شرح جامع الترمذي أبواب الطهارة [3]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: ما جاء في السواك.

حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ].

وقد سبق أن هذا الحديث في الصحيح بلفظ آخر: (عند كل وضوء) في فضل السواك وتأكده.

قوله: (لأمرتهم) يعني: أمر إيجاب، وإلا فقد أمرهم أمر استحباب.

قال: [ قال أبو عيسى : وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما عندي صحيح؛ لأنه قد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه إنما صح؛ لأنه قد روي من غير وجه.

وأما محمد بن إسماعيل فزعم أن حديث أبي سلمة عن زيد بن خالد أصح.

قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي بكر الصديق وعلي وعائشة وابن عباس وحذيفة وزيد بن خالد وأنس وعبد الله بن عمرو وأم حبيبة وابن عمر وأبي أمامة وأبي أيوب وتمام بن عباس وعبد الله بن حنظلة وأم سلمة وواثلة بن الأسقع وأبي موسى ].

قال في الشرح: [ قوله: وأما محمد بن إسماعيل البخاري فزعم أن حديث أبي سلمة عن زيد بن خالد أصح، قال الحافظ في فتح الباري: حكى الترمذي عن البخاري أنه سأله عن رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، ورواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن زيد بن خالد ، فقال: رواية محمد بن إبراهيم أصح، قال الترمذي : كلا الحديثين صحيح عندي.

قلت: ورجح البخاري طريق محمد بن إبراهيم لأمرين:

أحدهما: أن فيه قصة، وهي قول أبي سلمة : فكان زيد بن خالد يضع السواك منه موضع القلم من أذن الكاتب، فكلما قام إلى الصلاة استاك.

ثانيهما: أنه توبع، فأخرج الإمام أحمد من طريق يحيى بن أبي كثير ، قال: حدثنا أبو سلمة عن زيد بن خالد فذكر نحوه، انتهى كلام الحافظ ].

وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هناد ، حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن زيد بن خالد الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل، قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد، وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن ثم رده إلى موضعه).

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ].

وهذا الحديث أخرجه أبو داود ، وابن ماجة .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: ما جاء: (إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها).

حدثنا أبو الوليد أحمد بن بكار الدمشقي ، يقال: هو من ولد بسر بن أرطاة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده) ].

في هذا الحديث دليل على وجوب غسل اليدين ثلاثاً قبل غمسهما في الإناء إذا استيقظ من نوم الليل، وهذا خاص بنوم الليل، لقوله: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، فالبيتوتة إنما تكون في الليل، لكن إن غمسهما أثم والماء طاهر.

وذهب بعضهم إلى أنه يكون مستعملاً، وعليه فلا يجوز استعماله، والصواب: أن الماء طاهر لكنه يأثم؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم.

وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد ومالك .

وغسل اليدين ثلاثاً من باب النظافة كما مر معنا في أبي داود والنسائي في غسل السواك، وأن عائشة كانت تغسله من باب النظافة.

وغسل اليدين ثلاثاً قبل الوضوء سنة مستحبة في كل وضوء، لكن عند الاستيقاظ من نوم الليل يكون متعيناً وجوباً، وسواء مست أو لم تمس، لكن: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، يعني: قد يتعلق بها شيء، وقد يمس بها فرجه، وقد يمس بعض الحيوانات أو بعض الحشرات وبها دم، وقال بعضهم: إن هذا خاص بأهل الحجاز، لأن بلادهم حارة ولا يستجمرون، فقد يمس فرجه بيده.

والنهي الأصل فيه التحريم، لكن بعضهم حمله على الاستحباب، وهو الصواب.

قال المصنف رحمه الله: [ وفي الباب عن ابن عمر وجابر وعائشة .

قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح.

قال الشافعي : وأحب لكل من استيقظ من النوم قائلة كانت أو غيرها: ألا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها، فإن أدخل يده قبل أن يغسلها كرهت ذلك له، ولم يفسد ذلك الماء إذا لم يكن على يده نجاسة.

وقال أحمد بن حنبل : إذا استيقظ من النوم من الليل، فأدخل يده في وضوئه قبل أن بغسلها فأعجب إلي أن يهريق الماء.

وقال إسحاق : إذا استيقظ من النوم بالليل أو بالنهار، فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها].

والصواب: أنه لا يجب عليه إهراق الماء كما قال الشافعي، وإنما يأثم، إلا إذا كان في يده نجاسة، أما إذا لم يكن في يده نجاسة فإنه يأثم لمخالفته النهي، والماء بقا على طهورتيه، وغسل يديه في نوم النهار مستحب.

قال في الشرح: [ قول الشافعي ، قال ابن تيمية في المنتقى: فحمل الشافعي حديث الباب على الاستحباب، وهو قول الجمهور، وقال ابن تيمية

في المنتقى: وأكثر العلماء حملوا هذا -يعني: حديث الباب- على الاستحباب مثلما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه)، متفق عليه. انتهى.

قال الشوكاني في النيل: وإنما مثل المصنف محل النزاع بهذا الحديث؛ لأنه قد وقع الاتفاق على عدم وجوب الاستنثار عند الاستيقاظ، ولم يذهب إلى وجوبه أحد. انتهى.

وقال أحمد بن حنبل : إذا استيقظ من الليل فأدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها فأعجب إلي أن يهريق الماء، قال في المرقاة: ذهب الحسن البصري والإمام أحمد في إحدى الروايتين إلى الظاهر، وأوجبا الغسل، وحكما بنجاسة الماء؛ كذا نقله الطيبي .

قال الشمني : عن عروة بن الزبير وأحمد بن حنبل وداود أنه يجب على المستيقظ من نوم الليل غسل اليدين ].

وقال النووي في شرح مسلم تحت حديث الباب: فيه النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها، وهذا مجمع عليه؛ لكن الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس، وحكى أصحابنا عن الحسن البصري أنه ينجس إن كان قام من نوم الليل، وحكوه أيضاً عن إسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وهو ضعيف جداً، فإن الأصل في الماء واليد الطهارة، فلا ينجس بالشك، وقواعد الشرع متظاهرة على هذا.

قال: ثم مذهبنا ومذهب المحققين: أن هذا الحكم ليس مخصوصاً بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كُره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم، وهذا مذهب جمهور العلماء.

وحكي عن أحمد بن حنبل رواية: أنه إن قام من نوم الليل كره كراهة تحريم، وإن قام من نوم النهار كره كراهة تنزيه، ووافقه عليه داود الظاهري اعتماداً على لفظ المبيت في الحديث، وهذا مذهب ضعيف جداً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبه على العلة بقوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده)، ومعناه: أنه لا يأمن النجاسة على يده، وهذا عام لوجود احتمال النجاسة في نوم الليل والنهار وفي اليقظة، وذكر الليل أولاً لكونه الغالب، ولم يقتصر عليه خوفاً من توهم أنه مخصوص به، بل ذكر العلة بعده. انتهى كلام النووي .

وقال إسحاق : هو ابن راهوية : إذا استيقظ من النوم بالليل أو بالنهار فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها. فلم يخص إسحاق بن راهويه الحكم بالاستيقاظ من نوم الليل كما خصه به الإمام أحمد ].

والصواب: ما ذهب إليه الإمام أحمد وداود الظاهري : أن الأمر للوجوب والنهي للتحريم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يغمس يده في الإناء إذا استيقظ من نوم الليل، والجمهور على أنه مستحب، والصواب: أنه للوجوب؛ لأن هذا هو فالأصل، ولأن الأصل في الأوامر الوجوب، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]، والأصل في النواهي التحريم، إلا ما دل الدليل على صرف الأمر للوجوب وصرف النهي للتحريم؛ لكنه لا يكون مستعملاً، وإنما يأثم مادام أن يده ليست فيها نجاسة، لكنه خالف الأمر فيأثم.

قال في الشرح: [ قلت: القول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه إسحاق والله تعالى أعلم، وأما إذا أدخل يده في الإناء قبل غسلها فهل صار الماء نجساً أم لا؟ فالظاهر أن الماء صار مشكوكاً، فحكمه حكم الماء المشكوك، والله تعالى أعلم.

واعلم أن الجمهور اعتذروا عن حمل حديث الباب على الوجوب بأعذار لا يطمئن قلبي بواحد منها، فمن اطمأن بها قلبه فليقل بما قال به الجمهور ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: ما جاء في التسمية عند الوضوء.

حدثنا نصر بن علي الجهضمى وبشر بن معاذ العقدي قالا: حدثنا بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن حرملة عن أبي ثفال المري عن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب عن جدته عن أبيها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ].

قوله: [ عن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب عن جدته عن أبيها قالت: سمعت رسول الله ].

يعني: هي التي روت عن أبيها أنه قال، ولم ترو الحديث بنفسها.

وهذا الحديث ضعيف عند أهل العلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ولا يصح في التسمية حديث، لكن قد ساق الحافظ ابن كثير رحمه الله في سورة المائدة الآثار الكثيرة في هذا، وكلها ضعيفة، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وكذلك الحافظ ابن كثير : إنها يشد بعضها بعضاً، ويقوي بعضها بعضاً، فترتقي إلى درجة الحسن لغيره، فتفيد وجوب التسمية عند الوضوء، ولهذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن التسمية في الوضوء واجب مع الذكر، فإن نسي فلا حرج عليه.

وذهب الجمهور إلى أن التسمية مستحبة؛ لأن الأحاديث في هذا ضعيفة، فيستحب للإنسان أن يقول: باسم الله. أما هذا الحديث فهو ضعيف.

قال: [ قال: وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد وأنس .

قال أبو عيسى : قال أحمد بن حنبل : لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد.

وقال إسحاق : إن ترك التسمية عامداً أعاد الوضوء، وإن كان ناسياً أو متأولاً أجزأه ].

وهذا مذهب الإمام أحمد ، يعني: قول إسحاق، فيقول: إذا ترك الوضوء عامداً لم يصح الوضوء، وإن تركه ناسياً أو جاهلاً أو متأولاً أو مقلداً لمذهب من لم يقل بوجوبها فهو صحيح.

قال المصنف رحمه الله: [ محمد بن إسماعيل : أحسن شيء في هذا الباب، حديث رباح بن عبد الرحمن .

قال أبو عيسى : ورباح بن عبد الرحمن عن جدته عن أبيها، وأبوها: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.

و أبو ثفال المري اسمه: ثمامة بن حصين.

و رباح بن عبد الرحمن هو أبو بكر بن حويطب ، منهم من روى هذا الحديث فقال: عن أبي بكر بن حويطب فنسبه إلى جده ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا يزيد بن هارون عن يزيد بن عياض عن أبي ثفال المري عن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب عن جدته بنت سعيد بن زيد عن أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثله ].

قال في الشرح: [ قلت: أحاديث هذا الباب كثيرة يشد بعضها بعضاً، فمجموعها يدل على أن لها أصلاً.

قال الحافظ ابن حجر : والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً ].

وكذلك الحافظ ابن كثير ذكر مثل هذا.

قال: وقال أبو بكر بن أبي شيبة : ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

وقال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : لا يخلو هذا الباب من حسن صريح وصحيح غير صريح. انتهى.

وقال الحافظ المنذري في الترغيب: وفي الباب أحاديث كثيرة لا يسلم شيء منها عن مقال، وقد ذهب الحسن وإسحاق بن راهويه وأهل الظاهر إلى وجوب التسمية في الوضوء، حتى إنه إذا تعمد تركها أعاد الوضوء، وهو راوية عن الإمام أحمد ، ولا شك أن الأحاديث التي وردت فيها -وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال- تتعاضد بكثرة طرقها وتكتسب قوة. انتهى كلام المنذري .

وحديث الباب -أعني: حديث سعيد بن زيد - أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجة والبزار والدارقطني والعقيلي والحاكم وأُعل بالاختلاف والإرسال، وفي إسناده أبو ثفال عن رباح مجهولان، فالحديث ليس بصحيح، قاله أبو حاتم وأبو زرعة ، وقد أطال الكلام على حديث سعيد بن زيد الحافظ ابن حجر في التلخيص ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: ما جاء في المضمضة والاستنشاق.

حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا حماد بن زيد وجرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأت فانتثر، وإذا استجمرت فأوتر) ].

فيه ما يدل على الأمر بالانتثار، وهذا الحديث أخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد ، والإيتار والانتثار واجب، وكذلك الاستنشاق على الصحيح، فالمضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء وفي الغسل في أصح أقوال أهل العلم، وقيل: إنهما مستحبان. وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل. وقيل: إنما يجب الاستنشاق والانتثار ولا يجب المضمضة، والصواب: أنهما واجبان في الوضوء وفي الغسل، والإيتار في الاستجمار مستحب، إلا إذا أراد أن يكتفي بالحجارة دون الماء، فلابد أن يكون أقل الأحجار ثلاثة.

قال: [ وفي الباب عن عثمان ولقيط بن صبرة وابن عباس والمقدام بن معدي كرب ووائل بن حجر وأبي هريرة .

قال أبو عيسى : حديث سلمة بن قيس حديث حسن صحيح.

واختلف أهل العلم فيمن ترك المضمضة والاستنشاق، فقالت طائفة منهم: إذا تركهما في الوضوء حتى صلى أعاد الصلاة ].

وهذا هو الصواب، فيعيد الوضوء والصلاة.

قال المصنف رحمه الله: [ورأوا ذلك في الوضوء والجنابة سواء ].

وهذا هو الصواب: أنهما واجبان في الوضوء وفي الجنابة.

قال المصنف رحمه الله: [ وبه يقول ابن أبي ليلى وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق ، وقال أحمد: الاستنشاق أوكد من المضمضة.

قال أبو عيسى : وقالت طائفة من أهل العلم: يعيد في الجنابة، ولا يعيد في الوضوء، وهو قول سفيان الثوري وبعض أهل الكوفة ].

يعني: واجبان في غسل الجنابة، وليسا واجبين في الوضوء، وهذا القول الثاني.

قال المصنف رحمه الله: [ وقالت طائفة: لا يعيد في الوضوء ولا في الجنابة؛ لأنهما سنة من النبي صلى الله عليه وسلم ].

وهذا القول الثالث: ليسا واجبين لا في الوضوء ولا في الغسل.

قال المصنف رحمه الله: [ فلا تجب الإعادة على من تركهما في الوضوء ولا في الجنابة، وهو قول مالك والشافعي في آخره ].

والصواب: القول الأول: أنهما واجبان في الوضوء وفي الغسل، والأصل في الأوامر الوجوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فليجعل في أنفه ماء ولينتثر).

والمضمضة والاستنشاق مطلوبة إلا للصائم، فإنها مستحبة في حقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة : (وبالغ في الاستشاق إلا أن تكون صائماً).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: المضمضة والاستنشاق من كف واحد.

حدثنا يحيى بن موسى ، حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثاً) ].

وهذا هو الأفضل أن يتمضمض ويستنشق من كف واحد، وإن تمضمض بكف واستنشق بكف آخر فلا بأس، وهذا الحديث أخرجه الشيخان.

قال: [ قال أبو عيسى : وفي الباب عن عبد الله بن عباس .

قال أبو عيسى : وحديث عبد الله بن زيد حديث حسن غريب.

وقد روى مالك وابن عيينة وغير واحد هذا الحديث عن عمرو بن يحيى ، ولم يذكروا هذا الحرف: أن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد، وإنما ذكره خالد بن عبد الله ، وخالد بن عبد الله ثقة حافظ عند أهل الحديث ].

والمقصود: أن لفظة: (مضمض واستنشق من كف واحدة) ما رواها إلا خالد بن عبد الله

والمضمضة والاستنشاق ثلاث مرات، وكل مرة من كف واحدة، وهذا هو السنة، ورواه النسائي بلفظ: من كف واحدة.

قال في الشرح: [ قال: روى مالك وابن عيينة وغير واحد هذا الحديث عن عمرو بن يحيى ولم يذكروا هذا الحرف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد)، وإنما ذكره خالد بن عبد الله ، وخالد بن عبد الله ثقة حافظ عند أهل الحديث ].

وقال الترمذي في كتاب العلل: [ ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه ].

وهذا صحيح، لاسيما إذا كان الرواة الذين تفردوا في أول الإسناد كحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فقد تفرد فيه ثلاثة على نسق؛ يحيى بن سعيد تفرد عن إبراهيم بن يحيى التيمي ، وإبراهيم تفرد عن علقمة بن وقاص الليثي ، وعلقمة تفرد عن عمر بن الخطاب ، وهو مع ذلك من أصح الأحاديث، فلا يضر التفرد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال بعض أهل العلم: المضمضة والاستنشاق من كف واحد يجزئ، وقال بعضهم: تفريقهما أحب إلينا، وقال الشافعي : إن جمعهما في كف واحد فهو جائز، وإن فرقهما فهو أحب إلينا ].

والأمر في هذا واسع، والأفضل من كف واحدة، وهو الصواب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: في ما جاء في تخليل اللحية.

حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية عن حسان بن بلال قال: (رأيت عمار بن ياسر توضأ فخلل لحيته، فقيل له، أو قال: فقلت له: أتخلل لحيتك؟ قال: وما يمنعني؟ ولقد رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته) ].

هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارمي وأحمد وابن خزيمة .

والحديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف.

قال في الشرح: [ عبد الكريم بن أبي المخارق -بضم الميم وبالخاء المعجمة- المعلم البصري، نزيل مكة، واسم أبيه: قيس ، وقيل: طارق ، ضعيف ].

وأما حسان بن بلال فهو المزني البصري ، روى عن عمار بن ياسر وحكيم بن حزام ، وعنه أبو قلابة وأبو بشر وغيرهما، وثقه ابن المديني .

وعلى كل إذا كانت اللحية خفيفة ترى من وراء البشرة فيجب غسلها وإدخال الماء إلى البشرة، أما إذا كانت اللحية تستر البشرة، فإن الواجب غسل ظاهر الشعر، والتخليل مستحب وليس بواجب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن حسان بن بلال عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثله.

قال أبو عيسى : وفي الباب عن عثمان وعائشة وأم سلمة وأنس وابن أبي أوفى وأبي أيوب .

قال أبو عيسى : وسمعت إسحاق بن منصور يقول: قال أحمد بن حنبل : قال ابن عيينة : لم يسمع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل ].

الصحيح أن هذا الحديث منقطع، وهو ضعيف في نفسه أيضاً.

قال المصنف رحمه الله: [ وقال محمد بن إسماعيل : أصح شيء في هذا الباب حديث عامر بن شقيق عن أبي وائل عن عثمان .

قال أبو عيسى : وقال بهذا أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: رأوا تخليل اللحية، وبه يقول الشافعي .

وقال أحمد : إن سها عن تخليل اللحية فهو جائز.

وقال إسحاق : إن تركه ناسياً أو متأولاً أجزأه، وإن تركه عامداً أعاده.

حدثنا يحيى بن موسى ، حدثنا عبد الرزاق عن إسرائيل عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن عثمان بن عفان : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته).

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ].

قال في الشرح: [ قوله: هذا حديث صحيح، وقال الترمذي في علله الكبير: قال محمد بن إسماعيل -يعني: البخاري - أصح شيء عندي في التخليل حديث عثمان ، وهو حديث حسن. انتهى. ].

أما قول إسحاق، فقال في الشرح: [ أي: أعاد الوضوء، فعند إسحاق تخليل اللحية واجب في الوضوء، واستدل من قال بالوجوب ببعض أحاديث التخليل الذي وقع فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أمرني ربي).

وأجاب عنه من قال بالاستحباب: بأنه لا يصلح للاستدلال به على الوجوب، لما فيه من المقال، وقال الشوكاني في النيل: والإنصاف أن أحاديث الباب بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب؛ لأنها أفعال، وما ورد في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أمرني ربي) لا يفيد الوجوب على الأمة؛ لظهوره في الاختصاص به، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول، هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به أم لا؟ والفرائض لا تثبت إلا بيقين، والحكم على ما لم يفرضه الله بالفرضية كالحكم على ما فرضه بعدمها لا شك في ذلك؛ لأن كل واحد منهما من التقوّل على الله بما لم يقل، ولا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجدان مكابرة منه، نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته، لكن بدون مجاراة على الحكم بالوجوب. انتهى كلام الشوكاني .

وقد استدل من قال: بعدم الوجوب بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه توضأ فغسل وجهه، فأخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى.) الحديث رواه البخاري .

وإلى هذا الاستدلال أشار الشوكاني بقوله: ولا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي لغسل وجهه وتخليل لحيته.

وقد استدل ابن تيمية بحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا: على عدم وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة، فقال: وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم كان كث اللحية، وأن الغرفة الواحدة وإن عظمت لا تكفي غسل باطن اللحية الكثة مع غسل جميع الوجه، فعلم أنه لا يجب. انتهى ].

فالصواب: أنه لا يجب بل مستحب.

وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بالمد، وجاء أنه توضأ بثلثي المد، والمعلوم أن هذا لا يكفي في تخليل اللحية، وكان عليه الصلاة والسلام كث اللحية.