المسلمون بين الآمال والآلام [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فبعد أن ذكرنا الآمال في حياة المؤمنين، نتطرق الآن إلى آلام المؤمنين والتي هي أيضاً من فضل الله بهم ورحمته؛ لأنه لو تتابع الخير وحده على الإنسان لكان عرضةً للطغيان، لو فتحت على الإنسان أبواب الحياة الدنيا، ومكن له فيها، وهيئ له فيها كل ما تتعلق به نفسه فسيطغى، كما قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]؛ فلذلك كان من حكمة الله تعالى ألا يعجل للمؤمنين ثوابهم في هذه الحياة الدنيا، فآلام المؤمنين أيضاً هي من فضل الله ورحمته بهم؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء وشكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء وصبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).

وقال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

فما يأتيهم من البلاء في هذه الحياة الدنيا إنما هو تمحيص وتكثير وتطهير ورفع للدرجات، وهو كذلك معلم من معالم طريق الحق.

الطرد للذين لا يرتضي الله خدمتهم لدينه

ولله تعالى في مصائب المؤمنين وآلامهم حكم كثيرة، فمن حكم الله فيها: أن يطرد بها الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، ولا يرتضي استمرارهم على طريق الحق، فطريق الحق موافق للفطرة محبوب إلى النفوس، موافق لمقتضى العقل، ولو عرفه الناس جميعاً ورأوه لتوقع منهم أن يسلكوه جميعاً، لكن الله يطرد عنه أقواماً، فمنهم من لا يسلك أصلاً من لا يريد، ومنهم من يريد ولكن لا يسلك، ومنهم من يسلك ولكن لا يصل، فيتساقطون، والمريدون السالكون الواصلون عددهم يسير قليل؛ فلذلك يطرد الله تعالى عن المحجة وعن طريق الحق من لا يرتضي خدمتهم للدين، وقد تعهد بذلك فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].

وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، أي: يطرد عن طريق الحق من علم الله أنه مطرود.

وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

فأولئك هم المصروفون المطرودون عن طريق الحق، فلولا هذه النكبات والمصائب التي تصيب المؤمنين لسلك الناس جميعاً هذا الطريق، ولكن الله جعلها رصداً على الطريق، فيأتي الذين يغترون وهم الذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين فيدخلون هذا الطريق ويريدون الاستمرار على سلوكه، ولكنهم سرعان ما يصابون بهذه النكبات، أو يرونها قد أصابت غيرهم فيتراجعون على آثارهم، ويتقهقرون على أدبارهم، ويصرفهم الله تعالى عن طريق الحق، فلا يمكن أن يتقدموا.

سبب لإيصال الدعوة الإسلامية إلى أماكن وملأ لم تكن لتصل إليهم بوسائلها

وكذلك فإن من حكم الله فيها: أنها سبب لإيصال هذه الدعوة الإسلامية إلى أماكن وملأ لم تكن آليتها ووسائلها لتوصلها إليه، فالسالكون لطريق الأنبياء وأنصار الأنبياء دائماً ليسوا من الملأ، وليسوا من أهل الدنيا والأغنياء من ذوي الطول فيها، وإنما هم الضعفاء وهم عامة أتباع الرسل؛ ولذلك فإن هرقل سأل أبا سفيان بن حرب فقال: ( أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فذكر هرقل : أنهم أتباع الرسل )؛ ولذلك قال الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83].

وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26].

فلذلك وسائلهم لا يمكن أن توصل دعوتهم إلى الملأ والمستكبرين، وليس لهم من الوسائل ما ينشرون به هذه الدعوة في العالم؛ فلذلك يحتاجون إلى أجنحة تطير بهذه الدعوة لتوصلها إلى الملأ، وهذه الأجنحة منها هذه النكبات التي تصيب المؤمنين، فهي التي يرفع الله بها هذا الخبر؛ لأن كل أمر تعلقت به النفوس، وكثر فيه القال والقيل لا بد أن يبحث عنه ذوو العقول، وإذا بحثوا عنه فسيعرفون الحق واضحاً ويرونه عياناً بياناً؛ ولذلك قال الشاعر:

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود

النكبات معالم على طريق الحق

كذلك من حكم الله فيها: أن هذه النكبات أيضاً هي معالم على طريق الحق، فنحن نسلك طريق الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا ضمان يمنعنا من الضلال، فطريق الحق سلوكه اليوم أمر اجتهادي، إذ ليس على وجه الأرض من البشر معصوم اليوم، والناس جميعاً يجتهدون فيخطئون ويصيبون ( وخير الخطائين التوابون )، فنحتاج إلى معالم على طريق الهدى، وهذه المعالم هي النكبات التي أصابت الأنبياء من قبلنا، والتسلية عنها أنها نكبات مباركة أصابت من هو خير منا، فأنتم لستم أكرم على الله من إبراهيم خليل الله، وتعرفون أنه قد رماه الأقربون في النار، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

ولستم أكرم على الله من موسى بن عمران الذي اتخذه الله كليماً وكلمه بكلامه، وتعلمون ما آذاه به فرعون وجنوده، وما آذاه به أيضاً قومه من بني إسرائيل، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].

ولستم أكرم على الله من عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو كلمة الله وروح منه، ومع ذلك آذاه بنو إسرائيل غاية الأذى، وغلت فيه طائفة منهم حتى زعموه ابن الله، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وفرطت فيه طائفة أخرى حتى زعموه كافراً ساحراً، وحاولوا قتله وصلبه، ورفعه الله إليه.

ولستم أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلائق جميعاً على الله إنسهم وجنهم، وقد أوذي في الله غاية الأذى، فكسرت رباعيته، ودخلت حلقة من حلقات المغفر في جبينه، وجحشت ركبته، وأوذي في أهل بيته، وقتل أصحابه، ووضع السلا بين كتفيه وهو ساجد لربه، وتعلمون أن هذه النكبات التي أصابت هؤلاء المصطفين الأخيار من عباد الله وأنبيائه وأصفيائه هي نكبات مباركة، فلو علمتم الآن أن على هذا المنبر مسماراً دخل في رجل نوح ، وفي رجل إبراهيم ، وفي رجل موسى ، وفي رجل عيسى وفي رجل محمد صلى الله عليه وسلم، وجرحهم جميعاً لتسابقتم إليه حتى يجرحكم كما جرحهم؛ لأنكم تعلمون أنه مسمار مبارك، أليس كذلك؟ بلى؛ فلذلك هذه النكبات التي تصيب المؤمنين على طريق الحق إنما هي نكبات مباركة أصابت من هو خير منهم، والمؤمن الآن هو حلقة واحدة من سلسلة طويلة فيها نوح ومن وراءه من الأنبياء، ومن على آثارهم من المخلصين، وكل نكبة أصابت حلقةً من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يسر ويفرح إذا أصابته نكبةً أصابت من هو خير منه؛ ولذلك فرح مالك بن أنس رحمه الله فرحاً شديداً لما ضرب على الحق، ورفع يديه إلى الله تعالى وقال: يا رب! أحمدك فقد ضربت على ما ضرب عليه ابن المنكدر ، وضربت على ما ضرب عليه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ولا خير فيمن لم يؤذ في هذا الأمر، فعرف مالك رحمه الله أن هذا المعلم من معالم الطريق يدل على أنه قد سلك طريق الحق؛ لأنه أوذي عليه؛ ولذلك قال الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [آل عمران:195]، فهذه الصفات هي التي تعهد الله لأهلها بتكفير السيئات وبالجنات، فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا [آل عمران:195] والمقصود هنا: أي صفة من هذه الصفات تحققت لأي إنسان، فمن النادر أن تجتمع كلها لإنسان واحد، لكن إذا تحققت واحدة منها لإنسان فقد تحقق له الوعد الذي وعد الله به.

النكبات تقتضي جمع كلمة المؤمنين واتفاقهم على الحق

كذلك فإن من حكمة الله سبحانه وتعالى في هذه النكبات: أنها أيضاً تقتضي جمع كلمة المؤمنين، واتفاقهم على الحق، فأنتم تعرفون أن أهل الإيمان إذا لم يحسوا بالتهديد، ولم يشعروا أن محجة الإسلام مهددة، وأن بيضته تشكو من كيد أعداء الدين، سيظلون مشتغلين في شئونهم وأمورهم، لا يجمعهم جامع واحد، لكن إذا أحسوا بتهديد بيضة الإسلام فلا بد أن تتحرك في نفوسهم الغيرة، ولا بد أن يضحي المضحون منهم، فيترك كثير منهم أعمالهم من أجل الدفاع عن بيضة الإسلام؛ ولهذا فإن هذه المضايق إذا دخلها الناس كثيراً ما تزيل الشحناء والبغضاء بينهم، فالبشر بطبيعتهم يقع بينهم الاحتكاك والخلاف، والتحاسد والتباغض، لكن إذا أحس الصادقون منهم أن الأمر يتعلق بالدين، وأن التهديد يتعلق ببيضته فسيزول عنهم ما في نفوسهم من الحسد والبغضاء، وستجتمع كلمتهم على قلب رجل واحد منهم؛ ولذلك قال الحكيم:

لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد

بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد

النكبات ترقى بالمسلم في الدرجات العلى من الجنة

كذلك فإن من حكم الله فيها: أن الله تعالى يرفع بها أقواماً قد كتب الله لهم الدرجات العلى من الجنة، فلم يبلغوها بأعمالهم، فسلط الله عليهم هذه المحن والبلايا لينالوا بها تلك الدرجات، وكثير منهم قد ماتوا وانقطعت أعمالهم في هذه الدنيا، لكن تتسلط عليهم ألسنة الخلق بالأذى في سبيل الله، ويتهمون بأنواع التهم، فيوصفون بما وصف به من قبلهم من المخلصين، فيرفعهم الله بذلك درجات عُلى، وقد ماتوا وانقطعت أعمالهم.

النكبات تقتضي اكتشاف المؤمنين لما لديهم من الطاقات والخبرات

وكذلك من حكم الله فيها: أنها أيضاً تقتضي اكتشاف المؤمنين لما لديهم من الطاقات والخبرات، فأنتم اليوم يمكن أن يكون من بينكم من هو أشجع من خالد بن الوليد ، ويمكن أن يكون من بينكم من هو أسخى من حاتم بن عبد الله الطائي ، لكن لم يعرض سبب من الأسباب يقتضي تضحيتكم حتى يكتشف كل إنسان منكم ما فيه من الخير وما فيه من المهارات؛ ولذلك تحتاجون إلى مثل هذه الأزمات والآلام في أمتكم حتى تتحرك عواطفكم لنصرة الدين؛ وحتى يظهر منكم من هم على شجاعة خالد بن الوليد ، ومن هم على جود حاتم بن عبد الله الطائي ، ويظهر منكم أهل التضحية والبذل والصدق، وحتى يكتشف أيضاً الأخفياء الأتقياء الذين يرفع بهم البلاء عن الأمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم )، فكثير من الضعفاء الذين يمشون على الأرض هوناً، وكل واحد منهم يلبس طمرين لا يؤبه به يدفع على الأبواب، لو أقسم على الله لأبره، والأمة محتاجة إليهم غاية الحاجة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله لولا شيوخ ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صباً )، فأولئك الذين يرفع بهم العذاب عن هذه الأمة، والأمة محتاجة إلى دعائهم وجهدهم؛ ولذلك فإن قتيبة بن مسلم رحمه الله حوصر في غزوة من الغزوات، فتكاثر عليه أعداء الإسلام، وكان في جيش قليل من المسلمين، فلما حصره الكفار من كل جانب صاح في الجيش ينادي: أين محمد بن واسع ؟ قيل: وما حاجتك إليه؟ هو ذاك في طرف الجيش يرفع إصبعه النحيلة إلى الله، قال: تالله لإصبعه تلك أحب إلي من مائة ألف سيف. فـمحمد بن واسع رجل من فقراء المسلمين، ومن العباد الزهاد، من الذين ترجى إجابة دعواتهم، فـقتيبة يلجأ إليه، و قتيبة من أشجع قادة المسلمين وفرسانهم، ومع ذلك عند وقت الشدة يسأل عن هذا الرجل فيقول: أين محمد بن واسع ؟ فيقال: هو ذاك في طرف الجيش يرفع إصبعه النحيلة إلى الله، فقال: تالله لإصبعه تلك أحب إلي من مائة ألف سيف، فأولئك إنما يكتشفون في مثل هذه الآلام إذا وقعت فيها الأمة.

النكبات يقيض فيها للدين من ينصره وتكون حصاداً للمنافقين

كذلك فإن من حكم الله تعالى في هذه الآلام: أنه يقيض فيها للدين من ينصره، فتكون القلوب حينئذ على فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط كفر ونفاق متمحض. وإذا جاءت هذه الفتن فهي تخليص وتنقية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، فالفتن فيها حصاد المنافقين؛ ولذلك لا ينبغي أن يكرهها أهل الإيمان؛ لأنها تميزهم.

بعض الحكم المستفادة من تقويم الله تعالى لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

فقد قوم الله تعالى غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر شيئاً عجيباً في تقويم غزوة أحد، وكنت أتابع تقويم الغزوات في بعض سور القرآن، فوجدت أمراً عجيباً في سورة آل عمران في تقويم غزوة أحد، وجدت أن الله تعالى يقول في تقويمها: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:139-141]، فوقع في ذهني إشكال في فهم نكتة مجيء الجملة الاعتراضية هنا بين هذه الحكم، وهو قوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، فقد فصل بهذه الجملة الاعتراضية بين الحكم المتعاطفة، فقد قال: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] ، جاءت الجملة الاعتراضية هنا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141]، فالأفعال المنصوبة متعاطفة، وهي الحكم التي من أجلها كانت معركة أحد، وكان ما حصل فيها، ففكرت في هذه الجملة الاعتراضية فقذف الله في روعي أن الإنسان إذا قرأ الحكمة السابقة وهي: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، قد يدور في خلده أن يقول: يسلطهم علينا يقتلوننا فهل هو يحبهم؟ يقول: أولئك ما يختلفوا وسلطهم علينا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، فجاء الجواب: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]؛ فلذلك إذا مكن الله لهم فقتلوا بعض المؤمنين فليس ذلك محبةً للظالمين أبداً، ولا نصرةً لهم، وإنما هو ليتخذ الله من المؤمنين شهداء، وهذا أرفع المقامات وأعلاها، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].

من مقاصد الجهاد في سبيل الله

فهذا التقويم الذي يقوم الله به هذه الغزوات مبين لنا أن كثيراً من الغزوات التي يقع فيها إخفاق ولا تقع فيها غنيمة ولا قتل مستحر في الكفار، ولا أسر فيهم، لها مع ذلك الأثر البالغ في تقوية الدين ونصرته، فليس المقصود الإثخان في الأرض، ولا إكثار القتل في الكفار، ولا سلب أموالهم وغنيمة نسائهم وأراضيهم، ليس هذا هدفاً للقتال، ولا هدفاً للجهاد في سبيل الله، إنما يقصد بالجهاد أحد أمرين:

الأمر الأول: تنقية المجاهدين أنفسهم وتطهيرهم، حتى يبيعون أنفسهم لله صادقين، فيتقبلهم الله سبحانه وتعالى، ويتخذ منهم شهداء، سواءً منهم من لقي مصرعه وقضى نحبه، ومن ينتظر ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة بن عبيد الله : ( من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ).

والأمر الثاني هو: الحيلولة بين الناس وبين قطع طريق هذه الدعوة، فالذين يقطعون طريق هذه الدعوة يتساقطون فتسير هي؛ ولهذا قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: لا يكون صد عن سبيل الله، ومن هنا فإن الدعوة ما دامت تسير، فلا يبالي أهلها بنباح الكلاب؛ ولذلك قال سيد قطب رحمه الله: القافلة تسير والكلاب تنبح، فلا يبالون بنباحها ما دامت القافلة تسير، لكن مع ذلك إذا وقف آخرون في وجهها فلا بد من منعهم من الحيلولة بين الناس والهداية؛ لأنهم بذلك قد حادوا الله، وقطعوا الطريق دون هداية عباد الله، فلا بد أن يزجروا عن ذلك، وأن يحال بينهم وبينه، وبهذا يعلم أن حكمة الله سبحانه وتعالى بالغة، وأن الآلام التي تصيب الأمة هي في ظاهرها آلام، لكن باطنها رحمة من عند الله سبحانه وتعالى وتقديس وتطهير، وفيها من الحكم والفضل الجزيل العظيم ما لا يخطر على بال أحد.

بعض الحكم من مصاب الأمة بموت نبيها الكريم عليه الصلاة والسلام

ولذلك لاحظوا أن أعظم مصيبة وأعظم ألم أصاب هذه الأمة هو موت صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تصاب هذه الأمة أبداً بألم ولا مصيبة أعظم من هذه، لكن مع ذلك كان فيها لهذه الأمة كثير من الحكم العظيمة، فلولا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعظم لما كان في هذه الأمة خلفاء راشدون مهديون؛ ولما نال أبو بكر مكانته في الإسلام، ولا عمر مكانته في الإسلام، ولا عثمان ولا علي ولا من جاء بعدهم من قادة هذه الأمة، ومن هنا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن يصيبها بهذه الرزايا والبلايا التي فيها الخير لها، ويدخر فيها لهذه الأمة من الفضل الجزيل ما لا يخطر على قلب أحد.

ولله تعالى في مصائب المؤمنين وآلامهم حكم كثيرة، فمن حكم الله فيها: أن يطرد بها الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، ولا يرتضي استمرارهم على طريق الحق، فطريق الحق موافق للفطرة محبوب إلى النفوس، موافق لمقتضى العقل، ولو عرفه الناس جميعاً ورأوه لتوقع منهم أن يسلكوه جميعاً، لكن الله يطرد عنه أقواماً، فمنهم من لا يسلك أصلاً من لا يريد، ومنهم من يريد ولكن لا يسلك، ومنهم من يسلك ولكن لا يصل، فيتساقطون، والمريدون السالكون الواصلون عددهم يسير قليل؛ فلذلك يطرد الله تعالى عن المحجة وعن طريق الحق من لا يرتضي خدمتهم للدين، وقد تعهد بذلك فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].

وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، أي: يطرد عن طريق الحق من علم الله أنه مطرود.

وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

فأولئك هم المصروفون المطرودون عن طريق الحق، فلولا هذه النكبات والمصائب التي تصيب المؤمنين لسلك الناس جميعاً هذا الطريق، ولكن الله جعلها رصداً على الطريق، فيأتي الذين يغترون وهم الذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين فيدخلون هذا الطريق ويريدون الاستمرار على سلوكه، ولكنهم سرعان ما يصابون بهذه النكبات، أو يرونها قد أصابت غيرهم فيتراجعون على آثارهم، ويتقهقرون على أدبارهم، ويصرفهم الله تعالى عن طريق الحق، فلا يمكن أن يتقدموا.

وكذلك فإن من حكم الله فيها: أنها سبب لإيصال هذه الدعوة الإسلامية إلى أماكن وملأ لم تكن آليتها ووسائلها لتوصلها إليه، فالسالكون لطريق الأنبياء وأنصار الأنبياء دائماً ليسوا من الملأ، وليسوا من أهل الدنيا والأغنياء من ذوي الطول فيها، وإنما هم الضعفاء وهم عامة أتباع الرسل؛ ولذلك فإن هرقل سأل أبا سفيان بن حرب فقال: ( أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فذكر هرقل : أنهم أتباع الرسل )؛ ولذلك قال الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83].

وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26].

فلذلك وسائلهم لا يمكن أن توصل دعوتهم إلى الملأ والمستكبرين، وليس لهم من الوسائل ما ينشرون به هذه الدعوة في العالم؛ فلذلك يحتاجون إلى أجنحة تطير بهذه الدعوة لتوصلها إلى الملأ، وهذه الأجنحة منها هذه النكبات التي تصيب المؤمنين، فهي التي يرفع الله بها هذا الخبر؛ لأن كل أمر تعلقت به النفوس، وكثر فيه القال والقيل لا بد أن يبحث عنه ذوو العقول، وإذا بحثوا عنه فسيعرفون الحق واضحاً ويرونه عياناً بياناً؛ ولذلك قال الشاعر:

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود