شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41].

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، إلى قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:52-53].

وقال تعالى: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:61-62].

وقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77] إلى قوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:80-81] ].

مسارعة المنافقين في الكفر

هذه الآيات في سورة المائدة تذكر أوصاف المنافقين حيث يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41].

فالله تعالى ينهى رسوله عن أن يحزن على الذين يسارعون في الكفر بالله وبرسوله ولا يبالون، وهؤلاء الذين يسارعون إلى الكفر ويركضون ويجرون حتى يصلوا إليه؛ إنما فعلوا ذلك بسبب تركهم الحق وعنادهم بعد وضوح الحق لهم، فهم لما تركوا الحق وأعرضوا عنه بعد وضوحه، ووالوا الكفار، وأعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يوقروه صاروا يسارعون إلى الكفر ويركضون إليه ركضاً، ولهذا قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]، فهذا وصف المنافقين، فهم يقولون: آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ [المائدة:41] أي: بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] أي: أن قلوبهم مكذبة، وألسنتهم مصدقة.

وهذا كما قال سبحانه في الآية الأخرى في أول سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8] أي: بألسنتهم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أي: بقلوبهم.

وكما قال سبحانه في سورة المنافقين: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] يعني: بألسنتهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] أي: بقلوبهم.

فالله تعالى يقول لنبيه: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] من المنافقين واليهود، مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] وهؤلاء هم المنافقون، وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] وهم اليهود، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41] .. إلى آخر تلك الأوصاف.

ثم وصفهم في آخر الآية فقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ .. [المائدة:41-42] إلى آخر الآيات في وصف اليهود.

المنافقون يتخذون اليهود والنصارى والكفار أولياء

قال المؤلف رحمه الله: [ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ].

في هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء يحبونهم بقلوبهم، ثم ينشأ عن تلك المحبة في القلب المساعدة والمعاونة بالرأي أو بالسلاح على المسلمين، فتولي الكفار ردة؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وتوليهم هو محبتهم في القلب، فحكم على من تولى الكفار بأنه كافر مثلهم.

وقال: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، فالكفار بعضهم أولياء بعض، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]، وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فالمؤمن ولي لأخيه المؤمن، والكافر ولي لأخيه الكافر، فلا يجوز للمسلم أن يتخذ الكافر ولياً، فإذا اتخذه ولياً وأحبه لدينه، ونشأ عن هذه المحبة المساعدة والمعاونة فإن هذه ردة عن الإسلام، فتولي الكفرة ومحبتهم ردة عن الإسلام.

وأما الموالاة بمعنى المعاشرة والمصادقة بدون محبة القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، كما قال سبحانه في آية الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، وهذا غير البيع والشراء والمعاملة، فلا يلزم منها الموالاة، فإذا باع الإنسان أو اشترى من الكفار عند الحاجة فليس ذلك من الموالاة في شيء إذا كان ذلك مع بغضه لهم ولدينهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل اليهود، فعاملهم على شطر ما يخرج من أرض خيبر من ثمر أو زرع، واشترى غنماً من مشرك، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، فالمعاملة شيء والموالاة شيء آخر.

فالمعاملة كأن يبيع ويشتري منهم عند الحاجة، ولا حرج في ذلك إذا كان الكافر ليس بحربي، وأما الموالاة فمعناها أن يتخذه صديقاً يزوره، ويجيب دعوته من دون حاجة بيع ولا شراء ولا غيرها، وأما محبته بالقلب فهذه ردة عن الإسلام، وهي التولي لهم، وأصل التولي المحبة بالقلب، ثم ينشأ عنها المساعدة، فمن أحب كافراً لدينه كأن يحب يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً فهو كافر مثله، كما قال الله في هذه الآية: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وأما الموالاة والمعاشرة والمصادقة لهم من دون محبة في القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وهي فسق ومعصية، وتدل على ضعف الإيمان ونقصه.

ثم ذكر أوصاف المنافقين فقال سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]، قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [المائدة:52] هو مرض الشك والنفاق والشبهة.

وقد سبق أن ذكرنا أن المرض مرضان: مرض شك، ومرض شهوة، فمرض الشهوة هو مرض المعصية، قال سبحانه وتعالى في خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فهذا هو مرض المعصية، وهو مرض الزنا ومرض الشهوة.

وأما مرض الشك والكفر والنفاق فكما قال سبحانه في سورة البقرة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وهذا أشد من مرض الشهوة؛ لأن هذا مرض في العقيدة.

وقال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:52] أي: يضعون أيديهم مع الكفار من اليهود والنصارى، فإذا قيل لهم: كيف توالون اليهود والنصارى وتكونون معهم؟ قالوا: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] أي: نخشى أن ينهزم المسلمون، فإذا انهزموا لجئوا إلى الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وإن حصل للمسلمين فتح ونصر وغنيمة لجئوا إلى المسلمين وقالوا: نحن معكم، فشاركوهم في الغنائم، فيجعلون يداً مع هؤلاء ويداً مع هؤلاء، كما قال الله تعالى: لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143].

قال الله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52] أي: للمسلمين، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا [المائدة:52] أي: المنافقون، عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52] من موالاتهم للكفار.

المنافقون يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السحت وتولي الكفار

قال سبحانه: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [المائدة:53] وهم المنافقون، قال الله عنهم: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:53].

وقال تعالى في نفس السورة في وصف المنافقين: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61]، أي: إذا جاء المنافقون إلى المسلمين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإسلام، وإذا ذهبوا إلى رؤسائهم وإلى الكفار قالوا: نحن معكم كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14]، وهنا قال سبحانه: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:61-62]، فهذه أوصافهم: المسارعة في الإثم والعدوان، وأكل السحت.

وقال بعدها: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] .

وقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، فنهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين، والغلو: هو مجاوزة الحد، ومن الغلو في الدين أن النصارى غلوا في عيسى حتى جعلوه إلهاً يعبد مع الله.

قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، فنهاهم الله عن اتباع الضالين.

ثم قال سبحانه: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] إلى قوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:80]، فمن وصف المنافقين تولي الكفرة.

لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ [المائدة:80]، لعدم إيمانهم، حيث إنهم يريدون أن يخادعوا هؤلاء وهؤلاء، قال الله: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة:80]، أي: سخط الله عليهم بسبب موالاتهم الكفرة، فخلدهم في النار.

ثم بين سبحانه أن اتخاذ الكفار أولياء ينافي الإيمان، فلا يجتمع الإيمان واتخاذ الكفرة أولياء، قال سبحانه: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81] أي: لو كانوا يؤمنون بالله ورسوله حقيقة ما اتخذوا الكفار أولياء يحبونهم ويساعدونهم ويعينونهم على المسلمين، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81].

هذه الآيات في سورة المائدة تذكر أوصاف المنافقين حيث يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41].

فالله تعالى ينهى رسوله عن أن يحزن على الذين يسارعون في الكفر بالله وبرسوله ولا يبالون، وهؤلاء الذين يسارعون إلى الكفر ويركضون ويجرون حتى يصلوا إليه؛ إنما فعلوا ذلك بسبب تركهم الحق وعنادهم بعد وضوح الحق لهم، فهم لما تركوا الحق وأعرضوا عنه بعد وضوحه، ووالوا الكفار، وأعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يوقروه صاروا يسارعون إلى الكفر ويركضون إليه ركضاً، ولهذا قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41]، فهذا وصف المنافقين، فهم يقولون: آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ [المائدة:41] أي: بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] أي: أن قلوبهم مكذبة، وألسنتهم مصدقة.

وهذا كما قال سبحانه في الآية الأخرى في أول سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8] أي: بألسنتهم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أي: بقلوبهم.

وكما قال سبحانه في سورة المنافقين: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] يعني: بألسنتهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] أي: بقلوبهم.

فالله تعالى يقول لنبيه: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] من المنافقين واليهود، مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] وهؤلاء هم المنافقون، وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] وهم اليهود، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ [المائدة:41] .. إلى آخر تلك الأوصاف.

ثم وصفهم في آخر الآية فقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ .. [المائدة:41-42] إلى آخر الآيات في وصف اليهود.

قال المؤلف رحمه الله: [ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ].

في هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء يحبونهم بقلوبهم، ثم ينشأ عن تلك المحبة في القلب المساعدة والمعاونة بالرأي أو بالسلاح على المسلمين، فتولي الكفار ردة؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وتوليهم هو محبتهم في القلب، فحكم على من تولى الكفار بأنه كافر مثلهم.

وقال: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، فالكفار بعضهم أولياء بعض، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]، وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فالمؤمن ولي لأخيه المؤمن، والكافر ولي لأخيه الكافر، فلا يجوز للمسلم أن يتخذ الكافر ولياً، فإذا اتخذه ولياً وأحبه لدينه، ونشأ عن هذه المحبة المساعدة والمعاونة فإن هذه ردة عن الإسلام، فتولي الكفرة ومحبتهم ردة عن الإسلام.

وأما الموالاة بمعنى المعاشرة والمصادقة بدون محبة القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، كما قال سبحانه في آية الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، وهذا غير البيع والشراء والمعاملة، فلا يلزم منها الموالاة، فإذا باع الإنسان أو اشترى من الكفار عند الحاجة فليس ذلك من الموالاة في شيء إذا كان ذلك مع بغضه لهم ولدينهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل اليهود، فعاملهم على شطر ما يخرج من أرض خيبر من ثمر أو زرع، واشترى غنماً من مشرك، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، فالمعاملة شيء والموالاة شيء آخر.

فالمعاملة كأن يبيع ويشتري منهم عند الحاجة، ولا حرج في ذلك إذا كان الكافر ليس بحربي، وأما الموالاة فمعناها أن يتخذه صديقاً يزوره، ويجيب دعوته من دون حاجة بيع ولا شراء ولا غيرها، وأما محبته بالقلب فهذه ردة عن الإسلام، وهي التولي لهم، وأصل التولي المحبة بالقلب، ثم ينشأ عنها المساعدة، فمن أحب كافراً لدينه كأن يحب يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً فهو كافر مثله، كما قال الله في هذه الآية: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وأما الموالاة والمعاشرة والمصادقة لهم من دون محبة في القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وهي فسق ومعصية، وتدل على ضعف الإيمان ونقصه.

ثم ذكر أوصاف المنافقين فقال سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]، قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [المائدة:52] هو مرض الشك والنفاق والشبهة.

وقد سبق أن ذكرنا أن المرض مرضان: مرض شك، ومرض شهوة، فمرض الشهوة هو مرض المعصية، قال سبحانه وتعالى في خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فهذا هو مرض المعصية، وهو مرض الزنا ومرض الشهوة.

وأما مرض الشك والكفر والنفاق فكما قال سبحانه في سورة البقرة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وهذا أشد من مرض الشهوة؛ لأن هذا مرض في العقيدة.

وقال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:52] أي: يضعون أيديهم مع الكفار من اليهود والنصارى، فإذا قيل لهم: كيف توالون اليهود والنصارى وتكونون معهم؟ قالوا: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] أي: نخشى أن ينهزم المسلمون، فإذا انهزموا لجئوا إلى الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وإن حصل للمسلمين فتح ونصر وغنيمة لجئوا إلى المسلمين وقالوا: نحن معكم، فشاركوهم في الغنائم، فيجعلون يداً مع هؤلاء ويداً مع هؤلاء، كما قال الله تعالى: لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143].

قال الله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52] أي: للمسلمين، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا [المائدة:52] أي: المنافقون، عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52] من موالاتهم للكفار.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [18] 2639 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [7] 2363 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [16] 2149 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [10] 2090 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [4] 1833 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [2] 1703 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [5] 1640 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [9] 1578 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [14] 1516 استماع
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [15] 1447 استماع