خطب ومحاضرات
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [9]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهنا أصل آخر، وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان فقال تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:14] وقال تعالى في قصة لوط عليه الصلاة والسلام: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36].
وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، وعارضوا بين الآيتين وليس كذلك، بل هذه الآية توافق الآية الأولى؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمناً، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين.
وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا، بل كانت من الغابرين الباقين في العذاب، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، وفى الباطن مع قومها على دينهم خائنة لزوجها، تدل قومها على أضيافه، كما قال تعالى فيها: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10]، وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش، فإنه ما بغت امرأة نبي قط، إذ نكاح الكافرة قد يجوز في بعض الشرائع، ويجوز في شريعتنا نكاح بعض الأنواع، وهن الكتابيات، وأما نكاح البغي فهو دياثة، وقد صان الله النبى عن أن يكون ديوثاً.
ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء بتحريم نكاح البغي حتى تتوب ].
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله الأصل الأول: وهو أن الأحكام تجرى على الظاهر في الدنيا، أما في الآخرة فإنها تجرى على الظاهر وعلى الباطن جميعاً، فالمؤمن ظاهراً وباطناً عند الله مؤمن، والكافر ظاهراً وباطناً عند الله كافر، والمنافق عند الله كافر، فهذا أصل ينبغي معرفته، وهو التمييز بين الحكم الظاهر والباطن، والفرق بينهما، وهذا ثابت بالنصوص المتواترة والإجماع.
الآيات التي فرقت بين الإسلام والإيمان أو ساوت بينهما
وكذلك قول الله تعالى في قصة لوط: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، وهؤلاء هم أهل بيت واحد، وصفهم بالإيمان ووصفهم بالإسلام، وفي الآية الأولى فرق الله بين الإسلام والإيمان.
القول بأن الإسلام والإيمان شيء واحد
القول بعدم كون الإسلام والإيمان شيئاً واحداً
وأجابوا عن هذه الآية: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] بأنه بيت واحد تحقق فيه وصف الإيمان، ووصف الإسلام، فلوط وابنتاه اتصفوا بالإسلام والإيمان، وزوجة لوط اتصفت بالإسلام.
قالوا: وأما آية الحجرات فإنها تتحدث عن ضعفاء الإيمان، وليست في المنافقين، فقوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] يعني: ولكن قولوا أسلمنا؛ لأنهم لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، وهم أظهروا الإسلام، ولكنهم لا يطلق عليهم الإيمان لضعف إيمانهم، ويدل على ذلك أن هذه السورة ليست في المنافقين، وإنما هي في العصاة، وتسمى سورة الآداب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6]، وقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ [الحجرات:12]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات:13]، ثم قال: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] ثم قال: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] يعني: أنه متوقع دخوله، وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]، فأثبت لهم طاعة، ولو كانت في المنافقين لما أثبت لهم طاعة، ثم قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17]، فأثبت لهم إسلاماً.
فدل على أن هذه الآية في ضعفاء الإيمان، وهذا هو الأرجح، ولهذا فإن المؤلف رحمه الله ذكر القولين، قال: (وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية، وهي: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، وعارضوا بين الآيتين) وبين المراد بهذه الآية وآية الحجرات، فآية الحجرات أثبتت لهم الإيمان ونفت عنهم الإسلام، وآية الذاريات تصفهم بالإيمان والإسلام معاً.
بيان توافق معنى آية الحجرات وآية الذاريات
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: (وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا، بل كانت من الغابرين الباقين في العذاب) كما قال تعالى: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [الشعراء:171] أي: في الباقين، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، فتظهر الإسلام، وفي الباطن مع قومها على دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه، فإذا جاء إلى لوط أضياف دلت عليهم، كما قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [التحريم:10] وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش؛ لأن زوجة النبي مصونة العرض، وإنه ما بغت امرأة نبي قط، وهذا من صيانة الله لأنبيائه.
حكم نكاح البغايا والكافرات
فلا يجوز للمسلم أن يتزوج وثنية، ولا مجوسية، ولا شيوعية، ولا غيرها من الكافرات إلا اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون محصنة، يعني عفيفة طاهرة في عرضها.
وفي شرع من قبلنا كشريعة لوط وشريعة نوح كان يجوز الزواج من امرأة كافرة.
وأما نكاح البغايا والزانيات فقد صان الله الأنبياء عن أن تكون في بيوتهم بغي، وقد صان الله الأنبياء عن الدياثة.
ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء بتحريم نكاح البغي حتى تتوب، فالزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب؛ لقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] أي: فالزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ما دامت على زناها ولم تتب، ولكن إذا صحت توبتها وظهرت فيجوز أن يتزوجها المسلم.
ومن هذا أن بعض الناس والعياذ بالله يقول: قد يقع رجل مع امرأة في الفاحشة، فإذا علم أهلها أنه عمل بها الفاحشة قالوا: نريد أن نزوجها إياه حتى نستر عليهما، وهذا لا يجوز؛ لأنها هي عاهرة، ولا يتزوج بها، فإنها زانية، ولابد أن يفرق بينهما، حتى تظهر توبتها وصلاحها، وتظهر توبته وصلاحه، ثم بعد ذلك يتزوج هو أو غيره بها.
والولد الذي جاء من السفاح لا يجوز أن ينسب إلى الذي زنى، بل هو لقيط، فيفرق بينهما، وهذا الولد يكون لقيطاً ليس له أب، ولا ينسب إلى أحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمقصود أن امرأة لوط عليه الصلاة والسلام لم تكن مؤمنة، ولم تكن من الناجين المخرجين، فلم تدخل في قوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:35] وكانت من أهل البيت المسلمين، وممن وجد فيه؛ ولهذا قال تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36] وبهذا تظهر حكمة القرآن، حيث ذكر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر بالوجود ].
أي: أن امرأة لوط لم تكن مؤمنة، بل كانت كافرة، ولم تكن من الناجين المخرجين، فلم تدخل في قوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:35] وهو بيت واحد وفيه امرأة لوط، لكن لما أخرج الله لوطاً وابنتيه لم تخرج المرأة، بل هلكت وأصابها ما أصاب قومها؛ لكفرها وضلالها، فلم تكن من أهل البيت المخرجين، ولكن كانت من أهل البيت المسلمين، وممن وجد فيه؛ ولهذا قال تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36] أي: وجدنا في هذه القرية بيتاً من المسلمين.
وسماهم الله مسلمين وفيهم امرأته؛ لأنها أظهرت الإسلام، وهي في الباطن مع قومها، فتجرى عليها أحكام الإسلام.
(وبهذا تظهر حكمة القرآن، حيث ذكر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر بالوجود) أي: لما ذكر الإخراج وصفهم بالإيمان، قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:35]؛ لأن المرأة الكافرة لم تكن معهم، ولما ذكر الوجود ذكر الإسلام؛ لأنها أظهرت الإسلام، فهي معهم في الإسلام الظاهر، والأحكام تجرى على الظاهر.
والأصل الثاني: ما ذكره هنا، وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان، مثل الأعراب في سورة الحجرات، قال الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] فإذاً: نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام.
وكذلك قول الله تعالى في قصة لوط: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، وهؤلاء هم أهل بيت واحد، وصفهم بالإيمان ووصفهم بالإسلام، وفي الآية الأولى فرق الله بين الإسلام والإيمان.
واختلف العلماء في تفسير ذلك: فمن العلماء من قال: إن الإسلام والإيمان شيء واحد، فالإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، ولا فرق بينهما، واستدلوا بهذه الآية: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، فقالوا: هذا بيت واحد وصف بالإيمان، ووصف بالإسلام، فدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وذهب إلى هذا طائفة من أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام البخاري ، وقالوا: إن هذه الآية تعارض الآية الأولى، وهي: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فتحمل آية الحجرات على المنافقين الذين نفى الله عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام، قالوا: والمراد بالإسلام الذي استثناه هو الإسلام في الظاهر، والمعنى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، يعني استسلمنا وانقدنا للإسلام ظاهراً نفاقاً، وقال بهذا القول أيضاً الخوارج والمعتزلة.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [18] | 2638 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [7] | 2360 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [16] | 2145 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [10] | 2088 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [4] | 1831 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [2] | 1701 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [5] | 1637 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [14] | 1513 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [15] | 1446 استماع |
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [6] | 1444 استماع |