجالات علوم الدنيا أماكن مريحةً، ويعيشون عيشاً يختلفون فيه عن عيشة عوام الناس؛ ليبتكروا كثيراً من الأمور، ويخترعوا كثيراً من المخترعات التي تعين على التقدم تجاه ما هم قاصدون إليه، وإن المفكرين من المسلمين اليوم ينشغلون بالخلافات الداخلية فيما بين المسلمين، فليس لهم أي إنتاج، ولا أي اختراع جديد، ولا أي تفكير نافع في إستراتجية مفيدة للأمة.

إن أقوى المسلمين تفكيراً، وأقواهم اختراعاً في زماننا هذا إذا بدأ مشروعاً يفكر فيه بما ينفع الأمة فسيهتم بأمر نفسه، ويجد الدريهمات قد نفذت، ويجد لقمة العيش تطارده، ويجد الأمن والراحة معدوماً، ويجد أنه محتاج إلى أن يجعل وقتاً من وقته للتكسب ولكثير من الأمور الأخرى، فينقطع مشوار التفكير الذي كان لديه وبالتالي يتوقف الاختراع المطلوب، وهذا ما أدى بحضارة هذه الأمة إلى التوقف، فأنتم تذكرون ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بثلاثة أيام، قال: إنه عرضت له فكرة إذا نفذها لن تحتاج بعده امرأة في أرض الإسلام إلى رشد، لن تحتاج بعده امرأة إلى رجل في الكسب والرزق، ولكنه قضى الله أجله قبل أن ينفذ هذه الفكرة وما ذلك إلا مصلحة للأمة أيضاً وامتحان لها، ولم نطلع على الفكرة التي كان عمر ينويها، ولكننا نعلم أنها فكرة اقتصادية مهمة، فـعمر وهو صاحب الأفكار الاقتصادية الكبيرة، فهو الذي حين فتح الله عليه أرض مصر، واجتمع الصحابة ورأوا أنها ينبغي أن توزع بالأسهم بين الذين فتحوها، فتقسم أربعة أخماس منها على الفاتحين المجاهدين، قال عمر : فما تتركون لمن يأتي بعدكم من أولاد المسلمين وذراريهم؟ إنها أرض الزراعة والخصب، فلو وزعت اليوم بينكم لما تركتم شيئاً لمن يأتي ومن يدخل في دين الله من أولاد المسلمين، ففكر هذا التفكير فجعلها وقفاً للمسلمين إلى يوم القيامة، وكذلك وقف سواد العراق على المسلمين إلى يوم القيامة، فهذا التفكير الاقتصادي الكبير الذي كان لدى عمر بن الخطاب هو الذي نحتاج إليه اليوم، وهو الذي يشغل عنه الناس، فلا تجد شخصاً يجد وقتاً ليفكر حتى يأتي بفكرة ناضجة مفيدة تحتاج إليها الأمة، وتعتمد عليها في مواقفها الإستراتيجية، وفي قراراتها المستقلة.

كذلك من مظاهر هذا الخلاف وهذه التفرقة: توقف المد الثقافي، إن المسلمين في العصور الأولى في القرون الثلاثة المزكاة وبداية القرن الرابع أنتجوا كثيراً من الإنتاج، فكانت العلوم الإسلامية في تزايد، ففي البداية كما تعلمون إنما كانت الكتب تكتب في الحديث فقط، وذلك حين أمر عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين بكتابة الحديث، فانتدب لذلك أبو بكر بن عمرو بن حزم و محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وغيرهما من كبار الأئمة، فجمعوا السنن وكتبوها، ثم جاء بعدهم أتباع التابعين فدونوها ورتبوها على الأبواب وكان من السابقين الأولين منهم مالك بن أنس ، و عبد الملك بن جريج ، و يزيد بن هارون ، و أبو داود الطيالسي ، و عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، و سعيد بن منصور ، وغيرهم من الذين دونوا السنن وكتبوها وألفوا فيها، وكانوا الطليعة الأولى في التأليف في هذه الأمة، وكانت كتبهم تجمع فنوناً متعددة، فالذي يقرأ في الموطأ يجد فيه الأحكام الفقهية، ويجد فيه العقائد، ويجد فيه الأدعية والرقى، ويجد فيه الأقضية، ويجد فيه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسماعه ووصف الجنة والنار وباب القدر وغير ذلك من الأبواب التي يجدها في الموطأ، كذلك يجد فيه كثيراً من تفسير القرآن. والذي يقرأ في كتاب المصنف لـعبد الرزاق يجد فيه كثيراً من العلوم المختلفة، من الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأقضية، وغير ذلك من العلوم المتباينة. وكذلك الذي يقرأ في كتاب سعيد بن منصور وأنتم تعلمون أنه لا يوجد منه اليوم إلا كتابان فقط هما: كتاب الأنكحة والطلاق، وكتاب التفسير، وهما يمثلان هذا الكتاب ويدلان على سعته وكثرة ما تناوله سعيد بن منصور رحمه الله تعالى في هذا الكتاب، لكنه بعد هذا العصر جاء التطور فأفرد التفسير علماً مستقلاً، وكان المؤلفون فيه يؤلفون كتباً مستقلاً، ومن أشهرها مثلاً كتاب محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ثلاثمائة وعشرة، وكتاب عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى سنة ثلاثمائة وسبع وعشرين، وكذلك تفسير النسائي الذي هو في الأصل جزء من سننه الكبرى، وقد توفي النسائي سنة ثلاثمائة وثلاث، وهكذا من وراءهم من أئمة التفسير. ثم نشأت علوم متعددة، منها: علم أصول الفقه، وأول من كتب فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، ثم بعده ألف فيه عدد من المؤلفين ومن أشهرهم أبو بكر الباقلاني و محمد بن الطيب ، و القاضي أبو الطيب ، و أبو المعالي الجويني ، و أبو إسحاق الإسفراييني ، و أبو إسحاق الشيرازي ، ومن بعدهم، وكذلك ألف في النحو والصرف، وأنشأ الخليل بن أحمد علوم اللغة المتفاوتة المختلفة كعلم العروض، وعلم القوافي، وعلم الهجاء والكتابة وغير ذلك، فانتشرت العلوم واتسعت، واتسعت تخصصات الناس في الإسلام، ولكنه في أواخر القرن الرابع الهجري عندما فتحت الدنيا أبوابها على المسلمين انشغلوا فيها وتنافسوا عليها فتوقفت المسيرة، لم يتجدد علم جديد بعد تلك العلوم المعروفة في ذلك الوقت، اللهم إلا بعض العلوم الضئيلة التي هي مترجمة عن علوم أجنبية، مثلاً علم المنطق، علم الاقتصاد، علم الرياضيات، وغيرها من العلوم التي استفاد منها المسلمون، إنما جاءتهم بالترجمة، فأصبح المسلمون فيها أذناباً وغير قادة، وإن كان لهم بعض النظريات المفيدة لكنهم ليسوا أصحاب هذا العلم في الأصالة.

إن توقف هذه النهضة العلمية ناشئ عن حصول الخلاف والشقاقات بين المسلمين، إذ لو كان المسلمون متحدين كما كانوا لاستمرت هذه المسيرة ولم تتوقف عند الحد المعروف، فأنتم تعلمون أن علوم الإسلام التي أنتجها أهل الصدر الأول قاربت ثلاثين علماً في خلال قرن واحد، ثلاثين تخصصاً في خلال قرن واحد، وإن الجامعات العريقة في زماننا هذا مثلاً من أقدم الجامعات في العالم كله جامعة (كارفورد) في (بوستن) في أمريكا، وكذلك جامعة (سلفانيا) في أمريكا، ونحوها من الجامعات القديمة، مضى عليها أكثر من مائة وخمسين سنة اليوم، وتخصصاتها ما زالت دون العشرين، وإن إنتاج المسلمين في تلك العصور أوصلهم إلى هذه التخصصات الكثيرة، فأنتم تعلمون مثلاً في العلوم الشرعية علم العقائد، وعلم التفسير، وعلم القراءات، وعلم هجاء القرآن وكتابته، وعلوم القرآن المختلفة، وعلم الناسخ والمنسوخ. وكذلك في علوم الحديث علم متون الحديث، علم المصطلح، علم العلل، علم الرجال. كذلك في الفقه مثلاً علم الفقه وعلم أصول الفقه، وعلم القواعد الفقهية، وعلم تخريج الفروع على الأصول. وكذلك من علوم الآلات المختلفة: علم المنطق، ثم علوم اللغة ومنها: علم النحو، وعلم البيان، وعلم المعاني، وعلم البديع، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق الكبير، وعلم الاشتقاق الأوسط، وعلم الاشتقاق الأكبر. وكذلك علم الهجاء والخط، وعلم العروض، وعلم القوافي، وعلم الألسنية ومخارج الحروف وصفاتها، وكذلك علم التاريخ عموماً، ثم علم الأدب والإنشاء، ثم علم قرض الشعر، ثم علم آداب البحث والمناظرة وغيرها من التخصصات الكثيرة التي أربت على الثلاثين في مدة قرن واحد.

إن هذه المسيرة قد توقفت، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لم تنشأ علوم جديدة، مع أنه كان من المتوقع أنه كلما ازداد الزمن تزداد العلوم ويزداد أهلها، إن ذلك القرن نشأ فيه كثير من المجتهدين، فلله در قرن أنجب أبا حنيفة ، و مالك بن أنس ، و سفيان الثوري ، و سفيان بن عيينة ، و حماد بن زيد ، و حماد بن سلمة ، و يزيد بن هارون ، و عبد الله بن المبارك ، و عبد الرحمن بن مهدي ، و محمد بن إدريس الشافعي ، و أحمد بن حنبل ، و محمد بن الحسن الشيباني ، و الحسن بن محمد اللؤلؤ ، و أبا يوسف ، وغيرهم من كبار العلماء الذين طبقت شهرتهم مشارق الأرض ومغاربها، وأنتجوا في مختلف العلوم وأفادوا الأمة إفادات كثيرة، بينما نجد عصرنا هذا الذي انتشرت فيه المطابع، فالمطابع لا تتوقف عن العمل ليلاً ولا نهاراً، وتجدون دولةً صغيرةً من دول الإسلام، بل مدينةً واحدة مدينة لبنان فيها أكثر من ثمانية وثلاثين دار نشر بمطابعها، ومكتباتها الموزعة، واتفاقياتها الدولية، ومع ذلك لم يزدد المجتهدون ولم يزدد العلماء، بل لا يزالون يتناقصون وأنتم تعلمون في بلدكم هذا الذي كان معقلاً من معاقل العلم في هذه البلدان كم يوجد اليوم ممن يصدق عليه عالم، دعني مما يقوله بعض الناس: ليدفع معول عن معول.

لكن الذي أقوله هنا: إن العالم الذي يمكن أن تصدق عليه هذه الكلمة، ويعرف هو أنها حق، ويعرف الناس أنها حق لا يتجاوز أصابع اليد في هذا المجتمع؛ فلذلك هذه مصيبة عظيمة لا ينتبه لها كثير من الناس، والسبب هو انشغال الناس في الخلافات والتنازعات التي هم في غنىً عنها، وكان بالإمكان أن يواصلوا مسيرتهم، وأن يستمروا على ما تركهم عليه سلفهم، وألا يتقيدوا بالقيود المفروضة عليهم.

إنه من مظاهر هذه الخلافات والشقاقات أيضاً: حصول الشبه والشك لدى كثير من المسلمين وعوامهم في هذه الدعوة الراشدة، إن كثيراً من الناس اليوم يشك في أصل الدعوة، ويقول: ما حكم الدعوة؟ وهل هي صادقة؟ وهل أهلها مخلصون؟ وما ذلك إلا بسبب أنه يرى بعضهم يطعن في بعض، وبعضهم يتهم بعضاً في نيته، وبعضهم يتهم بعضاً في إخلاصه، وبعضهم يخالف بعضاً في منهجه فيطعن فيه، كل هذا يراه الناس بارزاً، وهو فيما تعلمون يقتضي تشكك كثير من الناس وإلقاء الحواجز في وجههم، فيكون قطعاً لطريق الدعوة عليهم، إن الذين يرفعون هذا الخلاف وينشرونه بين الناس هم من قطاع الطرق يقطعون الطرق على الناس في سبيل هذه الدعوة؛ لأن عملهم مدعاة للشك في هذه الدعوة من أصلها، وللشك في أصحابها ونياتهم، وإخلاصهم لله تعالى، وهذا ما جعل كثيراً منهم يتشكك حتى فيمن لا ينبغي أن يشك فيه.

إن كثيراً من الناس إذا رجع إلى نفسه وقال: ما الذي جعلني أشك في فلان وفلان من الناس الذين أعرفهم ولا أعرفهم إلا في المساجد في الصفوف الأولى، ولا أعرفهم إلا متوضئين متطهرين، ولا أعرفهم إلا بعفة اللسان، ولا أعرفهم إلا بمحبة الله ورسوله، ولا أعرفهم إلا بالحرص على العلم النافع والعمل الصالح، كيف أشك فيهم وأتهمهم؟! هل أنا مسيطر على قلوبهم؟ هلا شققت عن صدورهم؟ لكن يجد أن آخرين يطعنون فيهم من الخلف يقولون: فلان طيب ولكن، فتأتي (لكن) هذه فتهدم كل ما قبلها، إن هذا من الخلاف الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيكسب أصحابه إثماً عظيماً حين يصدون كثيراً من الناس عن التحاق بركب الدعوة إلى الله تعالى.

ثم إن من مظاهر هذا الخلاف أنه يصل في كثير من الأحيان إلى التكفير والتبديع والتفسيق وإلى القطيعة والهجران بين المسلمين، تجدون كثيراً من الناس لا يتعفف لسانه ولا يتورع عن أن يلصق بالمسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلوات الخمس إلى جهة القبلة، وصاموا رمضان، وحجوا البيت إن استطاعوا إليه سبيلاً، وزكوا إن كانوا يملكون ما يزكونه، لا يتعففون عن أن يصفهم بالكفر، ويخرجهم عن الملة، كأنه هو الذي يملك هذا، وكأنه هو المسيطر على الضمائر والذي يعلم السر وأخفى.

إن هذا شائع اليوم في كثير من البلدان ولا يزال يتحرك وتحركه أياد مأجورة تسعى لحصول التفرقة بين المسلمين، فتوزع الشتائم بينهم، ولا يصدر شريط فيه بعض الشتائم وبعض التهم وبعض الألقاب التي تناط ببعض الدعاة أو المشاهير إلا تلقفتها الدور، ونشرتها، ووزعت بالمجان، ولا يخرج كتاب كتبه مجهول أو منبوز أو كتبته جماعة مشبوهة إلا تلقته دور النشر بالطباعة والتكرير، فيطبع منه في الشهر الواحد عدة طبعات، ويوزع بالمجان، من أين هذا؟ لا شك أنه من كيد الأعداء الذين يريدون تفريق المسلمين وانشغالهم بما لا يعني عما يعني، وإن مما يحز في النفس ويتشضى له القلب والكبد أن تجد شاباً لم يحفظ كتاب الله، ولم يقرأ صحيح البخاري ، ولم يقرأ موطأ مالك ، ولا يعرف فروض عينه، تجده منهمكاً منشغلاً في قراءة هذه الكتيبات من هنا ومن هنا، ويكيل الشتائم لكثير من الدعاة والعلماء والذين لا نزكيهم على الله تعالى، ولكننا نحكم بحسب الظواهر والله يتولى السرائر.

وقد أتاني أحدهم ذات يوم من الأيام في جامعة محترمة من جامعات الإسلام، فأتاني يحمل كتيباً من هذه الكتيبات في مائة وعشرين صفحة، فقال: يا فلان! لقد قرأت هذا الكتاب من دفته إلى دفته ثلاث مرات، فوجدته كتاباً مهماً لا غنى عنه، فقلت: يا أخي! هل حفظت كتاب الله؟ قال: لا، فقلت: هل قرأته كله عن ظهر قلب؟ قال: لا، قلت: هل قرأت صحيح البخاري كاملاً مرةً واحدةً؟ قال: لا، قلت: هل قرأت موطأ مالك مرةً واحدةً؟ قال: لا، فقلت: سبحان الله! كيف تزهد في وقتك حتى تجعل ثمنه هذه الكتيبات التي لا تدري من أين أتت؟ ولا ما الغرض منها ولا ما القصد؟ وتعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن وقتك إذاً لرخيص، وإن هذا ليس واحداً ولا اثنين، ولا عدداً محصوراً؛ ولذلك أذكر أنني أتاني في ذات ليلة من الليالي بعض الشباب المسافرين الذين يقطعون التذاكر فيسافرون من بلد إلى بلد لينقلوا الخلافات بين أحد العلماء، وبين بعض العلماء الآخرين، فيأتون ويقدمون أسئلةً لهذا العالم فيسجلونها في أشرطة ثم ينقلونها إلى عالم آخر ليرد عليه، فيأخذون تلك الردود ويسلمونها للعالم الأول.. وهكذا، فهم مسافرون دائماً في سفر لا يحل القصر فيه؛ لأنه سفر معصية، فطرق علي هؤلاء الباب وأتوني بأشرطة فقالوا: هذه أشرطة أبي فلان، وهذه أشرطة أبي علان، هذا سجلها من فلان، وهذه سجلها من فلان، وكانت القضية التي يتلهون عليها مثلما يتلهى الأوربيون على صراع الثيران، هذا يخزه ليطعن بقرنه آخر، وهكذا حتى تقع الحرب دواليك بين العلماء فينشغلوا عما هم فيه، ويطعن بعضهم في بعض، ويتفرج هؤلاء عليهم، ويضحك عليهم أعداؤهم، ويجعلون من هذا سبيلاً إلى الطعن فيهم وفي نياتهم وفي عدم إخلاصهم.

بل تجد اليوم كثيراً من الشباب يتجرءون على كثير من العلماء الذين شهد لهم بالخير بسبب أنهم سمعوا كثيراً من زلاتهم وطعنهم في معاصريهم، وفيمن هو على شاكلتهم من العلماء، وكل هؤلاء مسرفون فيما قالوا، فلا العلماء رشدوا حين طعن بعضهم في بعض وتجاوزوا حدودهم واتبعوا أهواءهم أو شياطينهم، ولا الشباب مصيبون حين نقلوا النميمة بين العلماء وسعوا إلى الإفساد بينهم.

كذلك إن من هذه المظاهر السيئة ما يقتضي التمايز بين الفئات الدعوية المختلفة، إنني قد ذكرت من قبل أن مثال هذه الصحة المباركة مثال الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، لكن الجسد الواحد لا يمكن أن يكون عضواً واحداً، بل فيه عينان وأذنان وفم وأنف ويدان ورجلان.. إلى آخره، فهذه الأجهزة لا غنى عنها، وكل واحدة منها تقوم بدور لا يمكن أن تقوم به الأخرى، ولكنها لها قلب واحد تجتمع عليه، فالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب الله وسنة رسول الله هو القلب المدبر لكل هذه الدعوة، والجماعات والحركات والدعوات المختلفة هي الآذان والأسماع والأبصار والأنوف والأيدي والأرجل، إن العين ذات دور لا يمكن أن تقوم به اليد، واليد ذات دور لا يمكن أن تقوم به الأذن، والأذن ذات دور لا يمكن أن تقوم به الرجل، وهم جميعاً بمثابة فريق من الأطباء أتوا إلى مريض فاشتغلوا جميعاً بعلاجه، هذا يعالج أضراسه، وهذا يعالج عينيه، وهذا يعالج السرطان في كبده، وهذا يعالج القرحة المعدية في الإثنا عشر منه.. وهكذا، فهم جميعاً يعالجون بعض الأمراض التي فيه، وإن كانت تخصصاتهم متباينةً وفائدتها مختلفةً، إلا أنها جميعاً ساعية إلى الإصلاح، وساعية إلى ما فيه الرشد والفائدة، فليس لأحد منهم أن يعيب سعي من سواه، بل هم جميعاً ينبغي أن يعلموا أن نتاج عملهم سينصب في بوتقة واحدة وهي الكتاب والسنة، فليس أحد منهم داعياً إلى نفسه، ولا ينبغي له أن يكون كذلك، الدعوة لله رب العالمين لا شريك له، ليست لأشخاص، ولا لأفراد، ولا لجماعات، ولا لمنهج مخصوص، ولا لذكر مخصوص، بل الدعوة لدين الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت الدعوة لهذا فلن يقع الخلاف، لكن إذا جاءت الدعوة إلى المذاهب وإلى الأفكار الضيقة وإلى الجماعات المختلفة، وكانت تحزبات ضيقة، فهذا مقتض لحصول الشقاق والخلاف، ليس معنى هذا أن ظاهرة وجود الجماعات ظاهرة مقتضية للخلاف أو ناشئة عنه، معاذ الله! لا يمكن أن يكون كذلك، بل هذه الجماعات ضرورية لا بد منها، وأنتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايعه الأنصار جعلهم اثني عشر فريقاً، وجعل على كل فريق نقيباً ليلة العقبة، وأن الله عز وجل أخرج لبني إسرائيل اثني عشر نقيباً وصرح بذلك في كتابه، وما ذلك إلا للتنظيم الدقيق الذي يرتبط الناس به، ولا يكونون حشوداً كثيرةً لا يجمعها جامع.

واقع المسلمين اليوم وما فيه من التفرق والاختلاف

إن جماعة المسلمين لا تكون مثلما نشاهده اليوم في مساجدنا، فيأتي الرجل متطهراً إلى المسجد عندما يسمع الأذان ولكنه يأخذ مكانه الضيق من الصف ويجلس فيه حتى يسلم الإمام التسليمة الأولى، وإن انتظر التسليمة الثانية ثم ينطلق لا يلتفت إلى من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا يعرف شيئاً عن آمالهم ولا آلامهم ولا أحاسيسهم، ولا يشعر بما يفكرون فيه، إن هذا هو عين التفرقة والخلاف، وهو الذي ينبغي أن ينتبه الناس له.

إن هذا المسجد ينبغي أن يكون جامعةً تجمع المسلمين على الحق، وينبغي أن يكون استواؤهم في الصفوف مزيلاً للضغائن فيما بينهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عباد الله! لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم )، وفي رواية: ( أو ليخالفن الله بين قلوبكم ).

إننا في هذه المساجد لا يعتني بعضنا بالتعرف على إخوانه؛ حتى لا يتذكر وجوه من يصلون معه من جماعتهم في هذا المسجد إلا بعض الأفراد الذين يمكن أن نصفهم بأنهم من المشاغبين، أي: الذين يكلمون الناس ويوجهونهم ويدعونهم إلى الخير، فينظر الناس إليهم على أنهم من المشاغبين؛ لأنهم ظنوا أنهم يتكلمون فيما لا يعنيهم، والواقع أنهم من المشاغبين على الشيطان؛ لأنهم يريدون إبطال ما يريده الشيطان من الكيد في صفوف أهل المسجد، فهؤلاء المشاغبون وحدهم هم الذين يمكن أن يكونوا جماعةً؛ لأنهم يتعارفون فيما بينهم، ويعرفون وجوه الداخلين إلى المسجد، ويهتمون بهمومهم ، ويطلعون على واقعهم، بينما من سواهم من الصامتين الساكتين المنعزلين المنزوين في مكانهم من الصف ليسوا مشاغبين للشيطان، بل هم منقادون له؛ ولهذا لا يتطلعون إلى التعرف على واقع الناس وما هم بحاجة إليه، ولا يعرفون حتى إذا كان الشخص مع جاره يمس منكبه منكبه، وساقه ساقه لا يعرف ما يفكر به قلبه وما هو فيه من هموم، قد يكون مصاباً بمصيبة عظيمة تقتضي منه المؤازرة والمؤاساة، وقد يكون أيضاً محتاجاً إلى من يعلمه حكماً من أحكام دينه، وقد يكون محتاجاً إلى من يرشده في أمور دنياه، وهذا هو تحقيق الإخوة المطلوبة شرعاً، وهذا مفقود مع الأسف في كثير منا، ويجب علينا أن نراجعه، وأن نعلم أنه من مظاهر الخلاف السيئة، والتي لا بد أن تزول، لا يمكن أن تكون مع أخيك المسلم صفاً واحداً أمام الله تعالى يمس منكبك منكبه وساقك ساقه، وأنت لا تعرف شيئاً عن آماله وآلامه، وما يعيش فيه، ولا تعرف من هو؟ ولا لماذا أتى؟ قد يكون عدواً مدسوساً، قد يكون نصرانياً جاء ليفسد صلاتك، لماذا لا تتعرف عليه يا أخي؟! يجب عليك أن تتطلع على التعرف إلى أحوال المسلمين وما هم فيه، ( ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني في السنن، و البيهقي في سننه كذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في رواية: ( من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم )، والجمع والإفراد هنا لا فرق بينهما، فالمقصود بالأمر الأمر العام الذي يجمعهم، والمقصود بالأمور ما يشمل أمور الأفراد وأمور الجماعات.

إن العناية بأمور الناس هي التي شرع الله لها شرائع الدين كلها، فالصلاة شرعت ليقوم المسلمون صفاً واحداً، وليتحدوا خلف إمام واحد، لا يركعون قبل ركوعه، ولا يرفعون قبل رفعه، ولا يكبرون قبل تكبيره، ولا يسلمون قبل سلامه، ( أما يختشي الرافع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟! ).

وكذلك الزكاة شرعت لتقوية الصلة بين المسلمين، وتحصيل التكافل الاجتماعي فيما بينهم، وكذلك الصوم شرع ليحس الأغنياء بمرارة الحرمان؛ حتى ترق قلوبهم لمساعدة الفقراء.

لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا

وكذلك في الحج شرعت هذه المناسك بزي واحد، في وقت واحد، في مكان واحد؛ ليأتي المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها يجتمعون في أكبر مؤتمر سنوي لهم، فيعطي بعضهم بعضاً أخبار بلدته وما حصل فيها، ويتواصلون فيما بينهم.

وكذلك في الجهاد في سبيل الله، حيث يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، إن حصول هذه الإخوة وهذه الألفة هو الذي يحقق الإسلام الحقيقي بين الناس، وأن تركها مقتض من الذين ندعوهم إلى الدخول في الإسلام أن لا يدخلوا فيه، فكم رأينا من الكفار الذين يقتنعون بدين الإسلام ولكنه يمنعهم من الدخول فيه أنهم يرون المسلمين في واقعهم لا يشجعون على الدخول في دين الإسلام.

أثر الفرقة بين المسلمين في الصد عن دين الله

ذات يوم من الأيام خاطبني أميرال من البحرية الفرنسية وكان قد قرأ الإنجيل، وقرأ التوراة، وقرأ القرآن، قرأ العهد القديم، والأسفار الجديدة وقرأ القرآن بترجمة، فقال: إنني قرأت القرآن فوجدت أنه من الناحية النظرية لا يمكن أن يساويه شيء، ولكنه من الناحية التطبيقية عندما نظرت إلى الإسلام رأيت إسلام إيران وإسلام السعودية، يقصد هنا أهل السنة والشيعة، فأي هذا هو الإسلام الحق الذي يوافق المصحف؟ فهذا الرجل كانت لديه شبهات من واقع الناس فقط، فقلت له: الإسلام أقدم من السعودية وأقدم من إيران، وهذا مجرد تطبيق، هل أنت ترضى عن تطبيق الفرنسيين الإنجيل؟ إن الإنجيل اليوم إنجيل متعدد مثلاً لديهم خمسة أناجيل، وكذلك الديانة المسيحية منقسمة إلى ديانة قديمة يسمونها (بروتستانت)، وكذلك إلى ديانة جديدة يسمونها (كاثوليك) وبينهما شقاق وخلاف، فهو ينظر إلى الإسلام من هذه النظرة، ويرى أهله يتقاتلون فيما بينهم ويتنازعون ويختلفون، فيظن واقعهم مثل واقع النصارى، ولكنه عندما زالت عنه الشبهة ورأى أنه يخاطب هو بتطبيق الإسلام على أحسن الوجوه، ولا ينظر إلى تطبيقات الآخرين، وأن المثل المضروب للمسلمين للتطبيق هو واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وأن من عداه ليس معصوماً، فلا يمكن أن يعمل بكل أعماله حتى ولو كان أبا بكر الصديق ، لا يمكن أن ينظر إلى شخص على أنه القدوة مطلقاً، وأنه إن ضل ضللنا كما يقول بعض الجهلة، لا، بل هذا إنما هو لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده، فعندما زالت الشبهة عن هذا الرجل دخل في دين الله تعالى وأسلم وبكى وحسن إسلامه، وما زال إلى اليوم تأتي منه الأسئلة، ويستفسر في كثير من الأمور مما يتعلق بدينه، ونظيره كثير من الذين تقع الإشكالات حينما ينظرون إلى بلاد المسلمين ويذهبون إليها، فكثيراً ما يأتي الشخص راغباً في الإسلام فيذهب إلى بلد من البلدان الإسلامية، فإذا رأى واقع التطبيق العملي في ذلك البلد انهزم هزيمةً نفسيةً عظيمة؛ لأنه يظن أن الإسلام دين التسامي، ودين العلو، ودين الغلبة، ويجد أن المسلمين هم عبيد الدراهم والدنانير الذين لا يهتمون بأمر دينهم، ولا يضحون في سبيله، وإنما هم أهل شقاق ونفاق وسوء أخلاق، يتوقعون هذا فيما بينهم.

مظهر انهزام المسلمين في اقتدائهم بالغرب

حتى إن كثيراً من المسلمين اليوم إذا رجعوا إلى بعض قيم الإسلام لا يأخذونها من الإسلام، وإنما يأخذونها من الغربيين الذين أعجبتهم حضارتهم وخدعوا بها، فتجد كثيراً من المسلمين حتى من الدعاة يقول لمن واعده موعداً يقول: أنا أريد موعداً إنجليزياً، اشتهر بينهم أن الموعد الإنجليزي هو الذي لا يخلف، يأتي على نفس الثانية، لكن الموعد الإسلامي يأتي بعد ساعتين بعد ثلاث ساعات بعد أربع ساعات.. وهكذا، فالإخلاف أصبح مقروناً عندهم بواقعهم، وما هذا إلا لانهزامهم؛ ولذلك تجدون في مجتمعنا هذا أن الشخص إذا طلب منك حاجةً تقول له: اليوم أو غداً أو بعد غد، كأنه لا فرق بين اليوم وغد وبعد غد، فاليوم وقت تحاسب عليه ويمكن أن تموت فيه وغداً وقت تحاسب عليه ويمكن أن تموت فيه، وبعد غد وقت تحاسب عليه ويمكن أن تموت فيه، ولكل عمله وما ينبغي أن يصرف فيه، ولا يمكن أن يؤجل عمل هذا إلى هذا؛ فلذلك كان من مظاهر الانهزام: أن كثيراً منهم إذا تحلى ببعض الأخلاق الحميدة كالنظافة مثلاً، لا يأتي بذلك إلا اقتداءً بأعداء الله الكفرة، وهذا من سوء فهمهم لدين الله، فدين الله هو الذي يدعو إلى النظافة، وهو الذي يدعو إلى حسن الخلق، وهو الذي يدعو إلى الالتزام بالمواعيد، وهو الذي يدعو إلى الانضباط، وهو الذي يدعو إلى الأمن والأمان، وإن ما يغتر به الناس من مظاهر في بلاد الكفر قد يوجد فيها بعض هذه الأخلاقيات الحميدة ما هو إلا لأن هؤلاء بعد أن خاضوا في غمرات الكفر إلى أن وصلوا إلى الرقاب والتراقي وجدوا بعض الأخلاق الإسلامية الرفيعة، فتحلوا ببعضها لتحقيق بعض مصالحهم الدنيوية، ولم يقصدوا به وجه الله تعالى، فمن اقتفاهم على ذلك فهو المغبون، حين شرع الله له أمراً فلم يأخذ به وتركه واقتدى بأعداء الله تعالى في ذلك، فلا هو أصاب ما أمره الله به، ولا هو تركه، بل فعله اقتداءً بالكفار أعداء الله.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4061 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع