تعقيبات
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الأصدقاء والأعداء
نشرت الجريدة الرسمية للحكومة البلجيكية قانون جمعية تألفت أخيراً باسم (جمعية الصداقة المصرية البلجيكية)، وقالت إن غرض هذه الجمعية (توثيق الروابط الثقافية والاقتصادية بين مصر وبلجيكا)، وذكرت أن من أعضائها (أحمد صديق باشا، وعزيز أباظة باشا، والمسيو هنري أردن مدير شركة ترم القاهرة، وحضرة سكرتير المفوضية المصرية ببروكسل). إلى آخر من ذكرت من ذلك الخليط.
. ومنذ أيام قليلة كانت لنا قضية أمام مجلس الأمن، هي قضية الحياة والحرية والكرامة، ووقفنا في المجال الدولي نتبين العدو من الصديق ونفتش عن أولئك الذين عاشوا طول الزمن يغترفون من فيض الكرم المصري ويقتاتون بدم الشعب الطيب الوديع، فهالنا أن نرى (بلجيكا) في صف الأعداء، تأبى علينا الحياة والحرية والكرامة، وتعلن على مطالبنا حرباً شعواء في غير خجل ولا حياء، وهي التي تكسب من مال مصر كل عام ما يقدر بنصف دخلها أو يزيد. في الشدة عرفنا العدو من الصديق، وأصبح من الواضح أين نتوجه بعواطفنا وإلى من نبذل صاقتنا، وبالأمس حمدنا لأديب المصري أن ألقى بوسام فرنسي من صدره إنكاراً لدولة أنكرت علينا حقوقنا، ولكن يظهر أن عندنا جماعة من محترفي (الصداقات) وهم في هذا السبيل لا يبالون مصريتهم ولا يراعون عواطف الشعب الذي ينحدرون منه وينتسبون إليه! يقول الفلاحون عندنا في أمثالهم: (ليس بعد حرق الزرع جيرة)، فماذا يكون بينا وبين بلجيكا من الروابط بعد الذي كان من وقف تلك الدولة تجاه قضيتنا، وتجاه حريتنا، وبعد أن كفرت بافضال مصر واستخفت بكرم المصريين وكرامتهم؟؟ كلا أيها السادة، إن الكرامة المصرية أصبحت لا تحتمل هذا التهافت ولا تطيق تلك (الصداقات الرخيصة) التي تجلب لأصحابها ما تجلب من (الأسهم والسندات) ولكن على حساب الأمة المسكينة والشعب المنكوب!! لا زاريت.
.
والأزهر: اذكرني الكلام الذي يجري الآن عن الحجر الصحي ووقاية البلاد من الأمراض الوافدة بكلمة لها صلة بهذا الموضوع. ذلك أن جمهورية (فينسيا) كانت أول دولة أقامت محجراً صحياً ببلادها عام 1403م وأسمته (لازاريت)، ثم كان أن أخذت الدول الأوربية عنها هذا النظام. ولما هجمت (الكوليرا) على مصر عام 1831م كان الوالي على مصر محمد علي باشا، فأمر ذلك المصلح الكبير بإدخال نظام (الكورنتينة) في مصر، فجمع قناصل الدول وألف من بينهم لجنة لوضع النظام الخاص بهذا الغرض، وفي عام 1832م بني أول محجر صحي في الشاطبي بالإسكندرية، وعرف هذا المكان باسم (مزريطة) أو (الأظاريطة) نسبة إلى كلمة (لازاريت) التي أطلقت على أول محجر صحي أنشأته جمهورية (فينسيا).
. ويقول (لاروس) في معجمه الكبير - مادة لازاريت - (إن بعض الإفرنج يرون أن كلمة لازاريت مأخوذة من كلمة الأزهرية لأن الأزهر في مصر ملجأ للعميان والشيوخ المتقاعدين) ولست أدري هل هذا هو مبلغ العلم عند هؤلاء الإفرنج، أم هي روح التعصب والشنآن لا تفارقهم حتى في التحقيق العلمي، فإن كلمة (لازاريت) معروفة الأصل واضحة النسب، فهي كلمة لاتينية معناها (المجذوم)، وقد كانت الدولة الرومانية تبالغ كثيراً في الحجر على المجذومين، وكان عقاب المجذوم الذي يخرج من نطاق الحجر هو القتل السريع، وكان أن أطلقت هذه الكلمة على نظام الحجر الصحي الذي أخذت به الأمم فيما بعد.
. علي مبارك باشا: أشار الدكتور زكي مبارك في مقال له بالبلاغ إشارة عابرة إلى علي مبارك باشا فقال: (والحقيقة أن علي مبارك باشا من مديرية الشرقية.
وقد كان عظيماً، والذي يعرف تاريخه هو الدكتور إبراهيم سلامة، فقد نال بالحديث عن مذاهبه التعليمية إجازة الدكتوراه من باريس.
). وأنا رجل شرقاوي، وكان يهمني أن يكون ذلك الرجل العظيم من مفاخر إقليمي، ولكن الحقيقة أنه من الدقهلية، وقد قرر هو هذه الحقيقة في الترجمة التي كتبها لنفسه في الخطط التوفيقية فقال: (إن قرية برنبال الجديدة هي مسقط رأسي، وبها نشأت، وكانت ولادتي سنة 1239هـ كما أخبرني بذلك أبي وأخي الأكبر، وأصل جدنا الأعلى من ناحية الكوم والخليج وهي قرية على بحر طناح.
.) ومن المعروف أن قرية برنبال الجديدة تقع على البحر الصغير تجاه كفر علام بمديرية الدقهلية.
. ومما يذكر بهذه المناسبة أن علي باشا مبارك فر من قريته وهو صغير فأصيب بالكوليرا وسقط في الطريق، وكانت فاشية في مصر يومذاك، فحمله أحد الفلاحين إلى منزله وتولى علاجه والعناية به، وقد كتب الله له السلامة من ذلك الوباء اللعين.
وهناك مسألة يجب أن يتدبرها الذين يكتبون عن علي مبارك باشا، ويدرسون آثاره ويحكمون عليها، وهي أنه رحمه الله كان يصنع في مؤلفاته صنيع السيوطي من قبل، فكان يعتمد إلى حد بعيد على تلاميذه ومريديه وأصدقائه في وزارة المعارف، ويقولون إن للمغفور له عبد الله فكري باشا جهداً في (الخطط التوفيقية)، وقد استطاع علي مبارك باشا بهذه الطريقة أن يؤلف كثيراً حتى في الموضوعات التي لم تكن لها صلة بثقافته، وإن الكشف عن هذه الحقيقة ليجعلنا نتدبر كثيراً في الحكم على مؤلفات ذلك الرجل العظيم وما خلف من آراء وآثار. هذه كلمة عابرة في الرد على إشارة عابرة ولعل الوقت يسمح لي بالكتابة عن ذلك الرجل فقد جمعت عنه من المعلومات الشيء الكثير.
إمارة الشعر: لمناسبة ذكرى المغفور له شوقي بك عاد إخواننا الصحفيون يتحدثون عن إمارة الشعر، وفتحت مجلة (الهلال) في عددها الأخير باب الاستفتاء لقرائها فيمن هو أجدر بلقب الأمارة الآن؟ وكأني بإخواننا هؤلاء يحسبون أن إمارة الشعر يمكن أن تفتعل افتعالاً وتقترح اقتراحاً وأنه لابد للشعراء من أمير كما للصحفيين نقيب وللمحامين عميد وللعمال (كومانده) وللتجار (سرتجار).
وكأني بإخواننا هؤلاء يحسبون أن شوقي صار أميراً للشعراء لأن فريقاً من أدباء العربية احتفلوا به لهذا الغرض، ولأن حافظاً بايعه بالأمارة في ذلك الحفل، ولأن الصحف أخذت تخلع عليه هذا اللقب في كل مناسبة.
كلا أيها الإخوان، إن شعر الشاعر وحده هو الذي ضمن له الأمارة، ويضمن له الخلود على الزمن وهو مرتبة أكبر من كل إمارة وما هو فرق الأمارة.
لقد كانت بدعة اقتضتها ظروف الحياة السياسية والاجتماعية في مصر منذ نصف قرن، فقد كان المصريون يرون الأتراك قد استأثروا دونهم بالألقاب الفخيمة والرتب العالية، فكان من مطالبهم أن يكون لهم نصيبهم من هذا، وكانت في نفوسهم لهفة على أن تكون أسماؤهم مقرونة بالألقاب والنعوت الكبيرة، وكان لهذه اللهفة صداها في دولة الأدب، ولما كان شوقي شاعر القصر في تلك الأيام فقد درجت الصحف يوم ذاك على تلقيبه بشاعر الأمير، ولما كان حافظ في الجهة المقابلة له فقد لقبوه بشاعر النيل، وهكذا شاعت الألقاب بين الشعراء والكتاب، فلقبوا الخليل بشاعر القطرين، وإسماعيل صبري بأستاذ الشعراء أو بشيخ الشعراء، وعبد المطلب بشاعر العروبة والبداوة، وولي الدين يكن بأمير الشعر والنثر، وجاء صديقنا الأستاذ أحمد رامي في عقاب ذلك ففاز من التركة (بشاعر الشباب) وهي الرتبة التي لا يزال يحملها إلى اليوم.
وكان المرحوم الشاعر أحمد نسيم لا يجد من يخلع عليه اللقب المناسب فكان يرسل بقصائده إلى الصحف بعد أن يكتب لها مقدمة ثناء طويلة يخلع فيها على نفسه ما شاء من ألقاب، أقلها شاعر الوطن.
ولما مات شوقي وحافظ وقف يقول: ولو شئت كانت لي زعامة شعرهم ...
وكنت لمن يأثم خير إمام شوارد تزري بالحطيئة هاجياً ...
وتعيي جريراً في مديح هشام ولكن عهد حطيئة وجرير كان قد انقضى.
وكانت في نفس شوقي رحمه الله لهفة إلى نيل رتبة الباشوية، كما كان المتنبي يتلهف على الفوز بالولاية، ولكن الظروف لم تسعفه، فقد أبعد الخديوي عن مصر، وأبعد شوقي نفسه عن مصر، وتبدلت الأحوال والأوضاع، وخبأ أمله في تلك الرتبة، فأراد أن يعوض هذا على نفسه برتبة الأمارة في الشعر، فكانت الصحف التي تنطق باسمه تخلع عليه هذا اللقب دائماً، ثم كانت حفلة المبايعة المعروفة، وكان شوقي شاعراً كبيراً حقاً فضمن لنفسه هذه الأمارة، وضمن لنفسه الخلود وهو أكبر وأعظم من كل أمارة.
أمارة الشعر بدعة انتهت بانتهاء ظروفها.
وليست هذه البدعة بالشيء المعروف في الأمم الأخرى.
ولم يكن هذا بالأمر المألوف بين شعراء العربية من قبل.
.
فلم يبايع أحد البحتري بأمارة الشعر، ولم تقم له حفلة لذلك، ولكنه كما يقولون أخمل بشعره سبعين شاعراً في عصره فلم يذكرهم ذاكراً.
. (الجاحظ)