علو الهمة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن شرف الإنسان وفضله ليس راجعاً إلى ذاته وخلقته، بل هو راجع إلى ما يكتسبه من الصفات الحميدة، التي بها يتفاضل هذا الجنس، وبها يتقرب أفراده إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهذه الصفات المكتسبة التي هي نتيجة الأعمال هي التي يتفاوت الناس بها في منازلهم، وفي درجاتهم عند الله وعند الناس، وإن هذه الصفات تحتاج إلى وسائل لتحقيقها، وأهم هذه الوسائل وأعظمها هو الاستعداد للتحلي بهذه الصفات، والاستعداد للتحلي بالصفات الحميدة مبدؤه هو الهمة التي تنبعث في قلب المؤمن فتدعوه إلى التحلي بتلك الصفات الحميدة، ومن لم يجد هذه الهمة في نفسه يكتب الله له ما شاء بقدره، ولكن لا حمد له هو في ذلك؛ لأنه غير مكتسب، أما من وجد الداعية والميل في نفسه لاكتساب هذه الصفات فإن الله يكتب له الثواب ولو لم يتصف بتلك الصفات، ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100].

ومن هنا فإن هذه الهمة يكتب للإنسان ثوابها ولو لم يصل إلى مبتغاه منها، فمجرد أن تنبعث الداعية في نفس المؤمن وأن يريد الخير فإن الله يكتب له ثواب ذلك؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة )، فمجرد الهم تكتب به الحسنات؛ ( نية المؤمن أبلغ من عمله )، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).

ومن هنا احتجنا إلى أن نراجع هذه المبادئ الأولية، التي نتعداها في تدريسنا للعلوم، ونتعداها كذلك في ترسيخنا لمبادئ الإيمان الأخرى رغم حاجتنا إليها.

الإخلاص لله تعالى

فهذه المبادئ الأولية منها: انطلاق الدافع العقدي الذي يقتضي من الإنسان أن يعمل مخلصاً لله وحده، لا يشرك به شيئاً.

ومنها: الدفع، الذي يدفع الإنسان إلى الأمام؛ فالإنسان ماكينة متحركة تحتاج إلى وقود، ولهذا فإن النفوس ميالة إلى الدعة والراحة، وكذلك فإن الأبدان تابعة لها؛ فالبدن من تربة فيركن إلى الهدوء والراحة، أما إذا انبعث هذا الدافع القلبي، فإنه هو الذي يحرك الإنسان ويسمو به ويجعله يصمد ويصبر ويثابر، ويسعى للوصول إلى الدرجات العلى، ولا يرضى بالشيء اليسير.

إن تنمية هذا الدفع في نفوسنا له ما وراءه؛ فلا يمكن أن يحقق الإنسان التضحيات الجسيمة، ولا أن يتحلى بالصفات العظيمة، ولا أن يجمع العلوم النافعة، ولا أن يجمع الدراهم النافعة في الدنيا أيضاً، ولا أن يتحلى بأي وصف حميد إلا إذا وجد هذا الداعي الذي هو وقوده وبه منطلقة، فالإنسان بمثابة السيارة إذا لم تجد وقوداً يشتعل في كانونها ليدفعها إلى الأمام لا يمكن أن تتجاوز محلها؛ فطبيعته وأصلة الركود والاستقرار والثبات وعدم التطور، لكنه إذا وجد دافعاً يسير به فسينطلق إلى أقصى الحدود؛ كما قال النابغة الجعدي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم:

( بلغنا السما مجداً وجوداً وسؤدداً وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فقال: إلى أين يا أبا ليلى ؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله )، فيحتاج الإنسان إلى مثل هذا الوقود الذي ينطلق به في حياته كلها، ويحتاج كذلك إلى تجديده؛ لأن به تجديد الإيمان؛ فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هذا الإيمان يجد ويخلق )، فالإيمان يجد ويخلق بالقلوب، وكذلك الطباع الحميدة؛ قد يتحلى الإنسان بطبيعة حميدة ولكنه بالإهمال والنسيان يتغشاها الران والغبار، فتغطى تلك الصفة الحميدة فيه، ولا يكتشف أنه قد انحرف عن مساره وتعدى مداره إلا بعد أزمنة متطاولة.

ومن هنا احتاج الإنسان إلى أربعة أمور في سيره هي في مثابة عجلات السيارة:

العجلة الأولى: الإخلاص لله؛ لأنه القوة التي لا تقهر ولا تهزم، فإذا اتصل الإنسان بديان السموات والأرض، وتوكل عليه واعتمد عليه في أموره كلها فإنه لا يمكن أن يغلب؛ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، فالاتصال بالله سبحانه وتعالى هو القوة الأولى للإنسان، ومن كان قلبه حياً متصلاً بالله سبحانه وتعالى استطاع أن يتعدى كل الأزمات وكل النكبات، واستطاع أن يقفز فيقطع المراحل المتعددة.

الازدياد والتعود على الهمة العالية

العجلة الثانية: الهمة العالية التي تسمو بالإنسان للمراتب السنية، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتعود وزيادة اكتساب، وزيادة دربة ومهارة.

مرافقة أهل الخير ومنافستهم

العجلة الثالثة: رفقاء الخير الذين ينافسون الإنسان ويعينونه؛ فلا يمكن أن يقطع الإنسان المسافات الشاسعة على أمل يريد الوصول إليه إلا إذا وجد من يساعده ويشاطره الفكرة نفسها، ويشاطره الهمة، ولهذا فاحتسب نفسك في سفر طويل، تسير فيه على رجليك الضعيفتين، وتحمل زادك على عاتقك، إذا لم تجد من يقوي همتك على ذلك السفر فما هي إلا ليالي قليلة تتعب فيها فتنقطع الطريق أمامك، وترجع أدراجك، وتعدل عن فكرتك التي كانت بين يديك، وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم.

لكن إذا وجدت من ينافسك في الخير ويساعدك على الوصول إليه، وتقتضي منك منافسته أن تبذل وأن تضحي وأن تجاهد، ويقتضي منك ذلك التعاون معه؛ أن تستفيد منه وأن تفيده؛ فإنك ستصل إلى مرادك بتلك المنافسة؛ ومن هنا قال الله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]، ولم يقل: أنا وحدي؛ فلا يمكن أن تقوم دعوة بفرد، ولا يمكن أن يصل فرد إلى مبتغاه وحده؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً[النساء:71]، ولم يقل: انفروا فرادى، وقال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122].

وهذه العجلة أهميتها إنما تتضح من مخالطة المجتمعات؛ فالداعي إلى الكسر مجاب، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ[الأنعام:116]، فإذا لم تجد من يساعدك على طريق الحق ويجاهد للوصول إليه ويكون أسوة ومثلاً ومقتدىً تقتفي أثره ويساعدك للوصول إلى غاياتك فستنهزم أمام هذه المجتمعات التي هي بمثابة السيل الهادر الذي يضرب كل ما أمامه ويفرق.

ومن هنا فإن كل بدعة ظهرت، وكل باطل اشتهر بين الناس لا يمكن أن يقضى عليه بعمل أفراد، وإنما يقضى عليه إذا حصل تكافل بين الجميع، وحصلت عناية مشتركة.

ومن أبسط الأمثلة على ذلك: قصة حصلت في صدر هذه الدعوة: عندما اجتمعت قريش على منابذة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آمن به ومن ناصره من بني هاشم وبني المطلب، فكتبوا صحيفة مبناها على عداوة الله ورسوله وقطيعة الرحم، وعلى أن يحصروهم ولا يناكحوهم ولا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم.

وكانت هذه الصحيفة ملأى بهذه الشروط، لكن عندما قام خمسة أشخاص، فأبرموا أمرهم بليل، واتفقوا على أن يتكلم أحدهم قبل غيره، وأن يصدقه الآخرون من جهات مختلفة نقضت الصحيفة بفعل هؤلاء، قام هؤلاء الخمسة في نقض أمر قد اجتمع عليه أهل الأبطح جميعاً، فنجحوا ووصلوا إلى مبتغاهم؛ لأنهم نسقوا جهودهم واجتمعت كلمتهم، وتبادلوا الأدوار، وكان كل شخص منهم يقوم في موقفه المناسب، وحينئذ قال أبو جهل : (هذا أمر أبرم بليل)، فكذلك إذا كان للإنسان من يساعده على هذا الأمر ويشد أزره ويقتضي منه التضحية والبذل فإن ذلك مدعاة لاستمراره عليه، ولهذا قال الشيخ محمد المامي رحمه الله في نصيحته لأهل هذه البلاد لإقامة دولة الإسلام:

أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا

فينصب قائمٌ بالعدل منكم فلستم بعده تتخالفونا

وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرونا

إلى أن يقول:

أما تدرون كل بني تميم من الصخر العظيمة يحملونا

ويعجز بعضهم عنها وليسوا إذا اجتمعوا عليها يعجزونا

كذلك أنتم حيث اجتمعتم على نصب الخليفة تقدرونا

اصطحاب الزاد والراحلة في طريق تحصيل الهمة العالية

العجلة الرابعة من هذه العجلات هي: الزاد والراحلة، والسبيل السابلة، التي فسر بها الرسول صلى الله عليه وسلم الاستطاعة في قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً[آل عمران:97]، فقد جاء عنه في تفسير الاستطاعة أنها ( الزاد والراحلة، والسبيل السابلة )، والمقصود بالزاد: التقوى والإيمان، وأن يكون الإنسان مستعداً استعداداً فطرياً لأن يصل إلى مبتغاه، فكثير من الناس عمدته في الوصول إلى مبتغاه مجرد التمني والتظني، وهذا لا يوصل إلى نتيجة؛ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ[البقرة:96]، فليس الوصول بالتمني ولا بالتظني، إنما هو ببذل الجهد والعمل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج عنه البخاري تعليقاً، ووصله ابن أبي عاصم في السنة: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ).

فالذي يظن أنه سينال مراده دون بذل ولا تضحية لا يمكن أن ينال ذلك.

والمقصود بالراحلة: ما يستعين به الإنسان من الوسائل، ومن أعظمها: هذا الوقت الذي هو ملاك الأمر، فمن لم يجد وقتاً تذوب أفكاره في نفسه، حتى لو كان صاحب همة عالية؛ لكنه لم يجد وقتاً لاستغلالها لا يمكن أن يطبق شيئاً مما يريده، ولهذا جعل الله تعالى حجة على الناس، فقال: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].

وكذلك من هذه الوسائل الفهم للمهمة التي يقصدها الإنسان؛ فكثير من الناس يتعلق أمله بشيء لا يبلغه، وسبب عدم بلوغه إياه أنه لم يفهم ما هو، ولم يعرف مراده بالضبط، ومن لا يعرف مراده لا بد أن يبقى في دوامة دائرية لا يدري من أين بدأ، ولا يدري من حيث عاد.

أما (السبيل السابلة) فهي الهدف الواضح الذي تقصده، والوسيلة التي تنقلك إلى ذلك الهدف، فلابد أن تحدد لنفسك هدفاً للوصول إليه، وما لم تحدد لنفسك هدفاً في هذه الحياة فستكون مثل البلهاء الذين يقول أحدهم:

جئت لا أدري من أين جئت ولكني أتيت

فالإنسان الذي يأتي هذه الحياة دون هدف يعيش في هذه الحياة ما كتب الله له ثم ينطلق منها دون أن يترك أثراً؛ لأنه ليس له هدف في الحياة ومقصد يريد الوصول إليه.

أما من كان له هدف يريد الوصول إليه؛ فهدفه مانع له من الانحراف يميناً ويساراً؛ لأن الهدف واضح في ذهنه أمامه يقصده؛ كمن يريد الوصول إلى جبل يراه أمامه فهل سيضيع الطريق يميناً أو شمالاً؟ لا يضيع ذلك؛ لأن الجبل نصب عينيه وهو يقصده بذهابه وخطواته المعدودة إليه، فكذلك هنا إذا كانت أهدافك سامية واضحة مرئية نصب عينيك؛ فإنك لن تضيع طريقك إليها وستصل إليها مهما طال السفر، "لا بد من صنعاء ولو طال السفر" فستكون في سيرك جاداً، وستستغل الفرص المتاحة لذلك.

بالنسبة لهذه العجلات الأربع ينبغي أن يكون الهواء فيها متساوياً، فلا ينبغي أن يكون جانب أعلى من جانب؛ لأن ذلك يقتضي عدم التوازن؛ فالإنسان كما ذكرنا مثل السيارة؛ فإذا نقص الهواء في بعض العجلات وازداد في بعض فلن يكون السير مستمراً متصلاً، فلا بد أن يكون التوازن بين هذه العجلات بارزاً، وأن تكون عين الرقابة عليها عيناً موحدة.

والعجلة الأولى: عجلة الإخلاص، سبق التحدث عنها، وإن كانت لا يفي بمقتضاها كلام، ولا يكفي من تدبرها شيء، فعلينا أن نفكر دائماً في تعاملنا مع الله وفي إخلاصنا له، وفي نياتنا في جلوسنا وفي حركاتنا وسكناتنا، وكلامنا، وتفكيرنا، لابد أن نخلص لله في كل ذلك.

فهذه المبادئ الأولية منها: انطلاق الدافع العقدي الذي يقتضي من الإنسان أن يعمل مخلصاً لله وحده، لا يشرك به شيئاً.

ومنها: الدفع، الذي يدفع الإنسان إلى الأمام؛ فالإنسان ماكينة متحركة تحتاج إلى وقود، ولهذا فإن النفوس ميالة إلى الدعة والراحة، وكذلك فإن الأبدان تابعة لها؛ فالبدن من تربة فيركن إلى الهدوء والراحة، أما إذا انبعث هذا الدافع القلبي، فإنه هو الذي يحرك الإنسان ويسمو به ويجعله يصمد ويصبر ويثابر، ويسعى للوصول إلى الدرجات العلى، ولا يرضى بالشيء اليسير.

إن تنمية هذا الدفع في نفوسنا له ما وراءه؛ فلا يمكن أن يحقق الإنسان التضحيات الجسيمة، ولا أن يتحلى بالصفات العظيمة، ولا أن يجمع العلوم النافعة، ولا أن يجمع الدراهم النافعة في الدنيا أيضاً، ولا أن يتحلى بأي وصف حميد إلا إذا وجد هذا الداعي الذي هو وقوده وبه منطلقة، فالإنسان بمثابة السيارة إذا لم تجد وقوداً يشتعل في كانونها ليدفعها إلى الأمام لا يمكن أن تتجاوز محلها؛ فطبيعته وأصلة الركود والاستقرار والثبات وعدم التطور، لكنه إذا وجد دافعاً يسير به فسينطلق إلى أقصى الحدود؛ كما قال النابغة الجعدي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم:

( بلغنا السما مجداً وجوداً وسؤدداً وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فقال: إلى أين يا أبا ليلى ؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله )، فيحتاج الإنسان إلى مثل هذا الوقود الذي ينطلق به في حياته كلها، ويحتاج كذلك إلى تجديده؛ لأن به تجديد الإيمان؛ فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هذا الإيمان يجد ويخلق )، فالإيمان يجد ويخلق بالقلوب، وكذلك الطباع الحميدة؛ قد يتحلى الإنسان بطبيعة حميدة ولكنه بالإهمال والنسيان يتغشاها الران والغبار، فتغطى تلك الصفة الحميدة فيه، ولا يكتشف أنه قد انحرف عن مساره وتعدى مداره إلا بعد أزمنة متطاولة.

ومن هنا احتاج الإنسان إلى أربعة أمور في سيره هي في مثابة عجلات السيارة:

العجلة الأولى: الإخلاص لله؛ لأنه القوة التي لا تقهر ولا تهزم، فإذا اتصل الإنسان بديان السموات والأرض، وتوكل عليه واعتمد عليه في أموره كلها فإنه لا يمكن أن يغلب؛ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، فالاتصال بالله سبحانه وتعالى هو القوة الأولى للإنسان، ومن كان قلبه حياً متصلاً بالله سبحانه وتعالى استطاع أن يتعدى كل الأزمات وكل النكبات، واستطاع أن يقفز فيقطع المراحل المتعددة.

العجلة الثانية: الهمة العالية التي تسمو بالإنسان للمراتب السنية، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتعود وزيادة اكتساب، وزيادة دربة ومهارة.

العجلة الثالثة: رفقاء الخير الذين ينافسون الإنسان ويعينونه؛ فلا يمكن أن يقطع الإنسان المسافات الشاسعة على أمل يريد الوصول إليه إلا إذا وجد من يساعده ويشاطره الفكرة نفسها، ويشاطره الهمة، ولهذا فاحتسب نفسك في سفر طويل، تسير فيه على رجليك الضعيفتين، وتحمل زادك على عاتقك، إذا لم تجد من يقوي همتك على ذلك السفر فما هي إلا ليالي قليلة تتعب فيها فتنقطع الطريق أمامك، وترجع أدراجك، وتعدل عن فكرتك التي كانت بين يديك، وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم.

لكن إذا وجدت من ينافسك في الخير ويساعدك على الوصول إليه، وتقتضي منك منافسته أن تبذل وأن تضحي وأن تجاهد، ويقتضي منك ذلك التعاون معه؛ أن تستفيد منه وأن تفيده؛ فإنك ستصل إلى مرادك بتلك المنافسة؛ ومن هنا قال الله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]، ولم يقل: أنا وحدي؛ فلا يمكن أن تقوم دعوة بفرد، ولا يمكن أن يصل فرد إلى مبتغاه وحده؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً[النساء:71]، ولم يقل: انفروا فرادى، وقال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122].

وهذه العجلة أهميتها إنما تتضح من مخالطة المجتمعات؛ فالداعي إلى الكسر مجاب، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ[الأنعام:116]، فإذا لم تجد من يساعدك على طريق الحق ويجاهد للوصول إليه ويكون أسوة ومثلاً ومقتدىً تقتفي أثره ويساعدك للوصول إلى غاياتك فستنهزم أمام هذه المجتمعات التي هي بمثابة السيل الهادر الذي يضرب كل ما أمامه ويفرق.

ومن هنا فإن كل بدعة ظهرت، وكل باطل اشتهر بين الناس لا يمكن أن يقضى عليه بعمل أفراد، وإنما يقضى عليه إذا حصل تكافل بين الجميع، وحصلت عناية مشتركة.

ومن أبسط الأمثلة على ذلك: قصة حصلت في صدر هذه الدعوة: عندما اجتمعت قريش على منابذة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آمن به ومن ناصره من بني هاشم وبني المطلب، فكتبوا صحيفة مبناها على عداوة الله ورسوله وقطيعة الرحم، وعلى أن يحصروهم ولا يناكحوهم ولا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم.

وكانت هذه الصحيفة ملأى بهذه الشروط، لكن عندما قام خمسة أشخاص، فأبرموا أمرهم بليل، واتفقوا على أن يتكلم أحدهم قبل غيره، وأن يصدقه الآخرون من جهات مختلفة نقضت الصحيفة بفعل هؤلاء، قام هؤلاء الخمسة في نقض أمر قد اجتمع عليه أهل الأبطح جميعاً، فنجحوا ووصلوا إلى مبتغاهم؛ لأنهم نسقوا جهودهم واجتمعت كلمتهم، وتبادلوا الأدوار، وكان كل شخص منهم يقوم في موقفه المناسب، وحينئذ قال أبو جهل : (هذا أمر أبرم بليل)، فكذلك إذا كان للإنسان من يساعده على هذا الأمر ويشد أزره ويقتضي منه التضحية والبذل فإن ذلك مدعاة لاستمراره عليه، ولهذا قال الشيخ محمد المامي رحمه الله في نصيحته لأهل هذه البلاد لإقامة دولة الإسلام:

أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا

فينصب قائمٌ بالعدل منكم فلستم بعده تتخالفونا

وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرونا

إلى أن يقول:

أما تدرون كل بني تميم من الصخر العظيمة يحملونا

ويعجز بعضهم عنها وليسوا إذا اجتمعوا عليها يعجزونا

كذلك أنتم حيث اجتمعتم على نصب الخليفة تقدرونا


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع