خطب ومحاضرات
أولادنا في رمضان
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
في هذه الليلة، ليلة السبت، السابع من شهر رمضان لعام 1411هـ، نقف وقفة عنوانها: (أولادنا في رمضان).
أيها الأحبة: يقول الله عز وجل: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً [مريم:2-6].
وكانت أعظم بشارة أن يقول الله عز وجل: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً [مريم:7].
فإن من نعمة الله تعالى على العبد أن يوفقه ويرزقه الذرية، وكم من إنسانٍ حرم من هذه النعمة، فكلما رأى صبياً صغيراً، تقطع قلبه حسرات، يتمنى ضحكةً أو صرخة أو قبلةً من طفله الصغير، لكن أراد الله تعالى بحكمته وعلمه ألا يكون ذلك، فنعمة الأولاد هي من أَجَلَّ النعم، التي لا يعلمها إلا من جرب مرارة فقدها وحزن عدمها، فلذلك امتن الله تبارك وتعالى على رسله بأن جعل لهم أزواجاً وذرية، كما قال الله تعالى في محكم كتابه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
الولد الصالح
الولد الفاسد
ففساد الولد شقاءٌ على والديه الصالحين في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله عز وجل في سورة الكهف، قال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81].
إذاً الولد نعمة، لكن إن كان الولد صالحاً فهي نعمةٌ عظيمة وخيرٌ جسيم، أما إن فسد الولد وضل وانحرف، ففقده خيرٌ من وجوده، وموته خيرٌ من حياته، وهو في بطن الأرض خيرٌ له أن يكون فوق ظهرها، ولهذا قال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81] وسخر وقَيَّضَ الله تعالى الخضرَ العبد الصالحَ فقتله، وجد غلاماً فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74] فقال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80].
إذاً موته خيرٌ من بقائه لوالديه في دينهما ودنياهما، فأما في دينهما: فقد يفتتنان به، وقد يقصران في طاعة الله بسببه، وقد يرتكبان المعصية من أجله وأما في دنياهما: فإن الولد الفاسد شقاءٌ على والده، ذلٌ بالنهار، وسهرٌ في الليل، وضيقٌ في الرزق، وضيقٌ في الصدر، وتعاسة لا يعلمها إلا الله، فالولد نعمة، لكنه نعمةٌ إن كان ولداً صالحاً، أما إن كان فاسداً شقياً، فهو وبالٌ ودمارٌ وبوارٌ على والديه في الدنيا وفي دار القرار.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له} فالولد الصالح هو خيرُ تراثٍ وخير ميراثٍ يخلفه الأب من بعد وفاته، يبقى ذكرى حسنة لأبيه، ودعاءً صالحاً، وخيراً دارّاً على والده حتى وهو في قبره، فإن آباء الأولاد الصالحين، هم أهل الخيرات التي لا تنقطع وإن كانوا موسدين، صرعى في قبورهم، إلا أن الله تعالى يدر عليهم الرزق في الدار الآخرة ببركة أولادهم الصالحين، يدعون لهم، ويتصدقون عنهم، ويذكرونهم بالذكر الحسن، ويعملون لهم ما استطاعوا أن يعملوه.
الولد الفاسد، فإنه بوارٌ على والده، وشقاءٌ عليه، وشنارٌ في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله عز وجل: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف:17-18].
ففساد الولد شقاءٌ على والديه الصالحين في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله عز وجل في سورة الكهف، قال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81].
إذاً الولد نعمة، لكن إن كان الولد صالحاً فهي نعمةٌ عظيمة وخيرٌ جسيم، أما إن فسد الولد وضل وانحرف، ففقده خيرٌ من وجوده، وموته خيرٌ من حياته، وهو في بطن الأرض خيرٌ له أن يكون فوق ظهرها، ولهذا قال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81] وسخر وقَيَّضَ الله تعالى الخضرَ العبد الصالحَ فقتله، وجد غلاماً فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74] فقال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80].
إذاً موته خيرٌ من بقائه لوالديه في دينهما ودنياهما، فأما في دينهما: فقد يفتتنان به، وقد يقصران في طاعة الله بسببه، وقد يرتكبان المعصية من أجله وأما في دنياهما: فإن الولد الفاسد شقاءٌ على والده، ذلٌ بالنهار، وسهرٌ في الليل، وضيقٌ في الرزق، وضيقٌ في الصدر، وتعاسة لا يعلمها إلا الله، فالولد نعمة، لكنه نعمةٌ إن كان ولداً صالحاً، أما إن كان فاسداً شقياً، فهو وبالٌ ودمارٌ وبوارٌ على والديه في الدنيا وفي دار القرار.
صلاح الولد نعمة، كما أن صلاح الوالد -أيضاً- نعمة للولد، فإن من رحمة الله تعالى بالولد أن يوفقه أن ينشأ في بيئةٍ صالحة، وتحت رعاية أبوين صالحين، ولهذا قال الله عز وجل -أيضاً- في سورة الكهف: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82].
فرحم الله تعالى هذين الغلامين اليتيمين ببركة صلاح أبيهما! وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82].
فصلاح الآباء رحمةٌ بالأولاد، وصلاح الأولاد رحمةٌ بالآباء، فكم هي نعمة عظيمة أن يوفق الله تعالى الشاب إلى بيتٍ صالح، وإلى أبٍ مهتدٍ مستقيم، يعينه على الخير ويأمره به، وينهاه عن الشر ويحذره منه ويمنعه عنه، وكم هو شقاءٌ للولد أن يكون في بيئةٍ فاسدة، إذا رأت منه صلاحاً، أو تردداً على المسجد، أو اقتناءً للكتب المفيدة، أو سماعاً للأشرطة النافعة، أو صحبة الأخيار الطيبين؛ منعوه من ذلك وحذروه، وقالوا له: نخشى عليك كذا وكذا، وبدءوا يوسوسون له كما يوسوس الشيطان الرجيم..!
أيها الأحبة: لقد غرس الله تعالى في قلوب الآباء الرحمة بالأبناء، حتى إن الولد ريحانة لأبيه، وقد جاء في الحديث { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يوماً يوم من الأيام يخطب على المنبر، فجاء
ولما جاء صلى الله عليه وسلم إلى ولده إبراهيم، حمله وشمه وقبَّله -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم- ولما رآه يجود بنفسه بكى، ودمعت عيناه، وقال: {هذه رحمة وضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}.
مات لـابن الرومي ولد، كان اسمه محمداً، فرثاه بقصيدةٍ من عيون الشعر، لا زال التاريخ يرددها، يقول مخاطباً عينيه:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي |
محمدٌ! ما شيء تُوُهِّم سلوه لقلبي إلا زاد قلبي من الوجدِ |
أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزندِ |
وأولادنا مثل الجوارح أيها فقد ناه كان الفاجع البين الفقدِ |
لكلٍ مكانٌ لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلد |
يقول: الأولاد ولو كانوا مائة مثل الجوارح، لا تغني اليد عن الأخرى، اليمنى عن اليسرى، ولا يدٌ عن رجل، ولا رجل عن يد، ولا عينٌ عن أذن، لا يغني سمعٌ عن بصر، ولا بصر عن سمع، فالجوارح لا يغني بعضها عن بعض، وكذلك الأولاد، مهما كثروا، لكل واحد منهم مكانٌ في القلب، لا يسد فقده مكان أخيه.
وآخر جلس في بيته وقد ضاقت عليه أبواب الرزق وحجبت دونه، فكان يتمنى أن يذهب في أرض الله الواسعة، ويكتسب من الرزق ما يكتسبُ غيره، ولكن يمنعه من ذلك أولاده الصغار من بنين وبنات، الذين يحدب عليهم ويحن إليهم، فلا يستطيع فراقهم، فيقول:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرضِ |
لو هَبَّتِ الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمضِ |
لولا بنياتٌ كزغب القطا ردَّدن من بعضٍ إلى بعضِ |
لكان لي مضطربٌ واسعٌ في الأرض ذات الطول والعرضِ |
فالأولاد نعمةٌ وأية نعمة، ومن رزق نعمة أن يشم أولاده الصغار ويضمهم، ويضعهم في حجره ويحن عليهم، ويضاحكهم ويلاعبهم؛ فإنه يجد في هذه الدنيا نعمةً تمهد لنعمة الدار الآخرة التي وعد الله تعالى بها المؤمنين، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
فإذا كان الأب في منـزلة في الجنة، وولده دونه، فإن الله تعالى بسابغ كرمه وجوده يلحق الأبناء بالآباء تكريماً للآباء وتتميماً لنعيمهم وسرورهم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
أيها الأحبة: دون شك نحن نعتني بأولادنا في طعامهم وشرابهم وكسائهم وراحتهم، فالولد نحرص على أن نكسوه أجمل الثياب، ونطعمه أحسن الطعام، ونسقيه ألذ الشراب، وإن احتاج إلى سيارةٍ قدمناها له، ولو كان فيها عطبه وضلاله وضياعه وارتباطه بقرناء السوء، وإن احتاج إلى الطبيب سارعنا إليه ولو في ساعةٍ متأخرة من الليل، ونحن لا نلامُ في ذلك إذا كان في حدود الاعتدال والمصلحة للولد في دنياه وآخرته، اللهم إلا السيارة فلا؛ إلا أن يكون أهلاً لها ممن عقل وشب عن الطوق، وتجاوز فترة المراهقة، أما ما سوى ذلك مما يحتاجه الابن من والده، فهو حق لابد منه.
لكن أرأيت كيف نهمل الجوانب التربوية لأولادنا؟ وكيف نقصر في إعدادهم الإعداد الصحيح؟ ورعايتهم الرعاية الشرعية وبنائهم!!
هل من ميزة الابن والولد وكماله بأن يكون يمتلك سيارة، أو ثياباً جميلة، أو غترةً مكوية، أو أن يكون صحيح الجسم، مكتمل القوة، شديد البنية..؟! أبداً..!
مهما كانت قوة الولد فلن يكون أقوى من الفيل! ومهما كان جماله، فلن يكون أجمل من الطاوس! فليست قوة الإنسان ولا جماله بالذي يمدح به، وربما يكون في الحيوان من هذه الأمور ما يفوق الإنسان! إنما كرامة الإنسان بما وهبه الله تعالى وميزه به من الإنسانية، وتخصيصه بالدين الذي يتميز به الإنسان، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
أية قيمة للإنسان الآكل، الطاعم، الشارب، المكتسي، المتمتع، إذا كان يتقلب على مثل حسك السعدان من الهم والغم والانـزعاج؟! وأية قيمة للولد الطويل العريض إذا كان ضحية المخدرات؟! وأي نفعٍ بابنك الغني المترف إذا كان يشقيك صباحَ مساءَ؟!
إن قيمة الإنسان هي في عقله وقلبه، وروحه ولبه، ودينه وورعه وتقواه! ألم تسمع ما قال الله تعالى في ذلك الذي يستغيث منه والداه: وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأحقاف:17] عجزوا عنه، فآخر شيء بالتهديد: ويلك.
أيها الإخوة: يذكر عددٌ من المصنفين في العقوق والبر قصة ذلك الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، ويشتكي ولده على رب العالمين، ولدٌ رباه، وتعب في تربيته، وسهر عليه الليل، وتعب النهار، وجاء له بالرزق من كل مكان، لكن مع ذلك في النهاية كانت العاقبة هي العقوق، فكان يقول واسم ولده "منازل":
جزت رحمٌ بيني وبين منازل جزاءً كما يستنـزل الدين طالبهُ |
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القومِ واستغنى عن المسح شاربهُ |
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبهُ |
أإن رعشت كفا أبيك، وأصبحت يداك يدى ليثٍ فإنك ضاربه |
أصبح شيخاً هرماً ترتعش يداه من الكبر، فيجره ولده بقوة، ولا يرقب فيه إلاً ولا ذمة...! فيقول: إلى هذا الحد تعتدي على والدك...؟!
ولهذا فإن من العقل كل العقل، والحكمة كل الحكمة، أن تكون عناية الأبوين بتربية الأولاد ورعايتهما الرعاية الشرعية الدينية أعظم بمراحل من رعايتهم رعايةً جسمية -صحيةً أو بدنيةً- أو إعطائهم ما يحتاجون إليه من الأكل والشرب والثياب وغيرها.
وفي هذا الصدد لا يفوت أحدٌ أن يُشيد بفضل الله تعالى على هذه الأمة المحمدية، فقد أخرج لها في هذه الظلمات التي تعيشها: جيل الصحوة من الشباب المؤمن المتدين، ذكوراً وإناثاً، فأصبح كل إنسان يحمد الله تعالى كل الحمد على هذه الأعداد الهائلة من الشباب التي ترتاد حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ولو تصورت بلداً واحداً كهذا البلد، في بريدة ما يزيد على مائة وأربعين حلقة لتحفيظ القرآن الكريم! قد يكونُ في الحلقة الواحدة مئات من الطلاب، ما بين طلاب الثانوي والمتوسط والجامعة، والأساتذة أيضاً من الخريجين وغيرهم! كلهم يعكفون على حفظ كتاب الله تعالى من صلاة العصر إلى المغرب، وربما كان في وقتٍ ليس بالبعيد كان الإنسان -حتى من الصالحين- يثقل عليه أن يجلس في المسجد من صلاة العصر إلى المغرب، وأي إنسان يستطيع أن يتجاهل هؤلاء الشباب القيادات التي أصبحت تؤم في جميع المساجد؟ خاصةً في هذا الشهر الكريم، إن لم نقل في كل المساجد ففي جلها! شباب ربما يكونُ أحدهم في سن الخامسة عشر أو السادسة عشرة، يؤم المصلين حفظاً عن ظهر قلب في صلاة التراويح والقيامِ وغيرها، من يستطيع أن يتجاهل أولئك الشباب الذين عمّروا حلق العلم؟ وبالأمس كانت حلقة المشايخ يكون فيها عشرة أو اثنا عشر من الطلبة، أما اليوم فتأتي إلى الحلقة فتجد فيها مئات من طلبة العلم من هذه النبتات الطيبة الطاهرة التي سقيت -بحمد الله- بسقي التوحيد والإيمان؛ فأينعت وأثمرت خير ثمار!
من يستطيع أن يتجاهل هذه الجموع الغفيرة من الشباب التي تؤم المساجد للصلاة في رمضان وفي غيره، حتى أصبح كثيرٌ ممن يرتادون المساجد لصلاة التراويح والقيام هم من الشباب، ذكوراً وإناثاً.
من يستطيع أن يتجاهل تلك الدماء التي زينت أرض أفغانستان؟ إنها دماء شبابٍ أطهارٍ، أبرارٍ، أتقياء من هذه البلاد ومن غيرها، رضيت بالآخرة عن الحياة الدنيا، باعت الدنيا واشترت الآخرة، ورضوا بما عند الله، فزهدوا في الدنيا، فتركوا فرش الحرير، والديباج، والنعيم، وأطايب الطعام والشراب، وذهبوا إلى هناك حيثُ الجوع، والعطش، والخوف، والتعب، يتسلقون على رؤوس الجبال، وقد صم آذانهم أزيز الطائرات، ومع ذلك كله فإنهم واثقون بالله تعالى، يتطلع أحدهم إلى الموت كما يتطلع أحدنا إلى الحياة، ولسان حاله يقول:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل مُنعطفِ |
وما أبالي به حتى أُحاذرَهُ فخشية الموت عندي أبرد الطرف |
ولا أحد -أيضاً- يستطيع أن يتجاهل -فضلاً عن هؤلاء وأولئك- جماهير غفيرة من شبابنا في المدارس والجامعات والمؤسساتِ المختلفة، ممن هم مهتدون مستقيمون بحمد الله، من رواد المساجد المحافظين على دينهم وعرضهم ومالهم، البعيدين عما حرم الله عز وجل، وهم بحمد الله كثرةٌ كاثرة! لا يحتاج الأمر الإطالة بذكرها.
وكذلك الحال بالنسبة لفتياتنا، فإنا نحمد الله تعالى كل الحمدِ، على أننا نجد أنه في هذا الوقت الذي هيمن فيه الظلام على كثيرٍ من بقاع العالم الإسلامي، إلا أن الصحوة قد أينعت خير إيناع، فلا تكاد تجد مدرسةً أو معهداً أو جامعةً للبنات إلا وتجد فيها حلق الذكر، يجتمع فيها صفوة المدرسة: من الطالبات، والمدرسات، والمعلمات، ويتدارسن كتاب الله تعالى ويقرأنه، ويتدارسن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتواصين بالحق، ويتواصين بالصبر، حتى أصبح هذا الأمر -بحمد الله تعالى- أمراً عادياً مألوفاً لا يستغربه أحد، وحتى أصبحت تجد في كثيرٍ من المدارس أن كل الطالبات هن ممن ينتسبن إلى هذه الحلقات العلمية.
ومن يستطيع أن يتجاهل الحجاب الشرعي الذي أصبح موجوداً في كل مكان؟ تشاهده في المسجد وفي الشارع، وفي البيوت، وفي كل مكان؟ وأصبح كثيرٌ من الفتيات المؤمنات لا تكتفي فقط بحجاب وجهها وسائر جسدها، بل تضيف إلى ذلك أن تحجب كفيها وأن تحجب قدميها بالجوارب وغيرها، حتى إنه لا يرى منه موضع ظفر...
فأية نعمةٍ أعظم من هذه النعمة؟!
نعم الإله على العباد كثيرةٌ وأجلهن هداية الأولادِ |
هذا من فيض الله، من فضل الله، من جود الله، من نعمة الله، من كرم الله عز وجل، وليس بكد أيدينا ولا بفعلنا، ومهما فعل الإنسان من الأسباب فهي قاصرة، ولكن الله تعالى بمنه وكرمه وجوده قد أراد بهذه الأمة خيراً حين هدى شبابها وفتياتها إلى الطريق المستقيم، ولا أحد يتجاهل أعداداً كبيرة من فتياتنا من قاصرات الطرف المقصورات في بيوتهن، فهنَّ قاصرات الطرف عما حرم الله، لا ينظرن إلى حرام، وهن مقصورات في بيوتهن لا يخرجن إلا لما لابد من الخروج إليه، هذا كله مما لا يختلف عليه اثنان، ولا يجهله منا إنسان.
لكن الأمر الذي أود أن أشير إليه، هو أن هناك بعض الظواهر السلبية، خاصةً في هذا الشهر الكريم، مما تحتاج منا إلى تأكيدٍ وبيان:
تضييع الأوقات بافتراش الأرصفة
إنها ظاهرة تستحق العلاج، وإن مما يستحق الإشادة أن يقوم مجموعات من شبابنا الصالحين وبتوجيهٍ من مشايخهم وعلمائهم بجولات موفقة على تجمعات هؤلاء الشباب، وجلسات طيبة مباركة معهم، وتوجيهٍ صالح، وهديةٍ مفيدة، لعل الله تعالى أن ينفع بها بعض أولئك الشباب، وأن يحيي بها قلوبهم.. وهي على كل حال ظاهرةٌ سلبية تستحق المعالجة.
استئجار الأحواش
والوقت أعظم ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيعُ |
وهذه قضية تتطلب تكافؤ الجهود، فأنا لا يمكن أن أؤجر -مثلاً- حوشاً أو مزرعة لشاب إلا وأنا أعرف كيف سيستخدمه، فإن كان ممن سيستخدمونه في خيرٍ وبر فحبذا حتى لو كان بالمجان، أما إن كنت أخشى أن يعصى الله تعالى فيه، فإنه ليس جائزاً أن أكون من المتعاونين على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
كما أن الواحد من أولئك الشباب بحاجة إلى أن ينصح زملاءه وإخوانه، ينصحهم بأن يستغلوا وقتهم بما يعود عليهم في الفائدة، ويحاول أن يدعو إليهم بعض الصالحين، ويسهل عملية الاتصال، والزيارة، والجلسة ولو كانت جلسة قصيرةً، فإن كلمةً واحدة ربما يفتح الله تعالى بها قلباً ويبصر عيناً، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل:77] وقال: يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17].
في العمرة
ومن الشباب من يرتكبون ما حرم الله تعالى في أطهر بقعة!!
ففي المسجد الحرام تجد المضايقات، وتجد الغمز واللمز، وتجدُ الاقتراب من النساء، وتجد إيذاء المؤمنات ومضايقتهن في أنفسهن!! وهذا -أيضاً- مما يسخط الله عز وجل، قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
فاحذر -يا أخي الحبيب- أن تكون ممن أراد بهذا المسجد الحرام إلحاداً فأذاقه الله تعالى من عذابٍ أليم، في نفسك، أو في أهلك، أو في مالك، أو في ولدك...
بعض الآباء والأمهات يسافرون للعمرة، ويتركون أولادهم هنا، دون أن يكون عليهم قيّم، ولا رقيب، ولا حسيب، فيبقى الأولاد في البيت لوحدهم، لسببٍ أو لآخر، وهنا قد يأتيهم قرناء السوء، وقد يتسلل إليهم الشيطان، أو أعوانه من شياطين الإنس، فيزينون لهم الباطل، ويدعونهم إلى الفساد والرذيلة، وفي غيبة الأبوين قد يحدث مالا تحمد عقباه.
أفيسوغ لك -يا أخي الكريم-: أن تذهب إلى نافلة، وتترك فريضة؟
أو يذهب الآباء بأولادهم -ذكوراً وإناثاً- إلى مكة، ويكون الأب عابداً زاهداً قائماً مصلياً راكعاً ساجداً في المسجد الحرام، حتى إن منهم من يجلس في المسجد حتى تطلع الشمس، وربما يكون أولاده وبناته يتسكعون في الشوارع ويتعرضون للمارة!! وربما قبض على بعض الأولاد من قبل الأجهزة المختصة، وأبوهم جالسٌ في المسجد الحرام يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس!! وكم رأينا ممن يتجولن في الشوارع لغير غرض إلا للنظر إلى الغادين والرائحين!! وربما تجدُ رسالة صدرت من بعض الفتيات أو تجد تعرضاً لبعض الشباب!! وإن كانت حالات قليلة؛ لكن مع ذلك ربما يحدث هذا من عائلاتٍ عريقةٍ محترمة، والشيطان لا يستحي من أحد، ولا يُقَدِّرُ أحداً، ولا يُوَقِّرُ أحداً، ولا يمكن أن يقول: هذه بنت فلان، أو من أسرةٍ فلانية، أو من بلدٍ فلاني.
الشيطان يحرص على الجميع؛ لأنه حريص كل الحرص على أن يكونوا رفقاء له في النار -والعياذ بالله!
فهو لا يمكن أن يتورع عن أحد، أو يحترم أحداً، أو يوقر أحداً، أو يستحي من أحد، فليس صحيحاً أن يهتم الأبوان بالطواف حول الكعبة، أو بالصلاة قياماً أو تراويحاً، أو بالجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس -وإن كانت هذه كلها أعمالٌ فاضلة لا شك في فضلها- ويتركوا رعاية أولادهم وبناتهم، ومراقبتهم والقيام على شئونهم، وأداء الحقوق الواجبة لهم.. هذا لا يسوغ ولا يجوزُ بحالٍ من الأحوال.
إهمال الصغار وقت التراويح والقيام
فهل صحيحٌ أن تذهب الأم وتترك بناتها، أو يذهب الأب ويترك أولاده؟ كلا! ليس بصحيح، وَلأَنْ تصلي الأم في بيتها التراويح أو ما شاء الله لها وتراقب بناتها وأولادها الصغار خيرٌ لها من أن تأتي إلى المسجد لتصلي وتترك رعيتها التي استرعاها الله عليها، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فالأب راعٍ والأم راعية، وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.
عدم توعية الأولاد على العبادات
حتى إنني أعرف حالاتٍ كثيرة جداً، وخاصة في أوساط الفتيات، ممن تبلغ ولا تصوم لعدم تربية الأهل، الأم لا تدري أن ابنتها بلغت، أصابها المحيض -مثلاً- أو بغيره من علامات البلوغ، وربما تستحي البنت فلا تخبر أهلها، فتظل مفطرةً طيلة شهر رمضان، وقد تكون تصوم -أحياناً- وهي حائض؛ لأنها تستحي أن تفطر وتقول لأهلها: إنني حائض، هذا أيضاً لا يجوز؛ لأن صيام الحائض -كصلاة الحائض- لا يجوز، لا يجوز لها أن تنوي الصيام كما أنه لا يجوز لها أن تصلي وهي حائض، وإنما هذا يكون بسببِ عدم اهتمام الأبوين وعدم تدريبهم لأبنائهم على الصيام والقيام.
كما أننا نجد بعض الذين يأتون بأولادهم معهم إلى المساجد قد لا يهتم بأولاده، فيكون مجيء الولد للمسجد سبباً في إيذائه للمصلين، وارتفاع الأصوات والركض والذهاب والإياب والمجيء، وربما شغل المصلين عن صلاتهم، وحصل من جراء ذلك أمورٌ لا تحمد عقباها.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |