خطب ومحاضرات
الصحبة الصالحة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى كان قادراً على أن يخلق كل إنسان من البشر من سلالة مستقلة، أو أن يجعله بمثابة آدم مستقلاً، لكنه أراد لحكمته البالغة أن يجعلهم من نفس واحدة؛ فجعل البشر جميعاً على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأحجامهم وأقدارهم من سلالة آدم، وجعلهم من نفس واحدة، وجعل مصالحهم مترابطة فيما بينهم، فلا يمكن أن يستقل أحد من البشر برعاية مصالحه، ولا أن يحقق ما يحتاج إليه في هذه الأرض بنفسه؛ بل يحتاج في كل شئونه وأموره إلى غيره، وذلك الاحتياج من فطرة البشر لا يمكن الاستغناء عنه بوجه من الوجوه.
فلما كان الأمر كذلك ترتب على الخلطة والحاجة إلى الغير وهي الصحبة، فلا بد أن يصطحب الإنسان معه غيره في هذه الأرض؛ فالحياة فيها ليست حياة استقلال؛ بل هي حياة احتياج، أما الحياة البرزخية فهي التي ينفرد فيها الإنسان وحده مع عمله، وكذلك الحياة الأخروية ينفرد فيها الإنسان ويأتي يحمل طائره في عنقه، فتنقطع فيها الأنساب والصلات، أما الحياة الدنيا فلا بد فيها من حصول هذه الصحبة، وهذه الصحبة لا بد أن تترك أثراً وبصمات في كل واحد من المتصاحبين؛ فالقرين مؤثر على قرينه تأثيراً بالغاً، وهذا التأثير ليس مختصاً فقط بالدين واللغة؛ بل يصل كذلك إلى الخلق وإلى التصور وإلى أسلوب الحياة والعيش كله، فما من إنسان يخالطه آخر إلا أبقى فيه أثراً، فإن كان القرين قريناً صالحا أبقى الأثر الطيب والبصمات الخيرة في مقارنه، فإنه سيدله على الخير ويعينه عليه ويساعده على القيام به ويترك لديه تصوراً طيباً يبقى معه ويأخذ منه التجارب.
وإن كان القرين قرين سوء فإنه سيصده عن ذكر الله عز وجل وعما من أجله خلق في هذه الدنيا، ويشغله عن ذلك ويترك فيه العقد والآثار السيئة التي يصعب عليه التخلص منها فيما بعد.
لهذا اعتنى الشرع الحكيم بالقرين فوضع كثيراً من الضوابط والأحكام المتعلقة بالصحبة في هذه الحياة الدنيا، وذلك لما تستحقه هذه الصحبة من العناية، فهي اختيار يترتب عليه كثير من الآثار، وهذا الاختيار للصحبة أنواع فمنه:
اختيار شريك الحياة، أي: الزوج أو الزوجة، وهذا الاختيار جاء فيه كثير من النصوص المحددة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في اختيار الزوج: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )، وقال في اختيار الزوجة: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم مارس بالسنة الفعلية أسس الاختيار في بناء الأسرة؛ فقد اختار الله له الطيبات كما قال الله تعالى: الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور:26] .
واختار هو كذلك الأصهار الخيرين لبناته ولنساء المؤمنين، وكان يحرص على الاختيار، فقد صح في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـفاطمة بنت قيس وهي في عدتها قال لها: ( لا تفوتينا بنفسك - أراد أن تخبره إذا انتهت عدتها حتى يشاركها في الاختيار ويختار لها من يصلح لها - فأتته فقال: هل عرّض أحد - أو هل عرض لك أحد فقالت: معاوية و أبو الجهم ، فقال: أما معاوية فصعلوك لا يملك شيئاً، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، ولكن أنكحي أسامة بن زيد )، وكذلك فإنه اختار قبل هذا زيد بن حارثة لـأم أيمن بركة رضي الله عنهم أجمعين، وكان صلى الله عليه وسلم في هذا الاختيار يراعي أساس الدين، كما هو واضح في الاختيارات المذكورة.
وذلك أن الصاحب بالجنب لا بد أن يؤثر في مصاحبه، فإن كان صالحاً استدعى منه ذلك الصلاح، فكم من زوج صالـح هديت بسببه زوجته، وكم من زوجة صالحة كذلك هدي بسببها زوجها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة).
وكذلك بين أن التعاون على الخير بين الزوجين من أسس الإيمان فقال: ( رحم الله رجلاً قام من الليل ليصلي فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي نامت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل لتصلي فأيقظت زوجها ليصلي معها فإن هو نام نضحت في وجهه من الماء )؛ فالزوج الصالح يؤثر في تصور المرأة واختيارها واهتماماتها وإيمانها وعلاقاتها بالله، وكذلك الزوجة الصالحة لقوة عاطفتها وتأثيرها على زوجها ترشده على أوجه الخير وتعينه على ذلك وتهيئه له.
وأمثلة ذلك لا حصر لها، فهذه أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها كانت سبباً في إسلام أبي طلحة الأنصاري وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبقت بصماتها في خلق أبي طلحة فهو في ميزان حسناتها، وكل جهاده في ميزان حسناتها بتأثيرها عليه وأثرها البالغ في تربيته وسلوكه.
وكذلك أثر أبي الدرداء في أم الدرداء ؛ فقد كانت أم الدرداء وهي من التابعين يستفتيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسألونها في أحكام الدين، وإذا قست قلوب أهل الشام ذهبوا إلى أم الدرداء لتلين قلوبهم، وما ذلك إلا لآثار أبي الدرداء الصالحة في تربية هذه المرأة وصحبتها.
ثم إن من الآثار الواضحة كذلك في العلاقات الزوجية أنها تؤدي إلى استقامة البيت، وتربية الأولاد تربية صحيحة يبقى أثرها في المستقبل، فإذا حصل الفصال فكان الزوج من الفئة الصالحة والزوجة من الفئة الطالحة أو العكس، فإن الأولاد سيعيشون على تربية مختلة ويقعون في انفصام رهيب في الشخصية؛ فيأمرهم الوالد بما تأمرهم الوالدة بخلافه، ويلتبس عليهم الأمر ولا يدرون وراء من ينساقون، ويبقى ذلك عقداً مستمرة في حياتهم، وكذلك سيبقى الخلاف والشجار والخصام في البيت ينطبع في أذهانهم ويؤدي بهم إلى كثير من العقد.
أما إذا كان البيت منسجماً يكمل بعضه بعضاً؛ فلن يكون في الأولاد شركاء متشاكسون؛ بل ستكون تربيتهم منسجمة مستمرة على الوجه الصحيح.
وكذلك فيمن دون هذا من القرناء، فمن يصاحبه الإنسان ليتعلم منه أمر الدين، هو والده الديني، فالإنسان له والد طيني ووالد ديني، وقد يجتمعان معاً، فالوالد الديني هو الذي يربيه ويرشده إلى أوجه الخير، وعلى الإنسان أن يختاره لنفسه مرشده ومصاحبه الذي يثق به، ويجعل منه مرجعاً في أمور دينه، فيعلم أنه لا يمكن أن يسكت منه على باطل، ولا أن يغضي منه على زلة في أمر الدين، وبذلك يساعده على الالتزام بالحق، ومن أمثلة ذلك:
اختيار فتى موسى لـموسى ثم اختيار موسى لـلخضر عليهم أجمعين السلام، فالقصة المقصوصة في سورة الكهف كانت قصة صحبه، فأولها صحبة فتى موسى لموسى ، ثم بعد ذلك صحبة موسى لـلخضر ، وقد تبين ما في القصتين من الأدب وحسن السلوك مع المربي، ففتى موسى لم يذكر له اعتراض ولا سؤال، وإنما ذكر من شأنه الانسياق وراء أمر موسى في القصة كلها، فلم تقرأوا في القصة قال: فتى موسى لـموسى ، بل كلها أمر يوجهه موسى إلى فتاه، قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60].
وكذلك فإن أدب موسى مع الخضر بالغ جداً، فإنه عندما لقيه سلم عليه فقال: وأنى بأرضك السلام؟ أأنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، فقال: هل أتبعك بصيغة الاستفهام ولم يقل سأتبعك بصيغة الأمر الجازم، عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66]، فجعل الاتباع يحتاج إلى بديل، فهو بمثابة بيعة طرفها لدى الخضر وطرفها الآخر لدى موسى؛ فالطرف الذي لدى الخضر يقتضي منه تقويم سلوك موسى وتعليمه، والطرف الذي لدى موسى هو الاتباع بمعنى الطاعة للأمر؛ ولن يطيع طبعاً إلا ما كان موافقاً للشرع، ولذلك يعترض على ما يخالفه، هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] ولم يقل: (كل ما علمت)؛ بل طلب أن يعلمه بعض ما علم فقط فقال: ( مما علمت) و(من) تبعيضية.
ثم بعد هذا لم يقص علينا في القصة أن موسى اقترح مسيراً إلى أي اتجاه، ولا اعترض على السير ولا على أي أمر إلا ما رآه مخالفاً للشرع؛ كركوب السفينة المخروقة في عرض البحر، وكقتل النفس الزكية، وكالعمل دون مقابل في حق أهل القرية الذين استضافوهم فلم يضيفوهم، وكلها اعتراضات منبعها وأصلها من الشرع؛ ولذلك تأخر عنه الجواب ولم يجبه الخضر في السؤالين الأولين إلا في الاعتراض عليه في مسألته وتذكيره بالشرط الذي اشترط عليه، ومع ذلك صبر موسى على الأمر حتى أتاه جواب أموره الثلاثة.
ومثل هذا صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لـجبريل عليه السلام، فقد كانت صحبته له صحبة تقويم وإرشاد؛ ولذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في زيادة زيارة جبريل له، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـجبريل: ( ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؛ فأنزل الله تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً[مريم:64] )؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى لو يزوره جبريل أكثر مما يزوره، وقد كان الاتصال بين جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكثفاً في بعض الأحيان؛ ففي رمضان كان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان؛ فتبقى بصمات جبريل واضحة في تصرف النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه؛ ولذلك في حديث ابن عباس ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان؛ فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).
فهذه آثار زيارة جبريل وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح في مسند أحمد وغيره: أن فترة الوحي الأولى كانت ثلاث سنين بعد نزول سورة: ( اقرأ)، عهد بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى إسرافيل ، فمكث ثلاث سنين يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل عليه بوحي، وإنما كان يرشده إلى الأخلاق والقيم وحسن المعاملة مع الله عز وجل.
وكذلك في شأن الدين؛ فإن جبريل هو الذي أقام الصلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأول حديث افتتح به مالك موطأه: (عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً فدخل عليه عروة بن الزبير فقال: إن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً وهو بالكوفة؛ فدخل عليه أبو مسعود البدري فقال: ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله عليه وسلم، ثم قال بهذا أمرت؟ فقال عمر : أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة)، وفي لفظ الموطأ: ( اعلم ما تحدث به يا عروة أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ فقال عروة : هكذا أخبرني بشير بن أبي مسعود البدري عن أبيه، ولقد أخبرتني عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر )، هذا الحديث افتتح به مالك موطأه وهو يرشد إلى إقامة جبريل الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حذف منه مالك جملاً أخرجها مسلم في الصحيح بنفس الإسناد، فذكر فيه عشر صلوات ولم يذكر في الموطأ إلا خمس صلوات، في الموطأ: ( نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..) إلى خمس صلوات، وفي صحيح مسلم عشر صلوات وذلك في يومين، وقد جاء تفصيل ذلك في حديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذي في السنن وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمني جبريل عند البيت مرتين: فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين صار الفيء مثل الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حين بزق الفجر، وصلى بي الظهر في الثانية منهما حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس لوقتها الأول، وصلى بي العشاء حين هب ثلث الليل، وصلى بي الصبح حين أسفر، ثم التفت إلي وقال: يا محمد! هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين ).
فهذه إمامة جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فقهاً وتطبيقاً لما أمر الله به في أوقات الصلاة، وهذا يدلنا على أثر الصحبة الذي هو أبلغ مما لو أنزل ذلك في القرآن ترتيلاً يقرأ فقط! فنحن نقرأ أوقات الصلاة في قول الله تعالى: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً[الإسراء:78]، لكن هذه الآية حتى وإن كانت تتضمن أوقات الصلوات الخمس، إلا أنها لم تفصل الوقت الاختياري من الضروري، ولم تفصل كذلك أوقات الصلوات بياناً كافياً لا يحتاج بعده إلى بيان، وإنما جاء لك في السنة الذي هي بيان القرآن، ببيان جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن صحبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي نالوا بها ما نالوا من تمام الإيمان وتمام الأدب، فأكثرهم صحبة له، وأطولهم مدة معه كان أقواهم إيماناً وأحسنهم خلقاً، وأكثرهم أدباً مع الله وأعلاهم منزلة في الإسلام.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول الرجال البالغين إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صحبه في الحضر والسفر وشهد المشاهد كلها معه، إيمانه لو وزن بإيمان الأمة لرجح إيمانه؛ ولذلك عندما امتحن الله المؤمنين بقصة الإسراء والمعراج حدث بها أبو بكر ولم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان قالها فقد صدق.
وأخرج البخاري و مسلم في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم في ملأ من أصحابه، فأخبرهم أن رجلاً كان يحرث على بقرة، فالتفتت إليه فقالت: ما خلقت لهذا -أو ما لهذا خلقت- فقالوا: سبحان الله تكلمت بقرة -أو بقرة تكلمت- فقال: لكني أومن بذلك أنا و أبو بكر و عمر )، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر و عمر بأنهما يؤمنان بذلك ويصدقان به بمجرد كونه هو قاله.
قوة إيمانهم وارتفاع مقامهم
فهذه الصحبة أثرها بالغ جداً، وقد أخرج مسلم في الصحيح: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! نكون عندك فنكون على ما ترى؛ فإذا رجعنا إلى بيوتنا عافسنا النساء على الفرش. فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة).
فأثر صحبته صلى الله عليه وسلم لو يدوم عليه الإنسان لترقى عن مستوى الإنسانية، بحيث يستطيع تكليم الملائكة ومصافحتهم مباشرة بالعيان؛ ولذلك فإن عدداً من الذين أكثروا الجلوس إليه صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الملائكة أو يسمعون أصواتهم أو يكلمونهم؛ فقد كان عمر رضي الله عنه إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده يسمع مثل دوي النحل، ولا يسمع ذلك غيره من الحاضرين في الغالب.
وكذلك فإن عمران بن الحصين رضي الله عنهم كان إذا استيقظ من نومه سلم عليه صاحب اليمين وصاحب الشمال فيرد عليهما السلام، وكان إذا خرج من الخلاء سلَّما عليه فرد عليهما السلام، وكان يحس بهما في شأنه كله حتى اكتوى، فلما اكتوى احتجب عنه صاحب اليمين وصاحب الشمال شهراً، فحزن حزناً بالغاً لم يستطع النوم معه، ثم لما برئ من الكية التي كويها رجعا إليه.
وكذلك فإن أسيد بن حضير رضي الله عنه قام يقرأ ذات ليلة في باحة داره وعنده ولده يحيى نائماً، وحوله فرسه، فقرأ فرأى ظلة تنزل من السماء فيها مصابيح، فاقتربت فجعلت الفرس تجول فخشي على ولده فسكت فارتفعت الظلة، ثم عاد إلى القراءة فنزلت الظلة؛ فجالت الفرس فخشي على ولده فقطع القراءة فارتفعت الظلة وهكذا، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (تلك الملائكة تنزلت تستمع الذكر).
وكذلك فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أكثر الناس صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأثرت بتلك الصحبة تأثراً بالغاً، حتى كانت ترى جبريل في صورة دحية الكلبي ، وكذلك ابن عباس كان يراه في صورة دحية الكلبي ، وكذلك أبو هريرة رآه مراراً في صورة دحية ، ورآه مرة أخرى في صورة رجل لا يعرفه، وكذلك جابر بن عبد الله كان يراه في صورة دحية الكلبي ، وهؤلاء كانوا من الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر أهل العلم أن كف أبصار هؤلاء جميعاً في آخر أعمارهم، كان بسبب النور الذي يشاهدونه، فقد عمي هؤلاء في آخر أعمارهم.
وكذلك فإن عمر بن الخطاب رأى جبريل حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي وصف فقال: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه )، فهذه الصورة رآها عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مضاعفة أجورهم
كذلك فإن من قوة آثار هذه الصحبة صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعلت هؤلاء يضاعف لهم الأجر في أعمالهم؛ فليسوا مثل من سواهم ومن دونهم من هذه الأمة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فإنفاق أولئك للشيء اليسير يكون أضعافاً مضاعفة في حق إنفاق من دونهم؛ فلو أنفق أحدهم مداً من الشعير لو وزن في كفة الميزان يوم القيامة بجبل أحد من الذهب، وكذلك لو أنفق نصف مد من الشعير لكان كجبل أحد من الذهب، ولو أنفق نصيفاً -وهو ما تجعله المرأة على رأسها- لكان مثل جبل أحد من الذهب؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10].
تأثيرهم على عدوهم في الغزو
إن آثار صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه جعلت من رآهم ممن أراد الله به الخير من أمم الكفر، يستجيبون ويصدقون، حيث كانت تفتح الفتوح بسبب واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في الجيش، فقد أخرج البخاري في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).
زيادة علمهم وسرعة بديهتهم
إن آثار هذه الصحبة كذلك اقتضت العلم النافع العجيب جداً، الذي لم يحتج أصحابه إلى كثير من التعلم والانتظار، كما احتاج إليه من وراءهم، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان من الأمة الأمية التي لا تحسب ولا تكتب، بمجرد هذه الصحبة والتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تلقى عليه المسألة كما حدث له مرة وهو على المنبر، عندما افتتح خطبته فقال: (الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المئاب والرجعى، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فقال علي على البديهة: صار ثمنها تسعاً)، واستمر في خطبته، فحل هذا الإشكال العظيم الذي لم يطرح في الإسلام قبل هذا الوقت بهذه السرعة الهائلة، فعرف أن أصل المسألة من أربعة وعشرين وأن فيها عولاً تصل به إلى سبع وعشرين، والأربع والعشرين أصل من الأصول الثلاثة التي تعول عولة واحدة، فلا تعول إلا إلى سبعة وعشرين، ولم يعرف ذلك في الإسلام قبل هذه الفتوى، وهكذا.
قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:
نور به عن تهجٍ صحبه غنيت وغير أصحابه منا وحى وهجا
فغير الصحابة احتاجوا إلى التعب في تعلم الحساب وتعلم العلوم الشاقة، والصحابة رضوان الله عليهم بآثار صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته لم يحتاجوا إلى إتعاب أنفسهم في تعلم كثير من تلك العلوم، وإنما كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن عرفوا هذه العلوم العجيبة في الأوقات اليسيرة؛ فمدة صحبة عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسع سنين فقط؛ لأنه دخل بها في التاسعة من عمرها وتوفي وهي في الثامنة عشرة من عمرها؛ لكن مع ذلك أحرزت العلوم الخطيرة العجيبة في هذه المدة اليسيرة، قال أحمد البدوي رحمه الله:
وكم حوت في مدة يسيرة من العلوم الجمة الغفيرة
في هذه المدة اليسيرة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تحتاج إليه الأمة كلها، وأصبحت من المكثرين من الرواية في الحديث، واحتاج إلى إفتائها وروايتها الخلفاء الراشدون ومن دونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الصحبة أثرها بالغ جداً، وقد أخرج مسلم في الصحيح: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! نكون عندك فنكون على ما ترى؛ فإذا رجعنا إلى بيوتنا عافسنا النساء على الفرش. فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة).
فأثر صحبته صلى الله عليه وسلم لو يدوم عليه الإنسان لترقى عن مستوى الإنسانية، بحيث يستطيع تكليم الملائكة ومصافحتهم مباشرة بالعيان؛ ولذلك فإن عدداً من الذين أكثروا الجلوس إليه صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الملائكة أو يسمعون أصواتهم أو يكلمونهم؛ فقد كان عمر رضي الله عنه إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده يسمع مثل دوي النحل، ولا يسمع ذلك غيره من الحاضرين في الغالب.
وكذلك فإن عمران بن الحصين رضي الله عنهم كان إذا استيقظ من نومه سلم عليه صاحب اليمين وصاحب الشمال فيرد عليهما السلام، وكان إذا خرج من الخلاء سلَّما عليه فرد عليهما السلام، وكان يحس بهما في شأنه كله حتى اكتوى، فلما اكتوى احتجب عنه صاحب اليمين وصاحب الشمال شهراً، فحزن حزناً بالغاً لم يستطع النوم معه، ثم لما برئ من الكية التي كويها رجعا إليه.
وكذلك فإن أسيد بن حضير رضي الله عنه قام يقرأ ذات ليلة في باحة داره وعنده ولده يحيى نائماً، وحوله فرسه، فقرأ فرأى ظلة تنزل من السماء فيها مصابيح، فاقتربت فجعلت الفرس تجول فخشي على ولده فسكت فارتفعت الظلة، ثم عاد إلى القراءة فنزلت الظلة؛ فجالت الفرس فخشي على ولده فقطع القراءة فارتفعت الظلة وهكذا، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (تلك الملائكة تنزلت تستمع الذكر).
وكذلك فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أكثر الناس صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأثرت بتلك الصحبة تأثراً بالغاً، حتى كانت ترى جبريل في صورة دحية الكلبي ، وكذلك ابن عباس كان يراه في صورة دحية الكلبي ، وكذلك أبو هريرة رآه مراراً في صورة دحية ، ورآه مرة أخرى في صورة رجل لا يعرفه، وكذلك جابر بن عبد الله كان يراه في صورة دحية الكلبي ، وهؤلاء كانوا من الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر أهل العلم أن كف أبصار هؤلاء جميعاً في آخر أعمارهم، كان بسبب النور الذي يشاهدونه، فقد عمي هؤلاء في آخر أعمارهم.
وكذلك فإن عمر بن الخطاب رأى جبريل حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي وصف فقال: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه )، فهذه الصورة رآها عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإن من قوة آثار هذه الصحبة صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعلت هؤلاء يضاعف لهم الأجر في أعمالهم؛ فليسوا مثل من سواهم ومن دونهم من هذه الأمة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فإنفاق أولئك للشيء اليسير يكون أضعافاً مضاعفة في حق إنفاق من دونهم؛ فلو أنفق أحدهم مداً من الشعير لو وزن في كفة الميزان يوم القيامة بجبل أحد من الذهب، وكذلك لو أنفق نصف مد من الشعير لكان كجبل أحد من الذهب، ولو أنفق نصيفاً -وهو ما تجعله المرأة على رأسها- لكان مثل جبل أحد من الذهب؛ ولهذا قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10].
إن آثار صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه جعلت من رآهم ممن أراد الله به الخير من أمم الكفر، يستجيبون ويصدقون، حيث كانت تفتح الفتوح بسبب واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في الجيش، فقد أخرج البخاري في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).
إن آثار هذه الصحبة كذلك اقتضت العلم النافع العجيب جداً، الذي لم يحتج أصحابه إلى كثير من التعلم والانتظار، كما احتاج إليه من وراءهم، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان من الأمة الأمية التي لا تحسب ولا تكتب، بمجرد هذه الصحبة والتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تلقى عليه المسألة كما حدث له مرة وهو على المنبر، عندما افتتح خطبته فقال: (الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المئاب والرجعى، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فقال علي على البديهة: صار ثمنها تسعاً)، واستمر في خطبته، فحل هذا الإشكال العظيم الذي لم يطرح في الإسلام قبل هذا الوقت بهذه السرعة الهائلة، فعرف أن أصل المسألة من أربعة وعشرين وأن فيها عولاً تصل به إلى سبع وعشرين، والأربع والعشرين أصل من الأصول الثلاثة التي تعول عولة واحدة، فلا تعول إلا إلى سبعة وعشرين، ولم يعرف ذلك في الإسلام قبل هذه الفتوى، وهكذا.
قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:
نور به عن تهجٍ صحبه غنيت وغير أصحابه منا وحى وهجا
فغير الصحابة احتاجوا إلى التعب في تعلم الحساب وتعلم العلوم الشاقة، والصحابة رضوان الله عليهم بآثار صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته لم يحتاجوا إلى إتعاب أنفسهم في تعلم كثير من تلك العلوم، وإنما كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن عرفوا هذه العلوم العجيبة في الأوقات اليسيرة؛ فمدة صحبة عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسع سنين فقط؛ لأنه دخل بها في التاسعة من عمرها وتوفي وهي في الثامنة عشرة من عمرها؛ لكن مع ذلك أحرزت العلوم الخطيرة العجيبة في هذه المدة اليسيرة، قال أحمد البدوي رحمه الله:
وكم حوت في مدة يسيرة من العلوم الجمة الغفيرة
في هذه المدة اليسيرة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تحتاج إليه الأمة كلها، وأصبحت من المكثرين من الرواية في الحديث، واحتاج إلى إفتائها وروايتها الخلفاء الراشدون ومن دونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك من آثار الصحبة صحبة التابعين لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أبقت أثراً بالغاً في نفوسهم، فـعمرة بنت عبد الرحمن صحبت عائشة رضي الله عنها، فروت غلمها وكان الناس يلقبونها أمنا، كانوا يخاطبونها فيقولون: يا أماه! تأدبا ًمع عائشة ؛ لأنها كانت تخدمها وعاشت معها حتى ماتت، فكانت عمرة محل توقير لدى المسلمين، وكان الناس يحترمونها كما كانوا يحترمون عائشة رضي الله عنها.
وكذلك الذين صحبوا كبار الصحابة واشتهروا بصحبتهم كأصحاب ابن مسعود مثل: عبيدة السلماني و زر بن حبيش و أبي وائل وغيرهم من أصحاب ابن مسعود ممن اشتهروا في الأمة، وكان لهم الشأن العظيم لصحبتهم لـابن مسعود ، حتى إن أهل العلم يذكرون نسباً دينياً متوارثا ًفيما يتعلق بالخلق والسلوك والأدب؛ فيقولون: إن أبا داود السجستاني سليمان بن الأشعث وهو مؤلف كتاب السنن وغيره من كتبه، قد صحب أحمد بن حنبل فكان يحكي هديه ودله وخلقه وسلوكه، و أحمد بن حنبل قد صحب وكيع بن الجراح فكان يحكي هديه ودله وخلقه وسلوكه، و وكيع بن الجراح صحب سفيان الثوري فكان يحكي هديه ودله وخلقه وسلوكه، و سفيان الثوري قد صحب منصور بن المعتمر ، فكان يحكيه كذلك، وصحب منصور بن المعتمر سليمان بن مهران الأعمش فكان يحكيه كذلك، وصحب الأعمش إبراهيم النخعي فكان يحكي هديه ودله وسلوكه وخلقه، وصحب إبراهيم النخعي علقمة النخعي فكان يحكيه كذلك، وصحب علقمة ابن مسعود فكان يحكيه، وصحب ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكيه.
إن هذا النسب الديني الذي تسلسل بهذا الحد، هو بمثل البصمات التي يتركها المربي فيمن يصحبه، وقد نظم هذا التسلسل شيخي محمد سالم حفظه الله في قوله:
ربى ابن مسعود مقيم المله فكان يحكي هديه ودله
وكان علقمة لابن أم عبد كهذا للنبي الأمي
وكان إبراهيم يحكي علقمة واهاً له من نسب ما أكرمه
وكان الاعمش لإبراهيم كذاك يحكي هديه القويما
ثم قال:
وكان سفيان بلا قصور مشبهاً بشيخه منصور
وهكذا أيضاً وكيع كان مشبهاً بشيخه سفيانا .
وكان أحمد لدى الجميع مشبهاً بشيخه وكيع
كذا أبو داود عند الكمل مشبهاً بـأحمد بن حنبل
بهذا الترتيب. وكذلك فإن مالكاً رحمه الله كان يشبه بـربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو ربيعة بن فروخ ، وهو الذي اشتهر بـربيعة الرأي ، في سكينته ووقاره وهدوئه وعد التفاته، وكان ابن وهب يشبه بـمالك كذلك في سكينته وهدوئه ووقاره.
وقد اشتهر كذلك من الأئمة من حكوا أثر الشافعي ؛ فالبويطي و المزني و الربيع بن سليمان المرادي كان هؤلاء يشبهون بـالشافعي في هديه كذلك وسلوكه.
وقد كان الناس يشبهون أبا يوسف بـأبي حنيفة ؛ فكانوا يقولون: أبو يوسف أبو حنيفة كأنه هو، لكثرة ما كان يحكيه ويشابهه، مع أن أبا حنيفة في الأصل لم تكن له علاقة وطيدة بـأبي يوسف ، وإنما مر عليه في المكتب فرأى الكاتب يكتب له فيحفظ بسرعة، فقال: يا غلام! اصحبنا، فصحبه فحضر مجلساً من علمه، ففهم ما قال، فقال: لا تبرح المجلس أي: احضر دروسنا؛ فعمل أبو يوسف بنصيحة أبي حنيفة حتى ضربه أبوه، وكان يريد منه كسباً ما دياً يريد منه أن يتعلم الحياكة، حتى ينتج دراهم؛ فأتى أبو يوسف وقد ضُرب إلى أبي حنيفة فأخبره أن أباه ضربه ومنعه من حضور الدرس، فذهب أبو حنيفة إلى والد أبي يوسف وقال: ما تريد من هذا الغلام؟ فذكر أنه يريد منه دراهم للمعاش، فقال: أعطيك ضعف الدراهم التي تريد منه واتركه يحضر الحلقة، فتركه يحضر الحلقة حتى ورثها عن أبي حنيفة ؛ بل كان أول من تلقب بقاضي القضاة؛ لأنه كان مسئولاً عن القضاء في البلاد الإسلامية كلها.
هذه هي آثار الصحبة الصالحة فيما يتعلق بالدين.
ثم إن لها آثاراً كذلك فيما يتعلق بالدنيا، فإن الذي يستغل وقته ويوظفه توظيفاً صحيحاً، يترك بصماته بارزة فيمن يصاحبه ويخاللـه ويخالطه، وقد انتفع عدد كبير من الأئمة بمجرد الجلوس إلى بعض الشيوخ، كان أحد أهل العلم يقول: إذا ذهبت إلى ابن الجوزي فإني لا أريد الاستفادة من علمه بقدر ما أريد الاستفادة من وقته، وكان ابن الجوزي يستغل كل أوقاته، فكان يقول: إذا دخل علي بعض الثقلاء أخذت الأقلام فبريتها وأصلحت الدواة حتى يخرجوا عني فأستعين بذلك الوقت، كان في وقت دخول الثقلاء لا يمكن أن يكتب علماً ولا أن ينتج فيه إنتاجاً فكرياً؛ بل كان يستغله لبري الأقلام وإصلاح الدواة وغير ذلك.
وكان يستغل أوقاته كلها، حتى إنه كان إذا دخل الخلاء يأمر أحد طلابه أو أحد أولاده أن يقرأ عليه من كتابه فيسمعه، فيرفع صوته حتى يسمعه، حتى لا يخرج وقتاً من التعلم والاستفادة.
وكذلك استفاد عدد من الناس من صحبة مالك في استغلال الأوقات، فهذا عبد الرحمن بن القاسم العتقي يقول : أتيت مالكاً فعلمت أن الرجل في شغل، ليس لديه فراغ فأردت أن آخذ من وقته، فسألته ذلك؛ فقال: احضر معنا، فكنت أحضر؛ فإذا أذنت الجارية وخرج الناس دخلت فأعطاني وقتاً يخصني به، فجلست معه عشرين سنة، لم يمضِ منها يوم إلا أسمعني فيه ما لم يسمع غيري، ولم أسمع منه شيئاً فنسيته، لقد صحبه لمدة عشرين سنة لم يمضِ منها يوم واحد إلا تعلم منه علماً خصه به من المسائل والأمور التي ليست في الحلقة العامة لكل الناس، ومع ذلك لم يسمع منه شيئا ًفنسيه.
وكان مالك رحمه الله لشدة عنايته بالوقت لا يذهب إلى الخلاء، إلا مرة في كل ثلاثة أيام، وكان يستعين على ذلك بأكل الموز، فكان يأكله فيستغني به عن غيره من التغذية؛ فلذلك لا يحتاج إلى الذهاب الخلاء إلا مرة في كل ثلاثة أيام، وعندما سمع الليث بن سعد أن أحب الفاكهة إلى مالك الموز، أرسل إليه حمل خمسين بعيراً من الموز من مصر إلى المدينة.
إن الذي يستغل الوقت فيما هو نافع من حسن المعاد أو درهم المعاش، يستفيد منه الإنسان في تنظيم وقته والعناية به، فلا يضيع وقتاً وأراد رحمه الله أن يكتب خطة عمل الشيخ محمد ولد بابا اليومية، فكتبها ليستفيد منها في تنظيم وقته؛ فذكر أنه يأتي المسجد في السدس الأخير من الليل، فيكثر الذكر على بابه، ثم يؤذن عند أول الفجر، ويصلي وكان محمد ولد بابا يعجل الصلوات كلها على خلاف عادة كثير من معاصريه من أهل بلدته، فكان يعجل الأوقات؛ فإذا صلى جلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس ثم يصلي ركعتين ثم يخرج إلى البقر، فيؤدي حقها ورعايتها وإخراجها من مكانها ثم يعود فيكتب عشر صفحات من مؤلفاته، ثم يجتمع عليه الطلاب للتدريس فلا يزال يدرس إلى أن يصل إلى وقت تعودوه وهو وقت الظهيرة، يقوم فيه ليعرف الظل ويحدد به الوقت، ثم يصلي في ذلك الوقت ما تيسر له، ثم يعود للمطالعة والقراءة في الكتب إلى أن يقوم إلى صلاة الظهر، وعندما يصلي الظهر يذهب إلى البئر فيسقي مواشيه ويعتني بالبئر عناية بالغة، ثم يعود قبيل العصر فيستريح قليلا، ًثم يقوم إلى الصلاة، ثم بعد العصر يجتمع عليه الطلاب للدراسة، فإذا بقي جزء يسير من الوقت استعمله في قراءة القرآن، ثم يخرج قبيل غروب الشمس للرياضة البدنية، فيعود عند أذان المغرب، فيصلي بالناس في أول الوقت، ثم يجلس للذكر إلى أن يأتي وقت العشاء فيؤذن ويصلي العشاء، ثم يعود إلى بيته فيؤدي حق أهل بيته وهكذا، فوضع هذه الخطة ورسمها، وكان كثير من أهل العلم في هذه البلاد يجهل في أن يستغل وقته، كما كان الشيخ حباب يستغل وقته في مثل هذا النوع من الأعمال.
وكذلك فإن عددا ًمنهم في أيام الطلب كان يذهب إلى ذوي الهمم العالية يجلس إليهم، وإن كانوا أقل منهم شأناً في العلم ليرى طريقة مثابرتهم على العلم وحرصهم عليه، فيعتني بذلك في تدربه على الوقت؛ فالعلامة يحظيه بن عبد الودود كان من الأذكياء المشهود لهم بذلك، وقد عرف رجلاً من آل الحاج اسمه عبد اللطيف لم يكن في القريحة والذكاء كيحظيه ؛ لكنه كان مستغلاً لوقته بشكل عجيب، فذهب يحظيه إليه وسأله أن يكون دولته وقرينه في الدراسة، وهو يريد بذلك تنظيم الوقت، فيقال: إنه كان إذا سلم من الفريضة التفت إليه، أي: إذا قال: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وسلم عن يمينه وشماله -يقول عبد اللطيف : قل: وإن جن نظر السلطان، وهذا بدء درس من مختصر خليل في كتاب الإجارات، وذلك لاستغلال الوقت حتى لا يفوت منه شيء؛ فيبدأ بالمدارسة قبل استكمال ورد الصلاة استغلالاً للوقت ونهماً للعلم.
فاستعان بهذا الرجل على استغلال الوقت أكمل استغلال، وإن كان الرجل دونه في الذكاء، لكنه كان مبرزاً فيما يتعلق باستغلال الوقت، فاستفاد يحظيه من تجربة هذا الرجل.
وكذلك فإن شيخي محمد علي رحمه الله أخبرني: أن خاله أحمد محمود كان من أحسن الناس استغلالاً للوقت، فكان هو يرمقه في استغلاله للوقت فيقول: دربني على ذلك منذ السنة الثالثة عشرة من العمر، فمنذ أكملت السنة الثالثة عشرة من العمر ما مضى يوم إلا ازددت فيه علماً، ولا بزغ الفجر إلا على عيني وأنا أرقبه، ولا دخل وقت فريضة من الفرائض إلا وأنا مستيقظ عليه، منذ ذلك الوقت إلى أن توفي في السنة الرابعة والتسعين من عمره.
فكل هذا من الاستغلال للوقت الذي اشتهر لدى أهل العلم، إنما هو من آثار الصحبة، فإن من رأى صاحب جد وتشمير في أي أمر من الأمور سيحاول أن يكون مثله في الاستغلال؛ بل يمكن الاستفادة أيضاً من الذين يستغلون الأوقات في غير طائل وينهمكون فيها، فيكون ذلك حافزاً للإنسان في المقابل على استغلالها فيما ينفع؛ فالذي يرى الذين يلعبون بالأوراق ويسهرون عليها الليالي ذوات العدد، ويرى الذين يلعبون بالأعواد تحت الشجر، ويتعرضون لأشعة الشمس المحرقة وللغبار والتراب والأذى، ويرى مثابرتهم على هذا الأمر وصبرهم عليه مع أنه ليس فيه نفع، بل كله ضرر، يمكن أن يستفيد هو من تجربة هؤلاء فيستغل الأوقات الطائلة فيما ينفع؛ فالوقت الذي يستغلونه في لعب الورق يمكن أن يستغل في قيام الليل وفي تعلم العلم، والوقت الذي يستغلونه في لعب الأعواد تحت الشجر يمكن أن يستغل فيما هو نافع من أمور الدين والدنيا.
أذكر أن أحداً النابهين رأى بعض المولعين بالكرة، فرغب في لقائه وذهب إليه وجلس إليه وتحدث معه، فسأله كم حضرت من (الماتشات) العالمية والمباريات الدولية؟ فذكر أنه ما فاته مكان للعب أو مباريات دولية في أي مكان، وأنه تكلف في سبيل ذلك أموال باهظة في تذاكر الطيران، وفي النفقات في الفنادق وغير ذلك؛ فأخذ هو تجربة ًمن تجربة هذا الرجل، فقال: إذا كان هذا يحرص على مشاهدة أصحاب الكرة واللعب، فينبغي أن أحرص أنا وأن أنفق مثلما أنفق على لقاء أهل الخير والتعرف عليهم في أنحاء العالم والاستفادة منهم، فبذل الجهد في زيارة أكبر قدر ممكن من العلماء في أنحاء الأرض وأطال الأسفار في طلب ذلك، وما ذلك إلا أخذاً من تجربة هذا المولع بالكرة الذي أولع بما لا نفع فيه.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3896 استماع |