أرشيف المقالات

خاتم النبيين (10)

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
الحلقة العاشرة من برنامج (خاتم النبيين)
بداية الهجرة وأحداثها
 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ومصطفاه وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
 
ذكَرنا في الحلقة الماضية عرضًا لبيعة العقبة الثانية في سببها وعدد المبايعين فيها وشروطها ونتائجها، وكذلك المواقف التي فيها والدروس المستفادة منها، وننتقل في حلقتنا هذه إلى فاصل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الهجرة إلى المدينة.
 
إن حدث الهجرة إلى المدينة حدثٌ عظيمٌ وتحوُّلٌ كبيرٌ في مسار الدعوة وفي مستقبل الإسلام، وهو مرتبطٌ ببيعة العقبة الثانية، وكذلك مرتبط بأحوال المسلمين في مكة، ولعل هناك أسبابًا عدة في حصول الهجرة إلى المدينة، من تلك الأسباب:
أولًا: اضطهاد المؤمنين في مكة والتضييق عليهم، حتى خشي هؤلاء المؤمنون على أنفسهم فتنتَهم في دينهم، ولذلك تجد منهم مَن هاجر إلى الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، والسبب الثاني في حصول الهجرة إلى المدينة تكذيب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة لوجود الأنصار فيها، خصوصًا أصحاب بيعة العقبة الثانية ومَن أسلم بعدهم، ثالثًا من الأسباب تآمُر قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصًا بعد وفاة أبي طالب وأذيَّتهم له والتضييق عليه، رابعًا من الأسباب التي جعلت المؤمنين يهاجرون إلى المدينة أنهم هاجروا؛ ليعبدوا الله عز وجل في مكان آخر أكثر أمنًا وأقل أذية، وأكثر أعوانًا على الخير.
 
هذه بعض الأسباب لحصول حدث الهجرة التاريخي إلى المدينة، وروى ابن سعد في الطبقات عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما صدر رجال العقبة الثانية من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، طابت نفسُه عليه الصلاة والسلام؛ حيث جعل الله تعالى له منعة وقومًا أهل حرب، وحين علمت قريش بذلك اشتد بلاؤها وأذاها على المسلمين، فشكا المسلمون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أُريت دار هجرتكم ذات نخلٍ بين لابتين وهما الحرتان، ثم بعد أيام أذِن لهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي يعني ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)؛ متفق عليه.
 
وبعد ذلك خرج المسلمون أرسالًا من مكة مهاجرين إلى المدينة مشاةً ورُكبانًا على خُفية من قريش، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ينتظر أن يؤمر بالهجرة إلى المدينة، ولم تكن الهجرة سهلة وميسرة؛ لأن قريشًا تضع العراقيل والعقبات أمام المهاجرين، وتَسلُبهم أموالهم، فضحى هؤلاء المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم بأموالهم مقابل بقائهم في المدينة، وفرارًا بدينهم من الفتنة، وكانت المدينة دار وباء آنذاك، حتى أصاب ذلك الوباء عددًا من الصحابة المهاجرين رضي الله عنهم، وكانوا يُصلون قعودًا من أثره، وعندما علموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم في النوافل، تجشَّموا رضي الله عنهم القيام، فصلوا قيامًا مع ضعفهم وسقمهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلًا: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكةَ أو أشدَّ، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مُدنا، وصحِّحها لنا، وانقلْ حُمَّاها إلى الجُحفة)؛ متفق عليه.
 
وكان المهاجرون إلى المدينة لكل فردٍ منهم أو مجموعة منهم قصةٌ وموقف وحكاية؛ لأن قريشًا كانت كلما علِمت بأحد يريد الهجرة آذتْه وحاولتْ فتنتَه، وربما حبسته، ولذلك لا يجرؤ الكثيرون على الهجرة إلا خُفية، فيمكن الرجوع إلى كتب السِّير للاطلاع على تلك المواقف، ففيها دروس وعبرٌ، وهكذا لم يمضِ شهران على بيعة العقبة حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي، أو مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف عن الهجرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه كثيرًا ما يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبًا)، فيطمع أبو بكر أن يكون الصاحب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عند البخاري: على رِسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، وكانت قريش تريد الخلاص من النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عددٌ من المؤرخين ومنهم ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، قال: فاجتمع كبار قريش في دار الندوة، وتشاوروا في القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون، ويروي بعضهم أن الشيطان قد حضر معهم ذلك الاجتماع، فقال بعضهم: احبسوه بالحديد ووثِّقوه بالرباط، وتربصوا به حتى يموت، وقال آخرون: ننفيه عن البلاد، ولا يضيرنا بأي وادٍ هلك، وقال أبو جهل: يُؤخذ من كل قبيلة شابٌّ جلد قوي، ثم يجتمعون فيقتلونه بسيوفهم، فارتضوا ذلك الرأي، وعزموا على تنفيذه بتأييد الشيطان لهم، فأخبر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك، فنزل عليه قول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال: 30].
 
وهذا مما تحيكه قريش للإسلام ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وعندما أُذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة أتى إلى أبي بكر في وقت لم يكن يأتي به إليه، وكان ذلك في الظهيرة متخفيًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله ما جاء بك تلك الساعة إلا أمر ذو بالٍ، وقد كان عند أبي بكر ابنتاه عائشة وأسماء رضي الله عنهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخرِج من عندك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما هم أهلك يا رسول الله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أُذن لي في الخروج - أي الهجرة - فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم فبدأ، أبو بكر وأهله بتجهيز الراحلتين والطعام ونحو ذلك، فلم يعلم أحد بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وابنتاه وعلي بن أبي طالب، ثم اتجه إلى جهة الجنوب إلى الغار، مع أن المدينة إلى جهة الشمال، وذلك ليوهم قريشًا؛ حيث إن قريشًا ستبحث عنه في جهة المدينة وهي الشمال، فلما وصلا إلى الغار مكَثَا فيه ثلاث ليال، وكان خروجهما للغار ليلًا، ووصلاه في ظهيرة الغد، وكان عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب حكيم يَبيت عندهما في الغار، فيذهب في السحرِ إلى مكة؛ ليصبح مع قريش في مكة، وكأنه بات معهم ليوهِمهم ذلك، فيسمع أخبارهم فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وأيضًا عامر بن أبي فهيرة يأتيهما بلبن بعد العشاء، وكان مع أبي بكر ما له لقضاء حاجتهما حال الهجرة، وقد خلد القرآن ذكر أبي بكر رضي الله عنه في أحداث الهجرة؛ حيث قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وعندما قدم على الغار قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: مكانك يا رسول الله، حتى أستبرأ لك الغار من السِّباع والحيات، وشارك أيضًا في خدمتهما أسماء بنت أبي بكر؛ حيث كانت تأتيهما بالطعام، وقد سخر أبو بكر رضي الله عنه نفسه وأهله وماله في حدث الهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر، فلما سمع ذلك أبو بكر بكى، وقال: (وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله)؛ أخرجه أحمد.
 
وأما المشركون فقد بقوا ينتظرون خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته، ولم يعلموا أنه في الغار، وقد خرج من بيته وأعمى الله أعينهم عنه، فجاء رجل وهم على هذه الحال، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: ننتظر محمد يخرج من بيته، قال: خيَّبكم الله قد خرج وما ترك أحدًا منكم إلا ووضع على رأسه ترابًا، فرأوا ذلك التراب، فلم يصدِّقوا الرجل؛ لأنهم نظروا في البيت، فإذا أحد مُسجًّى على الفراش، فقالوا: هذا محمد، فلما قام، فإذا هو علي رضي الله عنه، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت على فراشه، وأنه لا يمسه منهم شيء، فحينها جُن جنون قريش، وذهبوا يبحثون عنه، ووضعوا مكافأة مقدارها مائة ناقة لمن يأتي به وصاحبه؛ أخرج ذلك البخاري في الصحيح، فركِبوا كل مركب للبحث عنهما، حتى وصلوا إلى قرب الغار، بل وصلوا إلى فم الغار، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؛ رواه البخاري، ومعنى ثالثهما؛ أي: ناصرهما ومُعينهما، ومعهم بعلمه بهما وتأييده لهما، وقد سمع أبو بكر أصوات أقدامهم فأصابه همٌّ وغم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، وقد روى بعضهم أن العنكبوت قد نسجت نسجًا على بعض الغار، فاستبعدوا أن يكون فيه، ولعلنا نذكر شيئًا من الدروس والعبر مما سبق ذكره، ونستكمل مسيرة الهجرة بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.
 
أما الدروس والعبر، فكثيرة، منها:
الدرس الأول: إن حدث الهجرة هو فتح من الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه؛ حيث حصل لهم عُسر ومشقة وأذية، فأراد الله عز وجل لهم اليُسر، فقدَّر لهم تلك الهجرة المباركة، وإن من الفطرة للمؤمنين أن العُسر يتبعه اليسر؛ حيث يأتي عليه فيخرجه، وقد يتعجل ذلك اليُسر أو يتأخر؛ لأن ذلك بقدر وحكمة من الله تبارك وتعالى، فإذا حصل لك أخي الكريم عسرًا، فادعُ الله تعالى باليسر، وكن على ثقة بإتيانه وحصوله بإذن الله تعالى، فإن هؤلاء المؤمنين قد كانوا ببلدهم مكة، وحصل لهم من الأذية والمضايقة والعسر شيءٌ كثير، فجعل الله لهم فرجًا في تلك الهجرة.
 
الدرس الثاني: على المسلم أن يخرُج ويبتعد عن مجالس وأماكن الفتن، وما يضعف الإيمان، فإن ذلك الابتعاد هو أسلم لدينه وآخرته ودنياه، بينما لو مكث في تلك الأماكن للفتن، فلربما أصابه ذلك الافتتان، فزاغ قلبه، ولذلك هاجر هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم من بلدهم مكة خشية الافتتان عن الدين، ففرُّوا إلى المدينة؛ ليسلَم لهم دينُهم، فهم أسوة وقدوة لنا بأن نتجنَّب مجالس وأماكن الفتن التي تُضعف الإيمان في القلب، وتُسهل المعصية على الجوارح، فإن تلك الأماكن هي سوق الشيطان الذي يصطاد به العباد، فلا تكن أخي الكريم صيدًا في شباك عدوك، واختر مَجالسَك ومُجالسيك.
 
الدرس الثالث: إن رؤيا الأنبياء هي إحدى طرق الوحي، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر إلى المدينة، فامتثل أمر ربه عز وجل، وأمر المؤمنين بذلك فهاجروا، وهذه الرؤيا هي من المبشرات يراها المسلم أو تُرى له، فإذا رأيت رؤيا حسنة فحدِّث بها مَن تُحب، واحْمَد الله تعالى عليها، وإن رأيت رؤيا سيئة فلا تُخبر بها أحدًا، ولا تسأل عنها، واستعِذْ بالله من شرها فإنها لا تضرُّك، في حين أن البعض من الناس يسأل عن كل شيء، ويخبر بكل شيء، وهذا لا شك أنه نوع من الجهل.
 
الدرس الرابع: كان الصحابة رضي الله عنهم عندما هاجروا إلى المدينة، أصابَ بعضهم شيءٌ من وباء المدينة، فضعفوا، فصار بعضهم يصلي قاعدًا، فلما علموا أن القاعد على النصف من أجر القائم قاموا في صلواتهم، وهذا يدل على حرصهم على تحصيل الخير وعدم نقصانه، والاستزادة منه، وهذا شأن المسلم أن يحرص على الاستزادة من الخير؛ لأنه لا يدري ما مقامه في الدنيا، فاحرص أخي الكريم في ذَهابك وإيابك ولحظات الانتظار لديك ونحوها - على كثرة ذكر الله تبارك وتعالى؛ لتحصُل على الكثير من الأجور والحسنات، فإن فعلت ذلك فأنت من الموفَّقين.
 
الدرس الخامس: النبي عليه الصلاة والسلام رحيم بأُمته، ويعيش شعورهم ويرأف بهم، ومأخذ ذلك أنه عليه الصلاة والسلام دعا الله عز وجل أن تزول حُمَّى المدينة، ودعا بالبركة فيها، فاستجاب الله تعالى دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام، فأزال عنها الحمى وبارك فيها، وهكذا المسلم يدعو لإخوانه المسلمين، فيخص ويعم، وكلما دعوت لأحد بخير، فإن الملك يقول: ولك بمثلٍ، فاستكثروا رحِمكم الله من الدعاء للمسلمين بخصوص وعموم، فهم بأمسِّ الحاجة إلى ذلك في دينهم ودنياهم، ففيهم من الأمراض والديون واللأْوى والمشكلات ما نرجو أن يكون دعاؤكم سببًا في رفعه ودفْعه وتخفيفه.
 
الدرس السادس: أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه واستجابته له؛ حيث بقي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أول المهاجرين حتى أذن له ربُّه بذلك، وهذا غاية في الاسترشاد بأمر الله تبارك وتعالى، فلما أذِن له ربه هاجر، ولله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة في تقدير ذلك.
 
الدرس السابع: إن نصرة هذا الدين هي بيد الله تبارك وتعالى، وثمة أسباب تُبذل ليتحقق ذلك النصر، وأما الباطل فهو في مآله إلى الخسران المبين، وإن انتشر وانتفش، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا في مكة مستضعفين، وقد اجتمعت قريش على أذيتهم وفتنتهم، ومع ذلك نصر الله تعالى عباده على أعدائه، فهاجروا بسلام وعبدوا ربَّهم باطمئنان، بل إن قريشًا اجتمعوا في دار الندوة على الانتقام من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أمرهم ذلك وبالًا عليهم، وأنجى الله تعالى نبيه والمؤمنين، فالله عز وجل ناصرٌ دينَه وأولياءَه، ولكن لحكمة يريدها الله عز وجل قد يتأخر ذلك النصر، والله عز وجل هو الحكيم العليم.
 
الدرس الثامن: إن حُسن الترتيب والتنظيم والتخطيط الجيد، يُعد من أهم أسباب النجاح في الحياة عمومًا، وفي الناحية الدعوية على سبيل الخصوص، ومأخذ هذا من السيرة حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وتخطيطه مع أبي بكر في أمر الهجرة؛ حيث تم ذلك بكتمان الخبر عن قريش، وكان في الزمن المناسب أيضًا، وعلى هيئة تناسب الحال كذلك، مع اتفاق مبرم مع آل أبي بكر في مسألة الطعام والشراب وأخبار قريش، وكل ذلك تَم بتنسيق وتشاور ولم يكن عشوائيًّا، فما أحوجنا في حياتنا كلها عامة وخاصة في شؤوننا الدعوية الفردية والجماعية إلى التخطيط الجيد لننجح في حياتنا، أما العشوائية فلا تُعرف سلبياتها من إيجابياتها، وقد يخسر الفرد أوقاتًا طويلة وجهودًا كثيرة بسبب عدم التخطيط لهذا المشروع.
 
الدرس التاسع: إن التوكل على الله عز وجل - وهو تفويض الأمر إلى الله تبارك وتعالى، مع الأخذ بالأسباب - من أهم ركائز النجاح في الحياة، فمن توكل على الله تعالى كفاه، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي كافيه، ومأخذ ذلك من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعَلَا الأسباب في أمر الهجرة، مع تفويض الأمر إلى الله تعالى، فكانا متوكلين على الله عز وجل، فكفاهم الله تعالى شرَّ كفار قريش، فحفظهما بحفظه، فإن التوكل على الله تعالى حقَّ التوكل يطرد كثيرًا من الهموم والأحزان والمشاكل إذا كان حقيقيًّا صادقًا، وإذا توكلت على الله تعالى في أمورك فاطرُد عن نفسك الأفكار المزعجة والسلبية، وعش حالة التفاؤل والحال الطيبة، فإنك بذلك تلمس نتيجة التوكل في قلبك وتصرفاتك، وذلك بارتياح الضمير وسكون النفس وهدوء البال.
 
الدرس العاشر: إذا كان الله تعالى معك، فأي شيء تفقده، إنك معك كل شيء، ومأخذ ذلك من السيرة قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، وقوله أيضًا: (لا تحزن إن الله معنا).
 
إن معية الله تعالى لعبده غاية في الأهمية، وهي تعني النصر والتأييد والإعانة، فهو معه بعلمه يعلم حاله ويعينه ويوفِّقه، وييسِّر أمره، فاحرص أخي الكريم على الأعمال التي ثوابها أن يكون الله معك، وأضرب لذلك مثالًا بعملين احرِص عليهما:
العمل الأول: الإحسان إلى الآخرين، فالله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، فاحرِص على أن تُحسن إلى غيرك بأي نوع من الإحسان، سواء عملي أو قولي ولو كان يسيرًا، فإن الله عز وجل معك ورحمته قريبة منك؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وأيضًا يحبك الله، إن الله يحب المحسنين، فالنتيجة للإحسان معية ومحبة ورحمة، فسارع إلى ذلك رحمك الله.
 
العمل الثاني: كثرة ذكر الله تعالى، ففي الحديث: (وأنا معه إذا ذكرني)؛ رواه البخاري.
 
فكن مكثرًا من الذكر ليكون الله معك، فأين أصحاب الأعمال الشاقة والمعاملات المستعصية؟ لماذا لا يكثرون من ذلك الذكر ليكون الله معهم، يُعينهم وييسر أمورهم ويوفِّقهم، فما أحوجهم إلى ذلك، ففي ذَهابك وإيابك ولحظات انتظارك، كن مكثرًا من ذكر الله تعالى، وإن كنا نقول بمعية الله لك، فهذا زائد عن الأجر المترتب على هذا الذكر، فتأمل ذلك ولا يُنسينَّك الشيطان إياه بالغفلة والسهو والنسيان.
 
أخي الكريم، هذا جانب مختصر من الأحداث الأولى للهجرة، وبعض دروسها المستفادة منها، وكم هو جميل أن تجعل لأسرتك الكريمة مجلسًا ولو أسبوعيًّا فيه شيءٌ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتستخرجون من ذلك الدروس والعبر، فيكون له أثرٌ إيجابي على الأولاد في تصحيح مفاهيمهم، وبناء أفكارهم الإيمانية، مع ما يحصل من تنزُّل الملائكة وغشيان الرحمة، وأن يذكرَكم الله تعالى فيمن عنده، فيا لها من حوافز وجوائز عظيمة! ويا لها من أثر عظيم على طُمأنينة أهل البيت وجمع شملهم، إني أرجو ذلك منكم أيها الوالدان الكريمان.
 
اللهم وفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وأصلحنا وأصلح لنا، وأصلِح بنا، ووفِّقنا لما تحبه وترضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣