الخطاب الدعوي


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

ربط الأسباب بمسبباتها

فإن الله سبحانه وتعالى بنى هذه الحياة الدنيا على سنن ثابتة لا تتغير، وهذه السنن هي من أمر الله سبحانه وتعالى وقدره، ولا يمكن أن تتخلف، كما لا يتخلف دوران الفلك، وتعاقب الليل والنهار.

ومن هذه السنن: ارتباط الأسباب بمسبباتها، فالدعوة سبب للهداية، لكنها لا تؤدي إلى هذه النتيجة إلا إذا سارت على وفق سنتها، وعلى وفق ما أراد الله لها، والهداية التي تؤدي إليها الدعوة هي هداية الإرشاد، أي: إنارة الطريق للناس، وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله، وما أمرهم به ربهم سبحانه وتعالى، وما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن تنير هذه الطريق للناس مالم تكن هذه الدعوة مضبوطة بضوابط الشريعة، مرتبطة بالمنهج النبوي الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المنهج الناجح والمثال لسلوك طريق الحق، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( تركتكم على المحجة البيضاء، أو على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )، فما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ارتضاه الله للثقلين الإنس والجن، وهو منهج الله المستقيم، وهو صراطه المؤدي إلى جنته، وهو حبله المتين، من تمسك به عصم.

وهذا الحبل المتين الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وهذا مقتض لبيان كل ما يقع فيه من اللبس والخطأ، وضمان لمعرفة الخطأ من الصواب إذا التبس، فإنه لو وكل إلى اجتهادات الرجال، لتغير وتبدل، كحال الديانات السابقات التي عهد بحفظها إلى أصحابها، فترون ما حصل فيها من التحريف والتبديل.

أما هذا الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم من التغيير والتبديل، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقد تعهد الله بحفظه وتولى ذلك بنفسه، لم يكله إلى ملك مقرب، ولا إلى نبي مرسل، فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ( لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل )، فلذلك لا يمكن أن يقع فيه اختلال ولا اختلاف إلا اتضح للناس خطؤه وبان لهم زيفه، وذلك من عصمة الله سبحانه وتعالى لصراطه المستقيم.

ومن حكم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بعده رسول إلى البشرية، لا يمكن أن يأتي بعده نبي، فهو خاتم النبيين، فإذا كان الأمر موكولاً إلى اجتهادات الرجال أبداً وإلى تقويمهم فإن ذلك مقتض لزواله، وحاجة الناس إلى من يجدده، لكن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظه، وقد علم أنه لن يرسل رسولًا بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا بد لمن يسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم أن يسلكها على بصيرة بها، وأن يتعرف على ضوابط سيره، ومعارجات طريقه، وما يعرض له من المشكلات في هذا الطريق.

البصيرة بالأمر الذي تكون الدعوة إليه

إن من الواجب علينا في الخطاب الدعوي المقدم للناس، الذي ينوب فيه صاحبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤدي فيه أمانه الله التي عرضها على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والذي عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناس في آخر موقف شهده مع الناس فقال: ( ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وعهد إلينا بحفظه كذلك، وذكر الفضل العظيم لمن حفظه، فقال فيما أخرج عنه أصحاب السنن، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، وبين كذلك وظيفة الذين يحمونه ويبينونه للناس، فيما أخرجه أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد، و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ).

فهذه البصيرة بالأمر الذي يدعو الإنسان إليه، ضابط من أهم ضوابط الخطاب الدعوي، فالذي يريد أن يدعو على غير علم، ولا يريد أن يتصل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا منهجه، ولا يريد أن يسلك طريق الذين سبقوه، ولا أن يستفيد مما كانوا عليه ومما أخذوا به لا بد أن يتردى في الوحل.

فلا بد إذاً من هذه البصيرة المقتضية لأن يعرف الإنسان برهانه في كل ما يقوم به، وأن تكون له حجة من الله سبحانه وتعالى في كل ما يعمل، ومن كان على ذلك فهو على نور من ربه، إذا وقف فعن علم يقف، وإذا تقدم فعن علم يتقدم، ومن كان هكذا فلن يشك في أمر من الأمور، ولن يلتبس عليه شيء من المشتبهات.

الإخلاص لله تعالى في الخطاب الدعوي

ثم بعد هذا لا بد من ضابط آخر آكد من سابقه ألا وهو: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وقصد وجهه الكريم بالأمر كله، فكل خطاب يقدمه الإنسان على طريق الدعوة لا بد أن يكون مخلصاً فيه لله تعالى، وإلا كان ضره أكثر من نفعه، لا بد أن يكون الإنسان مخلصاً في كل كلمة تصدر منه، وكل تصرف يصدر منه، وإلا فإن عدم الإخلاص مضر ضرراً بالغاً بمقدم الخطاب وبسامعه؛ لذلك لا بد من مراجعة الإخلاص في كل قول يقوله الإنسان، وأن يعلم أن الكلمة التي يقولها أمانة عنده، وأنها ستعرض عليه بين يدي الله في طائره يحمله في عنقه، وستشهد عليه جوارحه بما قال، ويشهد عليه الملائكة الكرام المزكون عند الله تعالى بما لفظ.

التوسط والاعتدال في الخطاب الدعوي

ثم بعد هذا لا بد من ضابط آخر وهو: التوسط والاعتدال في الأمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الشطط، وحذر كذلك من الإفراط ومن التفريط، فلا بد أن يكون هذا الخطاب وسطاً بين الإفراط والتفريط، فالإفراط مقتض من الإنسان أن يبالغ في الأمر مبالغة تخرج به عن نطاق الشرع، وحينئذ لا بد أن يدخله الهوى، والهوى ضد الشرع، والمتمسك به عابد لشريك لله هو الهوى، فالهوى شريك من الشركاء التي تعبد من دون الله عز وجل.

والذي يتشبث بهواه، ويقدمه على خطاب الله مذموم في القرآن بغاية الذم، فإنه قد اتخذ إلهه هواه، وتعرفون أن ذلك مبين في سورة النازعات أنه سبب لدخول النار، وأن مخالفة الهوى ونهي النفس عنه سبب لدخول الجنة.

ثم بعد هذا لا بد أن يدرك الإنسان معنى هذا التوسط، وأن الإفراط المنهي عنه ليس تجاوزاً لما كان عليه الناس، وليس تجاوزاً للقول الذي كان فيه الإنسان نفسه، بل المقصود بالنهي عن الإفراط: تجاوز المنهج النبوي، فإذا كنا نحن في طور من أطوار ضعفنا، أو في طور الطلب والازدياد من العلم، أو في طور الاستضعاف في الوسائل فأخذنا بما لدينا وبما نستطيع، ثم تجددت نعمة من عند الله سبحانه وتعالى اقتضت زيادة في الأداء والعطاء، فليس إعمال تلك النعمة بإفراط ولا غلو ولا مجاوزة.

ومثل ذلك في المقابل، جاء النهي عن التفريط الذي هو التقصير، وهو: ركون إلى الراحة، وإخلاد إلى الأرض، وهذا التفريط مقتض من الإنسان بترك بعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورده على الله سبحانه وتعالى فيكون متخيراً، فما وافق هواه ووافق وقته أخذ به، وما خالفه تركه، وأنتم تعرفون أن فاعل ذلك غير مخلص لله سبحانه وتعالى، بل يأخذ ما يريد ويرد ما يريد، وقد بين الله أن هذا من شأن المنافقين وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:48-50].

فلا بد من الاستسلام لأمر الله كله، وإلا فما الفرق بين المسلمين واليهود، إذا كان المسلم يأخذ ما يوافقه ويترك ما يخالفه؟ أليس اليهود يقولون: نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟ أليسوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: نؤمن بما معكم وجه النهار، ونخالفكم بقيته؟

فإذاً لا بد أن يستسلم المسلم لأمر الله كله، وأن يأخذ بالمنهج كله، وقد شرط الله ذلك في الإيمان فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

إن هذا المنهج الوسطي مفيد في هذا الخطاب الدعوي في أمور أخرى منها:

أولاً: توصيله بما لا يستطيع الإنسان الوصول إليه بذاته وطاقاته ووسائله المحدودة، فالإنسان إذا أخذ بهذا المنهج المعتدل الوسطي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فإن الحوادث لا تستفزه، فإذا جاء الترغيب والترهيب، لم يكن لهما أي تأثير عليه، وإذا جاءت السراء والنعمة لم تضره، وإذا جاءت الضراء والمحنة لم تذله ولم ترده عما أخذ به.

ثم بعد هذا لا بد من الأخذ بهذا الضابط فيما يتعلق بالتعامل مع الناس، فالناس قلما تجتمع قلوبهم على الأمر، وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:( الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة )، فلو أن الإنسان مال مع بعضهم على حساب بعض فإن ذلك سيؤدي من الآخرين إلى النفرة، وقد صح في الصحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم من الأنصار يترامون -أي: يرمون غرضاً نصبوه- فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك الآخرون فقال: ما بالكم؟ فقالوا: كيف نراميهم وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم )، فلذلك لا بد من هذا التوازن، وهو مقتض لتأليف القلوب.

أما التعامل بمقابل هذا التعامل فهو مقتض للفرقة والاختلاف والنزاع، فالإنسان إذا عدل عن هذه الوسطية، ومال إلى جانب الإفراط والمبالغة، فكثيراً ما يكون خطابه الدعوي تحميساً يصل إلى حد الانفجار دون أن يستغل ذلك في مجراه الصحيح، وفي وجهه المستقيم.

وأيضاً إذا جاء بالبرودة والتماوت، ولم يؤد الغرض المقصود من هذا الخطاب كان ذلك سبباً أيضاً لتفلت الناس من حوله، وعدم أخذهم بقوله، ثم بعد هذا كثيراً ما يؤدي ذلك -أيضاً- إلى ردود أفعال غير محمودة، مثلما يحصل في كثير من الأحيان من تكفير بعض الناس لبعض على غير أساس شرعي، فليس التكفير مذموماً شرعاً مطلقاً، بل التكفير المذموم شرعاً هو تكفير المسلمين، تكفير من كان آخذاً بالإسلام محقاً فيه فهذا المذموم شرعاً، أما تكفير الكافرين فهو غير مذموم شرعاً، ولا يمكن أن يلومه عاقل.

ثانياً: ومن نتائج هذه الوسطية أيضاً: أنها مقتضية لإمكان الرجعة وللأخذ بالخط الأعدل، فإذا تبين للإنسان خطأ في بعض تلك الجزئيات والخطوات استطاع الرجوع عن كثب، ولم يكن حينئذ حيث لا يمكنه الرجوع، فأنتم تعرفون أن الطرق السريعة إذا أخذ الإنسان بآخر خط منها لا يمكنه أن يرجع إذا أراد ذلك ولا أن يتوقف أصلاً؛ لأنه قد وصل إلى النهاية في الخط، فإذا أراد الإنسان التوقف أو الرجوع فليأخذ بالوسط، أو بالخط الذي يمكنه من الرجعة.

مناسبة الخطاب الدعوي لما يحتاجه الناس ويعايشونه

كذلك من ضوابط هذا الخطاب: أن يكون مما يتناسب مع الناس، فالخطاب الدعوي إذا كان يشغل الناس بما لا يعيشونه في حياتهم اليومية، ولا يجدونه في واقعهم، أو يتشاغل عما يهتمون به وينفقون فيه ساعات دوامهم، فهو خطاب فاشل؛ لأنه في واد والناس في واد آخر، فلذلك لا بد أن يكون مهتماً باهتمامات الناس، ولا بد أن يكون مصاحباً للناس في تطوراتهم وأحوالهم.

ومن هنا فإن الخطاب الدعوي مرتبط بزمانه ومكانه، فحديثنا الآن -مثلاً- عما كان الناس يتحدثون عنه في بداية انتشار هذه الصحوة وصلاحية الإسلام بالتطبيق، أو نحو ذلك من الطرح الذي تجدونه في الكتب القديمة المؤلفة في بداية الصحوة، هو أخذ بما لم يعد محلاً للنقاش، ورجوع في الوسط وفي أثناء الطريق، فلذلك لا يمكن أن يأخذ به، وإنما مثاله مثال من وصل في سرعة السير إلى السرعة الخامسة، ثم أراد أن يتراجع منها مباشرة إلى السرعة الثانية أو الثالثة دون أن يمر بالرابعة، فهذا مضر بسيارته، ولا يمكنه من الوصول إلى هدفه، والذي يعيشه الناس ويهتمون به له مراعاة في الشرع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه وفي توجيهه للناس يتحدث عن الوقائع التي يشهدها الناس، ويتكلم فيما يتعلق بحياتهم اليومية، وتعرفون خطابه للمؤمنين في غزوة المريسيع، لما حصلت الشحناء والبغضاء بين واردة المهاجرين وواردة الأنصار، فقال هذا: ( يا للمهاجرين! وقال الآخر: يا للأنصار! فقال: أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟! دعوها فإنها منتنة ).

فقد كان أهل الجاهلية إذا حصل خلاف بينهم تعزى كل إنسان منهم بعزاء الجاهلية فدعا ذويه وناصريه, وكل يتقوى على الآخر بقبيلته، فجاءت الدعوة الإسلامية فردت هذا المنهج بالكلية، والمهاجرون والأنصار التعزي بهم ليس تعزياً بقبائل ولا بفرق، بل هو دعوى بلقب شرعي شريف، فالله سبحانه وتعالى شرف المهاجرين من المؤمنين بهجرتهم إلى الله ورسوله، وشرف الأنصار بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم ينكر التعزي بهذا العزاء؛ لما فيه من الشبه بتعزي أهل الجاهلية بعزائهم، ويجعله مثل تعزي أهل الجاهلية تماماً، فيقول: ( أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟! دعوها فإنها منتنة ).

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان اهتمامه في خطابه الدعوي بأمور الناس، وبما يعيشونه جامعاً بين أمر الدنيا وأمر الآخرة، فما يتعلق بأمر الآخرة قد سمعتم مثاله، وما يتعلق بأمور الدنيا مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما روت عائشة في الصحيحين في خطبة الاستسقاء، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين )، فهنا تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر يهم الناس من أمور دنياهم، وهو ما هم فيه من الجدب واللأواء والضنك، وضيق المعاش، فتحدث عن ذلك في خطبته فقال: ( إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانكم )، وذكر الحلول الشرعية، وهي أن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يدعوه، ووعدهم أن يستجيب لهم إذا دعوه.

ثم إن رسول صلى الله عليه وسلم -كذلك- في عنايته بما يعيشه الناس من أمور حياتهم كان يحدثهم بما يشبهها من حياة الآخرين لتكون تجارب لهم، وحتى في شئون بيته الخاصة، فهذه عائشة أم المؤمنين تروي عنه حديث أم زرع في الصحيحين، وقد بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لعائشة كأبي زرع لـأم زرع غير أنه لا يطلقها، وهذا الحديث فيه ذكر لكثير من الحالات الاجتماعية في خصائص البيت، وبعض هموم النساء, وما يجدنه في بيوتهن من المضايقة.

وفي بداية الحديث جلس إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، وهذه الأمثلة لحياة الناس وسلوكهم، وتصرفاتهم الاجتماعية محل عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها، وبيانها لأمته، كل ذلك يدخل في هذا النطاق، وفي نطاق عيش الخطاب الدعوي مع هموم الناس وما هم فيه، فمن المشكلات ما يتكرر في كل حال وهي الاجتماعيات التي يعيشها الناس، كهموم البيت، ومشكلات العلاقة بين الزوجين، وكذلك تربية الأولاد، وأمور المعاش، وما يعرض فيه من الضيق والسعة، وأمور الجيران وحقوقهم، فهذه أمور متكررة، لا بد من علاجها في الخطاب الدعوي، ولا بد أن تأخذ حيزها المناسب فيه؛ لأنها مما يعيشه الناس، ومما يتكرر في حياتهم اليومية.

ومثل ذلك شئون العالم من حولنا، فلا بد في ضوابط الخطاب الدعوي أن تتناول هذا الهموم والشئون، فهؤلاء البشر يرتبطون جميعاً في دوائر ارتباط، قاصيه ودانيه فيها سواء، والعالم اليوم أصبح كالقرية الواحدة، ووسائل الإعلام والاتصال معينة على ذلك، فمن لم يعتن بالحضارة وأوجهها وتناقلها، وبأنواع أنماط معاش الناس وما يتعلق بذلك فلا بد أن يدهمه بعض المحظور في بلاده، فنحن اليوم إذا لم نتحدث عن أوجه حياة الغربيين، وما يعيشونه في بلادهم، ما كان منه إيجابياً وما كان منه سلبياً، فسيدهمنا ذلك في بلادنا، وسيأتي عبر وسائل الإعلام التي لا نستطيع التأثير فيها، وستخلق به كثير من المنهزمين أمام ضغط هذه الحياة، والمبهورين كذلك بالحياة المادية الغربية، ومن هنا فلا بد أن يكون الخطاب الدعوي ناقلاً لتجارب الآخرين، ولا بد أن يكون مطلعاً على تداول هذه الحضارة ورقيها وهبوطها، وبيان ما يتعلق بذلك من التأثير على نفسيات الناس وثقافتهم، واهتمامهم.

المشاركة في تكوين الرأي العام وصناعته

كذلك من هذه الضوابط: أن الخطاب الدعوي السليم لا بد أن يكون مشاركاً في تكوين الرأي العام لهذا البشر، فالبشر يتصرف على أساس القناعة، وهذه القناعة ليست فطرة فطر الله عليها الناس، بل قد قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، لكن الله أعطانا وسائل للتطلع على ما حولنا، وهذه الوسائل هي التي ندرك من خلالها قناعاتنا، وهي التي تتكون من خلالها القناعات، ولذلك قال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، فهذه هي وسائل الإحاطة بما حولنا، ومن خلالها يتكون الرأي العام، وكذلك قال الله في امتنانه على الإنسان: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، فهذه الوسائل التي امتن الله بها سيستغلها الناس، واستغلالهم لها مقتض للتعرف على ما حولهم، ومن خلال ذلك ترسخ فيهم القناعات التي على أساسها يبنون مواقفهم وتصرفاتهم.

فإن الله سبحانه وتعالى بنى هذه الحياة الدنيا على سنن ثابتة لا تتغير، وهذه السنن هي من أمر الله سبحانه وتعالى وقدره، ولا يمكن أن تتخلف، كما لا يتخلف دوران الفلك، وتعاقب الليل والنهار.

ومن هذه السنن: ارتباط الأسباب بمسبباتها، فالدعوة سبب للهداية، لكنها لا تؤدي إلى هذه النتيجة إلا إذا سارت على وفق سنتها، وعلى وفق ما أراد الله لها، والهداية التي تؤدي إليها الدعوة هي هداية الإرشاد، أي: إنارة الطريق للناس، وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله، وما أمرهم به ربهم سبحانه وتعالى، وما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن تنير هذه الطريق للناس مالم تكن هذه الدعوة مضبوطة بضوابط الشريعة، مرتبطة بالمنهج النبوي الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المنهج الناجح والمثال لسلوك طريق الحق، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( تركتكم على المحجة البيضاء، أو على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )، فما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ارتضاه الله للثقلين الإنس والجن، وهو منهج الله المستقيم، وهو صراطه المؤدي إلى جنته، وهو حبله المتين، من تمسك به عصم.

وهذا الحبل المتين الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وهذا مقتض لبيان كل ما يقع فيه من اللبس والخطأ، وضمان لمعرفة الخطأ من الصواب إذا التبس، فإنه لو وكل إلى اجتهادات الرجال، لتغير وتبدل، كحال الديانات السابقات التي عهد بحفظها إلى أصحابها، فترون ما حصل فيها من التحريف والتبديل.

أما هذا الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم من التغيير والتبديل، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقد تعهد الله بحفظه وتولى ذلك بنفسه، لم يكله إلى ملك مقرب، ولا إلى نبي مرسل، فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ( لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل )، فلذلك لا يمكن أن يقع فيه اختلال ولا اختلاف إلا اتضح للناس خطؤه وبان لهم زيفه، وذلك من عصمة الله سبحانه وتعالى لصراطه المستقيم.

ومن حكم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بعده رسول إلى البشرية، لا يمكن أن يأتي بعده نبي، فهو خاتم النبيين، فإذا كان الأمر موكولاً إلى اجتهادات الرجال أبداً وإلى تقويمهم فإن ذلك مقتض لزواله، وحاجة الناس إلى من يجدده، لكن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظه، وقد علم أنه لن يرسل رسولًا بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا بد لمن يسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم أن يسلكها على بصيرة بها، وأن يتعرف على ضوابط سيره، ومعارجات طريقه، وما يعرض له من المشكلات في هذا الطريق.

إن من الواجب علينا في الخطاب الدعوي المقدم للناس، الذي ينوب فيه صاحبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤدي فيه أمانه الله التي عرضها على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والذي عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناس في آخر موقف شهده مع الناس فقال: ( ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وعهد إلينا بحفظه كذلك، وذكر الفضل العظيم لمن حفظه، فقال فيما أخرج عنه أصحاب السنن، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، وبين كذلك وظيفة الذين يحمونه ويبينونه للناس، فيما أخرجه أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد، و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ).

فهذه البصيرة بالأمر الذي يدعو الإنسان إليه، ضابط من أهم ضوابط الخطاب الدعوي، فالذي يريد أن يدعو على غير علم، ولا يريد أن يتصل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا منهجه، ولا يريد أن يسلك طريق الذين سبقوه، ولا أن يستفيد مما كانوا عليه ومما أخذوا به لا بد أن يتردى في الوحل.

فلا بد إذاً من هذه البصيرة المقتضية لأن يعرف الإنسان برهانه في كل ما يقوم به، وأن تكون له حجة من الله سبحانه وتعالى في كل ما يعمل، ومن كان على ذلك فهو على نور من ربه، إذا وقف فعن علم يقف، وإذا تقدم فعن علم يتقدم، ومن كان هكذا فلن يشك في أمر من الأمور، ولن يلتبس عليه شيء من المشتبهات.

ثم بعد هذا لا بد من ضابط آخر آكد من سابقه ألا وهو: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وقصد وجهه الكريم بالأمر كله، فكل خطاب يقدمه الإنسان على طريق الدعوة لا بد أن يكون مخلصاً فيه لله تعالى، وإلا كان ضره أكثر من نفعه، لا بد أن يكون الإنسان مخلصاً في كل كلمة تصدر منه، وكل تصرف يصدر منه، وإلا فإن عدم الإخلاص مضر ضرراً بالغاً بمقدم الخطاب وبسامعه؛ لذلك لا بد من مراجعة الإخلاص في كل قول يقوله الإنسان، وأن يعلم أن الكلمة التي يقولها أمانة عنده، وأنها ستعرض عليه بين يدي الله في طائره يحمله في عنقه، وستشهد عليه جوارحه بما قال، ويشهد عليه الملائكة الكرام المزكون عند الله تعالى بما لفظ.

ثم بعد هذا لا بد من ضابط آخر وهو: التوسط والاعتدال في الأمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الشطط، وحذر كذلك من الإفراط ومن التفريط، فلا بد أن يكون هذا الخطاب وسطاً بين الإفراط والتفريط، فالإفراط مقتض من الإنسان أن يبالغ في الأمر مبالغة تخرج به عن نطاق الشرع، وحينئذ لا بد أن يدخله الهوى، والهوى ضد الشرع، والمتمسك به عابد لشريك لله هو الهوى، فالهوى شريك من الشركاء التي تعبد من دون الله عز وجل.

والذي يتشبث بهواه، ويقدمه على خطاب الله مذموم في القرآن بغاية الذم، فإنه قد اتخذ إلهه هواه، وتعرفون أن ذلك مبين في سورة النازعات أنه سبب لدخول النار، وأن مخالفة الهوى ونهي النفس عنه سبب لدخول الجنة.

ثم بعد هذا لا بد أن يدرك الإنسان معنى هذا التوسط، وأن الإفراط المنهي عنه ليس تجاوزاً لما كان عليه الناس، وليس تجاوزاً للقول الذي كان فيه الإنسان نفسه، بل المقصود بالنهي عن الإفراط: تجاوز المنهج النبوي، فإذا كنا نحن في طور من أطوار ضعفنا، أو في طور الطلب والازدياد من العلم، أو في طور الاستضعاف في الوسائل فأخذنا بما لدينا وبما نستطيع، ثم تجددت نعمة من عند الله سبحانه وتعالى اقتضت زيادة في الأداء والعطاء، فليس إعمال تلك النعمة بإفراط ولا غلو ولا مجاوزة.

ومثل ذلك في المقابل، جاء النهي عن التفريط الذي هو التقصير، وهو: ركون إلى الراحة، وإخلاد إلى الأرض، وهذا التفريط مقتض من الإنسان بترك بعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورده على الله سبحانه وتعالى فيكون متخيراً، فما وافق هواه ووافق وقته أخذ به، وما خالفه تركه، وأنتم تعرفون أن فاعل ذلك غير مخلص لله سبحانه وتعالى، بل يأخذ ما يريد ويرد ما يريد، وقد بين الله أن هذا من شأن المنافقين وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:48-50].

فلا بد من الاستسلام لأمر الله كله، وإلا فما الفرق بين المسلمين واليهود، إذا كان المسلم يأخذ ما يوافقه ويترك ما يخالفه؟ أليس اليهود يقولون: نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟ أليسوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: نؤمن بما معكم وجه النهار، ونخالفكم بقيته؟

فإذاً لا بد أن يستسلم المسلم لأمر الله كله، وأن يأخذ بالمنهج كله، وقد شرط الله ذلك في الإيمان فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

إن هذا المنهج الوسطي مفيد في هذا الخطاب الدعوي في أمور أخرى منها:

أولاً: توصيله بما لا يستطيع الإنسان الوصول إليه بذاته وطاقاته ووسائله المحدودة، فالإنسان إذا أخذ بهذا المنهج المعتدل الوسطي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فإن الحوادث لا تستفزه، فإذا جاء الترغيب والترهيب، لم يكن لهما أي تأثير عليه، وإذا جاءت السراء والنعمة لم تضره، وإذا جاءت الضراء والمحنة لم تذله ولم ترده عما أخذ به.

ثم بعد هذا لا بد من الأخذ بهذا الضابط فيما يتعلق بالتعامل مع الناس، فالناس قلما تجتمع قلوبهم على الأمر، وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:( الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة )، فلو أن الإنسان مال مع بعضهم على حساب بعض فإن ذلك سيؤدي من الآخرين إلى النفرة، وقد صح في الصحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم من الأنصار يترامون -أي: يرمون غرضاً نصبوه- فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك الآخرون فقال: ما بالكم؟ فقالوا: كيف نراميهم وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم )، فلذلك لا بد من هذا التوازن، وهو مقتض لتأليف القلوب.

أما التعامل بمقابل هذا التعامل فهو مقتض للفرقة والاختلاف والنزاع، فالإنسان إذا عدل عن هذه الوسطية، ومال إلى جانب الإفراط والمبالغة، فكثيراً ما يكون خطابه الدعوي تحميساً يصل إلى حد الانفجار دون أن يستغل ذلك في مجراه الصحيح، وفي وجهه المستقيم.

وأيضاً إذا جاء بالبرودة والتماوت، ولم يؤد الغرض المقصود من هذا الخطاب كان ذلك سبباً أيضاً لتفلت الناس من حوله، وعدم أخذهم بقوله، ثم بعد هذا كثيراً ما يؤدي ذلك -أيضاً- إلى ردود أفعال غير محمودة، مثلما يحصل في كثير من الأحيان من تكفير بعض الناس لبعض على غير أساس شرعي، فليس التكفير مذموماً شرعاً مطلقاً، بل التكفير المذموم شرعاً هو تكفير المسلمين، تكفير من كان آخذاً بالإسلام محقاً فيه فهذا المذموم شرعاً، أما تكفير الكافرين فهو غير مذموم شرعاً، ولا يمكن أن يلومه عاقل.

ثانياً: ومن نتائج هذه الوسطية أيضاً: أنها مقتضية لإمكان الرجعة وللأخذ بالخط الأعدل، فإذا تبين للإنسان خطأ في بعض تلك الجزئيات والخطوات استطاع الرجوع عن كثب، ولم يكن حينئذ حيث لا يمكنه الرجوع، فأنتم تعرفون أن الطرق السريعة إذا أخذ الإنسان بآخر خط منها لا يمكنه أن يرجع إذا أراد ذلك ولا أن يتوقف أصلاً؛ لأنه قد وصل إلى النهاية في الخط، فإذا أراد الإنسان التوقف أو الرجوع فليأخذ بالوسط، أو بالخط الذي يمكنه من الرجعة.