سيد الشهداء - صالح بن عواد المغامسي
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
للمجد عرى وأطراف، فإذا أمسك الرجل بواحدة منها عُد من أهله، فإن أمسك ببعضها دنا من السماكين، فإن حازها كلها فذاك من قد توشح فخار الأبد، وهذه منزلة قليل من ينالها، إذ المواهب لا تعطى على نكد، كما يقول النابغة في معلقته.وحمزة بن عبد المطلب هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، وأحد أوتاد بني هاشم، أي إنه من أجل صفوة آل البيت الذين تغنى الفرزدق بحبهم قائلاً: "من معشر حبهم دين وبغضهم كفر، وقربهم منجى ومعتصم"، لم يبن أحد مجداً فجأة، لكنك إن تأملت مسيرة أي امرئ سيتيسر لك أن تعرف مستقر أمره، لقد سمعت مولاة لعبد الله بن جدعان ما تعرض به أبو جهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل حمزة متوشحًا سيفه راجعاً من قنص له، أخبرته الجارية فعمد حمزة إلى أبي جهل فشج رأسه وأعلن إسلامه، ما كان أبو جهل يومئذ إلا رمزا للكفر وأهله، وكم لاقى الكفار بعد ذلك من حمزة.
إن الرجل قد يصبح كافراً ويمسي مؤمناً عظيم الإيمان ، قد يمسي فاجرًا فاسقًا ويرزق الهداية في الصباح، وهذا واقع مشهود، لكن المجد وعلو الشأن في أمر لا يكون كذلك بين عشية وضحاها، لا بد من أزمنة وتوالي أعوام وصحبة أقوام وأن تنسلخ ثقافة وتقوم أخرى، فمن الخطأ أن نولي أحداً لمجرد ما ظهر لنا من إيمانه ويقينه وتوبته وصلاحه، لا بد أن يصحب ذلك علم بالأمر الذي هو قائم به.
هاجر حمزة ثم كان يوم بدر فكان حمزة فيه السيف الذي لا ينبو، والضياء الذي لا يخبو، ومن يجهل يوم بدر في الأيام ومقام أهل بدر في الإسلام.
ثم كانت أحد، فكان حمزة كالجمل الأورق يهد الناس بسيفه، فرماه وحشي بحربة كان قلّما يخطئ إذا رمى بها، لموعدة وعدها إياه جبير بن مطعم واستشهد حمزة، ومُثل به، ولم يكن من طعنه ورماه يومئذ مكافئاً له في دين ولا نسب ولا حسب ولا حرية، لكنها السنن، فقلما تكون نهاية العظماء إلا على يد من لا يعبأ به.
ولنا في مقتل الحسين بن علي رضوان الله عليه وعلى والديه مثل ظاهر، فمن شمر بن الجوشن وزمرته؟ لكن الأمر كما قال ابن عبدون: "وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن وأمكنت من حسين راحتي شمر فليتها إذ فدت عمراً بخارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر".
وحسبنا أن نعلم أن الكعبة وهي أول بيت وضع للناس إنما يهدم على يد أصيلع أفيدع ذي عاهات ينزعها حجراً حجراً، ومنه ما يبتلى به بعض العلماء ممن رسخوا في العلم علماً وعملاً فتراهم يبتلون بالأغمار ويجابهون بالسفهاء.
أصاب المسلمين ما أصابهم من القرح يوم أحد، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس عمه حمزة فرآه وقد مُثل به فجدع أنفه وأذناه، فقال صلى الله عليه وسلم «لَولا أن تجدَ صفيَّةُ في نفسِها لترَكتُه حتَّى تأكلَه العافيةُ حتَّى يحشرَ يومَ القيامة ِ من بطونِها» (صحيح الترمذي [1016])، إنه إدراك نبوي أن مشاعر النساء غير مشاعر الرجال، وكلما كان الإنسان قادراً على أن يدفع الأسى أو يقلل من الحزن كان ذلك أولى به وأحرى، وليس اطراح مصلحة لأخرى أولى منها إلا من دلائل كمال العقل ورجاحة الرأي.
دفن حمزة مع غيره من الكرام الأبرار من الشهداء في ساحة ذلك الجبل الأشم، الذي لا يستحق أن يوارى عنده إلا من كان أشم مثله، وقد كان حمزة كذلك، بل كان أجل وأرفع، قال عليه الصلاة والسلام «سيد الشهداء حمزة» (السلسلة الصحيحة [374]).
مضت السنون ومكن الله لنبيه وأسلم وحشي، وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قتل حمزة، فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري في صحيحه «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني»، إن في هذا القول النبوي من لطائف المعاني ما ينبيك أي مكانة لحمزة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تلم أحداً إن رأيته قد ملئ قلبه حباً لقريب علم وفاءه أو صديق طاب معدنه أو لغيرهما ممن يهبهم الله روحاً تأسر الأرواح فتميل إليها دون أن تشعر، على أنه يجب أن يكون ذلك كله مقيداً بحب الله.
وأسلم جبير الذي وعد وحشياً بالعتق إن قتل حمزة، فسبحان من له النعم السابقة والحجة البالغة والحكمة التامة.
ليس الشأن المحير أن يختم لفاسق بتوبة وصلاح، لكن الأمر المخيف أن يختم لمن عرف بصلاحه وتقواه بخاتمة سوء، قال أهل العلم: "إن من مكر الله بالعبد أن يرزقه علماً بلا عمل، أو أن يرزقه عملاً بلا إخلاص، وهل بعد هذين هلاك وضياع".
اللهم لطفك يا حي يا قيوم.