شرح صحيح البخاري [6]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد..

قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من رفع صوته بالعلم:

حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل ، قال: حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو قال: (تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ويلٌ للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثاً).

وكنا ذكرنا في المجلس الماضي كلاماً حول هذا اللقب الذي هو لشيخ البخاري رحمه الله؛ في هذا الحديث وهو محمد بن الفضل ، ولقبه عارم ، وكنيته أبو النعمان ، وهذا اللقب عارم فيه معنى الشدة وسوء الخلق، ولذلك كان محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله -وهو من صغار شيوخ البخاري ؛ إذ إن شيوخ البخاري على خمسة أقسام، آخر قسم من هؤلاء منهم: محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله، واتفق البخاري معه في كثيرٍ من شيوخه- فكان محمد بن يحيى الذهلي إذا حدَّث عن عارم يقول: حدثنا عارم ، وكان بعيداً عن العرامة؛ حتى لا يتوهم المستمع أن لقب عارم فيه شيءٌ من سوء الخلق.

وذكرنا أيضاً في المجلس الماضي أن هذا لا يعد من الغيبة المحرمة .

القدح ليس بغيبةٍ في ستـةٍ متظلمٍِ ومعرِّفٍ ومحذرِ

ومجاهرٍ فسقاً ومُسْتَفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة منكر

فالمتظلم لو ذكر سوءَة ظالمه لا يعد مغتاباً، وكذلك ما فعله أهل الكوفة مع سعد بن أبي وقاص ، لما شكوه إلى عمر بن الخطاب ، وكما حدث كثيراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا جاء رجلٌ يشكو آخر، منهم: أبو بكر الصديق لما شكا عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين: (أنه حدث بين أبي بكر وعمر شيءٌ، وكان أبو بكر عنده حدة، فقال لـعمر : اغفر لي، فقال عمر : لا أغفر لك، فتفرقا وبحث أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظفر به وقد رفع شيئاً من ثيابه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم فقد غامر، فلما جاء أبو بكر قال: يا رسول الله! حدث بيني وبين عمر شيءٌ فقلت: له اغفر لي، قال: لا أغفر لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ذكر ذلك ثلاث مرات، ثم إن عمر ندم، فذهب إلى أبي بكر في بيته فلم يجده، فجعل يبحث عنه حتى جاء مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عليه الصلاة والسلام احمرَّ وجهه وظهر عليه الغضب، وقال: جئتكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدقت، ومنعتموني فواساني بماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي، قال الراوي: فما أوذي بعدها) .

وهكذا مسألة الخصومات كانت كثيرة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعقب النبي عليه الصلاة والسلام على المتظلم ولم يقل له: هذه غيبة محرمة، ولا يجوز لك .

فأي إنسان متظلم يجوز له أن يذهب إلى القاضي، أو يذهب إلى جهة التقاضي، فيقول: فلان ظلمني أو فلانٌ كذا، أو نحو هذه العبارات، فلا يعد هذا من الغيبة المحرمة.

والمعرِّف كما ذكرنا في لقب عارم؛ لأننا عرفناه بذلك، وكذلك الأعمى والأعرج، وسليمان الأحول ، وعاصم الأحول ، وكذلك من وصف بعاهة فيه، ومن نسب إلى غير أبيه، مثل: إسماعيل بن علية مثلاً؛ كل هذا لا يُعَد من الغيبة المحرمة، طالما أن اللقب أو النسبة خرجت مخرج التعريف له لا التنقيص من شأنه.

القدح ليس بغيبة في ستـة متظلمٍ ومعرفٍ ومحذرٍ

ومجاهرٍ فسقاً ومُسْتَفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة منكر

وهناك شخص من أهل البدع، وأنا أقول لك: لا تقرأ له، ولا تسمع له؛ لأنه مبتدع، وهذا المبتدع له مخالفات كثيرة منها: إنكار الشفاعة، فخالف العالمين جميعاً، ووقف لسوء حظه وحده، لا نصير له على الإطلاق، وكلامه الأخير ومقالاته الأخيرة يضرب بعضها ببعض، هو يقول: مَن الذي يشفع من دون الله؟ هو يتصور أن ربنا سبحانه وتعالى عندما قال: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيقول: أنا سأخرج هؤلاء من النار، هو يتصور هكذا، فنَقَضَ كلامه، ثم قال: وإن كان جميع المفسرين يقولون كذا وكذا، لكني أقول اجتهاداً والله أعلم، فلما يكون جماهير المفسرين في ناحية، وهو في ناحية، فأي إنسان عاقل سيصدقه حتى نفسه؛ لأن الكبار الذين هم معدن الفتوى والعلم، كان الواحد منهم -كـالإمام أحمد أو غيره- إذا سئل عن مسألةٍ يقول: أنا لا أستطيع أن أقول فيها بشيء، ويتوقف، أما هذا المبتدع فإنه مالَ إلى قول المعتزلة، وتبنى قول الخوارج، وخالف أهل السنة جميعاً، فأنا عندما أقول لك: لا تقرأ لهذا الرجل، إنه مبتدع، ومخرف وليس من أصحاب العلم، ومن باب النصيحة نقول له: اجث بركبك في مجالس العلم، فإن آنس أهل العلم منك فهماً، فقالوا لك: تكلم، فتكلم، وإن لم يزكك منهم أحد؛ فخيرٌ لك أن تلقى الله وأنت ساكت، لأنك إن لقيت الله عز وجل بقولٍ مخالفٍ يحاسبك، والغريب في هذا الجريء أنك تجده يقول: والبخاري سيحاسبه الله عن هذه الروايات التي جاء بها!

سبحان الله!

فلما يكون الإنسان مبتدعاً مثلاً، فلابد أن نقول: لا تقرأ لهذا الإنسان؛ لأنه جاهل ومخرف ولا يفقه شيئاً، ولا يعلم شيئاً، ولا نعلم أحداً من أهل العلم زكاه، فهذا ليس بغيبة؛ لأن الرد على المخالف أصل من أصول الإسلام .

فالمحذر الذي يحذر ويكون محقاً في تحذيره لا يقال له: اغتبتَ العلماء، ويجري في هذا المجرى كلام أهل الجرح والتعديل على الرواة، كالإمام يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم ، وأبو زرعة ، والدارقطني ، وابن عدي ، والفلاس عمرو بن علي ، أي واحد من هؤلاء يقول: هذا ضعيف، هذا مغفل، هذا سيئ الحفظ، هذا كذاب، هذا مختلق، كل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة .

اعتراض بعض الناس على علماء الجرح والتعديل والرد عليهم

بعض الناس اعترض على كلام علماء الجرح والتعديل في الرواة، وأنفذ شاعرُهم يقول في أبياتٍ له، سأذكر البداية في هذه الأبيات، يقول:

أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيدُ

فلو كان خيراً كان كالخيـر كلـه ولكن شيطان الحديث مريدُ

ولـابن معين في الرجال مقالةٌ سيُسأل عنها والمليك شهيدُ

فإن يكُ حقاً فهو في الأصل غيبةٌ وإن يكُ زوراً فالقصاص شديدُ

فهو يريد أن يقول: إن كلام علماء الجرح والتعديل في فلان، الذي هو نقد الرواة لا يصلح سواءً كان حقاً أو باطلاً، فإن كان حقاً فهو غيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة، قال: (ذكرُك أخاك بما يكره)، وأي مصيبة أعظم من أن يُتَكَلَّم في رجل صناعته الحديث وبضاعته الحديث؟

أنت تعرف أن جرح أهل العلم لا يندمل، يظل ينزف دائماً، فلا يتعرضن أحد لأهل العلم، قديماً كان الرواة يخافون من يحيى بن معين ؛ لأنه كان معروفاً بالكلام في الرواة، حتى إن شيخاً من أهل مصر ذهب إلى بغداد، ونزل في (فندق)، فأهل بغداد لما عرفوا أنه وصل بدءوا يتوافدون عليه، أولاً: راوي هذه القصة من أهل بغداد قال: طرقت عليه الباب، فقال: مَن؟ قلت: فلان، قال: ادخل، فلما دخلت قلت: أمْلِ عليَّ، فجعل يملي عليَّ وهو مضطجع والكتاب في يده، فطرق الباب طارق، قال: من؟ قال: أحمد بن حنبل فدخل، والشيخ على هيئته يملي، ودق الباب آخر، قال: من؟ قال: فلان، ادخل فدخل، حتى طرق الباب طارقٌ، فقال: مَن؟ قال: يحيى بن معين ، قال: فرأيت يديه ترجفان، وسقط الكتاب من يده، فـيحيى بن معين لما يتكلم في الراوي كلمة فإن الراوي يسقط رأس ماله، تخيل شخصاً بضاعته الحديث فقط، فإذا جاء شخص كـيحيى بن معين ، أو أحمد بن حنبل ، أو الدارقطني وقال: كذاب، أو قال: مغفل، أو متروك، أو سيئ الحفظ، إذاً ذهبت بضاعته .

فهذا الشاعر يقول: إن يحيى بن معين له في الرجال مقالة، فإن يكُ محقاً فهو مغتاب، وإن يكُ زوراً فالقصاص شديد .

علماء المسلمين كلهم على خلاف هذا القول، فلقد سئل يحيى بن سعيد القطان ، ومالك ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأبو زرعة الرازي : هل الكلام في الرواة يعد من الغيبة؟

فأجمعوا أن لا .

فهذا معنى ومحذرِ، فإنه يدخل فيه أيضاً كلام أهل العلم في أهل البدع، وفي أهل المعاصي، فكل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة، بل هو واجب لابد أن تقوم الأمة به .

قوله: ومجاهرٍ فسقاً، أي رجل يجاهر بالفسق، فقلت: احذروا فلاناً، فهذا يدخل في معنى التحذير، ولا يعد من الغيبة المحرمة، ولو كان ذلك يسوء المتكلَّمُ فيه .

بعض الناس اعترض على كلام علماء الجرح والتعديل في الرواة، وأنفذ شاعرُهم يقول في أبياتٍ له، سأذكر البداية في هذه الأبيات، يقول:

أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيدُ

فلو كان خيراً كان كالخيـر كلـه ولكن شيطان الحديث مريدُ

ولـابن معين في الرجال مقالةٌ سيُسأل عنها والمليك شهيدُ

فإن يكُ حقاً فهو في الأصل غيبةٌ وإن يكُ زوراً فالقصاص شديدُ

فهو يريد أن يقول: إن كلام علماء الجرح والتعديل في فلان، الذي هو نقد الرواة لا يصلح سواءً كان حقاً أو باطلاً، فإن كان حقاً فهو غيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة، قال: (ذكرُك أخاك بما يكره)، وأي مصيبة أعظم من أن يُتَكَلَّم في رجل صناعته الحديث وبضاعته الحديث؟

أنت تعرف أن جرح أهل العلم لا يندمل، يظل ينزف دائماً، فلا يتعرضن أحد لأهل العلم، قديماً كان الرواة يخافون من يحيى بن معين ؛ لأنه كان معروفاً بالكلام في الرواة، حتى إن شيخاً من أهل مصر ذهب إلى بغداد، ونزل في (فندق)، فأهل بغداد لما عرفوا أنه وصل بدءوا يتوافدون عليه، أولاً: راوي هذه القصة من أهل بغداد قال: طرقت عليه الباب، فقال: مَن؟ قلت: فلان، قال: ادخل، فلما دخلت قلت: أمْلِ عليَّ، فجعل يملي عليَّ وهو مضطجع والكتاب في يده، فطرق الباب طارق، قال: من؟ قال: أحمد بن حنبل فدخل، والشيخ على هيئته يملي، ودق الباب آخر، قال: من؟ قال: فلان، ادخل فدخل، حتى طرق الباب طارقٌ، فقال: مَن؟ قال: يحيى بن معين ، قال: فرأيت يديه ترجفان، وسقط الكتاب من يده، فـيحيى بن معين لما يتكلم في الراوي كلمة فإن الراوي يسقط رأس ماله، تخيل شخصاً بضاعته الحديث فقط، فإذا جاء شخص كـيحيى بن معين ، أو أحمد بن حنبل ، أو الدارقطني وقال: كذاب، أو قال: مغفل، أو متروك، أو سيئ الحفظ، إذاً ذهبت بضاعته .

فهذا الشاعر يقول: إن يحيى بن معين له في الرجال مقالة، فإن يكُ محقاً فهو مغتاب، وإن يكُ زوراً فالقصاص شديد .

علماء المسلمين كلهم على خلاف هذا القول، فلقد سئل يحيى بن سعيد القطان ، ومالك ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأبو زرعة الرازي : هل الكلام في الرواة يعد من الغيبة؟

فأجمعوا أن لا .

فهذا معنى ومحذرِ، فإنه يدخل فيه أيضاً كلام أهل العلم في أهل البدع، وفي أهل المعاصي، فكل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة، بل هو واجب لابد أن تقوم الأمة به .

قوله: ومجاهرٍ فسقاً، أي رجل يجاهر بالفسق، فقلت: احذروا فلاناً، فهذا يدخل في معنى التحذير، ولا يعد من الغيبة المحرمة، ولو كان ذلك يسوء المتكلَّمُ فيه .

قول: ومستفتٍ، مثل شخص جاء يستفتي عن فتوى كما روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة أبي سفيان -هند - إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، فهل لي أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ فقال لها: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فلا شك أن أبا سفيان إذا علم أن هنداً جاءت وشكته، بل ووصفته بالشح الذي هو أشد البخل لغضب، فأعظم البخل هو: الشح، فكما ذكر الجاحظ وغيره، أن ثلاثةً من البخلاء تناظروا: أينا أبخل؟

فقال الأول: أما أنا فأبخل بمالي على نفسي .

وقال الثاني: وأنا أبخل بمال الناس على نفسي .

وقال الثالث: وأنا أبخل بمال الناس على الناس .

قالا: لا جرم، أنت أبخلنا .

يعني: استكثر المال فيه وهو ماله.

فلو أن أبا سفيان علم أن هنداً شكته ووصفته بالشح عند النبي صلى الله عليه وسلم لغضب، ولقال: كيف تفعلين مثل هذا؟ ولم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تصفينه بالشح، وأن هذا يغضبه، فسكت عليه الصلاة والسلام، وسكوته إقرار؛ لأنه لا يسكت على باطل أبداً . قال لها: (خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف) .

فالفتوى: المستفتي سواءً كان رجلاً أو امرأة قد يذكر مساوئ مَن يستفتي عن حاله أو عنه، فهذا جائزٌ لا شيء فيه، ولا يعد من الغيبة المحرمة .

القدح ليس بغيبة في ستـةٍ متظلمٍ ومعرِّفٍ ومحذرِ

ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة منكرِ

قوله: ومن طلب الإعانة في إزالة منكر، مثل أن يأتيك آتٍ ويقول: تعال إلى المكان الفلاني أو البيت الفلان؛ فإن فيه أناساً يشربون الخمر، أو يأتون الزنا، أو يفعلون كذا وكذا، وتسميهم بأسمائهم، فلا بأس بذلك، كل هذا يستثنى من الغيبة المحرمة .

إذاً: ما نقابله في الكتب من وصف بعض الرواة بأوصافٍ لا تليق، لكنها جرت مجرى التعريف بهم، فكل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة .

هذا الحديث كما ذكرنا رواه البخاري في كتاب العلم عن شيخه عارم بن الفضل ، وقد رواه البخاري أيضاً في موضعين آخرين من صحيحه، الموضع الأول سيأتينا في كتاب العلم أيضاً، الذي هو: باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه).

روى هذا الحديث بعينه من طريق شيخه مسدد بن مسرهد ، قال: حدثنا أبو عوانة ، وساق الإسناد بمثل رواية عارم هنا، ثم رواه في كتاب الوضوء، قال: باب غسل الرجلين، قال: حدثنا موسى ، قال: حدثنا أبو عوانة .... وساق الإسناد بمثل رواية عارم هنا، وموسى شيخ البخاري هو: موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة ، وهو من كبار شيوخ البخاري ، وقال يحيى بن معين : ما هبتُ أحداً قط هيبتي للتبوذكي ، وهذه شهادة من بين فكي أسد، فـابن معين كلهم كانوا يخافون منه، فعندما يخاف يحيى بن معين من واحد أو يهابه، فكيف تكون جلالته، موسى بن إسماعيل التبوذكي هذا من الثقات ومن كبار شيوخ الإمام البخاري .

إذاً: هذا الحديث يرويه ثلاثة من الرواة عن أبي عوانة ، هذا التصرف له دلالة، وأرجو أن تعيروني الأسماع، ولا تتضجروا إذا تكلمنا في علم المصطلح، وأنا أعلم أن كثيراً من الجلوس يحب ذلك، لكن قد يكون من الجلوس من لا يشاركهم هذه المحبة، لكن نحن في زمان صارت دراسة مصطلح الحديث متعيِّنة؛ بسبب طعن الجهلة بالسنة، حتى يتعلم الطلبة كيف نقل العلماء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم تحظ أمةٌ من الأمم من عناية أهلها بسنة نبيها، والمحافظة عليها، كما حدث لهذه الأمة .

وهذا المغبون قليل الحظ، الذي أشرنا إليه في مطلع الكلام لا يفرق بين السيرة والحديث، يقول لك: لا فرق بين كتب السيرة وكتب الحديث .

وبعض الطلبة أرسل لي قصاصات من أوراق يذكر فيها: أنه يوجد شخص آخر نشر كتاباً وأنكر أن يكون آدم أبا البشر، وأنه يقول: إن حديث احتجاج آدم وموسى حديث ضعيف، وهذه الأحاديث كلها أحاديث آحاد، ولا يؤخذ بها في العقيدة، وأنا في الحقيقة لن أتكلم عن هذا الكتاب حتى يأتيني وأنظر في كلام صاحبه .

لكن الملاحظ أن هناك هجمة شرسة من كل مكان على السنة وفي وقت واحد.

بل حدثني من أثق به من الشيوخ، ولم أر هذه المقالة النكراء، أن امرأة شمطاء من فلول المتحللين وكانت واحدة من زعمائهم، كتبت مقالة تقول: لِمَ لَمْ يكن الله أنثى؟ وهذه المقالة نشرت في صحيفة، وقد جاءني أحد الإخوة وقال: ما رأيك لو ترد على المقالة؟ وتخيّل لما تصل الجرأة بهذه المرأة لتكتب هذه المقالة، -وهي قطعاً كافرة- فكيف يمرر هذا العنوان من الرقابة؟! الذي مرَّر هذا ليس عنده دين، هو مثلها في الكفر، وتنظر كل يوم سخائم في الجرائد والمجلات، وكلها عبارة عن سهام موجهة إلى صرح السنة النبوية .

والإخوة الرسميون المهتمون بالسنة لم يتكلموا حتى الآن، ولم يردوا حتى الآن؛ لكن الله عز وجل سيحول بينهم وبين ما يريدون، وأن مَن هو أعتى منهم سقط تحت النعال وبقيت السنة شامخة، فنحن على يقين من هذا، فالحمد لله تعالى نحن على يقين أننا لن نهزم في الجولة إن شاء الله؛ لكن الغريب المريب: هو ردُّ فعل الجماهير، ورد الفعل الرسمي على مثل هذا الخبَث، الذي يؤذي العيون والأسماع كل يوم، وكله موجه إلى صرح السنة .

نحن نفشي علوم السنة بين الناس، ونعلمهم كيف نُقِل إلينا هذا الحديث؛ لأن هذا المغبون الخاسر الذي يتكلم عن أحاديث الشفاعة، يقول: وأما البخاري فسوف يحاسبه الله عن الروايات التي أوردها، والأباطيل والأكاذيب التي أثبتها ونسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!

أهذا الكلام يقال للبخاري ؟!

يقال للبخاري : إنك لا تعرف المكذوب من الضعيف من الصحيح، وسوف يحاسبك الله عن هذا الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عجب! فقد قال قديماً فرعون عن موسى عليه السلام: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، هذا موسى يظهر في الأرض الفساد؟! رَمَتْني بدائها وانسلَّتْ.

فلما يقال للبخاري : أنت رجل جاهل، إذ راجت عليك الأكاذيب، وأنت لم تميز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة من الموضوعة، وأثبتَّ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يحاسبك الله .

فلما يقال هذا الكلام عن البخاري ، الذي يعتبر قمة في الحديث عندنا، فإذا أردنا أن نزن علماء الدنيا فسنضع الإمام البخاري رحمه الله في القمة، وصحيحه له من البركة ما ليس لكتاب في الدنيا بعد القرآن .

فسبحان الله! الناس حظوظ وأرزاق، والإخلاص يرفع صاحبه.

هذا الإمام البخاري الأعجمي، كيف صار إمام الدنيا وصار أشهر من شيوخه رحمة الله عليه؟! وكان ابن صاعد إذا ذُكر البخاري قال: ذاك الكبش النطاح؛ يعني الذي لا يقف أحدٌ معه في الحلبة، إذا نطح أسقط من يناطحه في الحال، يعني: صاحب حجة بيِّنة دامغة.

فلما يقال عن البخاري الذي هو قمة من قممنا: إن هذا الرجل ما كان يدري الصحيح من الضعيف، وينسب الأكاذيب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-.

فأقول: إن دراسة السنة صارت متعينة على شباب المسلمين ممن لهم كفاءة، حتى يردوا ويدفعوا عنها أمثال هؤلاء الحمقى.

الإمام البخاري رحمه الله أخرج هذا الحديث عن شيخه عارم ، فـعارم بن الفضل تكلم بعض العلماء فيه، وقالوا: إنه اختلط، وساء حفظه، وأرَّخوا سنة عشرين ومائتين كحدٍ فاصل بين ما حدَّث به قبل الاختلاط، وبين ما حدث به بعد الاختلاط، وهذا مِن الجهود المغمورة التي قام بها علماء الحديث، التي لا تعرفها الجماهير، هؤلاء العلماء لهم جميلٌ في عنق الأمة لم تؤده الأمة لهم، لا بالثناء ولا بالشكر، بل خرج مَن قال: إن المحدثين ليسوا فقهاء، وإن المحدثين مع الفقهاء مثل البنّاء والمناول، وقال: إن الفقيه هو البناء الذي يأخذ اللَّبِنَة ويضعها بجانب اللَّبِنَة، ويزن بالخيط، فهذا هو الفقيه، أما المحدث فهو الذي يناول البناء الطوبة: خذ يا بناء، يعني أن المحدث هذا لا يفقه شيئاً!! كل دوره أن يأخذ الحديث ويقول: تفضل خذ الحديث يا فقيه، أهؤلاء هم المحدثون؟!!

فنقول لهم: ! البخاري ها هو محدث، وإن أردت أن تدرس الفقه، وتستمتع بالفقه فاقرأ تراجم الإمام البخاري ، وكذلك سائر الأئمة الستة، والإمام أحمد كان من ضمن المحدثين، والإمام الشافعي رحمه الله كان يقول لـأحمد : يا أحمد إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كوفياً كان أو حجازياً أو شامياً، أو بصرياً فأعلمني به حتى أذهب إليه.

قال الذهبي : ولم يقل: أو مصرياً ؛ لأنه كان أعلم بأحاديث أهل مصر من أحمد ، ولما تقرأ كتاب: الرسالة، وتقرأ كتاب: الأم ترى الشافعي في كل جزئية فقهية يحتج بالحديث، والإمام مالك رحمه الله إذا ذُكِر الحديث فـمالك النجم . فكلهم أهل حديث، ومنَّ الله عليهم بالفقه.

غالب المحدثين فقهاء، وغالب الفقهاء ليسوا محدثين.

إذاً المحدثون كل راوٍ تكلموا فيه رفضوا مروياته، مثل عارم بن الفضل الذي قالوا فيه: إنه اختلط، واختلط بمعنى تغيَّر حفظه، مثال الاختلاط: رجل يدخل على أبيه -هل يلتبس الابن على الأب؟!- فلما يدخل عليه يقول له: أين أبوك؟! هل أبوك بخير؟! ما رأيتُه منذ مدة؟! أهو مسافر أم ماذا؟! فلما يقول هذا الشخص هذا الكلام يكون قد اختلط، فسقط تمييزه، هذا معنى الاختلاط عند المحدثين، أنه يتكلم بكلام غريب مثل المثال الذي ضربته الآن .

فالمحدثون يقومون بضبط تاريخ اليوم الذي اختلط فيه؛ لأنه شيخ، وكل يوم له مجلس ويقول: حدثنا، وأخبرنا، فهم يريدون أن يميزوا ما بين أحاديثه وقت الاختلاط، وأحاديثه قبل الاختلاط؛ لأنه لما اختلط سيدخل الأسانيد في بعضها، والمتون في بعضها، وهذا دين وشرع يجب المحافظة عليه.

فحينئذٍ لابد من تمييز الوقت الذي اختلط فيه .

فـعارم اختلط سنة (220هـ) فـأبو حاتم الرازي يقول: من سمع منه قبل سنة (220هـ) فسماعه جيد، وسمع منه أبو زرعة الرازي سنة (222هـ)، إذاً: سمع منه في الاختلاط أم لا؟ فإذا رأينا في الأسانيد حدثنا أبو زرعة الرازي ، قال: حدثنا عارم نقف، ونبحث هل عارم هذا حفظ هذا الحديث، أم كان من جملة ما اختلط فيه؟!

إذاً: ربما تقول: وأنا ما أدراني هل اختلط أم لم يختلط، هذا موضوع بعيد؟!

نقول لك: يُعْرَف ذلك بما يسميه أهل الحديث بالمتابعة. ما هي المتابعة؟ المتابعة معناها: الموافقة .

مثل هذا الإسناد .

وأنا أرى يا إخواننا أنكم تساهلتم في طلب العلم، كيف ذلك؟!

تأتون إلى الدروس بدون دفاتر وبدون أقلام، وبدون كتب.

أقول: إن من حق العلم علينا أننا نأتي بالكتاب وبالأقلام، ونقيد الفوائد بالكتابة، وكما قال الأول:

أيها الطالب علماً ائتِ حماد بن زيد

فاستفد حلماً وعلماً ثم قيده بقيد

أي معلومة لا تقيدها تفر منك في أسرع وقت، ومهما حاولت الإتيان بها فلن تستطيع.

فمن حق العلم أنك تأتي إلى مجلس العلم بسمت طالب العلم .

كيفية المتابعة ومعناها

نذكر إسناداً ونأتي بأئمة مشاهير لندلك على كيفية المتابعة:

نقول: أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس ، هذا إسناد رباعي لماذا؟

لأنه مكون من أربع طبقات .

أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس ، هؤلاء أربعة، كل واحد من هؤلاء الرجال نسميه طبقة، فإذا أسقطنا هنا الإمام أحمد أصبحوا ثلاثة، سفيان بن عيينة ، والزهري ، وأنس .

فلو روى هذا الحديث عن سفيان ، عن الزهري ، عن أنس رجلٌ آخر غير الإمام أحمد ، مثل: قتيبة بن سعيد ، أو مسدد بن مسرهد ، أو عارم مثلاً، أومحمد بن أبي عمر العدني ، أو أحمد بن منيع ، أو أبي ربيع الزهراني ، أو أحمد بن عبدة الضبي ، كل هؤلاء من أقران الإمام أحمد بن حنبل ، فلو روى واحدٌ مثل: قتيبة بن سعيد أبي رجاء فقال: حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس ، فنحن نقول: إن قتيبة تابع أحمد بن حنبل على رواية هذا الحديث، أي وافقه على ذكر الحديث بالسند والمتن .

يعني: نفترض أننا الآن في زمان الرواية، فأنا رويت حديثاً عن الشيخ الألباني ، والشيخ الألباني يرويه عن الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن باز يرويه عن الشيخ أحمد شاكر ، ولنفترض أنه كلام للشيخ أحمد شاكر ، فأنا قلت: حدثنا أبو عبد الرحمن ناصر الدين الألباني ، قال: حدثنا الشيخ ابن باز قال: حدثنا أحمد شاكر ...، ثم يروي هذا الكلام الشيخ سيد سابق فيقول: حدثنا أبو عبد الرحمن الألباني ، قال: حدثنا ابن باز ، قال: حدثنا أحمد شاكر ...، فيكون الشيخ سيد تابعني وأنا تابعته، كلانا تابع الآخر على رواية الإسناد والمتن، هذا يسميه علماء الحديث متابعةً تامة، أن يروي جماعةٌ حديثاً عن شيخ مشترك بينهم، مثل المثال الذي ضربناه، أحمد بن حنبل ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس ، ففي طبقة أحمد ذكرنا جماعة من الرواة: قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن منيع ، ومحمد بن أبي عمر العدني ، وأبي ربيع الزهراني ، ومسدد بن مسرهد كل هؤلاء لو قالوا: حدثنا ابن عيينة ، فيكون كل واحد منهم تابع الآخر .

إذاً عرفنا ما معنى المتابعة!!

تعني: الموافقة، وهي موافقة أهل الطبقة لبعضهم، أحمد بن حنبل طبقة، سفيان بن عيينة طبقة، الزهري طبقة، أنس طبقة .

فالرواي المُتَكَلَّم فيه لما يروي حديثاً، ونحن نريد أن نعرف هل غلط الراوي في هذا الحديث أم لا، ماذا نعمل؟

ننظر إلى أهل طبقته، هل وافقه الثقات منهم على هذا الحديث، أم هو لوحده أتى به، ولا أحد معه؟

فإذا كان هذا الراوي المُتَكَلَّم فيه تابعه الثقات الكبار، دل ذلك على أنه حفظه، بدليل أن هذا الحديث وُجِد عند العلماء الكبار من أهل طبقته، ومن أصحاب شيخه الذي هو ابن عيينة مثلاً .

أما إذا كان هذا الراوي المُتَكَلَّم في حفظه انفرد بهذا الحديث ولم يوافقه أحد، نسأله ونقوم بمحاكمته، هو روى عن سفيان بن عيينة حديثاً، فنقول له: تعال! أنت لست معروفاً بحفظ، ولا مشهوراً بطلب علم، وكلما قالوا لك: حدِّثنا، تقعد فتحدث بما في رأسك، ولا تأتي بالمعلومة إلا بعد ما تتلكأ وتظل ساكتاً برهة، قل لي إذاً: هذا الحديث كيف أتيت به عن سفيان ؟ وأين أصحاب سفيان الكبار الذين جلسوا معه ولازموه ليل نهار، حتى يخصك أنت لوحدك بهذا الحديث؟ ماذا يعني هذا؟ فأصحاب سفيان الكبار الذين جلسوا معه ليل نهار، كلهم لا يعلمون شيئاً عن هذا الكلام، وأنت رغم أنكن لست معروفاً بحفظ ولا بفقه ولا بمجالسة طويلة، ولا .. ولا .. فتأتي بهذا الحديث عن سفيان ؟! هذا منكر، نحن لا نقبله منك .

إذاً: الراوي لَمَّا يُتَكَلَّم فيه، ننظر هل تابعه أحد من أهل طبقته أم لا؟

نذكر إسناداً ونأتي بأئمة مشاهير لندلك على كيفية المتابعة:

نقول: أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس ، هذا إسناد رباعي لماذا؟

لأنه مكون من أربع طبقات .

أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس ، هؤلاء أربعة، كل واحد من هؤلاء الرجال نسميه طبقة، فإذا أسقطنا هنا الإمام أحمد أصبحوا ثلاثة، سفيان بن عيينة ، والزهري ، وأنس .

فلو روى هذا الحديث عن سفيان ، عن الزهري ، عن أنس رجلٌ آخر غير الإمام أحمد ، مثل: قتيبة بن سعيد ، أو مسدد بن مسرهد ، أو عارم مثلاً، أومحمد بن أبي عمر العدني ، أو أحمد بن منيع ، أو أبي ربيع الزهراني ، أو أحمد بن عبدة الضبي ، كل هؤلاء من أقران الإمام أحمد بن حنبل ، فلو روى واحدٌ مثل: قتيبة بن سعيد أبي رجاء فقال: حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس ، فنحن نقول: إن قتيبة تابع أحمد بن حنبل على رواية هذا الحديث، أي وافقه على ذكر الحديث بالسند والمتن .

يعني: نفترض أننا الآن في زمان الرواية، فأنا رويت حديثاً عن الشيخ الألباني ، والشيخ الألباني يرويه عن الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن باز يرويه عن الشيخ أحمد شاكر ، ولنفترض أنه كلام للشيخ أحمد شاكر ، فأنا قلت: حدثنا أبو عبد الرحمن ناصر الدين الألباني ، قال: حدثنا الشيخ ابن باز قال: حدثنا أحمد شاكر ...، ثم يروي هذا الكلام الشيخ سيد سابق فيقول: حدثنا أبو عبد الرحمن الألباني ، قال: حدثنا ابن باز ، قال: حدثنا أحمد شاكر ...، فيكون الشيخ سيد تابعني وأنا تابعته، كلانا تابع الآخر على رواية الإسناد والمتن، هذا يسميه علماء الحديث متابعةً تامة، أن يروي جماعةٌ حديثاً عن شيخ مشترك بينهم، مثل المثال الذي ضربناه، أحمد بن حنبل ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس ، ففي طبقة أحمد ذكرنا جماعة من الرواة: قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن منيع ، ومحمد بن أبي عمر العدني ، وأبي ربيع الزهراني ، ومسدد بن مسرهد كل هؤلاء لو قالوا: حدثنا ابن عيينة ، فيكون كل واحد منهم تابع الآخر .

إذاً عرفنا ما معنى المتابعة!!

تعني: الموافقة، وهي موافقة أهل الطبقة لبعضهم، أحمد بن حنبل طبقة، سفيان بن عيينة طبقة، الزهري طبقة، أنس طبقة .

فالرواي المُتَكَلَّم فيه لما يروي حديثاً، ونحن نريد أن نعرف هل غلط الراوي في هذا الحديث أم لا، ماذا نعمل؟

ننظر إلى أهل طبقته، هل وافقه الثقات منهم على هذا الحديث، أم هو لوحده أتى به، ولا أحد معه؟

فإذا كان هذا الراوي المُتَكَلَّم فيه تابعه الثقات الكبار، دل ذلك على أنه حفظه، بدليل أن هذا الحديث وُجِد عند العلماء الكبار من أهل طبقته، ومن أصحاب شيخه الذي هو ابن عيينة مثلاً .

أما إذا كان هذا الراوي المُتَكَلَّم في حفظه انفرد بهذا الحديث ولم يوافقه أحد، نسأله ونقوم بمحاكمته، هو روى عن سفيان بن عيينة حديثاً، فنقول له: تعال! أنت لست معروفاً بحفظ، ولا مشهوراً بطلب علم، وكلما قالوا لك: حدِّثنا، تقعد فتحدث بما في رأسك، ولا تأتي بالمعلومة إلا بعد ما تتلكأ وتظل ساكتاً برهة، قل لي إذاً: هذا الحديث كيف أتيت به عن سفيان ؟ وأين أصحاب سفيان الكبار الذين جلسوا معه ولازموه ليل نهار، حتى يخصك أنت لوحدك بهذا الحديث؟ ماذا يعني هذا؟ فأصحاب سفيان الكبار الذين جلسوا معه ليل نهار، كلهم لا يعلمون شيئاً عن هذا الكلام، وأنت رغم أنكن لست معروفاً بحفظ ولا بفقه ولا بمجالسة طويلة، ولا .. ولا .. فتأتي بهذا الحديث عن سفيان ؟! هذا منكر، نحن لا نقبله منك .

إذاً: الراوي لَمَّا يُتَكَلَّم فيه، ننظر هل تابعه أحد من أهل طبقته أم لا؟

نأتي على عارم بن الفضل المُتَكَلَّم فيه، برغم أن أبا حاتم الرازي زكاه، وتزكية أبي حاتم الرازي مثل المسمار في الساج، كما يقول الدارقطني والدارقطني لا يقصد أبا حاتم ، فـالدارقطني له عبارة هكذا، عندما يحب أن يوثق أحداً يقول: وأوثق الناس ولا أحد يشبهه، هو مثل المسمار في الساج، والساج نوع من الخشب انظر لما تأتي بمطرقة ومسمار كبير وتدقه في الساج، هل تستطيع أن تخرجه؟ لن تستطيع إخراجه.

فيريد أن يقول لك: إنه ثبت كثبات المسمار في الساج .

وعلماء الجرح والتعديل لهم عبارات كهذه، فـأبو حاتم الرازي إذا سئل عن راوٍ وقال: بين يدي عدل، يعني على شفيرها، وهذا جرح من أبي حاتم الرازي .

وسنأتي على شيء من كلام العلماء، في الجرح والتعديل في مكانه إن شاء الله.

أبو حاتم الرازي الذي تعتبر تزكيته مثل المسمار في الساج، يقول الذهبي : إذا وثق أبو حاتم رجلاً فشد يديك به، فإنه لا يوثق إلا صحيح الحديث؛ لأن أبا حاتم الرازي من طبقة المتشددين من أئمة الجرح والتعديل، يعني إذا وثَّق رجلاً فهنيئاً له، لماذا؟

لأنه كان يجرح الراوي في الغلطة والغلطتين، والمفروض أن يفوتها له، يعني: لو أن شخصاً حفظ مائة ألف حديث وغلط في حديث يقوم أبو حاتم -ولا يعطي له فرصة- ويبين غلط هذا المحدث، ويشدد النكير عليه، وأنه سيئ الحفظ وغير ذلك.

فلما يكون الشخص متشدداً مثل أبي حاتم ويقول : إن عارم بن الفضل ليس بأقل من عفان بن مسلم . وكان سماك بن حرب يقدمه على حماد بن زيد ، فزكى أبو حاتم الرازي عارماً، لكن تكلم فيه العلماء بسبب اختلاطه .




استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح صحيح البخاري [4] 2692 استماع
شرح صحيح البخاري [3] 1905 استماع
شرح صحيح البخاري [2] 1884 استماع
شرح صحيح البخاري [7] 1590 استماع
شرح صحيح البخاري [5] 1307 استماع
شرح صحيح البخاري [9] 1180 استماع
شرح صحيح البخاري [1] 860 استماع
شرح صحيح البخاري [8] 442 استماع