أرشيف المقالات

أعوان الشيطان

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
أعوان الشيطان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد..
 
فقد روى البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي له برجل قد شرب قال: ((اضربوه))، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعلِه، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)).
 
مسلم اسمه عبدالله أو نعمان أو نعيمان، على اختلاف في الروايات قد أخطأ بوقوعِه في كبيرة، قيل: إنها تكرَّرت منه مرات عديدة، في رواية قال الصحابة: "قبَّحه الله ما أكثر ما يؤتى به!" من كثرة ما كان يؤتى به، ورغم أن الكبيرة التي وقع فيها ظاهرة واضحة ولا عذر له يُبيح شُربها ولا اجتهاد يعفيه من ذلك، فالنصوص قاطعة والحجة دامغة، ومع ذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمَح بالتطاول عليه بعد تعزيره، ويقولها صريحة: ((لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم)).
 
هكذا ارتضى كثير من المسلمين اليوم أن يكونوا أعوان الشيطان، يبحثون عن الزلات والهفوات والسقطات ثم يَستعملون العدسات المُكبِّرة لتضخيمها ويرتدون النظارات السوداء للتعتيم على الحسنات.
 
أعوان الشيطان يقرَعون الطُّبول عند زلّة أو خطأ لمُسلِم، وكأنهم يَعتقِدون أن ما يُقابِلهم ملاك معصوم ليس له أن يُخطئ أو يَعصي، وتناسَوا أننا مهما بلغْنا من درجات الكمال فنحن بشر خطاؤون وخير الخطائين التوابون.
 
هل هناك أقبح من الخمر؟ إنها أم الخبائث التي لعن فيها النبي صلى الله عليه وسلم شاربها ومعه عشرة أصناف، والتي قال في جزاء مُدمِنها أن له طينة الخَبال "عصارة أهل النار"، ومع هذا يُوجِّهنا على ألا نكون أعوانًا للشيطان.
 
يقع ضحية الخمر أبو محجن الثقفي وقصته يوم القادسية مشهورة معروفة يوم أن مرض سعد ابن أبي وقاص "قائد المسلمين في المعركة" مرضًا أقعدَه، وكان أبو محجن في القيد والحبس بسبب شربه الخمر، لكنه يسمَع صهيل الخيل في المعركة ويَقرع مسامعه ضرب السيوف ويُشنِّف آذانه صيحات التكبير، فيُرسل إلى سَلمى زوجة سعد، ويُقسِم لها إن مكَّنته من فرس سعد وسلاحه أن يفعل فعلته بالفرس وأن يعود إلى قيدِه، فتُمكِّنه سَلمى من ذلك ويُبلي بلاءً حسنًا.
 
نعم؛ إنها الخمر التي وقع فيها أبو دجانة في الشام فيُمسِك أبو عبيدة بن الجراح العطاء عنه تعزيرًا، فيَصِل الخبر إلى الفاروق عُمر فيبعث إليه قائلاً: ردَّ لأبي دجانة العطاء ولا تكن عونًا للشيطان على أخيك، ويَكتُب إلى أبي دجانة قائلاً: ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: 1 - 3].
 
نعم، كلنا ذو خطأ، وليس منا من هو طاهر مُقدَّس، وكلنا ذلك المُذنِب، فمَن الذي يمنع المخطئين من دخول الجنة؟
 
الخوارج فقط هم الذين قالوا بخلود صاحب الكبيرة في النار، أما عقيدة أهل السنة أن صاحب الكبيرة لا يَخلُد في النار إنما يُجازى على فعله ثم يَنجو، إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان وإن الله قال: "من ذا الذي يتألى عليَّ ألا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطت عملك".
 
ابحَث لأخيك عن سبعين عذرًا، فإن لم تَستطِع فعاتِب نفسك وقل لها: ويحَك، هذا أخي يَعتذِر بسبعين عذرًا، أفلا تَقبلي له واحدًا؟ ولْيَسلم منك كل مسلم.
 
يقول سفيان بن حسين: تكلَّمت عند إياس بن معاوية على رجل، فغضب وقال لي: أغزوتَ الديلم؟ قلت: لا، فقال: أغزوت السند؟ قلت: لا، فقال: أغزوتَ الهند؟ قلت: لا، فقال: أغزوت الروم؟ قلت: لا، فقال: أَسِلَمت منك الديلم والسند والهند والروم ولم يسلَم عليك أخوك هذا؟
 
روى البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يوم أن ذكَر قصة الزاني ورجمه، قال: فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قول رجلين من أصحابه، وأحدهما يقول لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله - عز وجل - عليه، لم يدَعْ نفسَه حتى رُجمَ كما يُرجَم الكلب، فسكَت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مرَّ بجدْيٍ ميِّت سابل رجله، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ((انزلا وكُلا))، فقالا: غفَر الله لك يا رسول الله، ومَن يَستطيع أن يأكل من هذا؟ فقال: ((والله ما نلتما من أخيكما أشد من أكلِكما هذه، وإنه لغميس في أنهار الجنة)).
 
هكذا هم أعوان الشيطان لا يرحمون زلة ولا هفوة، وليس لمُخطِئ عندهم صفح ولا عفو، فهم ينظرون إلى سيئاته دون حسناته، والمُنصِف هو الذي يَزِن الجميع كما فعل الصادق المصدوق بأبي هو وأمي في قصة حاطب بن أبي بلتعة يوم أن تجسس على رسول الله ونقل خبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش، فقال بعض القوم: نافَقَ حاطب، فرد النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما يُدريك؟ لعلَّ الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إني قد غفرت لكم)).
 
فربما ضاعت سيئات عبد في بحور حسناته كما حصَل لحاطب، وربما تاب توبة لو قُسمت على أهل الأرض لوسعتْهم.
 
أخي الحبيب، لا تكن عونًا للشيطان على أخيك، حتى وإن زلَّ أو أخطأ؛ فقد أخرَج الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: إني لأَذكُر أول رجل قطعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أُتي بسارق فأمر بقطعه، فكأنما أَسِف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله كأنك كرهت قطعه، قال: ((وما يَمنعني، لا تكونوا أعوانًا للشيطان على أخيكم؛ إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حدٌّ إلا أن يُقيمه، إن الله عفوٌّ يحبُّ العفو، وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم))، والله من وراء القصد، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.

شارك الخبر

المرئيات-١