اللغة والسياسة استغلال أم تبادل منفعة
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
لا يمكن أن يغيب عن بال عشاق العربية أن سيادة اللغة من جنس سيادة الدولة ، وأن سلطانها القاهر نابع من قدرتها على الهيمنة على مقاليد الأمور .
وفي كثير من الدساتير ينص على اللغة الرسمية للدولة ، كأنهما شيء من صميم هويتها التي تميز كيانها عن الكيانات السياسية الأخرى .
فهل للغة علاقة بالسياسة، أم أن السياسة هي التي فرضت هذه العلاقة ؟
لا نجد إجابة حاسمة لدى أهل السياسة ، بل نجدهم في حقيقة الأمر من أكثر الخلق تهاوناً في شأن اللغة ، وأبعدهم عن التقيد بأصولها وتقاليدها ، فقلما نجد من ممارسي السياسة من يتقن إلقاء خطاب سياسي فصيح ، وقلما نجد سياسيا إلا ويلحن اللحن الجلي الذي يؤذي الأذن ويجرحها .
وإذا كان شأن اللغة مع السياسيين على هذه الشاكلة فما بالنا نرى إصرار السياسيين على تداول الشأن اللغوي كمظهر من مظاهر السيادة ، حتى إن المخاطبات الرسمية في الدولة يجب أن تكون باللغة التي اعتمدتها الدول لغة رسمية لمصالحها ودوائرها ، بل حتى في المحافل الدولية تحرص كل الدول أن يكون لها حق الترجمة الفورية إلى لغتها الأصيلة ـ لا إلى لغة وسيطة ـ حتى يكون ذلك اعترافا ضمنيا بأهمية الدولة صاحبة اللغة المترجمة ؟!!
وهاهي اللغة العربية قد خطت خطوتها الرسمية نحو العالمية حين اعتمدت هيئة الأمم المتحدة اللغة العربية لغة رسمية في دوائرها ، أي إن لأصحاب هذه اللغة حق الترجمة الفورية إلى لغتهم ، وغير خاف أن سبب هذا الاعتماد ليس جمال اللغة ولا بهاءها ، بل ضخامة تعداد السكان المتحدثين بهذه اللغة .
إن هذا الوجود السياسي للغة العربية لم يصحبه تأثير أدبي وحضور ثقافي يثبت أن هذه اللغة متجذرة في قلوب أصحابها ، متأصلة في ثقافات بنيها .
ويشكو أرباب هذه اللغة ـ من الأدباء والمتخصصين ـ غيبة السيادة اللغوية ، مع أن اللغة من سمات السيادة كما يقول القانونيون .
المجامع اللغوية تصدر توصيات في كل دوراتها ، وتعلو صيحات الغير من عشاق اللغة بضرورة البدء في نهضة لغوية تستنقذ اللغة العربية من هذه الغربة القاتلة التي تكاد تعصف بوجودها كلغة المسلمين والعرب .
وفي آخر دوراته أصدر المجمع اللغوي في مصر برئاسة الدكتور شوقي ضيف قرارًا يدعو إلى فرض القوانين اللازمة لمنع تسمية المحلات ونحوها بأسماء غير عربية من باب الحفاظ على المظهر العربي للمجتمع .
وحقيقة هذا القرار الجريء الذي يريد أن يربط اللغة بالسياسة والقانون : أن فرنسا - وهي من الدول العريقة في مجال الأدب واللغة - أصدرت قانونا يمنع المحلات أن تتسمى بأسماء غير فرنسية ، وينص القانون على فرض عقوبة على كل من يخالف ويجنح إلى الإعلان عن اسم غير فرنسي ، هذا بالإضافة إلى أن فرنسا من دول العالم القليلة التي حرصت على أن تطور تكنولوجياتها المختلفة عبر اللغة الفرنسية ، بدءًا من الأجهزة المنتجة التي تحوي إرشادات التشغيل باللغة الفرنسية ، وانتهاءً بشبكة الاتصالات الدولية (الإنترنت) التي تتعامل مع الفرنسية باعتبارها لغة عالمية .
ولم يعد خافيا على أحد أن فرنسا تنافس بريطانيا في فرض ثقافتها الفرنسية عبر ملحقياتها الثقافية التي لها وجود رسمي يشبه الوجود الدبلوماسي للسفارات والقنصليات .
كما لم يعد خافيا أن هناك نزاعًا دائما حول الحضور الثقافي لهاتين اللغتين عبر الميادين الفنية في المحافل الدولية ، وكل ذلك لا يمكن أن يفسر إلا أنه تنافس سياسي لسيادة لغة على لغة .
وفي إحدى المناسبات أدلى وزير الخارجية الياباني تصريحا سياسيا للمراسلين الأجانب فاضطر أن يستخدم اللغة الإنجليزية كأول لغة يتحدث بها ، فتم استجوابه في البرلمان الياباني حول ما اعتبره بعضهم خيانة للثقافة اليابانية بجعل لغة أجنبية وسيلة تخاطب بين مسؤول دولة ياباني وبين صحفيين !
إننا لا يمكن أن نمر على هذه الأحداث دون أن نتأمل ونغوص في عمق هذه العلاقة بين اللغة والسياسة :
هل هي علاقة تبادل منفعة ؟
أم إنها علاقة استغلال ؟
أم هي علاقة يفرضها واقع العصبية القومية التي تمثل اللغة مظهرًا من مظاهرها ؟
كل ذلك قد يكون صحيحا ، ولكن الذي لا شك فيه أن مثل هذه العلاقة التي نرى بعضا من مظاهرها بين اللغة والسياسة مرده بالدرجة الأولى إلى تفهم السياسيين أن اللغة - فوق كونها مظهرا من مظاهر السيادة - هي صفة مميزة لثقافات الأمم عن بعضها ، ومن شأن الاهتمام بها أن يحافظ على تميز المجتمع واستقلاله خصوصيته .
ومع هذا كله فإننا نرى أن هذه العلاقة لا تتجاوز الجانب العام المجمل ، أما العلاقة التفصيلية بشأن ما يجب أن يفعل تجاه المحافظة على اللغة من الاندثار ، ورفعة شأنها بالدعوة والإعلان والنشر ؛ فهذا ما يظل رهين الأبحاث والمؤتمرات ، ينتظر الإرادة الحاسمة الجازمة التي عندها الجرأة على إحياء اللغة في الأمة من جديد .
إننا نرى الكثير من الأمثلة التي تحدثنا عن هذه الإشكالية بوضوح ، مثل الشأن الجزائري الآن ، الذي نرى أن أهم أسباب تفاقمه : سيادة اللغة ،
إنها الحقيقة التي يأبى أن يعترف بها السياسيون ، رغم أنها ماثلة للخاص والعام .
لقد أرادت مجموعة من الفصائل التي تزعم أنها تنتمي لعرق البربر أو الأمازيغ ( وهي قبائل شمال أفريقية القديمة ) أن تجعل من اللغة الأمازيغية - بلهجاتها المختلفة - اللغة الرسمية لها ، كما أن هذه الفصائل تطالب الحكومة الجزائرية أن تجعل من لغة الأمازيغ لغة ثقافية ثانية بعد الفرنسية ، كون المتحدثون بها يعدون بالملايين .
في المقابل تنكرت الحكومة الجزائرية لوعودها بالمساواة بين المواطنين ، وجعلت رفض المطالب الأمازيغية قرارًا لا رجعة فيه ؛ حتى ولو كلفها مواجهة دموية شاملة .
لقد اندهش المجتمع الدولي حين رأى الحكومة الجزائرية التي حسمت أمر الإسلاميين ، بصبر وعناد واضحين ، يحسم أمر الأمازيغ بنفس الحسم ؛ بل بسرعة لم تكن متوقعة ، وبدا أن الحكومة الجزائرية متعصبة لشأن اللغة العربية والاتجاه الثقافي العربي أكثر من الإسلاميين أنفسهم ، ولكن الحقيقة التي غابت عن الكثيرين أن اللغة العربية لم تعد مجرد نص شرعي أو - حتى - وحيا سماويا ، بل هي سمة ثقافية لمجتمع مستظل بدولة ذات سيادة ، واللغة تشكل فيها العاصم والجامع المانع من كل فتنة وتشرذم ، وليس من السهولة أن تضحي دولة القانون بصمام الأمان الذي يحافظ على كينونتها وتماسكها .
هل تداخل الشأن اللغوي مع الشأن السياسي هنا أم إن هذا التداخل سمة طبيعية لا بد أن تبرز عند أي محك ؟
نحن لا نستطيع أن نرى العلاقة القوية بين اللغة والسياسة كونهما تم التفريق بينهما في المادة العلمية ، حتى غدت علوم كلٍ ذات استقلالية تامة ، ومتخصصو كل مادة ذوي توجه منفصل عن غيره .
لكن الواقع الذي نراه يلح في واقعنا أن اللغة لم تعد مجرد السمير الذي يجده الأديب في نص أدبي ، كما أنها ليست هي ذلك النص اللغوي الذي يقلبه النحوي والصرفي ليجتث منه ما يريد من فوائد وقواعد .
إن اللغة قد غدت بواقعنا المعقد شيئا بمثابة سوق الأوراق المالية ، التي يزداد اهتمام الدول بها كلما كان هناك إقبال على تداول الأسهم والأوراق المالية ، وكلما كانت هناك أموال متدفقة لأجل شراء تلك الأوراق كلما كانت السوق ذات متانة ومكانة .
وكذلك اللغة التي شهدت في الآونة الأخيرة إقبالا كبيرًا ، ليس من الأدباء واللغويين ومحبي اللغة العربية وعشاقها ، بل من عامة المسلمين الذي يعتبرون تعلمها نوعا من أنواع القربى ، وما من دولة في العالم الآن إلا وتجعل من اللغة العربية مادة مدروسة في كلياتها وأقسام جامعاتها ، ولئن اعتبرنا هذا الاهتمام امتدادا لاهتمام المستشرقين باللغة العربية وآدابها فإننا نستطيع أن نجزم أن هذا الاهتمام قد استمد قوته بالدرجة الأولى من الرغبة السياسية في هيمنة اللغة العربية كنوع من أنواع السيادة .
إن سيادة اللغة تعني بالضرورة سيادة أصحاب هذه اللغة ، اكتشاف قديم ، ولكننا - للعجب - نحاول اكتشافه الآن .