شرح صحيح البخاري [3]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث، ثم أجاب السائل

حدثنا محمد بن سنان ، قال: حدثنا فليح (ح)، وحدثني إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثنا محمد بن فليح ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني: هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال؛ فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) .

هذا هو الباب الثاني من كتاب العلم للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، وقد افتتح هذا الكتاب بقوله: (باب فضل العلم)

فلنتصور أنك بعدما سمعت الأحاديث والآيات في فضل العلم أن تكون تمتعت بذلك، ورغبت أن تكون إما متعلماً على سبيل النجاة، أو أن تكون عالماً، ولكل قسم من هذين القسمين عُدة، فالمتعلم على سبيل النجاة يسمع ويعمل، أما المتعلم ليُعلم فإنه يسمع ليعمل ثم يعلم.

فبعد أن علمت فضل العلم والعلماء، وأن العلم يتبارى الناس في الانتساب إليه، وإن لم يكونوا من أهله؛ لأنه شرف (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه)، فبعدما علمت فضل العلم والعلماء، ومنزلة العلم والعلماء، نتصور أنك ستقبل وتنضم إلى قافلة العلماء، فحينئذ عقد الإمام البخاري رحمه الله الباب الثاني على اعتبار أنك تريد أن تنضم إلى سفينة العلماء، فقال: باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث ثم أجاب السائل.

ذكر البخاري رحمه الله طرفاً من أدب طالب العلم، إذن الباب الذي ينبغي عليك أن تضع فيه أول خطوة، هو باب الأدب، العلم بلا أدب وبال على صاحبه، لا تدخل العلم إلا من باب الأدب، بينما كان النبي عليه الصلاة والسلام يحدث الناس، جاء أعرابي فقطع عليه حديثه، فهل هذا أدب؟ يعني هل يجوز لك أن تقطع على الشيخ كلامه لتسأل أم تنتظر؟ الإمام البخاري عندما ذكر هذا الحديث إنما ذكره كنموذج؛ ليقول: إن أول شيء ينبغي أن يتحلى به طالب العلم هو يتعلم الأدب.

فإذا كان السائل جافياً -مثل هذا الأعرابي- فهل لك أن تعرض عنه أم تقدر حال السائل؟ فدلنا بذلك على أن طالب العلم ينبغي أن يتحلى بآداب، كما أن الشيخ ينبغي أن يتحلى بآداب.

وقيل: إنه لا يصلح للقيادة من لم يتعلم الجندية، جندي يسمع ويطيع، فإذا صار قائداً كان قائداً ناجحاً، لذلك نقول لطلاب العلم: إذا لم تتعلم الأدب في مطلع طلبك للعلم لا يمكن أن تورثه، وتكون أول جانٍ عليه؛ لأن هذه المسألة سلف ودين.

فلذلك سنقف على نتف مما ينبغي أن يتحلى به طالب العلم من الآداب، وما ينبغي أن يتحلى به الشيخ -أيضاً- من الآداب.

ذكر الخطيب البغدادي عن بعض العلماء أنه قال: علم بلا أدب كنار بلا حطب. وهذا معناه: أن الأدب هو وقود العلم، ومعناه أيضاً: أن العلم لا يصل إلا بأدب. وخلاصة الكلام: العلم لا يصل إلا بحكمة.

مثلاً: كان هناك طالب من طلاب العلم، وكان طالباً نبيهاً، لكنه في صباح كل يوم جمعة يجمع الطلبة ويلعب معهم كرة نقول: لماذا تلعبون الكرة؟ يقولون: لكي نقوي عضلاتنا، ولنا نية صالحة في الموضوع. لكن ليعلم أنهم عندما يلعبون الكرة أنهم ينسون الالتزام، وينسون كل شيء، وأخلاقهم تضيق، وما إلى ذلك من سلبيات مترتبة على لعب الكرة.

المهم صاحبنا طالب العلم هذا راوغ الأول والثاني والثالث، وسدد الكرة على المرمى، ومضى مسرعاً ويقول: جول! جول! فقال له أحد الطلبة: والله يا شيخ أنت كذاب.

إذاً: عندما يقول له: والله يا شيخ أنت كذاب، وهذا الشيخ يقعد على الكرسي ويعلم هؤلاء الطلبة، هل يصل هذا العلم إلى الطلبة؟ هذا العلم لا يصل إلا بحشمة، الحشمة التي هي الوقار، وهي رصيد الإنسان عند الناس، ولا يصل المرء إلى هذه الحشمة إلا بعد أن تثبت قدمه في الخدمة، لا يمكن أن الناس يسوِّدونك، ولا يضعونك في الأفئدة إلا إذا ثبت أنك خدوم، وأنك إنسان أصيل، وهذا لا يعرف إلا بعد سنين من الخدمة، فالإنسان لابد أن يراعي ويحافظ على مكانته وهيبته، الإنسان المتعلم الذي يريد أن يعلم له عُدة لا بد أن يعتد بها.

تجد أحياناً بعض الناس العوام -مثل العمدة في الأرياف- بالرغم أنه غير متعلم، وليس عنده علم شرعي، إلا أنه إذا جلس، فالكل يصدر عن رأيه، والكل يحترمه.. لماذا؟ لأنه إنسان عنده حشمة.

فالحشمة: هي الهيبة -هيبة العالم- ولذلك ينبغي على العالم ألا يكثر من الاختلاط بالعوام، لابد أن يكون بنيه وبينهم شيء من الحاجز، لا أقول: يتكبر عليهم -عياذاً بالله- وإنما شيء من الحاجز.

كان هناك أحد الدعاة المشهورين، وكان هناك رجل معين يتمنى -وهذا الرجل كنت على علاقة به- أن يمس يد هذا العالم بيده، ومرت الأيام، وكان رجلاً صاحب تجارة، المهم: توصل عن طريق أحد الناس من الوصول إلى هذا العالم في بيته، وأخذ معه بعض المواد الغذائية وذهب إليه، فلما رأى العالم هذا قال له: ما هذا؟ قال: لابد أن تقبل الهدية، لا تكسر خاطري. بعد ذلك أول ما يراه يسلم عليه، ويجلسه معه وغير ذلك ثم تكرر ذلك مرة ومرتين وثلاثاً، حتى صار هذا الرجل نديماً لهذا العالم في مجالسه.

وهذا العالم كان رجلاً خفيف الظل، صاحب نكتة، ومجالسه لا تمل منها أبداً.

فبدأ هذا الرجل يرى شيئاً آخر ما كان يتخيله، يعني بعض الناس سأل بعض علمائنا الكبار وهو الشيخ الألباني حفظه الله، قال له: أنت تضحك؟ وهل أولادك ممكن يتكلمون معك؟ تدرون لماذا سأل هذا السؤال؟ لأنه لم ير الشيخ إلا وهو يقرر المسائل، ويرد على المبتدعة، ولا يضحك إلا نادراً، لذلك سأل سؤالاً عجيباً.

بعض الناس يتخيل أن العالم الذي شغل وقته بالعلم ونشره ليس عنده وقت أن يتبسط، بمعنى أن بعض الجلوس يتصور أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثلاً، هذا الرجل الذي عقد لواء الحرب على كل المبتدعة، وغزاهم في عقر دارهم، وما خرج أبداً مهزوماً من غزوة، قد يتخيل أن هذا الرجل ليس عنده وقت للضحك، أو للمزاح، أو وقت للفكاهة مع أصحابه، لماذا؟ ألأجل الصرامة التي عهدتها من كتاباته، والمناظرات التي كان يعقدها للرد على المبتدعة وغيرهم؟!

المقصود: أن بعض الناس يتخيل أن حياة العالم مختلفة؛ لأن بينه وبين هذا العالم حاجز.. فذلك الرجل استطاع أن يخترق هذا الحاجز، وبدأ يزول الحاجز، الجدار الذي كان ينبغي أن تضع عليه كل يوم لبنة، احذر أن يكون جدارك منخفضاً، أي: كن خدوماً، وانزل في وسط الناس لكن بحكمة.

وصل الأمر في آخر المطاف أن هذا الرجل -الذي كان يتمنى أن يلمس يد هذا العالم- قام وعقد لواء الحرب على هذا العالم وفضحه بأشياء، مع أنها أشياء مباحة، وكانت مشكلة كبيرة.

المقصود أن العالم ينبغي أن يكون كامل الحشمة، وذلك بأن يترفع عن كثير من المباحات، ولا شك أن ذلك سيكلفه كثيراً. فهذا الإمام البخاري رحمه الله كان لا يبيع ولا يشتري بنفسه، إنما يشتري له آخر، ويبيع له آخر. لماذا؟ لأن البيع والشراء فيه نوع من المساومات والمجادلات، فمثل هذه المساومات والمجادلات قد تضع من حشمة هذا العالم، وحتى يتقي أيضاً المظالم، فلا يظلم صاحب السلعة، وذلك بأن يكون أحسن لساناً منه فيأخذ السلعة بأقل، أو يأخذ من ربح البائع .. إلخ.

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، عندما ذهب إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني في اليمن جلس عند قدميه، فأمره عبد الرزاق أن يرتفع فيجلس بجانبه، قال: لا، لا أجلس إلا عند قدميك، هكذا أمرنا أن نصنع مع علمائنا. وما وضع هذا من قدر الإمام أحمد رحمه الله، وفعلها الإمام أحمد تأدباً، فتأسينا به بعد آلاف السنين، وكذلك فعل الإمام أحمد مع خلف الأحمر لما ذهب ليقرأ عليه، فقد جلس عند قدميه.

هناك حكاية لطيفة عن الأدب مع الأقران -وهي صحيحة- رواها ابن أبي حاتم في مقدمة كتاب: (الجرح والتعديل) وهي مختصرة، ولكنها مذكورة بكاملها في كتاب: علوم الحديث للحاكم ، وشعب الإيمان للبيهقي ، وكتاب: الإرشاد للخليلي ، وكتاب: فضل التهليل لـابن البناء ، وتاريخ دمشق لـابن عساكر ، وتاريخ بغداد، هذه القصة -وهي قصة عجيبة وصحيحة- يحكيها محمد بن مسلم بن وارة الرازي .

قال: قلت لـأبي حاتم الرازي : هلم بنا ندخل على أبي زرعة - عبيد الله بن عبد الكريم الرازي - نلقنه، وكان أبو زرعة في سياق الموت يعني: في النزع الأخير- قال: قلت له: إن من حقوق الصحبة، أن نكون معه إلى آخر يوم في الدنيا، إلى آخر لحظة، ونكون أوفياء بأن نلقنه الشهادة.

فقال أبو حاتم : إني لأستحيي أن ألقن أبا زرعة -يعني مثل: أبي زرعة الرازي الذي أفنى حياته في جمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وكان رجلاً عاملاً بعلمه- مثل هذا أنا أستحيي أن ألقنه. قال له: إذاً تعال نحاول معه بأي طريقة، كأن ندعي أننا نتذاكر حديثاً مثل حديث : (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، كما كنا نتذاكر من قبل، أنت تقول إسناداً، وأنا أقول إسناداً، حينها عندما يسمع أبو زرعة هذا الحديث سيذكر إن كان ناسياً وينطق بالشهادة، قال له :حسن!

فذهبا فدخلا عليه، فقال محمد بن مسلم بن وارة : حدثنا أبو عاصم النبيل -الضحاك بن مخلد - قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، وسكت، نسي الإسناد من هيبة أبي زرعة ! فهابه الرجلان، وهؤلاء أقران، هل تعرف أن أبا حاتم وأبا زرعة كانا أولاد خال، ومحمد بن مسلم الرازي أعلى منهما في الطبقة والإسناد، كما سيظهر حتى من هذا الحديث. فـمحمد بن مسلم قال: حدثنا أبو عاصم النبيل ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، وسكت، فقال أبو حاتم : حدثنا محمد بن بشار ، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل ، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر ... ولم يستطع أن يكمل، ووقف هو أيضاً، لم يستطع أن يكمل أبو حاتم الحديث.

فـأبو زرعة قال: أقعداني.. فأقعداه فقال: حدثنا محمد بن بشار ، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل ، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي عريش ، عن كثير بن مرة ، عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ...) وخرجت روحه مع الهاء. لم يقل: (دخل الجنة) وفي رواية أخرى أنه قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ومات.

فانظر إلى هذا الأدب العجيب! حتى مع الأقران، مع أنه عادة أن تحصل الخلافات بين الأقران وهي مسألة واردة؛ فالحسد والغبطة عادة ما تكون بين الأقران، لكن هؤلاء لما طلبوا العلم دخلوه من باب الأدب، يكفي أن تشتغل بعيبك. وأنا أرى أن هذه الدروس مهمة؛ لأن الطلبة في زمننا هذا اشتغل بعضهم بالكلام على بعض، بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار كلام المبتدعة، وغير ذلك من الدعاوي، وهذه مزلة أقدام.

وكما قيل: لا تحملن كلمة لأخيك على الشر وأنت تجد لها في الخير محملاً.

كان الحسن البصري يقول: إذا بلغك عن أخيك ما تكره فابحث عن عذر، فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً.

إذا لم تجد له عذراً، فمطلوب منك أن تستغفر له، ويجب أن تتمتع بقدر من التغابي، لا أقول الغباء؛ فإن العلم لا يصلح لغبي، لا يتعلم غبي ولا عصبي، لكن ينبغي أن تتمتع بقدر كبير من التغابي..

قيل لأعرابي: من العاقل؟ قال الفطن المتغافل. إذاً تتغافل، أنت تعرف أن هذا الإنسان فعل فعلاً ويريد أن يخرج من سخطك بعذر، فلو لم تكن صاحب حشمة ولم تعذره لما خرج من سخطك، هو يحسن نفسه أمامك؛ لأنه ما زال يحترمك، ما زلت كبير القدر عنده، فلا تضع قدرك، طالما أنه حريص على أن يواري سوأته عنك، فأتح له الفرصة، وافتح له طريق.

والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) قال نحو هذا الكلام لـعائشة رضي الله عنها لما كانت تسرع بالجمل، قال: (يا عائشة ! عليك بالرفق ) حتى مع الدواب.

وأنا أقول لك مثلاً: تخيل أنك تدق مسماراً في هذا حائط، وأنت رجل لديك عضلات قوية، وضربت المسمار ضربة قوية، ماذا سيحدث؟ سيرتد عليك، لكن لو ضربت عليه بهدوء، سيثبت ويستقيم معك. هناك ناس كثيرون مثل هذا المسمار لا يأتي إلا بالدق، لا يأتي بالذوق أبداً، فأنت كن حليماً، وكن رفيقاً، ينبغي أن يتخلق الداعية بالحلم، فلست جهة محاسبة، أنت جهة إصلاح.

وأيضاً نقول لإخواننا الذين يتعلمون -لا أقصد إخواننا الدعاة؛ لأنهم أفضل مني، ولا أنصحهم ولا أعيبهم، هم يعرفون ذلك، لكن إخواني الذين يريدون أن يترقوا بالعلم-: عليكم بالرفق، أخي! عليك بالرفق لكي تصل إلى مطلوبك، إياك وأنت تطلب العلم أن تفكر أن تكون إدارياً، الإداري مكروه، حتى وإن كان محقاً فيما يفعل، لكنه مكروه، لو تعامل الإداري الداعية بأسلوب الدعاة أفسد الإدارة.. لماذا؟ لأن الإدارة تحتاج إلى حزم، كل شخص يأتي ويقول: يا إداري سهّل لي المسألة الفلانية، وأدخلني إلى المكان الفلاني، وأنا سآتي لك بفلان واسطة. لو أنه قبل كل شفاعة تصل إليه ضاعت الإدارة، إذن تحتاج الإدارة إلى حزم، فالداعية لا تصلح له الإدارة، أي إنسان يدخل في الإدارة لا بد أن تؤثر في سلوكه وتعامله مع الناس، وتؤثر في دعوته إن كان داعية.

وعندكم عبرة بالأيام، انظروا! أي داعية دخل في الإدارة فلابد أن يخسر دعوته مباشرة، الداعية يحتاج إلى أن يعين إخوانه، يخالطهم ويصبر على أذاهم، ويسامح من آذاه، لكن الإداري مهما بسط وشرح عذره للناس لا يخرج من الملامة أبداً، إذاً لابد أن تكون داعية صرفاً، يعني: لا تشتغل بالإدارة.

باب الأدب أوسع الأبواب التي يلج منها طالب العلم، فأنت كطالب علم لا بد أن تلتزم بآداب:

أول الآداب التي ينبغي أن يتخلق بها طالب العلم هو: أن يحسن نيته في طلب العلم (الإخلاص) لابد أن تعلم أنك لا تتعلم لتكون فقيهاً أو ليشار إليك. لكن هناك مسألة واقعية، وهي عقبة تصرف كثيراً من الطلبة في بدء الطريق -عن العلم- هذه المسألة هي: أنك تجد طالب العلم يتمنى أن يكون مشهوراً، ويتمنى أن يكون معروفاً، فبعض الذين يدركهم الورع ينصرفون تماماً عن طريق التعلم؛ خشية الرياء.

أنا أقول: لا، اصبر، اصبر قليلاً، قال ابن جريج لـعبد الملك بن عبد العزيز -وهو من أوائل من صنف الكتب، وهو من طبقة الإمام مالك رحمه الله قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له؛ لأن عقد النية من أصعب ما يواجه الإنسان، عقد النية مسألة عسيرة!

طالب العلم في مبدأ أمره وهو لا زال طالباً صغيراً، ليس عنده علم، فيعجز عن استحضار النية لقلة علمه، فلا يزال يواصل في الطلب، ويواصل ويواصل، فكلما تعلم شيئاً من العلم استفاد منه؛ فيحسن عقد النية في آخر الأمر، لكن هذا الذي ينصرف عن طلب العلم بحجة الخوف من الرياء، هو ليس عنده علم حتى يجرد النية له، فأنت اصبر على نفسك، ولا تتهم نفسك من أول الأمر.

وقد جاء في الأثر: (من أدمن طرق الباب ولجه) طالما أنك تطرق سيفتح لك، فإذا تصورنا أن هناك إنساناً بداخل البيت، فطرقت الباب مرة أو مرتين وكان نائماً لا يفتح لك، لكن إذا ظللت تطرق وتدمن الطرق سيفتح لك، والعلم هكذا، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وهذا من عزة العلم، مثل القرآن، فإنه لا يبقى في صدر المهمل، فأنت تتركه يتفلَّت منك؛ لأنه عزيز الجانب، يتركك في الحال، ويتفلت منك في ضحوة من نهار، فإذا لم يجد الترحاب والاهتمام والرعاية، وتبقى مهتماً به فإنه يدعك، كذلك العلم؛ لأنه عزيز أيضاً، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

فأنت في بدء الطريق لا تستطيع أن تجرد نيتك، فعليك أن تصبر على نفسك، وكلما تعلمت شيئاً من العلم أضفته لعلومك.

حسن القصد في طلب العلم من عوامل الدفاع عن الدين

حسن القصد خاصةً في هذا الزمان الذي خلا من العلماء الربانيين إلا ما ندر، أنت ستحمل هم هذه الأمة، وهمتك تكون على قدر همك، فكلما عظم همك عظمت همتك، أنت تمضي في هذا الزمان، الزمان الذي حصل فيه مسخ، ولا زالوا مجدين في هذا المسخ، من الذي يقف ويدافع عن أصول هذا الدين؟! لا أقول: فروعه، ها أنتم قد قرأتم وسمعتم في الجمعة الماضية عن مقالة الولد الصحفي، الذي كتب عن محاكمة فرعون، قصة اخترعها يقول فيها: إن هناك شخصاً مصرياً اسمه فلان الفلاني، سمع الناس كلها تقول: إن فرعون كافر، فاستغرب الرجل! فرعون كافر! الفراعنة أجدادنا، فقال: لابد أن أقوم وأدافع عن فرعون هذا، مقام وقدم طلباً للمحكمة فيه: أنه يريد أن يدافع عن فرعون، وفي الأخير يقول: إن فرعون مسلم، فرعون الذي ادعى الربوبية هذا مسلم! كيف صار مسلماً؟ قال: لأنه قال كلمة: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، فعندما قال: لا إله إلا الله أصبح مسلماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة).

حسن! فما آلآنَ [يونس:91]؟ يعني: آلآن تبت لما عاينت الهلاك والعذاب آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91]، قال: (كنت) للماضي، لكن فرعون تاب الآن، فما علينا بماضيه؛ لأن الإنسان إذا تاب فإن التوبة تجب ما قبلها.

إذاً: (كنت) هذه للماضي، هو هذا ماضيه وختم له به، وليس له مستقبل. يعني: أنت لما تقرأ: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96] إذاً (كان) يعني في الماضي.

قلنا: فرعون عندما قال: وأَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ما قولك فيه؟ قال: الجماعة هؤلاء -يقصد العلماء- لا يفهمون معنى كلمة (رب)، الرب تعني: الراعي والمهتم بالرعية.

حسن قوله تعالى : فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25] هذه الآية وغيرها أين تذهب بها؟

وقوله: :يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] وقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [غافر:46] هنا وقف في قراءة، وهذا واضح، فكيف تتأول هذه الآية؟!

فذلك الشخص يريد أن يثبت أننا فراعنة، وأننا لا ننتمي إلى الإسلام، وإنما ننتمي إلى الفرعونية. وهذه القصة وردت في صفحة كاملة. والصفحة الكاملة تكلف ثلاثمائة ألف، يعني هناك خسارة ثلاثمائة ألف ليُنشر مثل هذا الكفر، وقد أهدر الله عز وجل كل اعتبار لفرعون كما في القرآن، هذه مسألة من المعلوم من الدين بالضرورة، وهي: أن فرعون من الكافرين، عندما تصل الجرأة برجل فيقول: إن فرعون مسلم؛ لأنه لا يوجد من يحاكمه، ولا من يراجعه، بالعكس لقد أخذ أجراً على هذا الكفر الذي نشره، ويذهب إلى بيته آمناً، ولا توجد حتى لجنة تحاوره، وكذلك علماء الأزهر لم يواجهوه، وإلا كان المفروض في اليوم الثاني أن تنزل لجنة من الأزهر تطالب بمحاكمته، وتوقفه عند حده، لكن حتى الآن ليس هناك رد في الجرائد عن مثل هذا الكفر، وهذا تكذيب لرب العالمين، عندما يأتي شخص يقول: إن فرعون مسلم، هذا تكذيب صريح لرب العالمين، وقد امتلأ القرآن بتكفير فرعون.

هؤلاء عندما كتبوا كفرهم ولم يحاكموا؛ أغرى ذلك غيرهم ليسلك نفس الدرب؛ لأن هذا الأنوك سبقه أنوك آخر، ليس له من العلم نصيب؛ إنه توفيق الحكيم -حيث لا توفيق ولا حكمة- الرجل هذا ألَّف رواية اسمها (الشهيد)، يقول فيها: إن إبليس مظلوم، وإن ربنا سبحانه وتعالى لم يعطه الفرصة ليدافع عن نفسه، وذلك أنه أول ما قال: (أنا خير منه)، قال له: (اخرج منها فإنك رجيم). هذا الوقح يخاطب الله عز وجل فيقول: اعطه فرصه، دعه يدافع عن نفسه..

ثم يقول -على لسان إبليس مخاطباً رب العالمين- يقول: يا رب! أنا الذي وحدتك، والملائكة أشركوا. كيف ذلك؟ قال: أنا رفضت أن أسجد إلا لك، وهم سجدوا لبشر، والسجود للبشر كفر. أنا لا أستبعد يا إخواننا! أن يخرج آخر أنوك يقول: إن رب العالمين مشرك. كيف ذلك؟ سيقول لك: إن ربنا أقسم بالشمس وضحاها والتين والزيتون، ولا يجوز الحلف إلا بالله..! يا أخي! لا تستغرب، لا تستغرب مثل هذا، ما كان يخطر على بال إنسان أن يخرج واحد يقول شخص: إن إبليس مظلوم؛ لأن رب العالمين لم يعطه الفرصة ليدافع عن نفسه..

والله ما كان يخطر على البال على الإطلاق أن يصل هذا الكفر المجرد إلى هذا الحد، وتنشر الرواية، وبعد ذلك يصوغها في أسلوب هزلي لكي تلتبس على علماء الشريعة، يقول فيها: إن إبليس أراد أن يتوب، قال: يا جماعة دلوني على الذي يقبل توبتي؟ قالوا له: عليك بأكبر رأس، من هو؟ إنه شيخ الأزهر، مرشد الأزهر هو أكبر رأس، شيخ الإسلام في البلد، قل له: أنا أريد أن أتوب. فجاء إبليس إلى شيخ الأزهر، قال له: القرآن مليءٌ بأن الإنسان إذا أراد أن يتوب فله ذلك: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا [الزمر:53] وأنا الآن اكتشفت أنني كنت مخطئاً وأريد أن أتوب، فاقبل توبتي. فأخذ شيخ الأزهر يلعب بلحيته، يعني أن الحجة التي أتى بها إبليس كانت قوية، لم يستطع أن يأتي برد، فالرجل لعب بلحيته؛ لأنه ألزمه الحجة.

قال شيخ الأزهر لإبليس: هل تبت؟ قال: نعم. قال له: إن نصف القرآن يلعنك، وأنا لو قبلت توبتك فإني سأبطل القرآن. لا أقبل توبتك؛ لأني في هذه الأرض أدافع عن القرآن، لا يمكن نلغي نصف القرآن من أجل أن نقبل توبتك، قال له: لكن أنا أريد أن أتوب، لو أن شخصاً من بني آدم أراد أن يتوب هل ستقول له: لا..؟! أنا أريد أن أتوب، وهذا نص القرآن الذي تقرأه، والذي تدافع عنه: إن أي شخص يريد أن يتوب فله ذلك.

قال: حينئذ سكت شيخ الأزهر قليلاً وقال: المسألة هذه أعلى من اختصاصي، أنا كل اختصاصي أن أرفع من مكانة الأزهر، وألمع الأزهر فقط، أما المسألة هذه فتحتاج إلى شخص أكبر مني قليلاً.

إذاً: لمن أذهب؟ قال له: اذهب إلى جبريل.

يا إخوان! الرواية مكتوبة وتباع!

فذهب إبليس وصعد إلى جبريل، وقال له: أريد أن أتوب، فقال جبريل: لا، هذه المسألة ليست من اختصاصي، هذه لا يفصل فيها إلا رب العالمين، عليك برب العالمين، فإن بابه مفتوح، فذهب إبليس إلى رب العالمين فلعنه، فطفق نازلاً وهو يصرخ صرخة -انظر إلى الكفر المجرد!- تجاوبت لها السماوات والأرض والأشجار والأفلاك والأحجار والرمال والبحار والأنهار ويقول: أنا شهيد، أنا شهيد، أنا شهيد. يعني: أنا مظلوم..!

فهو عندما رده رب العالمين نزل وهو يقول: أنا مظلوم، فكل الكون تجاوب معه؛ لأنه مظلوم.. هل يصلح يا إخواننا مثل هذا الكلام..؟!

نحن نعاني من محنة لا يعلمها إلا الله. لا يعلمها إلا الله. ونحتاج فيها كتيبة من العلماء في كل حي، لا أقول كتيبة من العلماء في البلد، بل في كل حي، الأمر جد وليس بهزل، فهذا الكفر الذي يظهر يومياً على صفحات الجرائد، ناهيك عن رسومات (الكاريكاتير) التي تستهزئ بالله ورسوله، رسم رجل هنا (كاريكاتير) فنقله شخص في جريدة كويتية وآخر نقله في الجريدة فعوقب الذي في الكويت بستة أشهر في السجن، والذي رسم (الكاريكاتير) في هذا البيلد لم يعاقبه أحد، وجاء في جريدة في صفحة النكت أن مدرساً سأل تلميذه فقال: لماذا أخرج الله آدم من الجنة؟ فقال له الطالب: لأنه ما دفع الإيجار! هل يجوز هذا الكلام؟!!

حسن القصد خاصةً في هذا الزمان الذي خلا من العلماء الربانيين إلا ما ندر، أنت ستحمل هم هذه الأمة، وهمتك تكون على قدر همك، فكلما عظم همك عظمت همتك، أنت تمضي في هذا الزمان، الزمان الذي حصل فيه مسخ، ولا زالوا مجدين في هذا المسخ، من الذي يقف ويدافع عن أصول هذا الدين؟! لا أقول: فروعه، ها أنتم قد قرأتم وسمعتم في الجمعة الماضية عن مقالة الولد الصحفي، الذي كتب عن محاكمة فرعون، قصة اخترعها يقول فيها: إن هناك شخصاً مصرياً اسمه فلان الفلاني، سمع الناس كلها تقول: إن فرعون كافر، فاستغرب الرجل! فرعون كافر! الفراعنة أجدادنا، فقال: لابد أن أقوم وأدافع عن فرعون هذا، مقام وقدم طلباً للمحكمة فيه: أنه يريد أن يدافع عن فرعون، وفي الأخير يقول: إن فرعون مسلم، فرعون الذي ادعى الربوبية هذا مسلم! كيف صار مسلماً؟ قال: لأنه قال كلمة: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، فعندما قال: لا إله إلا الله أصبح مسلماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة).

حسن! فما آلآنَ [يونس:91]؟ يعني: آلآن تبت لما عاينت الهلاك والعذاب آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91]، قال: (كنت) للماضي، لكن فرعون تاب الآن، فما علينا بماضيه؛ لأن الإنسان إذا تاب فإن التوبة تجب ما قبلها.

إذاً: (كنت) هذه للماضي، هو هذا ماضيه وختم له به، وليس له مستقبل. يعني: أنت لما تقرأ: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96] إذاً (كان) يعني في الماضي.

قلنا: فرعون عندما قال: وأَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ما قولك فيه؟ قال: الجماعة هؤلاء -يقصد العلماء- لا يفهمون معنى كلمة (رب)، الرب تعني: الراعي والمهتم بالرعية.

حسن قوله تعالى : فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25] هذه الآية وغيرها أين تذهب بها؟

وقوله: :يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] وقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [غافر:46] هنا وقف في قراءة، وهذا واضح، فكيف تتأول هذه الآية؟!

فذلك الشخص يريد أن يثبت أننا فراعنة، وأننا لا ننتمي إلى الإسلام، وإنما ننتمي إلى الفرعونية. وهذه القصة وردت في صفحة كاملة. والصفحة الكاملة تكلف ثلاثمائة ألف، يعني هناك خسارة ثلاثمائة ألف ليُنشر مثل هذا الكفر، وقد أهدر الله عز وجل كل اعتبار لفرعون كما في القرآن، هذه مسألة من المعلوم من الدين بالضرورة، وهي: أن فرعون من الكافرين، عندما تصل الجرأة برجل فيقول: إن فرعون مسلم؛ لأنه لا يوجد من يحاكمه، ولا من يراجعه، بالعكس لقد أخذ أجراً على هذا الكفر الذي نشره، ويذهب إلى بيته آمناً، ولا توجد حتى لجنة تحاوره، وكذلك علماء الأزهر لم يواجهوه، وإلا كان المفروض في اليوم الثاني أن تنزل لجنة من الأزهر تطالب بمحاكمته، وتوقفه عند حده، لكن حتى الآن ليس هناك رد في الجرائد عن مثل هذا الكفر، وهذا تكذيب لرب العالمين، عندما يأتي شخص يقول: إن فرعون مسلم، هذا تكذيب صريح لرب العالمين، وقد امتلأ القرآن بتكفير فرعون.

هؤلاء عندما كتبوا كفرهم ولم يحاكموا؛ أغرى ذلك غيرهم ليسلك نفس الدرب؛ لأن هذا الأنوك سبقه أنوك آخر، ليس له من العلم نصيب؛ إنه توفيق الحكيم -حيث لا توفيق ولا حكمة- الرجل هذا ألَّف رواية اسمها (الشهيد)، يقول فيها: إن إبليس مظلوم، وإن ربنا سبحانه وتعالى لم يعطه الفرصة ليدافع عن نفسه، وذلك أنه أول ما قال: (أنا خير منه)، قال له: (اخرج منها فإنك رجيم). هذا الوقح يخاطب الله عز وجل فيقول: اعطه فرصه، دعه يدافع عن نفسه..

ثم يقول -على لسان إبليس مخاطباً رب العالمين- يقول: يا رب! أنا الذي وحدتك، والملائكة أشركوا. كيف ذلك؟ قال: أنا رفضت أن أسجد إلا لك، وهم سجدوا لبشر، والسجود للبشر كفر. أنا لا أستبعد يا إخواننا! أن يخرج آخر أنوك يقول: إن رب العالمين مشرك. كيف ذلك؟ سيقول لك: إن ربنا أقسم بالشمس وضحاها والتين والزيتون، ولا يجوز الحلف إلا بالله..! يا أخي! لا تستغرب، لا تستغرب مثل هذا، ما كان يخطر على بال إنسان أن يخرج واحد يقول شخص: إن إبليس مظلوم؛ لأن رب العالمين لم يعطه الفرصة ليدافع عن نفسه..

والله ما كان يخطر على البال على الإطلاق أن يصل هذا الكفر المجرد إلى هذا الحد، وتنشر الرواية، وبعد ذلك يصوغها في أسلوب هزلي لكي تلتبس على علماء الشريعة، يقول فيها: إن إبليس أراد أن يتوب، قال: يا جماعة دلوني على الذي يقبل توبتي؟ قالوا له: عليك بأكبر رأس، من هو؟ إنه شيخ الأزهر، مرشد الأزهر هو أكبر رأس، شيخ الإسلام في البلد، قل له: أنا أريد أن أتوب. فجاء إبليس إلى شيخ الأزهر، قال له: القرآن مليءٌ بأن الإنسان إذا أراد أن يتوب فله ذلك: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا [الزمر:53] وأنا الآن اكتشفت أنني كنت مخطئاً وأريد أن أتوب، فاقبل توبتي. فأخذ شيخ الأزهر يلعب بلحيته، يعني أن الحجة التي أتى بها إبليس كانت قوية، لم يستطع أن يأتي برد، فالرجل لعب بلحيته؛ لأنه ألزمه الحجة.

قال شيخ الأزهر لإبليس: هل تبت؟ قال: نعم. قال له: إن نصف القرآن يلعنك، وأنا لو قبلت توبتك فإني سأبطل القرآن. لا أقبل توبتك؛ لأني في هذه الأرض أدافع عن القرآن، لا يمكن نلغي نصف القرآن من أجل أن نقبل توبتك، قال له: لكن أنا أريد أن أتوب، لو أن شخصاً من بني آدم أراد أن يتوب هل ستقول له: لا..؟! أنا أريد أن أتوب، وهذا نص القرآن الذي تقرأه، والذي تدافع عنه: إن أي شخص يريد أن يتوب فله ذلك.

قال: حينئذ سكت شيخ الأزهر قليلاً وقال: المسألة هذه أعلى من اختصاصي، أنا كل اختصاصي أن أرفع من مكانة الأزهر، وألمع الأزهر فقط، أما المسألة هذه فتحتاج إلى شخص أكبر مني قليلاً.

إذاً: لمن أذهب؟ قال له: اذهب إلى جبريل.

يا إخوان! الرواية مكتوبة وتباع!

فذهب إبليس وصعد إلى جبريل، وقال له: أريد أن أتوب، فقال جبريل: لا، هذه المسألة ليست من اختصاصي، هذه لا يفصل فيها إلا رب العالمين، عليك برب العالمين، فإن بابه مفتوح، فذهب إبليس إلى رب العالمين فلعنه، فطفق نازلاً وهو يصرخ صرخة -انظر إلى الكفر المجرد!- تجاوبت لها السماوات والأرض والأشجار والأفلاك والأحجار والرمال والبحار والأنهار ويقول: أنا شهيد، أنا شهيد، أنا شهيد. يعني: أنا مظلوم..!

فهو عندما رده رب العالمين نزل وهو يقول: أنا مظلوم، فكل الكون تجاوب معه؛ لأنه مظلوم.. هل يصلح يا إخواننا مثل هذا الكلام..؟!

نحن نعاني من محنة لا يعلمها إلا الله. لا يعلمها إلا الله. ونحتاج فيها كتيبة من العلماء في كل حي، لا أقول كتيبة من العلماء في البلد، بل في كل حي، الأمر جد وليس بهزل، فهذا الكفر الذي يظهر يومياً على صفحات الجرائد، ناهيك عن رسومات (الكاريكاتير) التي تستهزئ بالله ورسوله، رسم رجل هنا (كاريكاتير) فنقله شخص في جريدة كويتية وآخر نقله في الجريدة فعوقب الذي في الكويت بستة أشهر في السجن، والذي رسم (الكاريكاتير) في هذا البيلد لم يعاقبه أحد، وجاء في جريدة في صفحة النكت أن مدرساً سأل تلميذه فقال: لماذا أخرج الله آدم من الجنة؟ فقال له الطالب: لأنه ما دفع الإيجار! هل يجوز هذا الكلام؟!!

طلبة العلم لا ينبغي لهم أن يرد بعضهم على بعض، ويهجر بعضهم بعضاً، ويصطادون أخطاء بعض، وكل هذه الأفعال يفعلونها تحت مظلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووتحت مظلة لا بد من الرد على المبتدعة.. وغير ذلك.

أقول: هذا أمر جيد، أنا لا أستهين ولا أقلل من هذا الدور، لكن يجب أن لا تلبس علينا الأمور، لا بد أن ندرس مسائل الاختلاف دراسة واعية، ونعرف الاختلاف الذي يسوغ فيه التفرد، والاختلاف الذي هو اختلاف التناقض، ونعرف اختلاف التنوع الذي يسعني الخلاف فيه معك، وأن تكون أخي برغم هذا الخلاف.

ذكر الذهبي في: سير أعلام النبلاء في ترجمة الشافعي رحمه الله: أنه اختلف في مسألة ما مع تلميذ له -وهو يونس بن عبد الأعلى - وتفرقا، قال يونس : فجاء الشافعي فطرق بابي، ثم أخذ بيدي فقال: يا أبا موسى ! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟ قال الذهبي : ما أكمل عقل هذا الإمام..! فلا زال النظراء يختلفون، حتى الصحابة اختلفوا، لكن ما تفرقوا، هناك فرق، لأنهم كانوا يعلمون الاختلاف السائغ، والاختلاف الذي لا يسوغ، وهذا لا يكون إلا إذا درسنا الآداب -آداب طالب العلم-.

فالإنسان إذا تأدب وتعلم؛ فإن علمه يصل إلى الناس، بخلاف الإنسان غير المؤدب.

ذكر أبو بكر بن العربي في كتاب: أحكام القرآن -وهو كتاب ممتع- ذكر حكاية عن شيخه محمد بن القاسم العثماني ، قال: دخلت مرة مصر وذهبت لأحضر مجلس أبي الفضل الجوهري ، فسمعته يقول: (طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر وآلى)، قال: وانفض المجلس فتبعته، قال: وعليَّ شارة الغربة، أي: علامة السعر.

وهي الثياب الرثة؛ لأجل هذا استغرب الصحابة شكل جبريل عليه السلام في حديث الإسلام والإيمان والإحسان، رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا يعرفه منا أحد! هذا معناه أن ثيابه نظيفة، ولا يزال شعره مرجلاً.

قال: فتبعته، حتى إذا خف المجلس قال: أُراك غريباً. قلت: نعم. قال: لك حاجة؟ قلت: نعم. قال: أفرجوا له. فاختلى به، فقال له محمد بن قاسم : حضرت مجلسك متبركاً بك، فسمعتك تقول: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، وسمعتك تقول: وآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت، وسمعتك تقول: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يكن؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، ما كان ليقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فضمني إليه، وقبل رأسي، وقال: أنا تائب من هذا القول، جزاك الله خيراً.

لا يمكن أن يفعل هذا إلا عالم مؤدب، تمرس على الأدب وهو طالب، فورث العلم والأدب وهو شيخ، قال: فلما كان من الغد بكرت إلى المسجد، فإذا الجامع غاص بأهله -مليء- قال: فدخلت، فلما رآني، استقبلني وقال: أهلاً بمعلمي! قال: فتطاولت الأعناق إلي. -إذا كان شيخهم محترماً جداً إلى هذا الحد، فشيخ شيخهم كيف يكون؟- قال: فتطاولت الأعناق إليَّ، ورفعوني، فتصبب بدني عرقاً من الحياء، ولم أعرف بأي موضع أنا من الأرض، قال: فحملوني إليه وقال أبو الفضل الجوهري : أنا معلمكم وهذا معلمي، إنني قلت لكم بالأمس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وآلى وظاهر) وإن هذا الشاب جاءني وقال: كذا وكذا، وأنا راجع عن قولي.

لأنك عندما تنسب نفسك إلى النقص غير أن تنسب نبيك إلى النقص، وليس لكي تدافع عن نفسك وعن وجهة نظرك تتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لا، أنت تعرف الحديث الذي رواه الشيخان في صحيحيهما ، حديث الخوارج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين ، فجاء ذو الخويصرة ، فقال: يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل. قال: ويحك، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) هي هذه الرواية التي قام المحققون بضبطها هكذا، وليس (لقد خبتُ وخسرتُ) شيخ الإسلام ابن تيمية : إن من ظن في نبيه أنه لا يعدل كفر.

إساءة الظن بالنبي كفر، فلقد خبت وخسرت إن ظننت أني لا أعدل وأنا رسول رب العالمين، يقول لك: لأن الأسماء قد تكون كثيراً على خلاف القياس؛ ولذلك ينبغي أن تتلقى من أفواه الشيوخ، الأسماء بالذات لا تجري على القياس إنما تتلقى بالسمع.

فمثلاً: الأنباري صحح فهمه الدارقطني فَقَبِلَ، قال الدارقطني : فأعظمته وأكبرته أن يحمل عنه خطأ، فلم يذهب للشيخ مباشرة؛ لأن الشيخ جليل، كبير! والدارقطني مازال شاباً، يحضر مجالسه، قال: فأعلمت مستمليه. فقلت: إنه يقول كذا، أي أن الاسم الفلاني ضبطه الشيخ خطأً، فالمستملي أبلغ أبا بكر الأنباري ، فقال: إنني أخطأت في ضبط الاسم الفلاني، وقد أوقفنا هذا الشاب على الصواب. قال: فعظم في عيني.

وهذا الشافعي يقول: ما ألقيت الحجة على أحد فقبلها إلا هبته، وزاد في عيني، وما ردها أحد إلا سقط من عيني!

نحن قلنا: باب الأدب باب مهم، لا ينتفع الناس بعلم إلا إذا كان المبلغ تعلم الأدب. ومن تمام الأدب أن تعرف قدر نفسك وتعرف قدر غيرك.

هذا سفيان بن عيينة كان ماشياً، فلقيه غلام فقال: يا سفيان ! يا سفيان ! حدثني. قال يا غلام! من جهل أقدار الرجال فهو لنفسه أجهل.

ولذلك كان بعض العلماء لا يعطي طالب العلم مناه من الفائدة؛ ليس كتماً للعلم، ولكن اختباراً لأدبه.

جاء رجل إلى يحيى بن معين ، وقال: يا أبا زكريا ! أنا مستعجل، أنا على سفر، حدثني حديثاً أذكرك به. قال: اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل.

والفضل بن دكين رحمه الله - أبو نعيم - وهو من كبار مشايخ البخاري في الطبقة الأولى، البخاري شيوخه على ثلاث طبقات، أعلى طبقة في شيوخ البخاري منهم: أبو نعيم الفضل بن دكين ، و: مكي بن إبراهيم ، وحمزة بن عبد الله الأنصاري، وعبيد الله بن موسى ، أبو عاصم النبيل ، ومحمد بن موسى السرياغي ...، وطائفة من هؤلاء العلماء الكبار، هم كبار مشايخ البخاري .

فـالفضل بن دكين هذا -وهو من مشايخ أحمد أيضاً- كان يجلس ويحدث، وكان يجلس عن يمينه أحمد بن حنبل وعن شماله ابن معين ، ففي يوم من الأيام أحب يحيى بن معين أن يختبر شيخه الفضل ، فكتب جملة أحاديث في ورقة بها عشرة إلى عشرين حديثاً من أحاديث الفضل ، ولكن وضع فيها ما ليس من حديثه؛ ليختبر حفظه؛ لأنه طالما لم يميز حديثه من حديث غيره إذاً ساء حفظه، فهو يريد أن يتأكد هل شيخه لا زال حافظاً ضابطاً أم لا، فعمل المسألة هذه واستشار الإمام أحمد فقال: ما رأيك هل نعمل هذا مع الشيخ لنختبره، ونعرض عليه الأحاديث؟ فقال الإمام: لا تفعل، إنه كفء -هذا رجل حافظ- قال ابن معين : لابد أن أفعلها، لكن لم يعطه الورقة بنفسه، وإنما أعطى الورقة لـأحمد بن منصور الرمادي ، وهو أحد الأئمة الثقات، وكان يحضر في مجلس مثل الذي يكون فيه مثل هؤلاء الطلبة.

قال فلما خف المجلس ناوله الرمادي الورقة، قال: فجعل الفضل ينظر فيها، ثم سكت قليلاً، ثم قال: أما هذا - يعني أحمد بن حنبل - فآدب من أن يفعل ذلك، وأما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وليس هذا إلا من عمل هذا. قال وأخرج رجله فرفسه، فأسقطه من على الدرج، وقال: علي تعمل الأشياء هذه؟! وقام مغضباً، فقام يحيى بن معين وقبل جبهته، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، والله لرفستك أحب إلي من رحلتي.

فـابن معين ما قام بعد أن رفسه أمام الطلبة ويقبل جبهة شيخه إلا لأنه تعلم الأدب، لكنهم اهتموا بباب خطير من أبواب العلم، وهو باب الحكم على الرواة، فكان بعض الشيوخ يقسو على الطلبة، ليس كتماناً للعلم، ولكن ليظهر أدب الطالب، فأنت عندما ترده يرجع إليك منكسراً، هذا هو الذي يتعلم، لكن إذا قال: لماذا تفعل هذا معي؟! مثل هذا لا ينفع أن تعطيه العلم، هذا لا يصلح أن يحمل علماً، فيتضرر منه أناس كثيرون إذا حمل أمثاله العلم، لكن لابد قبل أن تعطي العلم، ومفاتيح العلم، للطالب لابد أن تعرف أنه أهل أن يحمل هذا.

أبو العباس السهران له جزء من عوالي حديثه الذي سماه: البيتوتة، كان أبو العباس السهران إذا جاءه من يريد أخذ جزئه وروايته عنه، لم يجبه إلى طلبه إلا إذا بات على بابه في الطل إلى الصباح، وفي الصباح إن رأى عليه علامات الرضا والاغتباط مكنه من رواية هذا الجزء، لكن إذا انقبض؛ إذاً هذا الطالب ليس بمؤدب، ولا يستحق أن يمكن من رواية هذا الجزء.