خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الشباب المسلم الواقع والآفاق
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
مراحل خلق الإنسان
فإن مفهوم الشباب مفهوم يختلف باختلاف إطلاقه؛ فقد يرد ويقصد به سن معينة يمر بها الإنسان في تكوينه، وهي المدرجة في المرحلة السابعة من المراحل التي بين الله تعالى في كتابه في خلق الإنسان؛ فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان تسع مراحل يمر بها؛ وهي المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].
فهي تسع مراحل؛ السابعة منها هي قوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14]، والمقصود بها تنامي الإنسان بعد ميلاده إلى أن يبدأ ضعيفاً ثم يقوى، ثم يضعف الضعف المقرون بالشيبة، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثامنة وهي الموت، ثم تأتي المرحلة التاسعة، وهي البعث بعد الموت.
ابتداء سن الشباب وانتهاؤه
إن هذه المرحلة من حياة الإنسان تبدأ في حال الضعف، وتشهد واقعه الأول الذي هو خروج من الظلمات؛ التي هي: ظلمات الرحم، والبطن، ثم بعد ذلك دخول إلى هذه الدنيا التي فيها الأنوار والظلمات، ثم يمكث الإنسان أطوار التربية فيها، وبعد ذلك ينتقل إلى مدة عمره إلى أن يصل إلى ارتفاع الشباب وقوته، وهذه المرحلة هي مرحلة الخصوبة في حياة الإنسان، فهي التي يصلح فيها للتلقي عن الله سبحانه وتعالى، والتعلم والفهم؛ لأن هذا العقل بفطرته، وبخلق الله تعالى له يستعد للتلقي والقبول في بداية الشباب، وإذا بلغ شخص من العمر عتياً؛ فإن إمداد عقله سيضعف؛ وذلك إمداد عقل الفطرة، ويبقى يعوض له بعقل التجربة الذي يكتسبه مع طول العمر، ومع ما مر عليه من التجارب، لكن العقل الفطري يتوقف إذا بلغ أشده من العمر؛ وهو أربعون سنة، وهذه نهاية عمر الشباب، وهي التي يرسل الله عليها الرسل.
السن التي يرسل الله فيها الرسل
فالله سبحانه وتعالى عندما قص علينا قصة موسى ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة، وعندما قص علينا قصة يوسف ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة, والرسول صلى الله عليه وسلم بعث حين أكمل أربعين سنة، وهذه القاعدة لم يشذ عنها إلا نوادر قلة؛ فـعيسى عليه السلام أخبر الله أنه آتاه الحكم والكتاب صبياً، وقد تكلم في المهد، وأخبر عن ذلك في قوله: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:30-32].
وكذلك يحيى عليه السلام أخبر الله سبحانه وتعالى في امتنانه على أبيه زكريا حين سأل الله الذرية الصالحة، أخبر عنه أنه يؤتيه الكتاب والحكم وهو في صباه؛ لكن القاعدة العامة: أن الرسل إنما يبعثون على إكمال الأشد، وذلك إذا أتموا أربعين سنة.
عمر العمل والتلقي قبل سن الأربعين
أما ما قبل الأربعين فهي فترة الخصوبة في عمر الإنسان، ووقت الاستفادة والتلقي، وهو وقت عظيم جداً وخطر؛ لأنه سلاح ذو حدين، إما أن يصرف في المنجاة الدائمة الخالدة الباقية، وإما أن يصرف في الهلاك والبوار الذي يشب عليه، ويشيب عليه، ويستمر إلى القبر.
وتذكرون قصة صالح بن عبد القدوس حين دخل على المهدي الخليفة؛ فذكر أنه تائب من الزندقة، فقبل المهدي توبته واستتابه بين أيدي الناس، فأشهر توبته، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم انصرف راجعاً فدعاه، فقال: أنشدني قصيدتك السريعية السينية، فظن أن الخليفة معجب بقصيدته فأنشده إياها، فما وصل إلى قوله فيها:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
قال: حكم الشيخ على نفسه، يا حرسي اقطعوا رأسه؛ فالشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه، لكن الشاب يمكن أن يتغير، ويمكن أن يستفيد في تربيته، وينتفع في الأطوار التي تمر عليه؛ ولهذا شرعت التربية في هذه المرحلة، والعرب يقولون: العوان لا تعلم الخمرة، والعوان معناه: غير الفارض، وغير البكر التي قد ذهبت أسنانها من النعم، فهذه يلحق بها ما كان يشبهها من بني آدم؛ فالمرأة العجوز لا تعلم الخمرة معناه: هيئة لي الخمار على رأسها، وستر رأسها بالخمار؛ لأنها قد جربت ذلك، والمقصود في المثل أن من كبرت سنه على وجه معين يصعب تغييره عن ما ألف وما تعود.
السن الغالبة في أتباع الرسل
ومن هذا المنطلق نعلم أن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا إلا شباباً في أغلب الأحيان، ومن النادر أن يكون فيهم الشيوخ الكبار، انظروا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأوا تراجمهم، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة لثمانية آلاف وخمسمائة منهم، ليس فيهم كبير سن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجموعة معدودة على الأصابع، منها قوم مخضرمون عاشوا ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، لكن الكبار الشيوخ قلة جداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي كان جسمه جسم شيخ كبير، وعقله عقل شاب ثقف متأدب؛ ولهذا قال يوم بدر حين خرج إلى البراز؛ فبارز عتبة بن ربيعة حتى قتل كل واحد منهما الآخر، وأطن عتبة ساقه، وحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما وضع بين يديه وهو يجود بنفسه، قال: يا رسول الله! لوددت أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:
كذبتم وبيت الله نبزى محمد ولما نقاتل دونه ونناضل
فنسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ولقي الله وهو عنه راض، وكان من شهداء بدر الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.
وكذلك قلة من الأنصار من كبار السن، هم الذين أسلموا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منهم: عمرو بن الجموح الذي كان أولاده يحتالون عليه، ويشوهون عليه صنمه؛ لعل الله أن يهديه إلى الإسلام، وكان سيد قومه، وكان شديدًا على المسلمين في بداية العهد، ولكن أولاده وزوجته ما زالوا يحتالون عليه حتى هداه الله إلى الإسلام؛ فجاء يوم أحد، وقد ندم على ما فاته من الجهاد في سبيل الله، وكان رجلاً أعرج؛ فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بعرجته إلى القتال؛ فقال: (إن الله قد عذرك)، فالله سبحانه وتعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]، ( فقال: يا رسول الله! إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة )؛ فقتل يوم أحد ولقي الله وهو عنه راض، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره، ودفن هو و عبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد، وكانا من الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثمانية أيام، حين وقف عليهم فقال: (إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
هؤلاء الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلبهم من الشباب الذين ليس لهم تلك المكانة في قومهم، وليست لهم تلك المنزلة المرموقة في الملأ المقدم، ولا في الأغنياء، ولا في قادة القبائل، وإنما هم أفراد لا يؤبه لهم، لا يفتقدون إذا غابوا، ولا يقام إليهم إذا شهدوا، وهؤلاء هم الذين استطاعوا أن ينتصروا على أهوائهم، وآثروا الآخرة على الأولى؛ فقدموا أنفسهم قرباناً إلى الله سبحانه وتعالى، وصدقوا في بيعتهم مع الله سبحانه وتعالى، وسلكوا طريق من سبقهم.
فـنوح عليه السلام يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن مجادلة قومه له أنهم قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]، وكذلك أخبرنا الله تعالى عن موسى فقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس:83]، وكذلك يخبرنا عن أصحاب الكهف الذين تقرأ قصتهم في مقدمة سورة الكهف؛ هذه السورة التي هي عصمة من الدجال ، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].
وكذلك لم تشهد المدينة في بداية هذه الدعوة انتشار النفاق في أوساط الشباب، وإنما كان الشباب هم الذين يطلعون على أخبار المنافقين، ويكافحون مخططاتهم، فها هو زيد بن أرقم كان يتيماً تربى في حجر رجل غني من بني عمه، وكان ربيبه زوج أمه، وأحسن إليه، وسد له مسد أبيه، ولكنه آثر الله ورسوله عليه؛ فكان رديفه ذات ليلة، فسمعه يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعها هذا الولد الصغير، سمعتها أذناه، ووعاها قلبه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وقال لهذا الرجل الذي هو ربيبه: (والله إنك لأمن رجل علي، ولكني آثرت الله ورسوله، ووالله لأبلغن ما سمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر، جاء الرجل يعتذر ويحلف لقد كذب عليه الولد، وشهد له الناس بأنه هو الصادق، وأن الولد الكاذب، فجاء جبريل من فوق سبع سموات فشهد بصدق زيد بن أرقم؛ فحك رسول الله أذنه وقال: أذن واعية).
كذلك كان منهم فتى صغير حدث له عم كبير من سادة قومه، وهو أبو عفك وكان ضريراً أعمى، فكان إذا خلا بنفسه في الليل ولم يحضره إلا أقاربه، ذكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الهجاء الذي يهجوهم به ابن الأشرف وجماعته من اليهود، فردده هذا المنافق؛ فسمع ذلك هذا الشاب من قريبه هذا، فلم يتحمل سماعه فقام إلى سيف ووضعه في سرته، واضطجع عليه حتى قتله، وأنشد أبياته التي يقول فيها:
أبا عفك خذها على كبر السن
هؤلاء هم الذين لم تثقل كواهلهم أعباء هذه الدنيا ولا مشاغلها، ولم يتحملوا كثيراً من المسئوليات؛ فاستطاعوا أن يؤثروا الآخرة على الأولى، ولم تتعلق قلوبهم بمصالح هذه الدنيا الفانية، صلحوا لأن يستقبلوا عن الله سبحانه وتعالى، وأن يتفهموا كلامه، ولم تنطو قلوبهم على الغل والحسد.
فإن مفهوم الشباب مفهوم يختلف باختلاف إطلاقه؛ فقد يرد ويقصد به سن معينة يمر بها الإنسان في تكوينه، وهي المدرجة في المرحلة السابعة من المراحل التي بين الله تعالى في كتابه في خلق الإنسان؛ فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان تسع مراحل يمر بها؛ وهي المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].
فهي تسع مراحل؛ السابعة منها هي قوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14]، والمقصود بها تنامي الإنسان بعد ميلاده إلى أن يبدأ ضعيفاً ثم يقوى، ثم يضعف الضعف المقرون بالشيبة، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثامنة وهي الموت، ثم تأتي المرحلة التاسعة، وهي البعث بعد الموت.
إن هذه المرحلة من حياة الإنسان تبدأ في حال الضعف، وتشهد واقعه الأول الذي هو خروج من الظلمات؛ التي هي: ظلمات الرحم، والبطن، ثم بعد ذلك دخول إلى هذه الدنيا التي فيها الأنوار والظلمات، ثم يمكث الإنسان أطوار التربية فيها، وبعد ذلك ينتقل إلى مدة عمره إلى أن يصل إلى ارتفاع الشباب وقوته، وهذه المرحلة هي مرحلة الخصوبة في حياة الإنسان، فهي التي يصلح فيها للتلقي عن الله سبحانه وتعالى، والتعلم والفهم؛ لأن هذا العقل بفطرته، وبخلق الله تعالى له يستعد للتلقي والقبول في بداية الشباب، وإذا بلغ شخص من العمر عتياً؛ فإن إمداد عقله سيضعف؛ وذلك إمداد عقل الفطرة، ويبقى يعوض له بعقل التجربة الذي يكتسبه مع طول العمر، ومع ما مر عليه من التجارب، لكن العقل الفطري يتوقف إذا بلغ أشده من العمر؛ وهو أربعون سنة، وهذه نهاية عمر الشباب، وهي التي يرسل الله عليها الرسل.
فالله سبحانه وتعالى عندما قص علينا قصة موسى ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة، وعندما قص علينا قصة يوسف ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة, والرسول صلى الله عليه وسلم بعث حين أكمل أربعين سنة، وهذه القاعدة لم يشذ عنها إلا نوادر قلة؛ فـعيسى عليه السلام أخبر الله أنه آتاه الحكم والكتاب صبياً، وقد تكلم في المهد، وأخبر عن ذلك في قوله: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:30-32].
وكذلك يحيى عليه السلام أخبر الله سبحانه وتعالى في امتنانه على أبيه زكريا حين سأل الله الذرية الصالحة، أخبر عنه أنه يؤتيه الكتاب والحكم وهو في صباه؛ لكن القاعدة العامة: أن الرسل إنما يبعثون على إكمال الأشد، وذلك إذا أتموا أربعين سنة.
أما ما قبل الأربعين فهي فترة الخصوبة في عمر الإنسان، ووقت الاستفادة والتلقي، وهو وقت عظيم جداً وخطر؛ لأنه سلاح ذو حدين، إما أن يصرف في المنجاة الدائمة الخالدة الباقية، وإما أن يصرف في الهلاك والبوار الذي يشب عليه، ويشيب عليه، ويستمر إلى القبر.
وتذكرون قصة صالح بن عبد القدوس حين دخل على المهدي الخليفة؛ فذكر أنه تائب من الزندقة، فقبل المهدي توبته واستتابه بين أيدي الناس، فأشهر توبته، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم انصرف راجعاً فدعاه، فقال: أنشدني قصيدتك السريعية السينية، فظن أن الخليفة معجب بقصيدته فأنشده إياها، فما وصل إلى قوله فيها:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
قال: حكم الشيخ على نفسه، يا حرسي اقطعوا رأسه؛ فالشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه، لكن الشاب يمكن أن يتغير، ويمكن أن يستفيد في تربيته، وينتفع في الأطوار التي تمر عليه؛ ولهذا شرعت التربية في هذه المرحلة، والعرب يقولون: العوان لا تعلم الخمرة، والعوان معناه: غير الفارض، وغير البكر التي قد ذهبت أسنانها من النعم، فهذه يلحق بها ما كان يشبهها من بني آدم؛ فالمرأة العجوز لا تعلم الخمرة معناه: هيئة لي الخمار على رأسها، وستر رأسها بالخمار؛ لأنها قد جربت ذلك، والمقصود في المثل أن من كبرت سنه على وجه معين يصعب تغييره عن ما ألف وما تعود.
ومن هذا المنطلق نعلم أن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا إلا شباباً في أغلب الأحيان، ومن النادر أن يكون فيهم الشيوخ الكبار، انظروا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأوا تراجمهم، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة لثمانية آلاف وخمسمائة منهم، ليس فيهم كبير سن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجموعة معدودة على الأصابع، منها قوم مخضرمون عاشوا ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، لكن الكبار الشيوخ قلة جداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي كان جسمه جسم شيخ كبير، وعقله عقل شاب ثقف متأدب؛ ولهذا قال يوم بدر حين خرج إلى البراز؛ فبارز عتبة بن ربيعة حتى قتل كل واحد منهما الآخر، وأطن عتبة ساقه، وحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما وضع بين يديه وهو يجود بنفسه، قال: يا رسول الله! لوددت أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:
كذبتم وبيت الله نبزى محمد ولما نقاتل دونه ونناضل
فنسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ولقي الله وهو عنه راض، وكان من شهداء بدر الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.
وكذلك قلة من الأنصار من كبار السن، هم الذين أسلموا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منهم: عمرو بن الجموح الذي كان أولاده يحتالون عليه، ويشوهون عليه صنمه؛ لعل الله أن يهديه إلى الإسلام، وكان سيد قومه، وكان شديدًا على المسلمين في بداية العهد، ولكن أولاده وزوجته ما زالوا يحتالون عليه حتى هداه الله إلى الإسلام؛ فجاء يوم أحد، وقد ندم على ما فاته من الجهاد في سبيل الله، وكان رجلاً أعرج؛ فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بعرجته إلى القتال؛ فقال: (إن الله قد عذرك)، فالله سبحانه وتعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]، ( فقال: يا رسول الله! إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة )؛ فقتل يوم أحد ولقي الله وهو عنه راض، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره، ودفن هو و عبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد، وكانا من الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثمانية أيام، حين وقف عليهم فقال: (إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
هؤلاء الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلبهم من الشباب الذين ليس لهم تلك المكانة في قومهم، وليست لهم تلك المنزلة المرموقة في الملأ المقدم، ولا في الأغنياء، ولا في قادة القبائل، وإنما هم أفراد لا يؤبه لهم، لا يفتقدون إذا غابوا، ولا يقام إليهم إذا شهدوا، وهؤلاء هم الذين استطاعوا أن ينتصروا على أهوائهم، وآثروا الآخرة على الأولى؛ فقدموا أنفسهم قرباناً إلى الله سبحانه وتعالى، وصدقوا في بيعتهم مع الله سبحانه وتعالى، وسلكوا طريق من سبقهم.
فـنوح عليه السلام يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن مجادلة قومه له أنهم قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]، وكذلك أخبرنا الله تعالى عن موسى فقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس:83]، وكذلك يخبرنا عن أصحاب الكهف الذين تقرأ قصتهم في مقدمة سورة الكهف؛ هذه السورة التي هي عصمة من الدجال ، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].
وكذلك لم تشهد المدينة في بداية هذه الدعوة انتشار النفاق في أوساط الشباب، وإنما كان الشباب هم الذين يطلعون على أخبار المنافقين، ويكافحون مخططاتهم، فها هو زيد بن أرقم كان يتيماً تربى في حجر رجل غني من بني عمه، وكان ربيبه زوج أمه، وأحسن إليه، وسد له مسد أبيه، ولكنه آثر الله ورسوله عليه؛ فكان رديفه ذات ليلة، فسمعه يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعها هذا الولد الصغير، سمعتها أذناه، ووعاها قلبه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وقال لهذا الرجل الذي هو ربيبه: (والله إنك لأمن رجل علي، ولكني آثرت الله ورسوله، ووالله لأبلغن ما سمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر، جاء الرجل يعتذر ويحلف لقد كذب عليه الولد، وشهد له الناس بأنه هو الصادق، وأن الولد الكاذب، فجاء جبريل من فوق سبع سموات فشهد بصدق زيد بن أرقم؛ فحك رسول الله أذنه وقال: أذن واعية).
كذلك كان منهم فتى صغير حدث له عم كبير من سادة قومه، وهو أبو عفك وكان ضريراً أعمى، فكان إذا خلا بنفسه في الليل ولم يحضره إلا أقاربه، ذكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الهجاء الذي يهجوهم به ابن الأشرف وجماعته من اليهود، فردده هذا المنافق؛ فسمع ذلك هذا الشاب من قريبه هذا، فلم يتحمل سماعه فقام إلى سيف ووضعه في سرته، واضطجع عليه حتى قتله، وأنشد أبياته التي يقول فيها:
أبا عفك خذها على كبر السن
هؤلاء هم الذين لم تثقل كواهلهم أعباء هذه الدنيا ولا مشاغلها، ولم يتحملوا كثيراً من المسئوليات؛ فاستطاعوا أن يؤثروا الآخرة على الأولى، ولم تتعلق قلوبهم بمصالح هذه الدنيا الفانية، صلحوا لأن يستقبلوا عن الله سبحانه وتعالى، وأن يتفهموا كلامه، ولم تنطو قلوبهم على الغل والحسد.
فكثير من الناس أولئك الذين إذا سمعوا الحق أعرضوا عنه ونفروا، ولا يستطيعون سماعه ولا تحمله، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51].
هؤلاء لا يتحملون سماع الحق، وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله في سورة الأعلى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:10-13]؛ فالأشقى: هو الذي لا يستطيع أن يتحمل سماع الذكرى، ولا يستفيد منها.
وقوم آخرون يسمعونها، ولكنها تباشر آذانهم، ولا تباشر قلوبهم، لا تحملها الآذان إلى القلوب؛ فتكون حجة عليهم، وهؤلاء هم المنافقون، يحضرونها بأبدانهم وتفر منها قلوبهم، وفيهم يقول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16].
وهناك قوم آخرون يفصلون في الاستفادة واستماع الذكرى؛ فيسمعونها من بعض الناس دون بعض، يعجبهم بعض الأشخاص فيسمعون منهم، ولا يعجبهم آخرون فيعرضون عنهم، وهؤلاء لم يزنوا الأمور بميزانها الشرعي؛ والميزان الشرعي: أن ينظر إلى القول، لا إلى القائل، والعبرة بالفكرة لا بلاغة قائلها؛ فمن قال حقاً أخذ منه حتى ولو كان إبليس عليه لعنة الله؛ فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـأبي هريرة رضي الله عنه: (صدقك وهو كذوب)، وهو الشيطان؛ فالعبرة حينئذٍ بالحق، فهو الذي تعرف به الرجال؛ ولا يعرف الحق بالرجال؛ ولهذا فإن المشركين حين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:31-32].
لهذا فإن كبار السن الذين يستفيدون من واقع معين يعيشونه لا يريدون أن يتغير ذلك الواقع، يريدون أن تبقى الأمور على هيئتها، وأنتم تذكرون المثل الحساني الذي يضربه الناس للحمير في بداية الربيع، فإنهم يسألون الله ألا يطول النبات حتى يقتصر نفعه عليهم، وما هؤلاء ببعيد من ذلك الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حجرت واسعاً، رحمة الله وسعت كل شيء)، الجنة عرضها السموات والأرض؛ فلذلك نجد أن هذا المفهوم للشباب راجع تحديده إلى السن، وينتهي عند اكتمال الأربعين.
لدينا مفهوم للشباب آخر، وهو أوسع من الذي سبق، وهو: مفهوم النشاط، والتقبل من الآخرين، والتحرر من أوضاع المجتمع، وما هو فيه، وذلك بقوة الشخصية المتجددة، والشجاعة في الحق.
شمول مفهوم الشباب باعتبار النشاط للشباب والشيوخ
هذا المفهوم يشمل الشيوخ والشباب، وهو المقصود في الشباب، إذ ليس المقصود في الشباب مجرد هذه السن؛ فكثير من المعرضين عن الحق، والذين يشتغلون باتباع أهوائهم، واتباع شياطينهم يكونون في هذه السن؛ في سن الشباب؛ ولذلك يقول بعض الناس: ابن العشرين لا عقل ولا دين، ويصفونه بأوصاف أخرى؛ لكن المهم أن هذا النشاط، وهذه الجراءة والشجاعة، وتحمل المسئولية هو المطلوب، سواء حصل في صغار السن أو في كبارها؛ فهو الذي يمكن صاحبه من تحمل المسئولية، فكثير من كبار السن يمكن أن يراهن عليهم على أنهم من الشباب؛ ولذلك تجدون نشاطهم في طلب الحق، وعدم انشغالهم بأمور الدنيا، ومسارعتهم إلى العدل، واطراحهم لكثير من الحظوظ النفسية، وأخذهم بالإنصاف من أنفسهم، وعدم الانتصاف لها كأنهم شباب، فيجلسون بين الناس متواضعين، ويسارعون إلى الخير أنى وجدوه، ويقبلون الرجوع إليه إذا سمعوه؛ فهؤلاء وإن كانوا كبار السن، إلا أننا نعدهم من الشباب، ويصدق فيهم قول أبي الطيب المتنبي :
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا كثير إذا اشتدوا قليل إذا عدوا
فهؤلاء يمكن أن يراهن على قيامهم بالحق ونصرتهم له، حتى ولو بلغوا من العمر عتياً، ولو عاشوا ما عاشوا على ما هم فيه؛ فإن عطاء الله سبحانه وتعالى غير محظور، ولا تختص به فئة من الناس؛ ولكن هؤلاء الذين تحرروا من هذا الواقع، ووصلوا إلى هذا المستوى نظن بهم الخير، ولا نحتاج كثيراً إلى إتعاب أنفسنا في توعيتهم في واقعهم وما هم فيه؛ فهؤلاء قد جمعوا بين عقل التجربة وحرية الفكر، وقوة الشخصية والشجاعة.
أهمية مرحلة الشباب من عموم العمر
أما الشباب صغار السن الذين ما زالوا يمكن أن يتفيئوا مع الريح أينما فاءت هم الذين يحرص عليهم، وينبهون إلى خطورة هذه المرحلة التي من أعمارهم، فإن العمر جميعاً يسأل عنه يوم القيامة سؤالاً واحداً، والشباب وحده يسأل عنه سؤالاً آخر.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)، هذه أربعة أمور: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة) -أي: لا يغير وطأته- حتى يجيب عن السؤال عنها أربعتها، وفيها السؤال عن المال من وجهين: من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وفيها السؤال عن العمر من وجهين: عن العمر عموماً، وعن الشباب بخصوصه، وهذا يدلنا على خطورة هذه المرحلة وعظم المسئوليات فيها؛ فهي مرحلة النشاط والعطاء، وهي التي يقول فيها الحكيم:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فمن لم يستغلها في الوجه الصحيح كانت نكالاً عليه ووبالاً؛ لأنه سيندم إذا فارقها؛ فعندما يصل به العمر إلى مستوى الكبر الذي وصفه الفرزدق بقوله:
اسمع أحدثك بآيات الكبر تقارب الخطو وضعف في البصر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر وقلة الزاد إذا الزاد حضر
إذا وصل شخص إلى هذا المستوى يندم على ما فرط فيما مضى من عمره؛ ولذلك يقول كثير منهم:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
ويقول الآخر:
ليت شباباً بوع فاشتريت
إذاً لا بد من تنبيه الشباب الذين ما زالوا في هذه المرحلة من العمر إلى أن يستغلوا هذه الأيام الخاليات؛ حتى يكونوا يوم القيامة من الذين يقال لهم على رءوس الأشهاد: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، وألا يكونوا من الذين يقال لهم على رءوس الأشهاد: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].
الدعوة لاستغلال العمر قبل انقضائه
علينا أن نستغل هذه الأيام التي تمضي؛ فالوقت هو رأس المال، وهو الذي إذا فات لا يعوض، ولا يمكن أن يعاد، ليس مثل الشريط الذي إذا انتهى استطاع الشخص أن يعيده ويبدأ به من بدايته، إنما هذا الوقت إذا مضى فقد ذهب بما فيه؛ فكل يوم عندما تغرب شمسه يختم على عمله؛ ولهذا يقول الحكماء: أمس الدابر أمره لا يعود، قد ذهب بما فيه، ويأتي وقت جديد فيه خطاب آخر؛ ولهذا قال المواق رحمه الله تعالى: حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، إذ ما من وقت يمر إلا ولله عليك فيه خطاب جديد، وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره، وأنت لم تؤد حق الله فيه؟ كل وقت أياً كان يمر.
لاحظوا أنها اللحظة الواحدة أو الثانية الواحدة، كثير من الناس يعد بالسنوات، وهؤلاء هم المغرورون الذين لا يلاحظون ما أقرب الآخرة من الدنيا، وما أقرب الموت من الحياة، لا يلاحظون أنه ما بين أن يكونوا جماداً لا حراك فيه وبين استقرارهم في حياتهم هذه إلا أن يؤذن لملك الموت فينتزع هذه الروح، ويدعوها فلا يمكن أن تتأخر لحظة عين، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2]؛ فحينئذٍ لا يمكن أن يتأخر الأجل ولا أن يتقدم؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:99-111] .