أرشيف المقالات

كيفية إنزال القرآن

مدة قراءة المادة : 40 دقائق .
كيفية إنزال القرآن
(بحث مستخرج من الإتقان للسيوطي والبرهان للزركشي مع زيادات)


تنزلات القرآن:
قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].
 
قد اختلف العلماء في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: (وهو الأصح الأشهر):
أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجَّمًا في عشرين سنة، وثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته بمكة بعد البعثة.
 
عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض؛ (أخرجه الحاكم).
 
في رواية عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ثم قرأ: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 33]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئًا، أحدَث الله لهم جوابًا.
 
وعن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم؛ (رواه الحاكم).
 
وعن ابن عباس أيضًا، قال: أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ونزله جبريل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم؛ (أخرجه الطبراني).
 
وعن ابن عباس أيضًا: دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة، فوضعه في بيت العزة، ثم جعل ينزله تنزيلًا؛ (أخرجه ابن أبي شيبة).
 
وعن محمد، عن ابن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس: أنه سأل عطية بن الأسود فقال: أوقَع في قلبي الشكَّ قولُه تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وهذا نزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرَّم، وصفر، وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم رَسَلًا في الشهور والأيام؛ (أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات).
 
قال أبو شامة: قوله: "رَسَلًا"؛ أي: رِفقًا، وعلى مواقع النجوم؛ أي: على مِثل مساقطها.
 
القول الثاني: أنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلةَ قدرٍ، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في جميع السنة.
 
وهذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي بحثًا، فقال: يحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثلها من اللوح إلى السماء الدنيا،ثم توقف، هل هذا أولى أو الأول؟!
 
قال ابن كثير: وهذا الذي جعله احتمالًا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان، وحكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
 
قال السيوطي: وممن قال بقول مقاتل: الحَليميُّ والماوردي، ويوافقه قول ابن شهاب: آخر القرآن عهدًا بالعرش آيةُ الدَّين.
 
القول الثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة من سائر الأوقات، وبه قال الشعبي.
 
قال ابن حجر في شرح البخاري:
والأول: هو الصحيح المعتمد...وقد حكى الماوردي قولًا رابعًا؛ أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجَّمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجَّمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة،وهذا أيضًا غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة.
 
وقال أبو شامة: كأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين الأول والثاني.
 
قال السيوطي: هذا الذي حكاه الماوردي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجَّمته السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.
 
أقوال العلماء في حكمة التنزيل:
قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء: تفخيم أمره، وأمر من نزل عليه؛ وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجَّمًا بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله بايَن بينه وبينها، فجعل له الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقًا؛ تشريفًا للمُنزَل عليه.
 
وقال الحكيم الترمذي: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا تسليمًا منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن بعثته كانت رحمة، فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حد الدنيا، ووضعت النبوة في قلب محمد، وجاء جبريل بالرسالة، ثم الوحي، كأنه أراد تعالى أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله إلى الأمة.
 
وقال السخاوي: في نزوله إلى السماء جملةً تكريم بني آدم، وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة أن تشيِّع سورة الأنعام، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السَّفرة الكرام، وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له.
 
قال: وفيه أيضًا التسوية بين نبينا وبين موسى عليه السلام في إنزاله كتابه جملةً، والتفضيل لمحمد في إنزاله عليه منجمًا ليحفظه.
 
قال أبو شامة: فإن قلت: فقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1] من جملة القرآن الذي نزل جملة أم لا؟ فإن لم يكن منه فما نزل جملة وإن كان منه، فما وجه صحة هذه العبارة؟ قلت: له وجهان:
أحدهما: أن يكون معنى الكلام: إنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضيناه وقدرناه في الأزل.
والثاني: أن لفظه لفظ الماضي، ومعناه الاستقبال؛ أي: ينزله جملة في ليلة القدر.
 
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد أخرج أحمد والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه)).
 
وفي رواية: ((وصحف إبراهيم لأول ليلة)).
 
قال: وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، ولقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، فيحتمل أن يكون ليلة القدر في تلك السنة كانت الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أولُ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: 1].
 
قال أبو شامة أيضًا: فإن قيل: ما السر في نزوله منجمًا؟ وهلا نزل كسائر الكتب جملة؟!
 
قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه؛ فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: 32]، يعنون: كما أنزل على مَن قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: أنزلناه كذلك مفرَّقًا؛ ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: لنقوي به قلبك؛ فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة، كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به، وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة؛ ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان؛ لكثرة لقائه جبريل.
 
وقيل: معنى ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي: لنحفظه؛ فإنه عليه السلام كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ففُرِّق عليه ليثبت عنده حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتبًا قارئًا، فيمكنه حفظ الجميع.
 
وإنما لم ينزل جملة واحدة؛ لأن منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أُنزل مفرَّقًا، ومنه ما هو جواب لسؤال، وما هو إنكار على قول قيل، أو فِعل فُعِل، وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: ونزله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم، وفسر به قوله: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ [الفرقان: 33]؛ (أخرجه ابن أبي حاتم).
 
قال السيوطي: وما تقدم في كلام هؤلاء من أن سائر الكتب أنزلت جملة،هو مشهور في كلام العلماء وعلى ألسنتهم،حتى كاد يكون إجماعًا، وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك وقال: إنه لا دليل عليه، بل الصواب أنها نزلت مفرَّقة كالقرآن.
 
وأقول: الصواب الأول، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان السابقة.
 
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم، لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى، فنزلت، وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ: "قال المشركون"، وأخرج نحوه عن قتادة والسدي.
 
فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو - على تقدير ثبوته - قول الكفار!
 
قلت: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته: دليل على صحته، ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة، لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة، كما أجاب بمثل ذلك قولَهم: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 7]، فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20]، وقولهم: ﴿ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94]، فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ﴾ [الأنبياء: 7]، وقولهم: كيف يكون رسولًا ولا همَّ له إلا النساء؟! فقال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38]، إلى غير ذلك.
 
ومن الأدلة على ذلك أيضًا: قوله تعالى في إنزال التوراة على موسى يوم الصعقة: ﴿ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ [الأعراف: 144، 145].
 
وقوله: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ﴾ [الأعراف: 150]، وقوله: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ [الأعراف: 154].
 
وقوله: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ [الأعراف: 171]، فهذه الآيات كلها دالَّة على إتيانه التوراة جملة.
 
وأخرج النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: أخذ موسى الألواح بعدما سكت عنه الغضبُ، فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف، فثقُلت عليهم، وأبَوْا أن يقروا بها، حتى نَتَقَ الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم، حتى خافوا أن يقع عليهم، فأقروا بها.
 
وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة، فكبُر عليهم، فأبَوْا أن يأخذوها حتى ظلَّل الله عليهم الجبل، فأخذوها عند ذلك.
 
فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة، ويؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرَّقًا؛ فإنه أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفِر من قبوله كثيرٌ من الناس؛ لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.
 
ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: "لا تشربوا الخمر"، لقالوا: لا ندَعُ الخمر أبدًا، ولو نزل: "لا تزنوا"، لقالوا: لا ندَعُ الزنا أبدًا.
 
قال السيوطي: والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآنَ كان ينزل بحسَب الحاجة، خمسَ آيات، وعشرًا، وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات من أول "المؤمنون" جملة، وصح نزول: ﴿ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾ [النساء: 95] وحدها، وهي بعض آية، وكذا قوله: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾ [التوبة: 28] إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أول الآية.
 
وقال بعض العلماء: كان القرآن ينزل مفرَّقًا، الآية والآيتين، والثلاث والأربع، وأكثر من ذلك.
 
وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشيِّ، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.
 
في كيفية الإنزال والوحي:
قال الأصفهاني في أوائل تفسيره: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزَّل، واختلفوا في معنى الإنزال؛ فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله تعالى ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وهو عالٍ من المكان، وعلمه قراءته، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان، وفي التنزيل طريقان، أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية، وأخذه من جبريل.
 
والثاني: أن الملَك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه، والأول أصعب الحالين.
 
وقال الطِّيبي: لعل نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقُّفًا روحانيًّا، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه.
 
والإنزال لغة بمعنى الإيواء، وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى أسفل، وكلاهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازي، فمن قال: القرآن معنى قائم بذات الله تعالى، فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى، ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال: القرآن هو الألفاظ، فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ، وهذا المعنى مناسب؛ لكونه منقولًا عن المعنيين اللغويين، ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا مناسب للمعنى الثاني، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفًا روحيًّا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ، وينزل بها فيلقيها عليهم.
 
وفي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اللفظ والمعنى، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به، والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب، وتمسَّك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]، والثالث: أن جبريل ألقى إليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك.
 
قال السيوطي: ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعًا من الله تعالى ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: ((إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا، وخروا سجدًا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، فكلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق،فينتهي به حيث أمر)).
 
وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة))، وأصل الحديث في الصحيح.
 
وقال جماعة من العلماء: نزل القرآن جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له: بيت العزة، فحفظه جبريل، وغُشي على أهل السموات من هيبة كلام الله، فمر بهم جبريل وقد أفاقوا، فقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق - يعني القرآن - وهو معنى قوله: ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ﴾ [سبأ: 23]، فأتى به جبريل إلى بيت العزة، فأملاه على السَّفرة الكتبة، يعني الملائكة، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 15، 16].
 
وقال الجويني: كلام الله المنزل قسمان: قسم قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا وكذا، وأمر بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول الملك: لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند تتفرق، وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة،وقسم آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابًا ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان؛ فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفًا.
 
قال السيوطي: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة.
 
كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن،ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداه بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى، والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه، والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه،وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه والتخفيف على الأمة، حيث جعل المنزل إليهم على قسمين:
قسم يروونه بلفظه الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف.
 
قال الزهري: الوحي ما يوحي الله إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله (وهو القرآن)، ومنه ما لا يتكلم به، ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدث به الناس حديثًا، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه (وهو السنة).
 
كيفيات الوحي:
الأولى:
أن يأتيه الملَك في مثل صلصلة الجرس، كما في الصحيح عن عبدالله بن عمر: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تحس بالوحي؟ فقال: ((أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض)).
 
قال الخطابي: والمراد أنه صوت متدارك يسمعه، ولا يبين له أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد.
وقيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي، فلا يبقي فيه مكانًا لغيره.
وفي الصحيح: أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه.
وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد وتهديد.
 
الثانية:
أن ينفُث في رُوعه الكلام نَفثًا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن رُوح القدس نفَث في رُوعي))؛ (أخرجه الحاكم).
 
الثالثة:
أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه؛ كما في الصحيح: ((وأحيانًا يتمثل لي الملَك رجلًا، فيكلمني، فأعي ما يقول))، زاد أبو عوانة في صحيحه: ((وهو أهونه علي)).
 
الرابعة:
أن يأتيه الملك في النوم، وعَدَّ مِن هذا قومٌ سورةَ الكوثر.
 
الخامسة:
أن يكلمه الله؛ إما في اليقظة، كما في ليلة الإسراء، أو في النوم، كما في حديث معاذ: ((أتاني ربي فقال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟!))؛ الحديث.
 
وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم، نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة وبعض سورة الضحى وألم نشرح.
 
أخرج ابن أبي حاتم من حديث عدي بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت: أيْ ربِّ، اتخذت إبراهيم خليلًا، وكلمت موسى تكليمًا، فقال: يا محمد، ألم أجدك يتيمًا فآويت، وضالًّا فهديت، وعائلًا فأغنيت، وشرحتُ لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أُذكَرُ إلا ذُكرتَ معي!)).
 
فائدة:
أخرج ابن سعد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يغط في رأسه، ويتربد وجهه؛ أي: يتغير لونه بالجريدة، ويجد بردًا في ثناياه، ويعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان.
 
الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها.

ورد حديث: ((نزل القرآن على سبعة أحرف)) من رواية جمع من الصحابة: أبي بن كعب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وابن عباس، وابن مسعود، وعبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبي بكرة، وأبي جهم، وأبي سعيد الخدري، وأبي طلحة الأنصاري، وأبي هريرة، وأبي أيوب.
 
فهؤلاء أحد وعشرون صحابيًّا، وقد نص أبو عبيد على تواتره.
 
وأخرج أبو يعلى في مسنده: أن عثمان قال على المنبر: أذكر الله رجلًا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ))، لما قام فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا بذلك، فقال: وأنا أشهد معهم.
 
اختلاف الأقوال في نزول القرآن على سبعة أحرف:
قد اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولًا، منها:
الأول: أنه من المشكِل الذي لا يدرى معناه؛ لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء، وعلى الكلمة، وعلى المعنى، وعلى الجهة.
 
الثاني: أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة، ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين.
 
وإلى هذا جنَح عياض ومن تبعه، ويرده ما في حديث ابن عباس في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف))، وفي حديث أُبَيٍّ عند مسلم: ((إن ربي أرسل إليَّ: أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هوِّن على أمتي، فأرسل إليَّ: أن اقرأ على حرفين، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فأرسل إليَّ أن اقرأه على سبعة أحرف)).
 
الثالث: أن المراد بها سبع قراءات، وتُعقِّب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، إلا القليل، مثل: ﴿ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾ [المائدة: 60]، و: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ [الإسراء: 23].
 
الرابع: أن المراد أن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، وأن في الكلمات ما قرئ على أكثر.
 
الخامس: أن المراد بها الأوجه التي يقع فيها التغاير، ذكره ابن قتيبة، قال: فأولها: ما يتغير حركته ولا يزول معناه، وصورته مثل: ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ ﴾ [البقرة: 282] بالفتح والرفع، وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل: "باعد" و"باعد" بلفظ الماضي والطلب، وثالثها: ما يتغير بالنقط مثل: "ننشزها" و"ننشرها"، ورابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل: "طلح منضود" و"طلع"، وخامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير، مثل: "وجاءت سكرة الموت بالحق" و"سكرة الحق بالموت"، وسادسها: ما يتغير بزيادة ونقصان، مثل: "وما خلق الذكر والأنثى" و"والذكر والأنثى"، وسابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى، مثل: "كالعهن المنفوش" و"كالصوف المنفوش"،وتعقب هذا قاسم بن ثابت بأن الرخصة وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها،وأجيب بأنه لا يلزم من ذلك توهين ما قاله ابن قتيبة؛ لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقًا، وإنما اطلع عليه بالاستقراء.
 
السادس: وقال أبو الفضل الرازي: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف، الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث.
 
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر.
الثالث: وجوه الإعراب.
الرابع: النقص والزيادة.
الخامس: التقديم والتأخير.
السادس: الإبدال.
السابع: اختلاف اللغات؛ كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإدغام والإظهار ونحو ذلك.
 
السابع: وقال بعضهم: المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق.
 
الثامن: قال ابن الجزري: قد تتبعت صحيح القراءة وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها، وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة، نحو: "بالبخل" بوجهين، أو متغير في المعنى فقط نحو: "فتلقى آدم من ربه كلمات"، وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة، نحو: "تبلو" و: "تتلو"، أو عكس ذلك نحو: "الصراط" و: "السراط"، أو بتغيرهما نحو: "وامضوا" "واسعوا"، وإما في التقديم والتأخير نحو: "فيقتلون ويقتلون" أو في الزيادة والنقصان نحو: "وصى" و"أوصى"، فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها، قال: وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام والروم والإشمام والتحقيق والتسهيل والنقل والإبدال فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ أو المعنى؛ لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا.
 
ومن أمثلة التقديم والتأخير قراءة الجمهور: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35]، وقرأ ابن مسعود: "على قلب كل متكبر".
 
التاسع: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل، وتعالَ، وهلمَّ، وعجِّل، وأسرع، وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة، وابن جرير، وابن وهب، وخلائق،ونسبه ابن عبدالبر لأكثر العلماء.
 
قال الطحاوي: وإنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد؛ لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ، ثم نسخ بزوال العذر، وتيسر الكتابة والحفظ.
 
العاشر: أن المراد سبع لغات، وإلى هذا ذهب أبو عبيد وثعلب والأزهري وآخرون، واختاره ابن عطية، وصححه البيهقي في الشعب،وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات، منها: خمس بلغة العجز من هوازن، قال: والعجز: سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن، ويقال لهم: عليا هوازن؛ ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم - يعني بني دارم.
 
وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبيين: كعب قريش، وكعب خزاعة، قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة - يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم.
 
وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر، واستنكر ذلك ابن قتيبة، وقال: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش، واحتج بقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [إبراهيم: 4]، فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش، وبذلك جزم أبو علي الأهوازي.
 
وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع مفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وغيرهم، قال: وبعض اللغات أسعد بها من بعض، وأكثر نصيبًا.
 
وقيل: نزل بلغة مضر خاصة؛ لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر،وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبدالبر السبع من مضر أنهم: هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش، فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات.
 
ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعرا،ب ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد.
 
الحادي عشر: أن المراد سبعة أصناف، والأحاديث السابقة ترده، والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة،فقيل: أمر ونهي وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، واحتجوا بما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال...))؛ الحديث.
 
وقد أجاب عنه قوم بأنه ليس المراد بالأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى؛ لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهره في أن المراد أن الكلمة تقرأ على وجهين وثلاثة إلى سبعة؛ تيسيرًا وتهوينًا، والشيء الواحد لا يكون حلالًا وحرامًا في آية واحدة.
 
قال البيهقي: المراد بالسبعة الأحرف هنا الأنواع التي نزل عليها، والمراد بها في تلك الأحاديث اللغات التي يقرأ بها.
 
وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف؛ أي: هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه؛ أي: أنزله الله على هذه الأصناف، لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب.
 
الثاني عشر: وقيل: المراد بها المطلق والمقيد، والعام والخاص، والنص والمؤول، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والاستثناء وأقسامه، حكاه شيذلة عن الفقهاء، وهذا هو القول الثاني عشر.
 
الثالث عشر: وقيل: المراد بها الحذف والصلة، والتقديم والتأخير، والاستعارة والتكرار، والكناية والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر، والظاهر والغريب، حكاه عن أهل اللغة، وهذا هو القول الثالث عشر.
 
الرابع عشر: وقيل: المراد بها التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والتصريف والإعراب، والأقسام وجوابها، والجمع والإفراد، والتصغير والتعظيم، واختلاف الأدوات، حكاه عن النحاة، وهذا هو الرابع عشر.
 
الخامس عشر: وقيل: المراد بها سبعة أنواع من المعاملات: الزهد والقناعة مع اليقين والجزم، والخدمة مع الحياء والكرم، والفتوة مع الفقر، والمجاهدة والمراقبة مع الخوف والرجاء والتضرع، والاستغفار مع الرضا، والشكر والصبر مع المحاسبة، والمحبة والشوق مع المشاهدة.
 
السادس عشر: أن المراد بها سبعة علوم: علم الإنشاء والإيجاد وعلم التوحيد والتنزيه وعلم صفات الذات وعلم صفات الفعل وعلم العفو والعذاب وعلم الحشر والحساب وعلم النبوات.
 
وقال ابن حبان: اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا.
الأول: هي زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال.
الثاني: حلال وحرام وأمر ونهي وزجر وخبر ما هو كائن بعد وأمثال.
الثالث: وعد ووعيد وحلال وحرام ومواعظ وأمثال واحتجاج.
الرابع: أمر ونهي وبشارة ونذارة وأخبار وأمثال.
الخامس: محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص.
السادس: أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل.
السابع: أمر ونهي وحد وعلم وسر وظهر وبطن.
الثامن: ناسخ ومنسوخ ووعد ووعيد ورغم وتأديب وإنذار.
التاسع: حلال وحرام وافتتاح وأخبار وفضائل وعقوبات.
العاشر: أوامر وزواجر وأمثال وأنباء وعتب ووعظ وقصص.
الحادي عشر: حلال وحرام وأمثال ومنصوص وقصص وإباحات.
الثاني عشر: ظهر وبطن وفرض وندب وخصوص وعموم وأمثال.
لثالث عشر: أمر ونهي ووعد ووعيد وإباحة وإرشاد واعتبار.
الرابع عشر: مقدم ومؤخر وفرائض وحدود ومواعظ ومتشابه وأمثال.
الخامس عشر: مفسر ومجمل ومقضي وندب وحتم وأمثال.
السادس عشر: أمر حتم وأمر ندب ونهي حتم ونهي ندب وأخبار وإباحات.
السابع عشر: أمر فرض ونهي حتم وأمر ندب ونهي مرشد ووعد ووعيد وقصص.
الثامن عشر: سبع جهات لا يتعداها الكلام، لفظ خاص أريد به الخاص، ولفظ عام أريد به العام، ولفظ عام أريد به الخاص، ولفظ خاص أريد به العام، ولفظ يستغنى بتنزيله عن تأويله، ولفظ لا يعلم فقهه إلا العلماء، ولفظ لا يعلم معناه إلا الراسخون.
التاسع عشر: إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد لله ومجانبة الإشراك والترغيب في الثواب والترهيب من العقاب.
العشرون: سبع لغات، منها خمس من هوازن، واثنتان لسائر العرب.
الحادي والعشرون: سبع لغات متفرقة لجميع العرب، كل حرف منها لقبيلة مشهورة.
الثاني والعشرون: سبع لغات، أربع لعجز هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية، وثلاث لقريش.
الثالث والعشرون: سبع لغات، لغة قريش ولغة لليمن ولغة لجرهم ولغة لهوازن ولغة لقضاعة ولغة لتميم ولغة لطيئ.
الرابع والعشرون: لغة الكعبيين: كعب بن عمرو، وكعب بن لؤي، ولهما سبع لغات.
الخامس والعشرون: اللغات المختلفة لأحياء العرب في معنى واحد، مثل: هلم وهات وتعال وأقبل.
السادس والعشرون: سبع قراءات لسبعة من الصحابة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم.
السابع والعشرون: همز وإمالة، وفتح وكسر، وتفخيم ومد وقصر.
الثامن والعشرون: تصريف ومصادر وعروض وغريب وسجع ولغات مختلفة كلها في شيء واحد.
التاسع والعشرون: كلمة واحدة تعرب بسبعة أوجه حتى يكون المعنى واحدًا، وإن اختلف اللفظ فيه.
الثلاثون: أمهات الهجاء الألف والباء والجيم والدال والراء والسين والعين؛ لأن عليها تدور جوامع كلام العرب.
الحادي والثلاثون: أنها في أسماء الرب، مثل: الغفور الرحيم السميع البصير العليم الحكيم.
الثاني والثلاثون: هي آية في صفات الذات، آية تفسيرها في آية أخرى، وآية بيانها في السنة الصحيحة، وآية في قصة الأنبياء والرسل، وآية في خلق الأشياء، وآية في وصف الجنة، وآية في وصف النار.
الثالث والثلاثون: آية في وصف الصانع، وآية في إثبات الوحدانية له، وآية في إثبات صفاته، وآية في إثبات رسله، وآية في إثبات كتبه، وآية في إثبات الإسلام، وآية في نفي الكفر.
الرابع والثلاثون: سبع جهات من صفات الذات لله التي لا يقع عليها التكييف.
الخامس والثلاثون: الإيمان بالله، ومباينة الشرك، وإثبات الأوامر، ومجانبة الزواجر، والثبات على الإيمان، وتحريم ما حرم الله، وطاعة رسوله.
 
قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولًا لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضًا، وكلها محتملة، وتحتمل غيرها.
 
وقال بعض العلماء: هذه الوجوه أكثرها متداخلة، ولا أدري مستندها، ولا عمن نقلت، ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر، مع أن كلها موجودة في القرآن، فلا أدري معنى التخصيص! وفيها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة، وأكثرها يعارضه حديث عمر مع هشام بن حكيم الذي في الصحيح، فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه، إنما اختلفا في قراءة حروفه، وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبعة، وهو غير صحيح.
 
المصحف العثماني:
اختلف: هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة؟ فذهب جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى ذلك، وبنوا عليه أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء منها، وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك.
 
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أنها مشتملة على ما يحتمل رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفًا منها.
 
قال ابن الجزري: وهذا هو الذي يظهر صوابه.
 
ويجاب عن الأول بما ذكره ابن جرير أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزًا لهم ومرخصًا لهم فيه، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجتمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك اجتماعًا شائعًا، وهم معصومون من الضلالة، ولم يكن في ذلك ترك واجب، ولا فعل حرام، ولا شك أن القرآن نسخ منه في العرضة الأخيرة وغير، فاتفق الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك.
 
عن عَبيدة السلماني قال: القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قُبض فيه هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم.
 
وعن ابن سيرين قال: كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين، فيرون أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة.
 
وقال البغوي في شرح السنة: يقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي، وكتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وكان يقرئ الناس بها حتى مات؛ ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتب المصاحف.
 
والله الموفق للصواب

شارك الخبر


Warning: Undefined array key "codAds" in /home/islamarchive/public_html/templates_c/24203bf677d3c29484b08d86c97a829db7a16886_0.file.footer.tpl.php on line 33

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchive/public_html/templates_c/24203bf677d3c29484b08d86c97a829db7a16886_0.file.footer.tpl.php on line 33
روائع الشيخ عبدالكريم خضير