رسالة الشعر
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
ليس الشعر صنعة يمكن كل إنسان احترافها، ولا أداة يستطيع كل
شخص امتلاكها، وإنما هو رسالة يلهمها الشاعر، فإذا هو قد تبدل من
نفسه نفسا أخرى، تنظر إلى العالم نظرة جديدة، تغير قيم الأشياء في
رأيه، وتعدل أقدارها، نظرته لا تقف عند القشور، ولا تنحجز عند
اللفائف، وإنما تنفذ إلى اللباب، وتتغلغل إلى صميم الجوهر، وما تزال
هذه النظرة ترقى بإحساسه وتسمو بقلبه، حتى ترفع له الحجب عن
الجمال الهاجع في الكون، وتكشف له الأستار عن سحره البديع وسره
العجيب، فيخر ساجدا أمام عرشه مفتونا بحسنه، مأخوذا بروعته، وما
هي إلا عشية أو ضحاها حتى يحس بشعور غامض غريب، وحال
نفسية شاذة، لا يزالان يتضخمان في نفسه، ويتبلجان في قلبه، حتى
ينحسرا عن رسالة شاقة ممتعة معاً، هي رسالة الجمال، فيترجح بين
سترها ونشرها، ويتردد بين إخفائها وإعلانها. بيد أن رسل الوحي لا تمهله ولا تتركه، بل تتبعه وتقلقه، وما تزال به حتى يذعن إلى تلبيتها، ويستجيب إلى دعوتها، فيتناول قيثارته السحرية، ويوقع للناس عليها أفكاره الغنائية اللذيذة، ويرتل عليها أناشيده العذبة الجميلة، محاولا بكل جهده أن يطلعهم على هذه المعاني الموسيقية التي هي لباب كل شيء في هذا الكون، وصميم كل موجود في هذا العالم، وكل ما سواها إنما هو قشور وأغلفة، فان جمال الطبيعة ونظام الكون إنما يتألفان من شيء يشبه النغمات الموسيقية وما بينها من ائتلاف وانسجام، ووحدة ووئام، بل هو النغمات الموسيقية نفسها وما تحمل من رنة وجمال، وم تغشى من حسن وجلال.
ولقد اهتدى أحد فلاسفة اليونان القدماء ببصيرته النافذة إلى معرفة هذا السر الموجود في كل كائن فقال: إن للأفلاك موسيقى تنظم حركتها ودورانها، وتحفظ توازنها وبقاءها، وأكبر ظني أن اليونان شعروا منذ القدم بهذا الحقيقة الجميلة، وربما كان هذا الشعور هو السبب في نبوغهم في فن الشعر، وتفوقهم على العالم فيه، فقد نظروا إلى الطبيعة نظرة جمة الضياء، غزيرة الشعاع، فتبينوا باطنها وكشفوا داخلها، وعرفوا أن الموسيقى هي قلبها بل هي جمالها وجلالها، فأخذوا يقتربون منها، يحاولون أن يعرفوا أسرارها ويمثلوا نغماتها، فكانت هذه المثل العليا في فن الشعر التي لا يزال شعراء العالم يحتذونها حتى الآن. والمعاني الموسيقية التي يغنيها الشاعر لا ينقلها إلينا من الطبيعة نقلا وإنما يمزجها بقلبه، ويخلطها بدمه، ثم يقدمها إلينا فتؤثر فينا تأثيراً جميلا، لأنها تصدر عن القلب، وكل ما يصدر عن القلب يؤثر في القلب، ولكن جماعة من النقاد زعمت أن الشاعر لا يرينا شيئاً أكثر من الواقع الخارجي نفسه، وكل ما يملك تلقاءه إنما ينحصر في كشف حقائقه، وكأنهم أبوا إلا إن يفسروا كل شيء في الوجود تفسيراً ماديا فأنكروا الخيال وأنكروا المثال، وما عرفوا أن في الوجود شيئاً آخر ليس حقيقة مقيدة، ولا مادة محسوسة، وإنما هو نور يشع على وجه الطبيعة، فيشرق على قلوب الشعراء، ويختلط بما فيها من نعمة وبؤس، وشقاء وسعادة، وبكاء وفرح، ويمتزج بما يسري في روعهم من خطرات وأفكار وخوالج وآراء، فإذا هو نغم مزيج من الإنسان والطبيعية، وغناء خليط من قلبه وقلبها، بل من خياله وجمالها. وقد يكون من الجحود أن نقول إن الشعر من الأعمال الموضوعية التي لا يتبين لصاحبها فيها أثر، والتي يقتصر فيها على إبداء الملحوظات وذكر التنبيهات، فان الشعر ذاتيا أكثر منه موضوعيا وداخليا أكثر منه خارجيا، وهو يعني بتقديم شخصية صاحبة قبل عنايته بتقديم الموضوع الذي يحاول الكلام فيه، وما التصويرات والأفكار الشعرية إلا الواقع كما نحلم به ونتخيله، لا كما نراه ونشهده، ولو كانت مهمة الشعر هي نقل ما في الطبيعة لكان تكراراً قليل القيمة، ولو كانت هي فكرته عن الجماللكان أقل قيمة وأدنى درجة، وإنما تتركز مهمته السامية في أنه الحلقة الربطة بين الطبيعة في أجمل مظاهرها وأسمى معانيها وبين روح الإنسان، وإذن فالشعر لا يبتغي نقل حقائق الأشياء ولا إظهار جانب الحق وتزيف الباطل منها، فان لذلك لساناً خاصاً يقوم به.
ونحن لا ننكر أن الشاعر يحب الحقيقة فان الحقيقة في ذاتها محببة إلى كل نفس ولها سلطان على القلوب لا يمكن أحد أن يجحده، ولكنا نقول إننا لا نريد من الشاعر بيان الحقائق، وإنما نريد منه تحديثنا عن الجمال المستتر في الكون، وتمثيل الموسيقى التي تؤلف بين أجزائه ووحداته، وينبغي أن ننبه إلى أن الشاعر يعرف الحقيقة معرفة أخرى غير المعرفة التي يعرفها الرياضي والرجل العادي، وكأني بالشعر ينظر إلى الأشياء من جهة خاصة به، وينظر إليها العلم من جهة ثانية، والدين ينظر إليها من جهة ثالثة، وقد ينظر إليها الشعور العام من جهة رابعة، أما هؤلاء الذين ينطقون عجبا قائلين أي حق هذا بينما يقرأون شعر الشاعر إنما هم لا يعرفون كيف يستفيدون من الفن الاستفادة الصحيحة، ولا ينتفعون بها الانتفاع الواجب وهم يضيعون أوقاتهم من حيث لا يشعرون، وإلا لو كان الأمر كما يظنون لانقلب الشعر إلى صور من الحجج والبراهين على أن الحقيقة الواحد ة قد تتبدل من حين لآخر أمام الشاعر الواحد، ويتبين هذا من أننا نلاحظ إن الشاعر المحب إذا كان مسروراً بش للطبيعة وبش للسماء، وتخيل كأن كل شيء يحدثه ويضاحكه فالريح تسر إليه باسم حبيبته، والنجوم ترنو إليهبعين الحنان والعطف، وكل شيء في الطبيعية يداعبه ويفاكهه، أما إذا كان مخزوناً فان هذه الحقائق والأخيلة تتغير في رأيه، وتختلف في نفسه فالريح تسخر من تأوهاته، والنجوم القاسية تنظر إليه من غير تقدير ولا عناية، وكل شيء حوله مغاضب له ساخط عليه قد يقول قائل إن الشعر يقوي ويوضح الاحساسات ويوسع الخيال، ونحن نوافق على ذلك ونزيد أن الشعر قد يعمل على تنظيم ما يضطرب في عقول الآخرين، وانه قد يوقظ العقل ويوسعه بترقية الاحساسات وكثرة الأفكار التي يلقيها إليه، ولكننا ننكر أن هذه هي غايته السامية، فليست رسالة الشعر هي التثقيف كما قال هورس، فللتثقيف أداة خاصة به والشعر لا يزاحمه فيها، وما جاء من ذلك إنما آتى عن طريق غير مباشر في عرض الرسالة وأدائها، ولعل أعظم برهان على ذلك أننا لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر تفكيراً، ولكن لأنه أكثر حساسية وأوفر شعوراً، والذين يفهمون الشعر على أنه فلسفة أو أخلاق أو يحاولون فهمه على هذا الأساس، إنما هم مخطئون في معرفة رسالته، فالشعر لم يرسل ليكون لسانا للفلسفة، ولا أداة للأخلاق، وأما هذه الأفكار التي قد نعثر بها عند بعض الشعراء فنظنها فلسفة أو أخلاقا، فهي ليست من هذا الطراز الذي نعهده عند الفلاسفة، ولا من المبادئ التي نعرفها عند الأخلاقيين، وفهمها على هذا النحو خطأ من أساسه، ونسيان لرسالة الشعر وغايته. والشعر لا يخضع لقانون خاص كقوانين العلم، ولا أصول ثابتة كأصول الدين، وإنما يحتاج إلى قوة التأثير التي تربط بينه وبين قلوبنا وتصل بينه وبين أفكارنا، وذلك لأنه صلة بين صاحبه وبين قارئيه، وبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلته العلو والإسفاف وقد نستطيع أن نقول إن التأثير هو كل شيء في الشعر، وهو سر خلوده، وسبب بقائه على وجه الدهر، وما الشاعر العظيم إلا الذي يشعر الأشياء التي تلمس قلوب الناس وتؤثر فيها تأثيراً عميقاً، ولقد كان قلب شاكسبير - كما يقول الإنجليز - كأنه مخلوق من قلب الإنسانية ذاتها، لأنه كان يتحدث فيلم بخطرات القلوب وخلجات النفوس، ولقد كان لسانه - كما يقولون أيضا - كأنه يحفظ كل الكلام الأنساني، لأنه كان يعبر فيحسن التعبير ويؤثر فيجيد التأثير وإنه من الحق هنا أن نذكر أن معظم شعرائنا لا يتناولون بشعرهم ما يتصل بحياتنا اتصالاً مباشراً، ولا ما يؤثر فيها ولو تأثيراً بعيداً، كأنهم في شغل عنها أو في غفلة عن أمرها، ولهذا فشعرهم لا يقع منا إلا موقع الطنين الممقوت والضوضاء الكاذبة، فهو شعر لا يمتزج بالنفوس، بل لا يتصل أي اتصال بالقلوب، وما أشبهه بمدينة منهدمة لها سور لا يكاد يقوم فلا هي تجذب العيون، ولا هو يعطف القلوب، وأكبر ظني أن هذا الخطأ الفاحش في فهم رسالة الشعر جاء هؤلاء الناس من أنهم يعيشون معيشة فنية صرفة فهم لا يستمدون فنهم من الطبيعة التي ينظرون إليها، ولا يتخذون ألوانه من الحياة التي يحيون فيها، وإنما يجذبونه جذبا من دواوين أسلافهم، ويسلبونه سلبا من موضوعاتها وأساليبها، وكأنهم جهلوا أن الشعر هو نفس صورة الحياة معبرة في حقيقة الجمال الخالدة، وموسيقاه المؤثرة. شوقي ضيف