أرشيف المقالات

الموعظة وأثرها وآدابها (1)

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الموعظة وأثرها وآدابها (1)

الموعظة مطلبٌ جليل في كل وقت، ولا سيما هذه الأيام التي كثُرت فيها الصوارف عن الخير والخُلُق الكريم، وكثُرت فيها مؤسسات إعلاميَّة تدعو إلى الرذيلة؛ إما بصورة مباشرة، وإما بصورة غير مباشرة، وبأسماء متعدِّدة.
 
فما هي الموعظة؟ وما أثرها؟ وما آدابها؟
الموعظة لغة: مشتقَّة من الوعظ، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، ووَعَظه: أمره بالطاعة وأوصاه بها[1]، قال الراغب[2]:
الوعظ: زجرٌ مُقترِن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يَرِقُّ له القلب، والعِظَة اسم للوعظ، وكذا الموعظة، وقد قيل: "السعيد من وُعِظ بغيره، والشقي مَن اتَّعظ به غيره"؛ فالموعظة هي التذكير، وتُستعمَل كل منهما مكان الأخرى، حتى كأنهما مُترادِفتان مع أن بينهما فرقًا دقيقًا في المعنى.
 
فالموعظة هي تنبيه الغافلين على أمر ينبغي أن يؤدُّوه، وهو واجب عليهم وقد غفَلوا عنه، وحضّهم عليه، وهي كذلك زجرٌ للمسرفين على أنفسهم عن مُنكرٍ فعلوه، ونَهيهم عنه.
 
وأما التذكير فمعناه تذكير الناس بأمر نَسُوه، ويفترض فيهم أنهم عارِفوه، فكل ما عُلِم من الدين بالضرورة، معلوم لمَن نشأ في ديار الإسلام، كوجوب الصلاة والزكاة وبرّ الوالدين، ونحو ذلك، وتحريم السرقة وقتل النفس المصونة، ونحو ذلك.
 
والموعظة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
ومعلوم ما لهذه المؤسسة الإسلامية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من الشأن الجليل، والمكانة العُظمى في الشريعة؛ قال الله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
 
• والموعظة تعمل على تحقيق نظافة المجتمع من المعاصي، وسلامته من الانحراف في العقيدة.
 
وقد وردت في القرآن في مواضِع عدة، وسنورد كثيرًا من هذه المواضع فيما يأتي:
1- الموعظة من صفات الأنبياء والأولياء والصالحين:
فنوح - عليه السلام - وعَظ ابنه الذي لم يستجب لأبيه، ولم يعمل الصالحات؛ فقال الله لنوح: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [هود: 46].
 
نعم، لقد ناداه ليكون معه فأبى؛ ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين ﴾ [هود: 42، 43].
 
• وقد أمر الله - سبحانه - نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يَعِظ قومَه، ويقول لهم قولاً بليغًا؛ فقال - سبحانه -: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63]، وأمره أن تكون موعظته حسنة؛ فقال سبحانه: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
 
• ويَقُص القرآن علينا موعظةَ لقمان لابنه[3] الرائعة الجميلة؛ فيقول - سبحانه -: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
 
ثم قال تعالى يوصي بالوالدين:
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15]، ثم قال تعالى يذكر تتمَّة موعظة لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 16 - 19].
 
موعظة جمعتْ فأَوعتْ، وكانت نِبراسًا للمواعظ الحسنة التي تُعالج أهم الأمور؛ فقد أوصاه بالبُعد عن الشرك والتزام التوحيد، وذكرت الآيات ضِمن هذه الوصية الجميلة وصية الله بالوالدين وبِرهما ولو كانا كافرين؛ إلا أن يأمرا بالشرك؛ فلا طاعة لهما عندئذ.
 
وبيَّن لقمان لابنه أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الأعمال - مهما كانت خفيَّة دقيقة - يأتي بها الله يوم القيامة، ويُجازي عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وأمر لقمان ابنه بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما أصابه، وفي ذلك إشارة إلى أن الداعي إلى الله قد يُصيبه بعض الأذى بسبب دعوته، فعليه عندئذ أن يَصبر، ونهاه عن التكبُّر والاختيال ورفْع الصوت.
 
وللحديث تتمَّة، وصلى الله على محمد وآله..
 




[1] انظر: مختار الصحاح والمصباح المنير.


[2] المفردات.


[3] قال ابن كثير: اختلف السلف في لقمان هل كان نبيًّا أو عبدًا صالحًا من غير نبوَّة؟ على قولين: الأكثرون على الثاني؛ أي: كان رجلاً صالحًا، وليس نبيًّا، وذكر ابن كثير أنه كان في بني إسرائيل، وأنه أسود قصير القامة.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢