منهج أولي العزم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم سنة أولي العزم من الرسل في الصبر، فقال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وهذا تدريب من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى لزوم المنهج الذي سلكه الأنبياء من قبله.

وقد اختلف أهل العلم في المقصود بأولي العزم، فقالت طائفة منهم: كل الرسل من أولي العزم، فالأنبياء جميعاً هم أولو العزم، فتكون (من) هنا بيانيةً، معنى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ [الأحقاف:35]، الذين هم الرسل.

وقالت طائفة أخرى: بل (من) تبعيضية، وعلى هذا فالمقصود بعض الأنبياء دون بعض، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر باتباع يونس في استعجاله على قومه، فقد قال تعالى: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم:48-49]، فالله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأمره ألا يكون كيونس عليه السلام في هذه القضية بعينها.

وكذلك فإنه تعالى قال في قصة آدم عليه السلام: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، فقيل: المقصود لم نجد له قوةً وجلداً كما كان لدى الملائكة في الطاعة، فالبشر ليسوا كالملائكة، وقيل المقصود: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، أي: على المعصية، وإنما حصل منه ذلك بقدر الله سبحانه وتعالى وتقديره.

وعلى هذا القول الأخير فقد اختلف في المقصود بأولي العزم من الرسل:

الذين صبروا على البلاء والأذى من الرسل

قالت طائفة: المقصود بهم الذين صبروا على البلاء والأذى في سبيل الله، فمن هؤلاء نوح عليه السلام، فقد صبر على أذى قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهم يسخرون منه ومن المؤمنين معه ويقولون: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27].

ومنهم إبراهيم عليه السلام الذي صبر على أذى الأقربين، حتى رموا به في النار، ولكنه هجرهم هجراً جميلاً، وصبر على أذاهم حتى عوضه الله خيراً منه، ومنهم الذبيح الذي عندما صارحه إبراهيم بأنه يرى في المنام أنه يذبحه، فاستعد لذلك وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].

ومنهم كذلك أيوب عليه السلام، فقد صبر على البلاء ثماني عشرة سنة، وفي كل يوم من الأيام يزداد بلاؤه، وهو صابر على بلائه، حتى إنه يستحيي من الله أن يدعوه لرفع الضر عنه، وأن يذكر له حاله تعريضاً لا تصريحاً، ولم يفعل ذلك حتى افتقر أهل بيته جميعاً، حتى إن امرأته خرجت إلى أهل بيت أغنياء من بني إسرائيل فعرضت على ابنة لهم أن تقص لها ضفيرة من شعرها، مقابل غذاء تغذي به أيوب عليه السلام، فقصت لها ضفيرة من ضفائرها، ثم في اليوم الثاني كذلك قصت لها ضفيرة أخرى، حتى ذهب شعرها بذلك، فلما رآها أيوب أدرك أن البلاء قد أدرك أهل بيته، فنادى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وقال ذلك وامرأته غائبة عن مكانه، وهو ملقىً على طرف قمامة لبني إسرائيل فجاءت فوجدت حاله قد تغير، وقد رفع الله عنه البلاء، وألبسه حلة من حلل الجنة، وقال له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فركض برجله فنبع الماء من تحت رجله، فاغتسل فذهب ما كان به من الضر، ولبس اللباس الجديد، فلما رأته لم تعرفه؛ لحسن صورته، وحسن ثيابه، فسألته فقالت: أين رجل مبتلى كان هنا؟ لعله اختطفته الكلاب، فقال: أنا أيوب ، فما صدقته، حتى عرفت الحق منه.

وقد بين الله سبحانه وتعالى الذكرى التي في قصة أيوب عليه السلام، وبين أنها ذكرى للعابدين، وقال أهل العلم كما في تفسير ابن كثير وغيره. المقصود بذلك: أن الله سبحانه وتعالى لما ابتلى أيوب بهذا البلاء فصبر عليه، جعل ذلك ذكرى للعابدين، أي: لئلا يتصور المؤمنون المبتلون في ذات الله هوانهم على الله، فقد ابتلي من هو خير منهم.

وكذلك من هؤلاء الذين صبروا من الأنبياء على البلاء الذين يعدهم كثير من أهل التفسير من أولي العزم من الرسل: يعقوب عليه السلام، الذي صبر على فقد أولاده، والأذى الذي لحقه بذلك، حين ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، ولم يلجأ إلى مخلوق أبداً، بل قال: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، فحقق الله له رجاءه وجمع له شمله.

الذين ذكروا في سورتي الأحزاب والشورى

وقال بعض أهل التفسير المقصود بأولي العزم: الذين ذكروا في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى، وهم خمسة، فقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، وقال في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وهذا القول هو أشهر الأقوال، وأكثرها انتشاراً لدى أهل التفسير أن المقصود بأولي العزم من الرسل هؤلاء الخمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، و نوح ، و إبراهيم ، و موسى ، و عيسى عليهم أجمعين السلام، وهؤلاء قد جاءوا بشرائع مجددة ناسخة لما سبقها، وكثير ممن سواهم من الرسل يأتون مجددين لشرائع سابقة، فهؤلاء يأتون بشرع جديد، كما قال الله تعالى في سورة العقود: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

وقد أخرج البخاري في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قول الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، قال: سبيلاً وسنة، فالسنة تفسير للشرعة، والسبيل تفسير للمنهاج، فالشرعة هنا المقصود بها السنة، أي: الملة التي يسلكها النبي في خاصة نفسه، وما يكون عليه في معاملاته لقومه، وفي أسلوبه الدعوي، في خطابه للناس، وفي نمط حياته سواء كان قروياً، أو حضرياً، فالجميع من أهل القرى، كل الرسل كانوا من أهل القرى، ليس فيهم أحد من أهل البادية، لكن منهم من كان من أهل الأمصار الكبار، ومنهم من كان من القرى الصغار، وأما السبيل: فهو شريعتهم التي شرعت لهم وبينت، وهذه الشريعة ما يختص بكل نبي من الأنبياء من الأحكام التي يعلم الله سبحانه وتعالى أنها لا تصلح إلا لمدة معينة، فإذا ذهبت تلك المدة نسخت تلك الشريعة بشريعة أخرى، مغيرة لها تماماً.

فالشريعة التي أنزلت على موسى حق، وهي صالحة للبشر في وقتها، وصالحة للتطبيق في ذلك الوقت، لكن الله علم أنها لا تصلح للتطبيق الأبدي المستمر، فنسخها بشريعة عيسى ، وشريعة عيسى التي أنزلت إليه هي الحق من عند الله، صالحة للتطبيق في ذلك الزمان، ومصلحة البشر فيه، لكن علم الله أنها لا تصلح للاستمرار، فلذلك نسخها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الدين هو الدين عند الله، أي: هو الدين الذي كان كل الأديان إعداداً، فما سواه من الدين مؤقت، فالشرائع المنزلة من عند الله السابقة كلها مؤقتة إلا شريعة الإسلام فهي لكل من بلغ، تقوم به الحجة على كل من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تغطي حاجيات الناس في كل زمان ومكان، ولا ترد عنه واردة ولا شاردة؛ لأنها تجمع بين المرونة والإحالة إلى الاجتهاد، والسلاسة في التطبيق، وقد تضمنها هذا القرآن، وهذه السنة، وهما وحي منزل من عند الله، لا يأتيهما الباطل من أي وجه من الوجوه، فلذلك ضمن لها البقاء والاستمرار.

والرسل الآخرون كانوا يأتون تابعين ومجددين لرسل قد سبقوهم، فيجددون مللهم وما كانوا عليه، ويعملون بكتبهم، ويطبقونها، و عيسى بن مريم جمع الله له بين الخاصتين، ففي فترته الأولى فوق الأرض جاء بشريعة جديدة هي الملة النصرانية، وفي حياته على الأرض بعد نزوله من السماء في آخر الزمان يكون مجدداً لملة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يأتي بشرع جديد، وإنما يحكم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جمع الله بين الخاصتين، وهذا مختص بعيسى وحده من بين الأنبياء، أما من سواه من الأنبياء فإنهم إما أن يكونوا عاملين بشرائع السابقين مجددين لها، وإما أن يأتوا بشرع جديد مستقل.

وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولكن المقصود بملته هنا: طريقة الدعوية، ولا يقصد بذلك تفاصيل شريعته، فقد جاء البون شاسعاً بين ما كان متعبداً به في أيام إبراهيم وما كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء من تفريعات الإسلام وتشريعاته، فالصلاة ما شرع منها لهذه الأمة هو خيرها، وقد كان في ملة إبراهيم صلاتان، ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، وهذه الأمة شرع لها خمس صلوات في اليوم والليلة، وجعل ذلك على أجر خمسين صلاة في اليوم والليلة.

وكذلك فإن اتباع ملة إبراهيم الذي أمر الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه استثنى الله منه مسألة واحدة وهي استغفار إبراهيم لأبيه، فلم يستثنِ من اتباعه فيما يتعلق بالدعوة والأسلوب إلا أمراً واحداً وهو استغفاره لأبيه، فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]، ولذلك لما ذكر الله الاتساء بملة إبراهيم في سورة الممتحنة قال فيها: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4]، فهذا الأمر الوحيد الذي استثني من اتباع ملة إبراهيم .

قالت طائفة: المقصود بهم الذين صبروا على البلاء والأذى في سبيل الله، فمن هؤلاء نوح عليه السلام، فقد صبر على أذى قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهم يسخرون منه ومن المؤمنين معه ويقولون: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27].

ومنهم إبراهيم عليه السلام الذي صبر على أذى الأقربين، حتى رموا به في النار، ولكنه هجرهم هجراً جميلاً، وصبر على أذاهم حتى عوضه الله خيراً منه، ومنهم الذبيح الذي عندما صارحه إبراهيم بأنه يرى في المنام أنه يذبحه، فاستعد لذلك وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].

ومنهم كذلك أيوب عليه السلام، فقد صبر على البلاء ثماني عشرة سنة، وفي كل يوم من الأيام يزداد بلاؤه، وهو صابر على بلائه، حتى إنه يستحيي من الله أن يدعوه لرفع الضر عنه، وأن يذكر له حاله تعريضاً لا تصريحاً، ولم يفعل ذلك حتى افتقر أهل بيته جميعاً، حتى إن امرأته خرجت إلى أهل بيت أغنياء من بني إسرائيل فعرضت على ابنة لهم أن تقص لها ضفيرة من شعرها، مقابل غذاء تغذي به أيوب عليه السلام، فقصت لها ضفيرة من ضفائرها، ثم في اليوم الثاني كذلك قصت لها ضفيرة أخرى، حتى ذهب شعرها بذلك، فلما رآها أيوب أدرك أن البلاء قد أدرك أهل بيته، فنادى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وقال ذلك وامرأته غائبة عن مكانه، وهو ملقىً على طرف قمامة لبني إسرائيل فجاءت فوجدت حاله قد تغير، وقد رفع الله عنه البلاء، وألبسه حلة من حلل الجنة، وقال له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فركض برجله فنبع الماء من تحت رجله، فاغتسل فذهب ما كان به من الضر، ولبس اللباس الجديد، فلما رأته لم تعرفه؛ لحسن صورته، وحسن ثيابه، فسألته فقالت: أين رجل مبتلى كان هنا؟ لعله اختطفته الكلاب، فقال: أنا أيوب ، فما صدقته، حتى عرفت الحق منه.

وقد بين الله سبحانه وتعالى الذكرى التي في قصة أيوب عليه السلام، وبين أنها ذكرى للعابدين، وقال أهل العلم كما في تفسير ابن كثير وغيره. المقصود بذلك: أن الله سبحانه وتعالى لما ابتلى أيوب بهذا البلاء فصبر عليه، جعل ذلك ذكرى للعابدين، أي: لئلا يتصور المؤمنون المبتلون في ذات الله هوانهم على الله، فقد ابتلي من هو خير منهم.

وكذلك من هؤلاء الذين صبروا من الأنبياء على البلاء الذين يعدهم كثير من أهل التفسير من أولي العزم من الرسل: يعقوب عليه السلام، الذي صبر على فقد أولاده، والأذى الذي لحقه بذلك، حين ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، ولم يلجأ إلى مخلوق أبداً، بل قال: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، فحقق الله له رجاءه وجمع له شمله.

وقال بعض أهل التفسير المقصود بأولي العزم: الذين ذكروا في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى، وهم خمسة، فقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، وقال في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وهذا القول هو أشهر الأقوال، وأكثرها انتشاراً لدى أهل التفسير أن المقصود بأولي العزم من الرسل هؤلاء الخمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، و نوح ، و إبراهيم ، و موسى ، و عيسى عليهم أجمعين السلام، وهؤلاء قد جاءوا بشرائع مجددة ناسخة لما سبقها، وكثير ممن سواهم من الرسل يأتون مجددين لشرائع سابقة، فهؤلاء يأتون بشرع جديد، كما قال الله تعالى في سورة العقود: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

وقد أخرج البخاري في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قول الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، قال: سبيلاً وسنة، فالسنة تفسير للشرعة، والسبيل تفسير للمنهاج، فالشرعة هنا المقصود بها السنة، أي: الملة التي يسلكها النبي في خاصة نفسه، وما يكون عليه في معاملاته لقومه، وفي أسلوبه الدعوي، في خطابه للناس، وفي نمط حياته سواء كان قروياً، أو حضرياً، فالجميع من أهل القرى، كل الرسل كانوا من أهل القرى، ليس فيهم أحد من أهل البادية، لكن منهم من كان من أهل الأمصار الكبار، ومنهم من كان من القرى الصغار، وأما السبيل: فهو شريعتهم التي شرعت لهم وبينت، وهذه الشريعة ما يختص بكل نبي من الأنبياء من الأحكام التي يعلم الله سبحانه وتعالى أنها لا تصلح إلا لمدة معينة، فإذا ذهبت تلك المدة نسخت تلك الشريعة بشريعة أخرى، مغيرة لها تماماً.

فالشريعة التي أنزلت على موسى حق، وهي صالحة للبشر في وقتها، وصالحة للتطبيق في ذلك الوقت، لكن الله علم أنها لا تصلح للتطبيق الأبدي المستمر، فنسخها بشريعة عيسى ، وشريعة عيسى التي أنزلت إليه هي الحق من عند الله، صالحة للتطبيق في ذلك الزمان، ومصلحة البشر فيه، لكن علم الله أنها لا تصلح للاستمرار، فلذلك نسخها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الدين هو الدين عند الله، أي: هو الدين الذي كان كل الأديان إعداداً، فما سواه من الدين مؤقت، فالشرائع المنزلة من عند الله السابقة كلها مؤقتة إلا شريعة الإسلام فهي لكل من بلغ، تقوم به الحجة على كل من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تغطي حاجيات الناس في كل زمان ومكان، ولا ترد عنه واردة ولا شاردة؛ لأنها تجمع بين المرونة والإحالة إلى الاجتهاد، والسلاسة في التطبيق، وقد تضمنها هذا القرآن، وهذه السنة، وهما وحي منزل من عند الله، لا يأتيهما الباطل من أي وجه من الوجوه، فلذلك ضمن لها البقاء والاستمرار.

والرسل الآخرون كانوا يأتون تابعين ومجددين لرسل قد سبقوهم، فيجددون مللهم وما كانوا عليه، ويعملون بكتبهم، ويطبقونها، و عيسى بن مريم جمع الله له بين الخاصتين، ففي فترته الأولى فوق الأرض جاء بشريعة جديدة هي الملة النصرانية، وفي حياته على الأرض بعد نزوله من السماء في آخر الزمان يكون مجدداً لملة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يأتي بشرع جديد، وإنما يحكم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جمع الله بين الخاصتين، وهذا مختص بعيسى وحده من بين الأنبياء، أما من سواه من الأنبياء فإنهم إما أن يكونوا عاملين بشرائع السابقين مجددين لها، وإما أن يأتوا بشرع جديد مستقل.

وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولكن المقصود بملته هنا: طريقة الدعوية، ولا يقصد بذلك تفاصيل شريعته، فقد جاء البون شاسعاً بين ما كان متعبداً به في أيام إبراهيم وما كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء من تفريعات الإسلام وتشريعاته، فالصلاة ما شرع منها لهذه الأمة هو خيرها، وقد كان في ملة إبراهيم صلاتان، ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، وهذه الأمة شرع لها خمس صلوات في اليوم والليلة، وجعل ذلك على أجر خمسين صلاة في اليوم والليلة.

وكذلك فإن اتباع ملة إبراهيم الذي أمر الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه استثنى الله منه مسألة واحدة وهي استغفار إبراهيم لأبيه، فلم يستثنِ من اتباعه فيما يتعلق بالدعوة والأسلوب إلا أمراً واحداً وهو استغفاره لأبيه، فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]، ولذلك لما ذكر الله الاتساء بملة إبراهيم في سورة الممتحنة قال فيها: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4]، فهذا الأمر الوحيد الذي استثني من اتباع ملة إبراهيم .

وسنأخذ بالقول المشهور في تفسير أولي العزم، وأنهم هؤلاء الخمسة الذين ذكروا في سورة الشورى، وفي سورة الأحزاب، ففي المجال الدعوي جمع هؤلاء منهج واحد انتظمت به دعوتهم، وهذا المنهج يقوم على ركيزتين عظيمتين بينهما الله في كتابه بقوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع