شرح صحيح البخاري [5]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

قال الإمام البخاري رحمه الله:

باب من سُئِلَ علماً وهو مشتغل بحديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل.

حدثنا محمد بن سنان ، قال: حدثنا فليح ح وحدثني إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثنا محمد بن فليح ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

وذكرنا قبل ذلك أن الإمام البخاري رحمه الله ذكر هذا الحديث مختصراً في كتاب الرقاق، من طريق محمد بن سنان ، وقد وصلنا إلى آخر جملة في هذا الحديث وهي الجملة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إضاعة الأمانة، قال: (إذا وسد الأمر) وفي رواية أخرى: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

قالوا: يضيِّع الدنيا والآخرة رجلان: نصف طبيب، ونصف عالم، نصف طبيب يهلك الأبدان، ونصف عالم يضيع الأديان، فكيف إذا لم يوجد هذا النصف أيضاً؟!

إن الفتنة التي تطل برأسها الآن، هي: فتنة القرآنيين الذين لا يثبتون السنة، إلا من حيث الجملة، أي: أن هناك سنة والنبي عليه الصلاة والسلام تكلم بأحاديث، لكن ليس على سبيل التفصيل، فينكرون الأشياء التي كانت معلومة ومستقرة عند أسلافنا، وهم الذين يقولون: حسبنا القرآن، وقد تولى علماء السنة أهل الحديث الرد عليهم، وغزوهم في معاقلهم، وذلك عندما كان العلماء متوافرين، فقد كانوا يغزون معاقل هؤلاء، ويرجعون مظفرين، لكن الآن لا يوجد لدينا طائفة الفرسان الذين يهاجمون، أو الذين تحققوا من علم السنة جملة وتفصيلاً.

الآن يأتي رجل ويخرج علينا برأي سقيم، ويرد عليه كل العلماء، يقول: إن الله تبارك وتعالى قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وقد أجمع أهل العلم على أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، والقرآن لم يحدد يوم عرفات، ويكون في الحج زحام شديد، حيث يحج اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ملايين، فهذا يؤدي أحياناً إلى الموت من شدة الزحام، فإذا كان الحج يبتدئ من شوال، والإنسان المتمتع مثلاً إذا أراد الحج من عامه وأتى بالعمرة التي هي بين يدي الحج في أول شوال فيتحلل وينتظر إلى يوم التروية، ثم يهل بالحج، فما بين عمرته وما بين إهلاله بالحج شهران وثمانية أيام، وهذا يعتبر داخل في الحج، فما هو المانع إذا كان القرآن لم يحدد لنا يوم عرفة أن نقدمه، طالما أن شهر شوال من أشهر الحج، لماذا لا يكون فيه يوم عرفة وعيد؟!

بحيث نقول: إن على أهل شرق آسيا أن يحجوا في شوال، وعلى دول المغرب والشرق الأوسط أن يحجوا مثلاً في ذي القعدة، وبلاد الأعاجم في ذي الحجة وهكذا، فيصبح عندنا سبعون يوم عرفة، وسبعون عيداً، طالما أن القرآن لم يحدد يوم عرفة.

هذا رأي رجل حقير جداً، ومع ذلك يشغل الرأي العام، وينبري له أكبر الرءوس العلمية في الكلية الشرعية، هذا ما ينبغي أن يرد عليه أصلاً، ولا ينبغي أن تصبح المسألة قضية، فإن كون المسألة تصبح قضية فهذه هي الخطورة في الموضوع، لأن القضية كلها ساقطة ليس لها قيمة على الإطلاق، أفكلما نعق ناعق يقف كل هؤلاء العلماء طابوراً ليردوا عليه؟!

ويقولون: لا تتعصبوا، يجب أن تفتحوا صدوركم للرأي والرأي الآخر! حتى لو كان كفراً!!

وهذه امرأة شمطاء تجاوزت سبعين سنة، قالت: لقد كسبنا الجولة الأولى، وهي أنه تم إصدار قانون بمنع ختان الإناث، تقول: وأنا الآن أطالب بمنع ختان الرجال، انظر يا أخي إلى قلة الحياء! هذه المرأة هي التي تطالب بمنع ختان الرجال!! ويقوم العلماء بالرد عليها، ويشغلون الناس بمثل هذه الآراء التافهة الساقطة، مثل ما تفعل المخابرات الأمريكية عندما تحب أن تعمل مصيبة في العالم، تخترع قصة وهمية، ويقوم أفحل العلماء الذين لا يشك أحد في مصداقيتهم من أهل علمهم ويتكلم فيها، مثل: الأطباق الطائرة، أو رجل طويل نازل على طبق ونازل على البحر الميت. وقال شهود عيان.. ورأينا.. وسمعنا.. وكلمنا.. وكلمناهم.. ويقول عالمهم: هذه ظاهرة علمية حقيقية، ونحن نصدق هؤلاء في كل ما يقولون، وإذا اعترض أحد منا على هذا الكلام، قالوا: أنت لا تصدق شيئاً، وهذا ليس من تخصصك.

نقول: وأنت الذي اعتمدت على شهرتك أنكرت الشفاعة، وقلت: إن الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها مكذوبة، وأنت لا تفقه شيئاً في علم الحديث، ولا في قبول الروايات ولا ردها، ولا تعرف كيف يقبل العلماء الحديث وكيف يصححونه؟! فلماذا تعديت على تخصص هؤلاء، وجزمت بأن كل ما ورد في السنة أو السيرة من الأحاديث التي تتحدث عن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعصاة يوم القيامة غير صحيحة، وهي عند أهل العلم ثابتة ولا يشك فيها أحد؟! لماذا لم تحترم التخصص وتأتي البيوت من أبوابها؟ مثلما تأتي البيوت من أبوابها في عالم الحيوان، وعالم الإيمان وعالم النبات وغيرها، وتقول: إن العالم الفلاني قال كذا، والعالم العلاني قال كذا، ولا تتجاوز اختصاص هؤلاء، فهلا عرجت على واحد من أهل الاختصاص في معرفة الحديث الصحيح والضعيف، وقلت: إن العالم الفلاني قال: إن الحديث ضعيف، وكنت قادراً على أن تثبت حجتك؟! لماذا لا يهاجم هؤلاء الذين يتكلمون في غير فنهم، ويهاجم العلماء إذا تكلم أحد منهم في فنه؟!

فتنة القرآنيين بدأت تطل من جديد، وهم الذين يقتصرون على القرآن وحده، وكل حديث يخالف ظواهر الآيات حسب مفهومهم فهو حديث مكذوب.

يقول أحدهم -ممن اشتهر بتكذيب الأحاديث-: لماذا رد البخاري خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث، فرده هذا يوحي بأن هناك علة؟ (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فالجهل يكون هو الحاكم، فإذا حكم الجهل زاد الشر، ومعلوم أن من علامات قيام الساعة ازدياد الشر، قال أنس رضي الله عنه: (ما من يوم يمر إلا والذي بعده شر منه إلى يوم القيامة).

وقد رد الحافظ ابن حجر على الكرماني في مسألة في علم الحديث، والكرماني كان متوسط الفهم في علم الحديث، ولم يكن من أهل العلم الكبار، فـالكرماني تكلم بكلمة أخطأ فيها، فقال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق كلامه ورد عليه، قال: ومن تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب.

فعندما يقول هذا الرجل: لماذا رد البخاري خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث؟ هل هذه الرواية أصلاً صحيحة عن البخاري ؟ لا، الذي صح عن البخاري أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، أي: أن جملة ما كان يحفظه البخاري ثلاثمائة ألف، وكلمة: (غير صحيح) قد تحتمل ما هو أدنى من الصحيح، مثل: الحسن، والإمام البخاري رحمه الله تكلم بمصطلح الحديث الحسن كثيراً، ومنه أخذ تلميذه الإمام الترمذي هذا المصطلح، وجعل له حداً، كما في (العلل الصغير) المطبوع في آخر سننه.

فالإمام البخاري عندما يقول: أحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يصح أن نقول: إن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة والباطلة أكثر من خمسمائة ألف وقد تزيد، لكن الشأن فيما اختاره البخاري في صحيحه.

إذا كان الإمام البخاري عنده ملكة في تمييز خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث غير صحيح، فمعناه أنه صار إماماً ناقداً، فإذا قال: أنا ألفت كتاباً وسميته: (الجامع الصحيح)، أفيتصور أن يورد في هذا الكتاب الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة؟! على هذا المفهوم يكون هذا الرجل إما أنه غاش للمسلمين، أو أنه أوهمهم بأنه سيورد الأحاديث الصحيحة ولم يفعل، وإما أنه جاهل لا يدري الفرق ما بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف والمنكر.

ليس علينا بما أنكره البخاري، إنما نقول: لماذا تعديتم على صحيح البخاري، وقلتم: إن فيه أحاديث مكذوبة، وفيه إسرائيليات؟

ثم يقول: إن أبا حنيفة رحمه الله كان يحفظ سبعة عشر حديثاً، فإذا كان أبو حنيفة الإمام الكبير الذي مدار الفقه عليه، محفوظه أقل من عشرين حديثاً، فأين هذه الألوف المؤلفة حتى لا يعلمها أبو حنيفة؟ إذاً: كل الأحاديث هذه مكذوبة ومنكرة، بدليل أنها لو كانت هذه الأحاديث صحيحة لكان عند أبي حنيفة أحاديث كثيرة لمجاله الفقهي، وما من مسألة إلا ونحن نحتاج فيها إلى دليل جذري.

يذكرني هذا بما ذكره أهل الأدب عن خالد بن صفوان الخطيب البليغ المشهور، أنه دخل الحمام يوماً فرآه رجل في الحمام وكان ابنه يغتسل في الحمام، وأبوه منتظر له خلف الباب، فلما رأى الوالد خالداً ، قال لابنه رافعاً صوته: يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك، ثم التفت إلى خالد كالمتباهي، وقال: يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله، فقال له: هذا كلام لم يخلق الله له أهلاً قط.

فعلم هؤلاء بالحديث وقبول الروايات مثل علم هذا الرجل باللغة العربية.

وهذه الأحاديث السبعة عشر التي ينسبونها لـأبي حنيفة رحمه الله ليست هكذا، إنما القصة: أن علماء الحديث في المدينة كان بينهم وبين مدرسة الكوفة وعلى رأسها أبي حنيفة مشاكل، وأن أهل الكوفة من منظور أهل الحجاز لم يكونوا يهتمون بالأحاديث، ولم يرحلوا في طلبها، ولذلك تكلموا في حفظ أبي حنيفة ، فقال البخاري ومسلم وابن معين في رواية، وأحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي وابن عدي والدارقطني : إن أبا حنيفة سيء الحفظ، ولذلك خلت الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وابن حبان ومستدرك الحاكم والبيهقي من ذكر أبي حنيفة ، ومن رواية أبي حنيفة ، على اعتبار أنه سيء الحفظ عندهم.

والعلماء من الأحناف أتوا بروايات أخرى عن الأئمة الثقات مثل: ابن معين ، وابن المبارك وغيرهم.. تقول: بأن أبا حنيفة من أحفظ الناس ومن أوثق الناس.. إلى آخره، حتى قال ابن حبان في المجروحين: إن كل ما لـأبي حنيفة في الدنيا سبعة عشر حديثاً، ما من حديث إلا قلب إسناده أو متنه، مع قلة ما روى.

فالإمام البخاري لو قلنا: إنه أنكر هذا العدد الكبير من الأحاديث ما علينا من هذا العدد، كل الذي نتكلم عنه صحيح البخاري، لماذا تعديتم على صحيح البخاري وقلتم: إن هناك أحاديث مكذوبة؟ إنما كان ذلك لأنكم لم تفهموها، يا ليتكم قرأتم شروح العلماء الذين شرحوا صحيح البخاري، مع أن لصحيح البخاري أكثر من ثلاثمائة شرح وتعليق، وكذلك صحيح مسلم له قرابة مائة شرح وتعليق.

يقول السيوطي :

وانتقدوا عليهما يسيرا فكم ترى نحوهما نصيرا

وليس في الكتب أصح منهما بعد القرآن ولهذا قدما

إجماع من العلماء، أنه ليس بعد القرآن أصح من هذين الكتابين، وأن الإمامين لاسيما البخاري رحمه الله وضع كتابه على أتقن القواعد العلمية، وشرط البخاري شديد، ومسلم لما رد على علي بن المديني في مقدمة صحيحه وشن الغارة عليه بسبب ضيق شرطه، أما البخاري رحمه الله فما كان يقبل من الحديث إلا ما ثبت لديه -ولو في إسناد واحد- من أن هذا التلميذ لقي شيخه ولو مرة واحدة، وبلغ من ضيق شرط البخاري أنه أهمل قبول رواية أهل البلد الواحد، ما لم يقف على إسناد فيه أن فلاناً قال: حدثني فلان، فالذي يبني كتابه على هذا الشرط الضيق الشديد كيف ينتقدونه هؤلاء الجهلة؟

وكل المسألة أن ظواهر بعض الأحاديث تتعارض عندهم مع ظواهر بعض الآيات، فيقولون: حسبنا كتاب الله، ولو ردوه إلى أهل العلم لعلموا الوجه الصحيح.

نقل ابن عبد البر -رحمه الله- في كتاب: التمهيد عن الإمام أحمد، قال: إن الذين يعارضون الأحاديث بظاهر القرآن عملهم منكر، لا ينبغي أن تعترض على الأحاديث بظاهر القرآن؛ لأن القرآن حمال ذو وجوه، والسنة بينت القرآن، فينبغي أن يؤخذ بالمبيِّن، وهذا معنى قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: إن السنة قاضية على كتاب الله، وهذا أيضاً كلام الإمام الدارمي ، وابن عبد البر ، وجماعة من السلف.

سئل الإمام أحمد هل تذهب إلى أن السنة قاضية على كتاب الله؟ فقال: ما أجسر أن أقوله، إنما السنة مبينة لكتاب الله، إذاً: المسألة لفظية فقط، كأن الإمام أحمد كره هذا اللفظ الذي يتصور منه تقديم السنة على القرآن، فلأجل هذا تحاشى الإمام أحمد تحاشى إطلاق اللفظ، وأتى بلفظ يفهم منه المعنى تماماً، وهو أن السنة مبينة للقرآن.

ومعنى أن السنة قاضية على القرآن أنه إذا اختلف اثنان فيتحاكمان إلى القاضي أليس كذلك؟

كل واحد يدلي بما عنده من دليل، فيقول القاضي: الحق مع فلان، فإذاً: القاضي قضى لفلان بعدما ثبتت حجته وظهرت واستبانت، كذلك السنة.

خذ مثالاً: قال الله تبارك وتعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223]، قال الشافعي رحمه الله: هذه الآية حجة لمن ذهب إلى جواز إتيان المرأة في دبرها، ولكن صح عندنا حديثان في منع إتيان المرأة في دبرها فالسنة قضت على أحد المعنيين في كتاب الله، وهذا معنى أن السنة قاضية على كتاب الله. أي: أن هناك لفظة في القرآن تحتمل معنيين، فتأتي السنة فتقضي بين المعنيين، وتقول: المعنى الأول هو المراد، والثاني غير المراد، فتكون السنة قد قامت بدور القاضي بين المعاني، فلذلك صارت قاضية على كتاب الله لا أنها مقدمة على كتاب الله.

مثال آخر: قول الله تبارك وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة، وتابعهما جماهير أهل الكوفة، إلى أن القرء حيض، وذهبت عائشة وأبو هريرة وابن عمر وغيرهم وتابعهم جماهير أهل المدينة، وكذلك الشافعي إلى أن القرء طهر، واللغة العربية تمتاز بهذا الباب الذي هو كلمات الأضداد، فبعض الكلمات تحمل معنى وعكسه، والذي يبين المقصود هو السياق.

مثل كلمة: ظن، فالظن معناه الشك، وقد يكون معناه اليقين، كقوله تبارك وتعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:45-46] فالآية في سياق المدح لهم، فلا يتصور أن الظن شك؛ لأن الشاك في لقاء الله كافر، فالظن بمعنى اليقين الذي لا شك فيه، وكقوله تبارك وتعالى: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]، وقوله: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32]، وقوله: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس:36].

كذلك كلمة: وراء، قد تعني: أمام، وقد تعني خلف، أما أنها تعني خلف فعلى بابها، أما (أمام) فكقوله تعالى في قصة الخضر: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79] أي: أمامهم، لأنه لو كان وراءهم لتجاوزوه، فما هي الحاجة إلى خرق السفينة، فهذه اللفظة تحمل عكس معنى اللفظ الأصلي.

فمن كلمات الأضداد كلمة: قرء، يعني: طهر، وحيض، فأهل الكوفة قالوا: حيض، والدليل على ذلك أن المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي نزول الدم منها بصورة مستمرة، وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقراءك)، أي: اتركي الصلاة في أيام أقراءك، فهذا يدل على أن القرء حيض، فالسنة هنا قضت لأحد المعنيين على الآخر، وهذا هو معنى السنة قاضية في كتاب الله، وهي مبينة.

وتصوروا أيها الإخوة! إذا ضاع البيان فهل يستفاد من النص المجمل؟ فهؤلاء يأتون على أحاديث لا يفهمونها على وجهها، فيقولون: هذه مكذوبة، وهذه موضوعة.

نقول: إن الحكم على الحديث بالوضع، أو بالنكارة، أو البطلان، أو الشذوذ، أو الصحة، أو الحسن، إنما يخضع أولاً للإسناد، قال ابن المبارك : الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.

نتمنى أن تكون هناك نهضة عملية في علم الحديث، لا يظل الحديث في الدفاتر، لكن يجب أن نمارس علم الحديث على الواقع. لأننا لو مارسنا علم الحديث على الواقع لتقلص كثير من القيل والقال، كل إنسان يكتب كلمة نسأله عن دليله، ثم نسأله من سبقه إلى هذا القول من أهل العلم؟!

أحد المشايخ صنف كتاباً -وكان آخر كتاب صنفه غفر الله له- وهو: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، جنى فيه على السنة جناية كبيرة وأخطأ، ولو قلت: كذب لما جاوزت الحقيقة؛ لأن الكتاب طبع قرابة خمسة عشر مرة في حياته -وأنا اطلعت على الطبعة الرابعة عشرة- فما تراجع عن حرف واحد، رغم أنه ظهر سبعة عشر رداً على كتابه؛ لأن فيه الكثير من الكذب على أئمة الفتوى.

مثلاً: مسالة دية المرأة على النصف من دية الرجل، فيقول معترضاً: من الذي جعل دم المرأة أرخص من دم الرجل؟! بل دية المرأة مثل دية الرجل، فنقول: إن الذي جعل ميراثها مثل نصف ميراث الرجل، وشهادتها نصف شهادة الرجل، هو الذي جعل دمها على النصف من دم الرجل، لاسيما وقد ورد الحديث والإجماع، وقال: إن القول بأن دية المرأة نصف دية الرجل كذب على الفقهاء، فالجماعة الذين ردوا عليه نقلوا له من كتب أهل العلم من كتاب: الأم للشافعي ، والمغني لـابن قدامة ، ونقلوا له من: السنن الكبرى للبيهقي ، ونقلوا له من كتاب: التمهيد لـابن عبد البر ، ومن كتاب: الإجماع لـابن المنذر ، ومن كتاب: مراتب الإجماع لـابن حزم ، نقلوا إجماع الأمة، وأنه لم يخالف في هذا إلا رجلان فقط من المعتزلة وهما: الأصم وابن علية، وهذا كلام ابن قدامة في المغني.

أظن أن هذا كان كافياً لكي يرجع عن قوله في الطبعة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو العاشرة. لكن لم يرجع وبقي الكلام كما هو، إذاً: المسألة ليست مسألة دليل، وليست مسألة تأصيل علمي، إنما المسألة مسألة انتصار لرأي خطير، وانتقاص لجانب الفقهاء.

يقول في رد الروايات: إن رد الروايات لا يخضع للإسناد، وهذا على خلاف اتفاق أهل العلم جميعاً، في أن الحديث إنما يحكم عليه صحة وضعفاً أولاً بالنظر إلى سنده، إنما الذي إذا سمع المتن أنكره أو صححه هم أهل العلم الكبار، الذين كانوا يحفظون الآلاف من الأسانيد، إذا سمع المتن يعرف أن هذا المتن صحيح، وأن له أسانيد صحيحة، لكنه لم يذكرها، كـأبي حاتم الرازي ، وأبي زرعة الرازي ، والإمام البخاري ، ومسلم ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وسفيان الثوري ، وشعبة بن الحجاج وأمثال هؤلاء العلماء.

فالاعتداء على صحيح البخاري، القصد منه إهدار بقية السنة، إذا كان هذا أصح كتاب عندنا، ويأتي هؤلاء الجهلة ويخرجون منه أربعمائة حديث ويدّعون أنها موضوعة ومكذوبة، كل أحاديث الشفاعة أنكروها، لأنها تخالف قوله تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة:4] وهذا إنكار منهم أنه يوجد شفيع ودليلهم: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44] فقط!

نقول: وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، أين ذهبت؟ وقوله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف:86]، فالقرآن أثبت أن هناك شفعاء بإذنه تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيشفع، وأن المؤمنين سيشفعون، وأن الرجل قد يشفع لأهل بيته، وهذا كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فأي نكير على هذا، وهو لا يعارض القرآن.

إن ظاهرة توسيد الأمر إلى غير أهله الآن قائمة على قدم وساق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، ينبغي علينا نحن أن نقوم بواجبنا تجاه ديننا، أين كتيبة الدفاع عن السنة؟ كان أولى الناس بالدفاع عن السنة الأساتذة الموجودين في أقسام الحديث، وفي كليات أصول الدين، أين دورهم في الرد على هؤلاء؟!

لأجل هذا أيها الإخوان! أنا أهيب بكم وأدعوكم إلى دراسة علم السنة، وأن أي أحد يغار على دينه، يجب أن ينتدب نفسه للدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الحراسة عندنا ضعيفة جداً، الحراس عندنا نائمون، لا يقومون بواجبهم.

كان قديماً لا يستطيع رجلٌ مع وجود الحراس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتدي على فرع من فروع الدين، فضلاً عن أن يفكر في الاعتداء على أصل من أصول الإسلام، بسبب الحراسة القوية لدين الله عز وجل.

نماذج من دفاع الصحابة عن الدين

في سنن الدارمي: أن أبا موسى الأشعري لما كان في الكوفة رأى قوماً يسبحون بالحصى فأنكر ذلك، -الآن عندما تنكر السبحة يقولون لك: هناك أناس لا يصلون وهناك أناس زنادقة وملحدون، وأنت تتكلم على السبحة، هؤلاء بالنسبة لأولئك رضي الله عنهم، فانظر إلى تفاوت الهمم، هؤلاء يدورون ما بين بدعة وردة، ينظرون للمبتدع ويقولون: رضي الله عنه بالنسبة للمرتد، وحراس الحدود عندما تكون نظرته هكذا سقطت الحراسة ودخل العدو، نقول: لا يجوز للحارس أن يتساهل مع عدوه وإن كان نملة، فإن معظم النار من مستصغر الشرر- وانطلق أبو موسى الأشعري إلى عبد الله بن مسعود في صلاة الفجر، فوجد تلاميذ عبد الله بن مسعود على الباب، قال: أما خرج أبو عبد الرحمن ؟ قالوا: لم يخرج بعد، فجلس معهم حتى خرج ابن مسعود فاكتنفوه، فقال أبو موسى الأشعري : يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت شيئاً آنفاً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حلقاً حلقاً وأمام كل حلقة حصى، وأحدهم يقول: سبحوا مائة، كبروا مائة، هللوا مائة، فيعدون التسبيح والتكبير والتهليل، فقال ابن مسعود: يا أبا موسى! هلا أنكرت عليهم، وقلت لهم: عدوا سيئاتكم وأنا ضامن أنه لن يضيع من حسناتكم شيء، قال: انتظار أمرك أو انتظار رأيك. فانطلق عبد الله بن مسعود ودخل المسجد، فإذا الأمر كما وصف أبو موسى، فوقف على حلقة من هذه الحلق، وقال: ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد، ها هو محمد صلى الله عليه وسلم آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبلى، حتى فعلتم شيئاً ما فعله ولا أصحابه، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلال، قالوا: يا أبا عبد الرحمن والله ما نريد إلا الخير، نحن نذكر الله، وأظن أن هذا محمود عند طوائف كثيرة، ومع ذلك أنكره عبد الله بن مسعود ، وما غره هذا الظاهر من الخير؛ لأنه مخالف لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

وذلك مثل فعل عبد الله بن عمر فيما رواه مسلم في مطلع صحيحه من حديث يحيى بن يعمر ، قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول معبد الجهني في القدر، فظهر لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقصون العلم، ويكثرون الصلاة، والصيام، والقيام، ويعتزلون والنساء ... -وذكر من شأنهم ما ذكر- غير أنهم يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، لم يقل له عبد الله بن عمر : بارك الله فيهم، وهؤلاء أناس يقرءون القرآن، ويطلبون العلم، لكن عليهم أن يغيروا هذه الصفة، لا، بل أهدر عبد الله بن عمر كل هذا الذي سمعه، وقال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، فطالما أننا اختلفنا في الأصول فلا لقاء.

فـعبد الله بن مسعود لم يغتر بظاهر هذه الحلقة في المسجد، وهم يذكرون الله، ويسبحونه، ويهللونه، ويحمدونه، فعندما قالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ما نريد إلا الخير، قال: كم من مريد للخير لا يبلغه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عن أناس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وايم الله لعل أكثرهم منكم، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة.

قال يحيى بن يعمر : فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج.

وفي معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: عرست في زمان أبي ودعا أبي الناس، فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فلما جاء ووقف على الباب رأى ستائر على الجدر، فوقف ولم يدخل، وقال لأبي: أأنتم تسترون الجدر، قال سالم : فخفض أبي رأسه واستحيا، وقال: غلبنا النساء يا أبا أيوب ، قال: لئن غلبن النساء أحداً لا يغلبنك، والله لا طعمت لكم طعاماً سائر اليوم، ورجع.

الصحابة ما كانوا يفوتون شيئاً من هذا، بل كانوا حراساً أمناء، لذلك ظل الدين نقياً، وخمد ذكر أهل البدع في أيامهم، فنحن في أمّس الحاجة إلى هذا الطراز من الحراس، الذين لا يسمحون بفوات مثل هذه القضايا، مهما انتقدوا من الآخرين: أنتم متشددون! أنتم تهتمون بسفاسف الأمور! أنتم تركتم المسائل الخطيرة!

فمسألة إسناد الأمر إلى غير أهله فيها هلاك في الدنيا وضياع الدين، وهي من علامات الآخرة. (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وما أسند الأمر إلى رجل غير مؤهل إلا بسبب غياب الرجل المؤهل؛ كما قال سفيان الثوري : لا تحيا بدعة إلا على أنقاض سنة.

إذاً: الذين تخلفوا عن حراسة الدين هم السبب، وإلا لا يمكن لقيادة أخرى أن تتبوأ مكانها؛ لأن هناك معركة فاصلة بيننا وبين هؤلاء العلمانيين، الذين كانوا يتسمون قبل ذلك بالقرآنيين، وليس لهم من القرآن شيء.

قيل لـيحيى بن معين : ما تقول في الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حدثتكم من حديث فاعرضوه على القرآن، فما وافق القرآن فخذوه، وما عارضه فردوه)؟ فقال ابن معين فوراً: لقد عرضناه على القرآن فوجدناه كذباً، فقيل: كيف؟ قال: لأن الله عز وجل يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

في سنن الدارمي: أن أبا موسى الأشعري لما كان في الكوفة رأى قوماً يسبحون بالحصى فأنكر ذلك، -الآن عندما تنكر السبحة يقولون لك: هناك أناس لا يصلون وهناك أناس زنادقة وملحدون، وأنت تتكلم على السبحة، هؤلاء بالنسبة لأولئك رضي الله عنهم، فانظر إلى تفاوت الهمم، هؤلاء يدورون ما بين بدعة وردة، ينظرون للمبتدع ويقولون: رضي الله عنه بالنسبة للمرتد، وحراس الحدود عندما تكون نظرته هكذا سقطت الحراسة ودخل العدو، نقول: لا يجوز للحارس أن يتساهل مع عدوه وإن كان نملة، فإن معظم النار من مستصغر الشرر- وانطلق أبو موسى الأشعري إلى عبد الله بن مسعود في صلاة الفجر، فوجد تلاميذ عبد الله بن مسعود على الباب، قال: أما خرج أبو عبد الرحمن ؟ قالوا: لم يخرج بعد، فجلس معهم حتى خرج ابن مسعود فاكتنفوه، فقال أبو موسى الأشعري : يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت شيئاً آنفاً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حلقاً حلقاً وأمام كل حلقة حصى، وأحدهم يقول: سبحوا مائة، كبروا مائة، هللوا مائة، فيعدون التسبيح والتكبير والتهليل، فقال ابن مسعود: يا أبا موسى! هلا أنكرت عليهم، وقلت لهم: عدوا سيئاتكم وأنا ضامن أنه لن يضيع من حسناتكم شيء، قال: انتظار أمرك أو انتظار رأيك. فانطلق عبد الله بن مسعود ودخل المسجد، فإذا الأمر كما وصف أبو موسى، فوقف على حلقة من هذه الحلق، وقال: ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد، ها هو محمد صلى الله عليه وسلم آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبلى، حتى فعلتم شيئاً ما فعله ولا أصحابه، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلال، قالوا: يا أبا عبد الرحمن والله ما نريد إلا الخير، نحن نذكر الله، وأظن أن هذا محمود عند طوائف كثيرة، ومع ذلك أنكره عبد الله بن مسعود ، وما غره هذا الظاهر من الخير؛ لأنه مخالف لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

وذلك مثل فعل عبد الله بن عمر فيما رواه مسلم في مطلع صحيحه من حديث يحيى بن يعمر ، قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول معبد الجهني في القدر، فظهر لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقصون العلم، ويكثرون الصلاة، والصيام، والقيام، ويعتزلون والنساء ... -وذكر من شأنهم ما ذكر- غير أنهم يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، لم يقل له عبد الله بن عمر : بارك الله فيهم، وهؤلاء أناس يقرءون القرآن، ويطلبون العلم، لكن عليهم أن يغيروا هذه الصفة، لا، بل أهدر عبد الله بن عمر كل هذا الذي سمعه، وقال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، فطالما أننا اختلفنا في الأصول فلا لقاء.

فـعبد الله بن مسعود لم يغتر بظاهر هذه الحلقة في المسجد، وهم يذكرون الله، ويسبحونه، ويهللونه، ويحمدونه، فعندما قالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ما نريد إلا الخير، قال: كم من مريد للخير لا يبلغه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عن أناس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وايم الله لعل أكثرهم منكم، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة.

قال يحيى بن يعمر : فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج.

وفي معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: عرست في زمان أبي ودعا أبي الناس، فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فلما جاء ووقف على الباب رأى ستائر على الجدر، فوقف ولم يدخل، وقال لأبي: أأنتم تسترون الجدر، قال سالم : فخفض أبي رأسه واستحيا، وقال: غلبنا النساء يا أبا أيوب ، قال: لئن غلبن النساء أحداً لا يغلبنك، والله لا طعمت لكم طعاماً سائر اليوم، ورجع.

الصحابة ما كانوا يفوتون شيئاً من هذا، بل كانوا حراساً أمناء، لذلك ظل الدين نقياً، وخمد ذكر أهل البدع في أيامهم، فنحن في أمّس الحاجة إلى هذا الطراز من الحراس، الذين لا يسمحون بفوات مثل هذه القضايا، مهما انتقدوا من الآخرين: أنتم متشددون! أنتم تهتمون بسفاسف الأمور! أنتم تركتم المسائل الخطيرة!

فمسألة إسناد الأمر إلى غير أهله فيها هلاك في الدنيا وضياع الدين، وهي من علامات الآخرة. (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وما أسند الأمر إلى رجل غير مؤهل إلا بسبب غياب الرجل المؤهل؛ كما قال سفيان الثوري : لا تحيا بدعة إلا على أنقاض سنة.

إذاً: الذين تخلفوا عن حراسة الدين هم السبب، وإلا لا يمكن لقيادة أخرى أن تتبوأ مكانها؛ لأن هناك معركة فاصلة بيننا وبين هؤلاء العلمانيين، الذين كانوا يتسمون قبل ذلك بالقرآنيين، وليس لهم من القرآن شيء.

قيل لـيحيى بن معين : ما تقول في الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حدثتكم من حديث فاعرضوه على القرآن، فما وافق القرآن فخذوه، وما عارضه فردوه)؟ فقال ابن معين فوراً: لقد عرضناه على القرآن فوجدناه كذباً، فقيل: كيف؟ قال: لأن الله عز وجل يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

في الباب الثالث قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من رفع صوته بالعلم.

انظر إلى ذكاء الإمام البخاري وفقهه في التبويب، فأول باب قال: باب فضل العلم، والباب الثاني قال: باب من سئل علماً وهو مشتغل بالحديث فأتم الحديث ثم أجاب السائل، والباب الثالث قال: من رفع صوته بالعلم.

أول باب فضل العلم، عندما علمت فضل العلم والعلماء، تاقت نفسك أن تكون من هؤلاء، فبدأت تأخذ خطواتك الأولى لطلب العلم، فقال لك الإمام: قف، فإنه قبل أن تطلب العلم لا بد أن تتأدب بآداب طالب العلم حتى تستفيد منه، فإن الأصل ليس تحصيل المسائل إنما هو العمل بالعلم، فذكر طرفاً من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، كما ذكرناه في المجالس الماضية، فأنت عندما تكون قد تأدبت بآداب طالب العلم، وتعلمت العلم، فلابد عليك من تبليغ العلم، وهذا هو معنى قول الإمام: باب من رفع صوته بالعلم؛ لأن رفع الصوت مظنة وصوله إلى أكبر عدد، فالرفع هنا معناه: الانتشار، معناه: التعليم، وليس معناه: أن ترفع صوتك فقط، إنما قصد الإمام البخاري تبليغ العلم، والتبليغ يكون عن طريق رفع الصوت.

قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل ، قال: حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو قال: (تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثاً).

الإمام البخاري روى هذا الحديث مرتين في كتاب العلم في هذا الباب، وفي باب من كرر القول ثلاثاً ليفهم، ورواه مرة في كتاب الوضوء، باب غسل القدمين ولا يكتفى بالمسح.

فرواه هنا عن شيخه أبي النعمان عارم بن الفضل ، ورواه في كتاب العلم أيضاً عن شيخه مسدد بن مسرهد ، ورواه في كتاب الوضوء عن شيخه أبي سلمة التبوذكي ، ثلاثتهم قال: حدثنا أبو عوانة ، واسمه: وضاح بن عبد الله اليشكري ، عن أبي بشر ، واسمه: جعفر بن إياس ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص .

أول ما أذكره في هذا الإسناد هو قوله: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل : وعارم هذا لقب لشيخ البخاري ، واسمه: محمد بن الفضل السدوسي وكنيته أبو النعمان ، ولقبه وعارم، وعارم: من العرامة، أي: الشدة والصلابة والشراسة، وكان محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري إذا حدث عن محمد بن الفضل يقول: حدثنا عارم وكان بعيداً من العرامة.