شرح صحيح البخاري [4]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

قال الإمام البخاري رحمه الله:

(باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل)

حدثنا محمد بن سنان ، قال: حدثنا فليح (، ح) وحدثني إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثنا محمد بن فليح ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال له: متى الساعة؟ فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال؛ فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: هأنا يا رسول الله. قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) .

هذا الحديث رواه الإمام البخاري أيضاً في موضع آخر من صحيحه في كتاب الرقاق، لكنه أورده مختصراً، وأورده من طريق محمد بن سنان -بهذا الإسناد الذي ذكره في هذا الموضع- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) .

وكذلك روى هذا الحديث من أئمة الحديث: الإمام أحمد رحمه الله، قال: حدثنا يونس وسريج ، قالا: حدثنا فليح ...بهذا الإسناد الذي أورده البخاري في صحيحه .

ويونس هذا هو ابن محمد المؤدب ، وسريج هو ابن النعمان .

وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمد ، قال: حدثنا فليح وساق الحديث بهذا الإسناد.

وأخرجه أيضاً الإمام البيهقي في سننه الكبرى، في كتاب آداب القاضي، من طريق أحمد بن علي الخزاز قال: حدثنا سريج بن النعمان ، قال: حدثنا فليح ...وساق هذا الإسناد.

وأخيراً رواه ابن حبان رحمه الله في صحيحه من طريق محمد بن المثنى قال: حدثنا عثمان بن عمر ، قال: حدثنا فليح بن سليمان ...بهذا الإسناد الذي أورده البخاري في صحيحه.

إذاً: الرواة عن فليح بن سليمان: ابنه محمد بن فليح ، ومحمد بن سنان عند البخاري ، ويونس بن محمد وسريج بن النعمان عند أحمد ، وعثمان بن عمر عند ابن حبان ، هؤلاء خمسة يروون هذا الحديث عن فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وللحديث ألفاظ منها: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله) و(إذا أسند الأمر) كما في رواية محمد بن سنان ، ورواية سريج بن النعمان ( (إذا أسند الأمر إلى غير أهله) ، وفي مسند الإمام أحمد (إذا توسد الأمرَ غير أهله فانتظر الساعة) وهذه الألفاظ لها دلالات سنقف عليها بعد إن شاء الله.

كنا في الدرس الماضي ذكرنا أن الإمام البخاري رحمه الله عقد هذا الباب كمثال لأدب الطالب، ولما ينبغي أن يكون عليه الشيخ، وذكرنا نتفاً من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، والتي ينبغي أن يتحلى بها الشيخ، وسنكمل بقية الآداب إن شاء الله عندما نأتي على حديث ابن عمر لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشجرة التي هي كالمؤمن ولا يسقط ورقها، قالوا: في هذا الحديث جملة وفيرة من الآداب.

حرص علماء السلف من المحدثين على علو السند

سنقف الآن على بعض الفوائد الإسنادية في هذا الحديث:

فالإمام البخاري روى هذا الحديث من طريقين له عن فليح بن سليمان : طريق عال، وطريق نازل.

وأشرف أنواع العلو الذي كان يحرص عليه المحدثون هو: تقليل عدد الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام هو المصباح، وكلما اقتربت من ضوء المصباح؛ كلما يكون أشرف لك، فلذلك كان المحدثون يحرصون على الأسانيد العالية، ويبذلون حر المال في سبيل تحصيل هذه الأسانيد.

وقد سئل يحيى بن معين أبو زكريا إمام الجرح والتعديل رحمه الله، وهو في مرض موته فقيل له: ما تشتهي؟ قال: بيت خال وإسناد عال. وكانوا -كما قلت- يحرصون على هذا النوع من العلو، وهو تقليل الوسائط بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام.

إحراز العلو أحد الأسباب الحاملة على التدليس

وإحراز العلو هو أحد الأسباب الحاملة للمدلس على أن يدلس؛ لاسيما في تدليس الإسناد، وقد تكلمنا عن تدليس الإسناد فيما مضى، ولكن لا بأس أن أذكر به حتى أبين أن الحامل للمدلس على إسقاط من حدثه إذا كان نازلاً هو محبة العلو في الإسناد.

وتدليس الإسناد: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه.

لنفترض أننا في هذا المسجد في مجلس حديث ومجلس إسناد، وأنا أحدثكم بالحديث، وهناك طالب دائماً يحضر هذه الدروس، ولكن لأمر ما سافره أو تغيب، ففاته مجلس من هذه المجالس، وقد حدثت في هذا المجلس بعدة أحاديث، وهذا الطالب لو أراد أن يحدث بهذه الأحاديث التي فاتته فلا بد أن يسمعها من رفيق له عني، أي: من شخص حضر هذا المجلس يحدثه عني، إذاً هو قد نزل درجة، فإنه كان يقول: حدثني فلان مباشرة، لكنه أصبح بسبب هذا التغيب عن المجلس يقول: حدثني فلان عن فلان، وبهذا يكون قد نزل في الإسناد درجة.

هذا هو النزول الذي كان المحدثون يحرصون على تلافيه، فالمدلس يقول: بدلاً من أن أروي عن زميلي عن شيخي، أسقط زميلي وأروي عن شيخي مباشرة، ولكنه لا يستطيع أن يرويه عن شيخه بلفظة التحديث، كأن يقول: حدثني فلان؛ لأنه سيكون كذاباً، لكنه يأتي بلفظة لها وجهان: وجه اتصال، ووجه انقطاع، وهي لفظة (عن)، ولذلك فإن من يقرأ في كتب المحدثين يجدهم يقولون: فيه فلان وهو مدلس، وقد عنعنه. (عنعنه) أي: رواه بصيغة (عن)؛ لأن صيغة (عن) فيها معنى الاتصال، ومعنى الانقطاع، فلو أنك قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال؛ لما كذبك أحد، لكن لو قلت: حدثني رسول الله. فلفظة التحديث لا تحتمل أبداً إلا اللقاء المباشر، والسماع المباشر، أما لفظة (عن) فإنها تحتمل وجهين، فقد تقول: عن فلان، مع عدم اللقاء، ومع ذلك لا يكذبك أحد.

فلذلك المدلس يسقط الواسطة بينه وبين شيخه، ويرتقي بلفظة (عن).

إذاً: أحد الأسباب الحاملة للمدلس على التدليس هو: العلو، فيسقط الواسطة مر ويعلو بلفظة (عن) إلى شيخه.

فالإمام البخاري -رحمه الله- روى هذا الحديث بإسناد عال وإسناد نازل، والراوي المشترك بين الإسنادين -أول راو مشترك بين الإسنادين- محمد بن فليح .

إذاً فقد قال في الإسناد الأول: حدثنا محمد بن سنان ، قال: حدثنا فليح . إذاً بينه وبين فليح راو واحد وسيط.

الإسناد الثاني: قال: حدثني إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثني محمد بن فليح ، قال: حدثني أبي فليح . فقد نزل في هذا الإسناد.

إذاً: في الإسناد الأول بينه وبين فليح راو واحد، والإسناد الثاني بينه وبين فليح راويان، والإمام البخاري حول الإسناد بلفظ التحويل، وهو حرف (ح) التي هي عملية الاختزال في هذا العصر، ومعناها: أن الإمام حول الإسناد للاختصار، ولو أن البخاري رحمه الله لم يستخدم هذه اللفظة، لكان سيروي الحديث هكذا: يقول: حدثنا محمد بن سنان ، قال: حدثنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، ويسوق المتن، ثم يرجع ويقول: وحدثني إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثني محمد بن فليح ، قال: حدثني أبي، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة، ويسوق المتن.

وهذا تطويل، فحتى لا يكرر الإسناد مرة أخرى يأتي من عند الراوي المشترك في الإسنادين ويضع لفظة (ح) فكأنه يقول: سأحول الرواية إلى إسناد آخر، هذا معنى لفظة (ح) التي هي التحويل، أي سيحول الحديث إلى إسناد آخر عنده عن شيخه، والقصد من هذا التحويل: الاختصار.

والإمام مسلم يستخدم هذا التحويل أكثر من البخاري ، فإن البخاري قليلاً ما يحول الإسناد.

هذه نكتة إسنادية -أو لطيفة إسنادية- في حديث اليوم.

اهتمام العلماء الأوائل بالإسناد

نفهم من سرد هذه الأسانيد كيف كان العلماء يهتمون بالإسناد، ولا يقبلون من المتحدث حديثاً إلا إذا أسنده، ويا ليتنا نراعي مثل هذا؛ إذاً لسكت من لا يعلم! كثير من الناس يتكلمون جزافاً، ولأنهم تعودوا أن الجماهير لا يسألونهم، فإنهم يتكلمون، حتى إن بعض الخطباء أو المحاضرين يأتي فيتكلم بأي كلام، بدون تحضير للدرس ولا إعداد، وهذا خطأ، بل ينبغي للمحاضر أن يحترم عقول الجالسين، وأن يتعب في تحضير الدروس والخطب، وينبغي عليه أن يعتقد أن في الجالسين من هو أفهم منه، وليس معنى أنه تصدر وجلس على كرسي الوعظ، أو كرسي التدريس، ليس معنى ذلك أفضل من كل الجالسين. إن هذا الفعل فيه غبن لحق الآخرين، وغمط لحق نفسه، فلا ينبغي له أن يجهل قدر نفسه.

فلو أن كل متكلم يعلم أن الجماهير لا تقبل منه الكلام على علاته؛ إذاً لبحث في أسانيده، كما كان السلف الأوائل، فقد سمع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة سمعه يحدث بأحاديث ليس لها أسانيد، فقال: ما هذا يا ابن أبي فروة ! تحدثنا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة؟! فالإسناد بالنسبة للكلام مثل الخطام بالنسبة للبعير، ولأجل هذا -لأن الإسناد كان له وقع في النفوس- كان كثير من الناس يستخدم الإسناد حتى ولو كان مخترعاً، لكنه كان يعلم أن الإسناد له قيمة في نفس محدثه.

روى الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب: التطفيل -وهو كتاب عن أخبار المتطفلين- حكاية لطيفة عن أبي عمر نصر بن علي الجهضمي -وهو أحد أئمة الحديث واللغة- قال أبو عمر : كان لي جار طفيلي من أحسن الناس منظراً، وأجملهم ملبساً، وأعجبهم منطقاً، وما من وليمة أُدعى إليها إلا ويتبعني، فيكرمه الناس لأجلي، يظنون أنه معي -فغاظ هذا الأمر نصر بن علي - قال: فقلت في نفسي يوماً: لو دعاني جعفر بن القاسم -أمير البصرة - وتبعني هذا لأفضحنه اليوم، قال: فما هو إلا أن طرق الباب، ففتحت الباب فإذا برسول جعفر بن القاسم يقول: أجب الأمير. وكان عنده ختان لابنه. قال: فما هو إلا أن لبست ثيابي وخرجت فإذا بالرجل واقف على الباب، قال: فتبعني ودخل، فلما جلسنا على المائدة قلت: حدثنا درست بن زياد ، حدثنا أبان بن طارق ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل بيت غيره من غير دعوة دخل مغيراً وخرج سارقاً) ، ففهم الطفيلي أن الكلام عليه، فقال له: أنفت لك يا أبا عمر، فما من واحد من هؤلاء الجلوس إلا يظن أنك تعنيه دون صاحبه، ثم تتحدث بمثل هذا على مائدة سيد من أطعم الطعام، ثم إنك تحدث عن درست وهو ضعيف، عن أبان بن طارق وهو متروك الحديث، ونسيت ما حدثناه أبو عاصم النبيل ..

انظر إلى الطفيلي هذا! أبو عاصم -الذي هو الضحاك بن مخلد الشيباني - من أوثق الناس، وهو من كبار شيوخ البخاري .

يقول: ونسيت ما حدثناه أبو عاصم النبيل ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طعام الواحد كافي الاثنين، وطعام الاثنين كافي الأربعة، وطعام الأربعة كافي الثمانية)، وهذا متن صحيح وسند صحيح؟!! قال نصر : فأفحمني، ولم أجد له جواباً، وخرجنا من المائدة، فقال لي:

ومن ظن ممن يلاقي الحروب بأن لا يصاب فقد ظن عجزا

أي: إذا كنت تريد أن تدخل في حرب، وتريد أن تخرج وأنت سليم منها، فقد ظننت عجزاً، قال: وفارقني ولزم جانب الطريق الآخر.

فانظر إلى هذا الطفيلي صار ناقداً! يقول: درست ضعيف، وأبان متروك، وبعد ذلك يروي حديثاً بإسناد نظيف، ومتن صحيح.

بالإسناد نعرف الذين يكذبون في الحديث

لقد كان العلماء لعنايتهم بالأسانيد يكتشفون الذين يكذبون في الأسانيد، ولله در عبد الله بن المبارك رحمه الله! فقد قال: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فلولا أننا نحقق ونسأل كل إنسان عن مستنده؛ لقال من شاء ما شاء.

وهنا أذكر شيئاً اسميه: محنة جسيمة في الواقع، لكن لا يشعر بها أكثر الناس، وهي: ضياع فن التراجم في هذا العصر.

لو أن إنساناً سئل عن شيوخه فادعى جماعة من الشيوخ، وقال مثلاً: شيوخي مائة: ثلاثون في الحديث، وثلاثون في الفقه، وعشرة في القراءات، وعشرة في النحو، وعشرة في الصرف.. فهل تستطيع أن تكذبه؟ حتى لو قلت له: إذاً سم لي شيوخك في الحديث مثلاً؟ فسيقول: علي، إبراهيم..إلخ، وهل تقدر أن تأتي بهم؟ وهل تعرف أين هم في الكرة الأرضية؟! فلما كان هناك عناية بفن التراجم لم يستطيع أحد أن يكذب.. لأنه إذا قال أحد: أنا قرأت العلم الفلاني على فلان، ينظر في كتب العلماء الذين ترجموا لأهل ذلك العصر: هل هذا الرجل له وجود أصلاً أم لا؟ هل هذا الرجل كان متيناً في مادته أم لا؟ أما في وقتنا فإنه يستطيع أي إنسان أن يدعي لنفسه ما يشاء ولا يستطيع أحد أن يكذبه.

وبعض الناس الآن قد يكونون أئمة بعد ثلاثمائة عام، فمثلاً: لو أني قلت: حدثني أبو لمعة ،فالكل يعرف أن أبا لمعة هو أستاذ الكذب في العصر الحديث، ولأنه لم يؤرخ أحد لـأبي لمعة ، ولم يقل أحد أنه كذاب، فقد يكون أبو لمعة هذا إماماً بعد خمسمائة سنة؛ لأنه لا حس ولا خبر عنه.

فهذا الفن -فن التراجم- فيه صيانة لعلم العلماء، وقطع للمدعين، وقد كان قديماً إذا ألف أحد سنداً من الأسانيد يكتشف مباشرةً.

يذكر العلماء قصة حدثت لـيحيى بن معين وأحمد بن حنبل ، والقصة معروفة، وإن كان قد طعن فيها بعض العلماء كـابن الجوزي -كما أظن- يقولون: إن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين دخلا مسجداً من مساجد الكوفة ، فإذا رجل من الفسطاط يحدث عن الأسماء اللامعة، يقول: حدثنا أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، قالا: حدثنا فلان عن فلان عن فلان... وساق سنداًً من الأسانيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله؛ خلق الله له بكل كلمة طائراً، كل طائر له سبعون ألف رأس، كل رأس فيه سبعون ألف منقار، كل منقار فيه سبعون ألف لسان، كل لسان يستغفر الله لهذا الرجل بسبعين ألف لغة) ، ترتيبة عجيبة! وكانيحيى بن معين يصلي في ناحية المسجد، فسمع هذا الكلام فما صبر، فذهب إلى الرجل، وبعد أن أكمل هذا القاص هذه الحكاية رمى له كل واحد من الحاضرين بدرهم أو أي شيء، فناداه يحيى بن معين ، فجاء الرجل متوهماً لنوال -أي: لعطاء، ظن أنه سيعطيه شيئاً- فقال له يحيى : اجلس، فجلس، فقال: من حدثك بهذا؟ قال: حدثني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل . فقال له: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ، ما سمعنا بهذا قط. وكان الرجل ذكياً، فقال له: قد كنت أسمع أن يحيى بن معين أحمق، فما تحققته إلا الساعة -عرفت أنه أحمق في هذا الوقت- أو تظنان أن ليس في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما ؟ لقد حدثت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ، وسبعة عشر يحيى بن معين . يخلق الله من الشبه سبعة عشر! نحن عندنا يخلق الله من الشبه أربعين بحكم العصر، فكلما نتقدم ونقترب من الساعة يزداد العدد.

فوضع أحمد فمه في كمه، يكتم الضحك، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما.

فهذا إذاً رجل يعرف أن الإسناد له شأن عند الجماهير، فأتى بسندٍ من الأسانيد، لكن كان هناك من العلماء من يقوم لأمثال هؤلاء.

دور علماء السلف في كشف الأحاديث الموضوعة

قيل لـعبد الله بن المبارك : الأحاديث الموضوعة ماذا نفعل فيها؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وكان العلماء يعدون العدة لأمثال هؤلاء الذين كذبوا في الأسانيد وألفوا أسانيد من عندهم، فالله تبارك وتعالى يوجد من العلماء من يكشف مثل هذا الخطل؛ لأن فيه جناية عظيمة على السنة.

يحيى بن معين رحمه الله ذات يوم في ركن يكتب صحيفة أبان بن أبي عياش ، عن أنس ، فرآه أحمد بن حنبل ، وكان يحيى إذا اقترب منه شخص وهو يكتب الصحيفة طواها، فلما جاء أحمد بن حنبل -وكان صديقاً لـيحيى بن معين - قال: ماذا تكتب يا أبا زكريا ؟ قال: أكتب صحيفة أبان عن أنس . كان لبعض الرواة صحف بإسناد واحد للكذابين وغيرهم، أبان مثلاً عن أنس بن مالك وغيره، يروي أربعين حديثاً، أو خمسين حديثاً، أو مائة حديث، وتظل هذه اسمها صحيفة فلان، وتروى بإسناد واحد، مثل صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فكل واحد يأخذها عن عمرو هي صحيفة عمرو ، فإسناد كل صحيفة لا يتغير.

فقال: هذه صحيفة أبان بن أبي عياش عن أنس .

وأبان بن أبي عياش متروك في الحديث، وكان شعبة شديد الحمل عليه، وكان يكذبه، حتى إن أبان وسَّط حماد بن زيد وآخرين كـسليمان بن حرب في أن يكلموا شعبة بن الحجاج أن يكف عنه؛ لأن العالم مثل شعبة مثلاً إذا جرح شخصاً فقد يقضي عليه، لأن كلامه كان له قيمة كبيرة، وكذلك غيره من علماء ذلك الزمان.

فيقول يحيى بن معين : هذه صحيفة أبان عن أنس ، أكتبها ثم أحفظها، فإذا جاء كذاب فجعلها ثابتاً عن أنس، أقول: كذبت، بل هي أبان ، عن أنس . تأمل في الكتابة ( ثابت وأبان ) قريبة من بعضها، فيمكن أن يحصل فيها تصحيف، فربما أن واحداً من لصوص الأسانيد، قد يسرق حديثاً ويركب له أسانيد متعددة، فيأتي فيضع ثابتاً بدلاً عن أبان ، مع أن ثابت بن أسلم البناني من أوثق الناس عن أنس ، فقد لازم أنس بن مالك أربعين سنة، وهو من أثبت الناس في أنس .

فلما تضع ثابتاً مكان أبان، إذاً الحديث صار صحيحاً من حيث السند، هذا في الظاهر، فمن عناية يحيى بن معين أن يحفظ الكذب، حتى إذا جاء سارق أو مصحِّف فجعل بدل أبان ثابتاً ، يقول له: كذبت، بل هذا أبان عن أنس ، وليس ثابت عن أنس.. هذا كله لصيانة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فكان الإسناد له قيمة كبيرة، والإسناد كما قلت: هو المستند الذي تقدمه، الذي يدل على صحة الكلام من ضعفه، ونحن الآن نحكم على الأحاديث أنها صحيحة أو ضعيفة أو حسنة... إلخ بالأسانيد، نجمع الأسانيد ونجمع الطرق وننظر في المتابعات والمخالفات... إلخ، ونستضيء بكلام العلماء المتقدمين، وكلام العلماء المتأخرين، ونخرج في النهاية بنتيجة أن هذا الحديث صحيح، أو أن هذا الحديث ضعيف.. كل هذا بسبب الإسناد، وإلا لو ذهب الإسناد فإننا لن نستطيع أن نحكم على الكلام، حتى نعرف نقلة هذا الكلام.

حتى الذين كانوا يتسولون في القديم، كانوا يتسولون الأسانيد أيضاً، مثل ما ذكر ابن الجوزي : أن رجلاً متسولاً كان يستجدي العطاء من الناس، فأبوا أن يعطوه، فقال لهم: ما أعطيتموني! لأخزينكم سائر اليوم، ثم أخذ من كيسه إسناداً عن يزيد بن هارون بإسناده النظيف عن فلان عن جمع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سأل السائل فلم يعطه الناس فكبر عليهم أربعاً) ، فلما سمع الناس منه هذا الحديث خافوا، فسارعوا إلى إعطائه، فأخذ المال ومضى، وجاء يزيد بن هارون فسألوه: هل حدثت بالحديث الفلاني؟ قال: كذب عدو الله، ما سمعت به إلا الساعة. إذاً هو يعرف أن الإسناد له وقع عند الناس فألف هذا الإسناد.

حتى في الخلافات المذهبية والخلافات الفقهية، كل طائفة كانت تفتري من الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام المتون التي تؤيد ظاهر ما تذهب إليه.

مثلاً: كان هناك خلاف بين الحنفية والشافعية في كثير من العصور، وكان خلافاً شديداً وحاداً، حتى وصل الأمر ببعض المتأخرين من الأحناف أنه أفتى بأنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بشافعية. لماذا؟ قال: لأن الشافعي يستثني في إيمانه، والاستثناء في الإيمان شك، والشك في الإيمان كفر. أي أن الشافعي يجوز أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، والإيمان عند الحنفية تصديق، والتصديق لا يتصور فيه استثناء، فلابد أن يكون التصديق جازماً، فقال الحنفي: إن هذا شك في الإيمان فيصير كفراً.. وقد حدثت بسبب هذه المسألة مشاكل كثيرة.

فجاء أحد متأخري الحنفية، وكان يسمى: بمفتي الثقلين -مفتي الإنس والجن- فقال: أنزلوها منزلة نساء أهل الكتاب! أي أنزلوا المرأة التي تتمذهب بالمذهب الشافعي منزلة النصرانية أو اليهودية، فكما أنه يجوز لك أن تتزوج بنصرانية أو يهودية؛ يجوز لك أن تتزوج شافعية.

إذاً: كان الخلاف شديداً، وقد ألف بعض الناس -انتصاراً لـأبي حنيفة رحمه الله- حديثاً، يقول بلسانه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو حنيفة سراج أمتي، ويكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس، أضر على أمتي من إبليس)، ومحمد بن إدريس هذا هو الشافعي رحمه الله.

العجيب في المسألة: أن البدر العيني رحمه الله في تاريخه، يميل إلى أن لهذا الحديث أصلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه كذب محض، لا

سنقف الآن على بعض الفوائد الإسنادية في هذا الحديث:

فالإمام البخاري روى هذا الحديث من طريقين له عن فليح بن سليمان : طريق عال، وطريق نازل.

وأشرف أنواع العلو الذي كان يحرص عليه المحدثون هو: تقليل عدد الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام هو المصباح، وكلما اقتربت من ضوء المصباح؛ كلما يكون أشرف لك، فلذلك كان المحدثون يحرصون على الأسانيد العالية، ويبذلون حر المال في سبيل تحصيل هذه الأسانيد.

وقد سئل يحيى بن معين أبو زكريا إمام الجرح والتعديل رحمه الله، وهو في مرض موته فقيل له: ما تشتهي؟ قال: بيت خال وإسناد عال. وكانوا -كما قلت- يحرصون على هذا النوع من العلو، وهو تقليل الوسائط بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام.

وإحراز العلو هو أحد الأسباب الحاملة للمدلس على أن يدلس؛ لاسيما في تدليس الإسناد، وقد تكلمنا عن تدليس الإسناد فيما مضى، ولكن لا بأس أن أذكر به حتى أبين أن الحامل للمدلس على إسقاط من حدثه إذا كان نازلاً هو محبة العلو في الإسناد.

وتدليس الإسناد: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه.

لنفترض أننا في هذا المسجد في مجلس حديث ومجلس إسناد، وأنا أحدثكم بالحديث، وهناك طالب دائماً يحضر هذه الدروس، ولكن لأمر ما سافره أو تغيب، ففاته مجلس من هذه المجالس، وقد حدثت في هذا المجلس بعدة أحاديث، وهذا الطالب لو أراد أن يحدث بهذه الأحاديث التي فاتته فلا بد أن يسمعها من رفيق له عني، أي: من شخص حضر هذا المجلس يحدثه عني، إذاً هو قد نزل درجة، فإنه كان يقول: حدثني فلان مباشرة، لكنه أصبح بسبب هذا التغيب عن المجلس يقول: حدثني فلان عن فلان، وبهذا يكون قد نزل في الإسناد درجة.

هذا هو النزول الذي كان المحدثون يحرصون على تلافيه، فالمدلس يقول: بدلاً من أن أروي عن زميلي عن شيخي، أسقط زميلي وأروي عن شيخي مباشرة، ولكنه لا يستطيع أن يرويه عن شيخه بلفظة التحديث، كأن يقول: حدثني فلان؛ لأنه سيكون كذاباً، لكنه يأتي بلفظة لها وجهان: وجه اتصال، ووجه انقطاع، وهي لفظة (عن)، ولذلك فإن من يقرأ في كتب المحدثين يجدهم يقولون: فيه فلان وهو مدلس، وقد عنعنه. (عنعنه) أي: رواه بصيغة (عن)؛ لأن صيغة (عن) فيها معنى الاتصال، ومعنى الانقطاع، فلو أنك قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال؛ لما كذبك أحد، لكن لو قلت: حدثني رسول الله. فلفظة التحديث لا تحتمل أبداً إلا اللقاء المباشر، والسماع المباشر، أما لفظة (عن) فإنها تحتمل وجهين، فقد تقول: عن فلان، مع عدم اللقاء، ومع ذلك لا يكذبك أحد.

فلذلك المدلس يسقط الواسطة بينه وبين شيخه، ويرتقي بلفظة (عن).

إذاً: أحد الأسباب الحاملة للمدلس على التدليس هو: العلو، فيسقط الواسطة مر ويعلو بلفظة (عن) إلى شيخه.

فالإمام البخاري -رحمه الله- روى هذا الحديث بإسناد عال وإسناد نازل، والراوي المشترك بين الإسنادين -أول راو مشترك بين الإسنادين- محمد بن فليح .

إذاً فقد قال في الإسناد الأول: حدثنا محمد بن سنان ، قال: حدثنا فليح . إذاً بينه وبين فليح راو واحد وسيط.

الإسناد الثاني: قال: حدثني إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثني محمد بن فليح ، قال: حدثني أبي فليح . فقد نزل في هذا الإسناد.

إذاً: في الإسناد الأول بينه وبين فليح راو واحد، والإسناد الثاني بينه وبين فليح راويان، والإمام البخاري حول الإسناد بلفظ التحويل، وهو حرف (ح) التي هي عملية الاختزال في هذا العصر، ومعناها: أن الإمام حول الإسناد للاختصار، ولو أن البخاري رحمه الله لم يستخدم هذه اللفظة، لكان سيروي الحديث هكذا: يقول: حدثنا محمد بن سنان ، قال: حدثنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، ويسوق المتن، ثم يرجع ويقول: وحدثني إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثني محمد بن فليح ، قال: حدثني أبي، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة، ويسوق المتن.

وهذا تطويل، فحتى لا يكرر الإسناد مرة أخرى يأتي من عند الراوي المشترك في الإسنادين ويضع لفظة (ح) فكأنه يقول: سأحول الرواية إلى إسناد آخر، هذا معنى لفظة (ح) التي هي التحويل، أي سيحول الحديث إلى إسناد آخر عنده عن شيخه، والقصد من هذا التحويل: الاختصار.

والإمام مسلم يستخدم هذا التحويل أكثر من البخاري ، فإن البخاري قليلاً ما يحول الإسناد.

هذه نكتة إسنادية -أو لطيفة إسنادية- في حديث اليوم.

نفهم من سرد هذه الأسانيد كيف كان العلماء يهتمون بالإسناد، ولا يقبلون من المتحدث حديثاً إلا إذا أسنده، ويا ليتنا نراعي مثل هذا؛ إذاً لسكت من لا يعلم! كثير من الناس يتكلمون جزافاً، ولأنهم تعودوا أن الجماهير لا يسألونهم، فإنهم يتكلمون، حتى إن بعض الخطباء أو المحاضرين يأتي فيتكلم بأي كلام، بدون تحضير للدرس ولا إعداد، وهذا خطأ، بل ينبغي للمحاضر أن يحترم عقول الجالسين، وأن يتعب في تحضير الدروس والخطب، وينبغي عليه أن يعتقد أن في الجالسين من هو أفهم منه، وليس معنى أنه تصدر وجلس على كرسي الوعظ، أو كرسي التدريس، ليس معنى ذلك أفضل من كل الجالسين. إن هذا الفعل فيه غبن لحق الآخرين، وغمط لحق نفسه، فلا ينبغي له أن يجهل قدر نفسه.

فلو أن كل متكلم يعلم أن الجماهير لا تقبل منه الكلام على علاته؛ إذاً لبحث في أسانيده، كما كان السلف الأوائل، فقد سمع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة سمعه يحدث بأحاديث ليس لها أسانيد، فقال: ما هذا يا ابن أبي فروة ! تحدثنا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة؟! فالإسناد بالنسبة للكلام مثل الخطام بالنسبة للبعير، ولأجل هذا -لأن الإسناد كان له وقع في النفوس- كان كثير من الناس يستخدم الإسناد حتى ولو كان مخترعاً، لكنه كان يعلم أن الإسناد له قيمة في نفس محدثه.

روى الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب: التطفيل -وهو كتاب عن أخبار المتطفلين- حكاية لطيفة عن أبي عمر نصر بن علي الجهضمي -وهو أحد أئمة الحديث واللغة- قال أبو عمر : كان لي جار طفيلي من أحسن الناس منظراً، وأجملهم ملبساً، وأعجبهم منطقاً، وما من وليمة أُدعى إليها إلا ويتبعني، فيكرمه الناس لأجلي، يظنون أنه معي -فغاظ هذا الأمر نصر بن علي - قال: فقلت في نفسي يوماً: لو دعاني جعفر بن القاسم -أمير البصرة - وتبعني هذا لأفضحنه اليوم، قال: فما هو إلا أن طرق الباب، ففتحت الباب فإذا برسول جعفر بن القاسم يقول: أجب الأمير. وكان عنده ختان لابنه. قال: فما هو إلا أن لبست ثيابي وخرجت فإذا بالرجل واقف على الباب، قال: فتبعني ودخل، فلما جلسنا على المائدة قلت: حدثنا درست بن زياد ، حدثنا أبان بن طارق ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل بيت غيره من غير دعوة دخل مغيراً وخرج سارقاً) ، ففهم الطفيلي أن الكلام عليه، فقال له: أنفت لك يا أبا عمر، فما من واحد من هؤلاء الجلوس إلا يظن أنك تعنيه دون صاحبه، ثم تتحدث بمثل هذا على مائدة سيد من أطعم الطعام، ثم إنك تحدث عن درست وهو ضعيف، عن أبان بن طارق وهو متروك الحديث، ونسيت ما حدثناه أبو عاصم النبيل ..

انظر إلى الطفيلي هذا! أبو عاصم -الذي هو الضحاك بن مخلد الشيباني - من أوثق الناس، وهو من كبار شيوخ البخاري .

يقول: ونسيت ما حدثناه أبو عاصم النبيل ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طعام الواحد كافي الاثنين، وطعام الاثنين كافي الأربعة، وطعام الأربعة كافي الثمانية)، وهذا متن صحيح وسند صحيح؟!! قال نصر : فأفحمني، ولم أجد له جواباً، وخرجنا من المائدة، فقال لي:

ومن ظن ممن يلاقي الحروب بأن لا يصاب فقد ظن عجزا

أي: إذا كنت تريد أن تدخل في حرب، وتريد أن تخرج وأنت سليم منها، فقد ظننت عجزاً، قال: وفارقني ولزم جانب الطريق الآخر.

فانظر إلى هذا الطفيلي صار ناقداً! يقول: درست ضعيف، وأبان متروك، وبعد ذلك يروي حديثاً بإسناد نظيف، ومتن صحيح.

لقد كان العلماء لعنايتهم بالأسانيد يكتشفون الذين يكذبون في الأسانيد، ولله در عبد الله بن المبارك رحمه الله! فقد قال: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فلولا أننا نحقق ونسأل كل إنسان عن مستنده؛ لقال من شاء ما شاء.

وهنا أذكر شيئاً اسميه: محنة جسيمة في الواقع، لكن لا يشعر بها أكثر الناس، وهي: ضياع فن التراجم في هذا العصر.

لو أن إنساناً سئل عن شيوخه فادعى جماعة من الشيوخ، وقال مثلاً: شيوخي مائة: ثلاثون في الحديث، وثلاثون في الفقه، وعشرة في القراءات، وعشرة في النحو، وعشرة في الصرف.. فهل تستطيع أن تكذبه؟ حتى لو قلت له: إذاً سم لي شيوخك في الحديث مثلاً؟ فسيقول: علي، إبراهيم..إلخ، وهل تقدر أن تأتي بهم؟ وهل تعرف أين هم في الكرة الأرضية؟! فلما كان هناك عناية بفن التراجم لم يستطيع أحد أن يكذب.. لأنه إذا قال أحد: أنا قرأت العلم الفلاني على فلان، ينظر في كتب العلماء الذين ترجموا لأهل ذلك العصر: هل هذا الرجل له وجود أصلاً أم لا؟ هل هذا الرجل كان متيناً في مادته أم لا؟ أما في وقتنا فإنه يستطيع أي إنسان أن يدعي لنفسه ما يشاء ولا يستطيع أحد أن يكذبه.

وبعض الناس الآن قد يكونون أئمة بعد ثلاثمائة عام، فمثلاً: لو أني قلت: حدثني أبو لمعة ،فالكل يعرف أن أبا لمعة هو أستاذ الكذب في العصر الحديث، ولأنه لم يؤرخ أحد لـأبي لمعة ، ولم يقل أحد أنه كذاب، فقد يكون أبو لمعة هذا إماماً بعد خمسمائة سنة؛ لأنه لا حس ولا خبر عنه.

فهذا الفن -فن التراجم- فيه صيانة لعلم العلماء، وقطع للمدعين، وقد كان قديماً إذا ألف أحد سنداً من الأسانيد يكتشف مباشرةً.

يذكر العلماء قصة حدثت لـيحيى بن معين وأحمد بن حنبل ، والقصة معروفة، وإن كان قد طعن فيها بعض العلماء كـابن الجوزي -كما أظن- يقولون: إن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين دخلا مسجداً من مساجد الكوفة ، فإذا رجل من الفسطاط يحدث عن الأسماء اللامعة، يقول: حدثنا أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، قالا: حدثنا فلان عن فلان عن فلان... وساق سنداًً من الأسانيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله؛ خلق الله له بكل كلمة طائراً، كل طائر له سبعون ألف رأس، كل رأس فيه سبعون ألف منقار، كل منقار فيه سبعون ألف لسان، كل لسان يستغفر الله لهذا الرجل بسبعين ألف لغة) ، ترتيبة عجيبة! وكانيحيى بن معين يصلي في ناحية المسجد، فسمع هذا الكلام فما صبر، فذهب إلى الرجل، وبعد أن أكمل هذا القاص هذه الحكاية رمى له كل واحد من الحاضرين بدرهم أو أي شيء، فناداه يحيى بن معين ، فجاء الرجل متوهماً لنوال -أي: لعطاء، ظن أنه سيعطيه شيئاً- فقال له يحيى : اجلس، فجلس، فقال: من حدثك بهذا؟ قال: حدثني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل . فقال له: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ، ما سمعنا بهذا قط. وكان الرجل ذكياً، فقال له: قد كنت أسمع أن يحيى بن معين أحمق، فما تحققته إلا الساعة -عرفت أنه أحمق في هذا الوقت- أو تظنان أن ليس في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما ؟ لقد حدثت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ، وسبعة عشر يحيى بن معين . يخلق الله من الشبه سبعة عشر! نحن عندنا يخلق الله من الشبه أربعين بحكم العصر، فكلما نتقدم ونقترب من الساعة يزداد العدد.

فوضع أحمد فمه في كمه، يكتم الضحك، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما.

فهذا إذاً رجل يعرف أن الإسناد له شأن عند الجماهير، فأتى بسندٍ من الأسانيد، لكن كان هناك من العلماء من يقوم لأمثال هؤلاء.