إن الله مع الصابرين


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا اليوم هو يوم السبت الموافق (13/محرم/1411هـ) وفي مسجد أبي بكر الصديق بمدينة أبها يلقى هذا الدرس.

والإنسان وهو يعبر رحلة الحياة، يحتاج إلى تربية وتهذيبٍ وتأديب، حتى يتجاوز عقباتها، وينجو من مخاطرها وآفاتها، ويصل إلى ساحل النجاة.

وحين يسير الإنسان في خط عشوائي من غير دليل يدله، ولا هادٍ يهديه، يقع ضحية التضليل، ويسقط في مهاوي الردى، ولا يصل إلى النجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أما حين يهتدي الإنسان بهدى الله، ويسير على منهج الله، ويتأدب بالآداب التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يعبر الحياة ويتجاوزها بسلامٍ وأمان، ويصل إلى ساحة النجاة وساحلها في دار الخلد والجزاء، نسأل الله جميعاً من فضله.

وهناك آداب جاء الإسلام ليربي الإنسان عليها، ويرتقي إلى قمتها، وإلى أعلى درجات الفضائل، فيها أدب عظيم، يغفل عنه الناس، وهو أساس مهم وخلقٌ قويم لا يصل الإنسان إلى مراده، ولا يتجاوز الأخطار إلا به، والناس في غفلةٍ عنه إلا من رحم الله، وهذا الخلق: هو الصبر.

وعنوان الدرس (إن الله مع الصابرين) ويكفيك شرفاً أن يكون الله معك، إذا كان الله معك فما يضرك؟!

من الذي يكيدك في الدنيا والله معك؟!

ومن الذي ينفعك إذا الله ضرك؟!

ومن الذي يضرك إذا الله نفعك؟!

ومن الذي يمنعك إذا الله أرادك؟!

ومن الذي يريدك إذا الله منعك؟!

ومن الذي يحييك إذا الله أماتك؟!

ومن الذي يميتك إذا الله أحياك؟!

ماذا بأيدي الناس أيها الإخوة؟! الرزق.. الحياة.. الموت.. الصحة.. المرض.. الإعطاء.. المنع.. كل شيءٍ بيد الله.

فليتك تحلو والحياة مريرة      وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامـر     وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين     وكل الذي فوق التراب تراب

إذا وجدت الله وجدت كل شيء، وإذا فاتك الله فاتك كل شيء، ويكفيك يا صابر أن الله مع الصابرين.

فليرض عني الناس أو فليسخطوا      أنا لم أعد أسعى لغير رضاك

ذقت الهوى مراً ولم أذق الهوى     يا رب حلواً قبل أن أهواك

دنياك غرتني وعفوك غرني     ما حيلتي في هذه أو ذاك

إذا وجدت الله وكان الله معك فلن تضرك الدنيا كلها، يقول الله في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بي فكادته السماوات والأرض إلا جعلت له منها مخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني إلا أسخت الأرض من تحت قدميه، وقطعت عنه أسباب السماء، ثم لم أبالِ في أي أودية الدنيا هلك) ماذا ينفعك يا أخي! إذا تخلى الله عز وجل عنك؟!

فيجب أن يكون تركيزك واهتمامك على أن يكون الله معك وأعظم حالة تداوم عليها ويكون الله معك فيها: أن تكون من الصابرين.

لأنه عندما تستحكم الأزمات وتتعقد الحبال وتتوالى المحن ويطول ليلها، يقوم الصبر بدوره الجميل الجليل في تثبيت النفس، وفي إحياء آمالها، ولذا نادى الله عز وجل عباده المؤمنين بالنداء الأزلي الحبيب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] والمعنى: يا من آمنتم بالله! لأن لفظة (يا أيها الذين آمنوا) فيها إشعال للقلوب، وفيها إلهاب للعواطف، أنتم مؤمنون فلماذا لا تستجيبون؟! ولهذا إذا سمعت: (يا أيها الذين آمنوا) فافتح نظرك وارع سمعك واعلم ماذا يريد الله منك؟

يا من آمنتم بالله: استعينوا على إقامة دين الله بفعل الطاعات وترك المعاصي، والصبر على أقدار الله المؤلمة، بماذا؟

استعينوا على ذلك بالصبر الجميل، والصلاة المصحوبة بالخشوع والطمأنينة والإخلاص.

إن الصبر ضرورة، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان بغير صبر، إذاً فهو ضرورة لازمةٌ للإنسان، فمن صبر ظفر، فلولا الصبر ما حصد الزارع زرعه، أليس كذلك؟

فالمزارع عندما يضع الحب يلزمه أن يصبر أربعة أشهر، يصبر وهو يحرث، ويصبر وهو يبذر، ويصبر وهو يسقي، ويصبر وهو يحمي، ويصبر وهو يحصد، ويصبر وهو يدوس، ويصبر وهو يكيل، ويصبر وهو يخبز، ثم يأكل، متى جاء الأكل؟ جاء بعد مراحل متعددة، لكن لو لم يصبر، وقال: لا والله لا أتعب، أظل أحرث وأضع الحب وأنتظر أربعة أشهر؟! لا والله بل نتركها، ماذا يحصل له؟ هل سيجد حباً؟ لا.

فلولا الصبر ما حصد زارعٌ ثمراً، وما جنى غارسٌ جنياً، عندما تفكر بعين العقل وتقول: أنا الآن سأغرس شجرة وعمري أربعين سنة، الشجرة هذه عمرها عشر سنوات، متى أحصد منها؟! لا تفكر في ذلك، بل اغرسها وتوكل على الله.

مر رجلٌ على غارس شجرٍ وعمره أكثر من السبعين سنة، فقال له: كيف تغرس هذه وأنت ستموت قريباً؟ قال: نغرس ليأكل أبناؤنا؛ لأن آباءنا غرسوا قبلنا فأكلنا.

وهكذا لا بد من الصبر، ولولا الصبر ما جنى غارسٌ ثمراً، ولولا الصبر أيضاً ما حصل طالبٌ على شهادة، يمر الطالب أثناء العام الدراسي بمراحل مريرة من المعاناة والتعب، ويصبر على ألم قيام الصبح وهو يقوم الساعة السادسة والنصف، في البرد القارس، ومع كثرة النوم يذهب إلى المدرسة، وكأنه يمشي على وجهه، لكنه يصبر، ويدخل على المقعد البارد أمام المدرس الجافي أو المدير الغليظ الشديد، وأمام المناهج المعقدة التي كأنها حيات وعقارب يراها، لكنه يغصب نفسه ويصبر، ولو أنه قعد ونام إلى الساعة العاشرة كل يوم، هل سيأخذ شهادة ويحقق مرتبة ومنصباً؟ لا.

لكن بالصبر حصل ذلك، فما يحصل الطالب على الشهادة إلا بالصبر، ولا يحصل الموظف على المنصب أو الرتبة إلا بالصبر، ولا يحصل التاجر على الربح في البضاعة إلا بالصبر، المهم أن كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، وكل الفاشلين في الدنيا إنما فشلوا بعدم الصبر.

انظر وتأمل تجد أن الصبر سبب كل نجاحٍ في الدنيا، وأن عدم الصبر سبب كل فشلٍ فيها، فالفاشل في دراسته لم يصبر، والفاشل في زراعته ما صبر، والفاشل في تجارته ما صبر، والفاشل مع زوجته ما صبر، والفاشل مع أهله وأمه وابيه ما صبر، ولكن بالصبر تنال أعلى الدرجات في الدنيا يقول:

إني رأيت وفي الأيام تجربةً      للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلَّ من جد في أمر يحاوله     واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

ما من شخص جد في طلب شيء واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر، يخبرني رجل قال: كنت أعمل جندياً، حارساً في محكمة، وكان الكتَّاب والموظفون وبعض القضاة يرسلونني لأحضر لهم الفطور، فأحضر لهم الخبز في الصباح، إنه عمل متعب ومضني، فشعرت بذلة في نفسي، فطلبت العلم ليلاً وحصلت على الشهادة الابتدائية، ثم دخلت المعهد العلمي، وكان راتبي آنذاك وأنا في الجندية (150)، وفي المعهد العلمي (210)، وتركت الجندية والتحقت بالمعهد، وحَصَلْتُ على شهادة الثانوية العامة، ثم دخلت كلية الشريعة وحصلت على الشهادة، ثم أخذت الماجستير، ثم أخذت الدكتوراه، وإذا بهؤلاء كلهم يتوسطون بي.

فهذا الرجل لو بقي جندياً إلى أن يموت فسيلعق آلام الذلة طوال حياته، لكن عندما صبر على التعلم ومعاناته حقق له مستقبلاً طيباً، وهكذا -أيها الإخوة- لا بد من الصبر، وإذا كان هذا في أمر الدنيا فكيف لا يكون مهماً في أمر الآخرة.

إذا كانت الدنيا الدنيئة التافهة التي لا تزن عند الله جناح بعوضة، وهي بالنسبة لما خلق الله في هذا الكون شيء بسيط، ومع ذلك لا تحصل المقصودات ولا تنال المطالب فيها إلا بالصبر، فإنه لا يمكن أن تنال الآخرة العالية والجنة الرفيعة، بحورها وقصورها ونعيمها، وما أعد الله فيها، لا يمكن أن تنال إلا بالصبر.

وليس كصبر الدنيا، ليس كصبر الطالب على الدراسة، ولا كصبر التاجر على التجارة، ولا كصبر الزارع على الزراعة، لا. إنه صبرٌ من نوعٍ آخر، إنه صبرٌ من الصبر، وهو مشتق من الصَّبِر الذي له مرارة متناهية.

- والصبر: هو حبس النفس على الشدة والضيق وما تعانيه مع الألم والمعاناة، وهو صبرٌ وتصبرٌ واصطبار، أوله الصبر ثم التصبر ثم الاصطبار، وهو صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله المؤلمة.

لا شك أن طالب الدنيا لا بد له من الصبر، وكذلك طالب الآخرة لا بد له من الصبر، وقد حمل الأمانة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] الله أكبر!

(وأشفقن منها) أشفقت السماوات والأرضين والجبال، وجئت أنت أيها الإنسان لتحمل الأمانة.

قال لي أحد الناس يوماً من الأيام: أنا ما حملت الأمانة.

قلت: كيف؟

قال: أنا والله ما أذكر يوماً من الأيام أني تحملتها فوق ظهري.

قلت: لا، أنت حملتها وأنت لا تدري.

قال: كيف؟

قلت: أليس عندك القدرة على أن تطيع الله وتعصيه؟

قال: نعم.

قلت: هذه الأمانة، هل عند السماوات قدرة على أن تعصي الله ؟

قال: لا. هي مسخرة، قال الله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [لقمان:29] وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13].

فسحب القدرة وجعل المخلوق هذا لم يحمل أمانة، أصبح إنساناً (ميكانيكياً) في العبادة، لكن عندما أعطاه الله القدرة على أن يسلك طريق الخير والشر، حمل الأمانة، أمانة ماذا؟

أمانة الاختيار الصحيح، فأنت الآن تستطيع أن تعصي الله؟

قال: نعم.

قلت: وتستطيع أن تطيعه؟

قال: نعم.

قلت: إذاً أنت حملت الأمانة، بينما السماوات والأرضون لم تستطع، وأشفقت منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً لنفسه، جهولاً بحق ربه ومعرفته بالله عز وجل.

فما دام أنك حملت الأمانة وعندك القدرة على الاختيار بأن تسلك سبيل الخير أو سبيل الشر، فلا خيار لك في أن تطيع الله تبارك وتعالى.

إن المتتبع للمواطن التي ذكر الله عز وجل الصبر فيها في القرآن الكريم يتبين له عظمة الصبر ومنزلته عند الله عز وجل؛ فمنها: أن الله عز وجل قرن الصبر بجميع القيم والمبادئ العليا في الإسلام، فما من مبدأ في الإسلام كريمٍ إلا والصبر معه، إذ لا يمكن أن يحقق هذا المبدأ إلا بالصبر.

علاقة الصبر باليقين

قرن الله الصبر باليقين، واليقين هو قوة الإيمان، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

لأن الإنسان في هذه الدنيا يتسلط عليه شياطين الإنس والجن عن طريق الشهوات والشبهات، شهواتٍ تورث تقديم الهوى على طاعة الله، وشبهاتٍ تورث شكاً في دين الله، فلا يتغلب على الشهوات إلا بالصبر، ولا يتغلب على الشبهات إلا باليقين.

وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين، قال عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة:24] متى جعلهم الله أئمة يهدون بأمر الله، ويدعون إلى الله، ويوجهون الناس إلى الله، ويدلون الخلق على خالقهم، ويحببون الله إلى خلقه، والخلق إلى الله؟ هذه وظيفة ليست سهلة: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [السجدة:24] متى؟ لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24] أي: بعد أن صبروا: وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

فهذه من أعظم الكماليات أن يكون عندك يقين، ومن أعظم الدرجات العليا أن يكون في قلبك تصديق، ولا يمكن أن يكون إلا بالصبر واليقين: لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

وأصحاب الشهوات المضللون الذين يخدعون البشرية بما يضعون لها من شحوم الشهوات، حتى ينزلقوا عليها إلى النار -والعياذ بالله- هؤلاء يريدون للإنسان العنت، يقول الله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ [النساء:27] ماذا؟ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] الله يريد أن يتوب وأن يغفر لكم، وأن يفتح ميادين الرحمة لكم، ولكن المضللون الذين يتبعون الشهوات، يريدون أن تميلوا إلى شهواتهم، ليس ميلاً يسيراً وإنما ميلاً عظيماً.

أما الشبهات وهي التي يزرعها الشيطان في قلب الإنسان وفي عقيدته من شكوك وأوهام، مثل هذا الرجل الذي قال لي: أنا لم يأخذ الله عليَّ الأمانة، هذه شبهة، وهي كفيلة بأن تنسف عقيدته من أسفلها، فإذا شك في هذا فمعنى ذلك أنه كفر بالقرآن، ولو صلى وصام، فهذه شبهة.

فما تنال الإمامة إلا بإبعاد الشبهة، والقضاء عليها عن طريق اليقين الصادق.

علاقة الصبر بالشكر

أيضاً قرن الله عز وجل الصبر في القرآن الكريم بالشكر، وهو ضد الصبر، يعني: نقيض له. الصبر يكون على الآلام، والشكر يكون على المنح والهدايا والعطايا من الله، ولكن الله جعل الصبر والشكر في آيات أربع معاً، لماذا؟

لأن الإنسان لا ينفك في كل أحواله من نعمةٍ أو محنة، أو عطية أو بلية.

فتجد في نفس اللحظة تأتيك رحمة من الله، تصور أنك تمشي في الطريق فيصطدم بسيارتك رجل ما، فهذه فتنة ومصيبة، ثم تنزل وتلقى الرجل ليس فيه شيء، هذه رحمة من الله، هذا حادث كفيل بأن يموت هذا الرجل فيه.

فالله ابتلاك بفتنة فتصبر عليها، وفي نفس الوقت أكرمك بأن نجاك منها، وذلك بنجاة هذا الإنسان ولم يصب بشيء، تنقلب سيارتك وتنزل منها، وترى السيارة، ومن يراها يقول: لم يبق فيها أحد سليم، ولكن الله سلمك، ينكسر الحديد ويتحطم ولا ينكسر فيك عظم، هل أنت أقوى من الحديد؟!

إنها منحة من الله عز وجل، فالله قرن الصبر والشكر معاً فقال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5] وصبار هنا صيغة مبالغة، ليس صابر فقط، بل صبار يعني: على كثرة البلايا يصبر على قضاء الله وقدره.

يقول عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31] وقال عز وجل عن قوم سبأ الذين جاءتهم المصيبة من الله تعالى، بعد أن كفروا وأعرضوا وبدلوا نعمة الله كفراً، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وبدلهم بجنانهم -التي كانوا يأكلون منها من كل نوعٍ وفاكهةٍ- جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثل وشيء من سدرٍ قليل، قال عز وجل: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17] ثم قال: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].

علاقة الصبر بالتقوى والحق والرحمة

- وربطه الله عز وجل بالتقوى، وجعله قرين لها، قال عز وجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وربطه بالحق قال عز وجل: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] وربطه بالرحمة فقال عز وجل: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17].

علاقة الصبر بأخلاق الإسلام كلها

يشتمل الصبر على أخلاق الإسلام كلها، إذ لا أمر ولا نهي إلا والصبر أساس فيه، وانظر إلى جميع الأوامر التي أمر الله بها.

- الصلاة مثلاً: ما الذي يعينك عليها؟

الصبر، كونك تقوم من بيتك، ومن عشائك أو من فراشك وتذهب وكذلك تترك عملك، أو تغلق دكانك، وتتوضأ في البرد وتذهب إلى المسجد وهو بعيد، وتأتي فهذه تحتاج إلى أطنان من الصبر.

- والزكاة حينما تخرجها: ما الذي يجعل حب المال يخرج من قلبك، ويستعلي عليه حب الله ورسوله؟ الصبر.

- والحج: حينما تخرج من بيتك، وتقطع الفيافي والقفار وتقف في عرفات ، وترمي الجمرات، وتدخل في الزحام، وتعرض نفسك للموت أكثر من مرة أو مرات هذا كله بالصبر.

- الصيام: حينما تصبر عن الطعام، وعن شهواتك، وعن زوجتك -وأنت تعاني هذا كله- بالصبر.

برك لوالديك، صلتك لأرحامك، صبرك على الناس، كل هذه الأوامر تأتي بها عن طريق الصبر على دين الله عز وجل.

بعد ذلك الشهوات كلها: كالعفة: ما هي العفة؟

عندما نقول: فلان رجلٌ عفيف، أو فلانة امرأة عفيفة، فالعفة: هي الصبر عن شهوة الفرج، وشهوة الفرج موجودة في كل إنسان، لكن يوجد رجل ينهزم أمام شهوته، وتوجد أنثى تنهزم أمام شهوتها فتمارس الجريمة، وتقع في لعنة الله وغضبه، وأخرى تترفع عن شهوة فرجها، وتتعفف وتلتحق بأهل العفة والطهر والنقاء، فتصبح عفيفة أو يصبح عفيفاً، لكن بماذا؟ بالصبر، فالعفة سببها الصبر.

- والشجاعة: كأن تقول: فلان شجاع، فما هي الشجاعة؟

- الشجاعة صبرٌ في موطن الموت، سئل عنترة -وهو مضرب المثل في الشجاعة- فقيل له: كيف صرت شجاعاً؟ فقال: ضع إصبعك في فمي، وأنا أضع إصبعي في فمك، قال: عض إصبعي وأنا أعض إصبعك، فلما عض كل واحد إصبع الآخر نزعها ذلك يوم عضها عنترة ، قال: والله لو صبرت قليلاً لنزعت إصبعي قبلك ولكن كلما أردت أن أنزعها صبرت وصبـرت، فالشجاعة صبر ساعة.

فالجبان لا يصير شجاعاً؛ لأنه لا يصبر، ولا يستطيع، بينما الشجاع يصبر فيثبت، فكل الأعمال والكمالات والفضائل تأتي عن طريق الصبر.

- كذلك الحلم، والحلم: هو صبر على دوافع الانتقام والغضب، تجد اثنين يحصل لهما مواقف تستثيرهما، فواحد صابر ضبط أعصابه، ووضعها في ثلاجة، وآخر لم يصبر بل يشتعل، ويحرق الناس، وبعد ذلك يندم على تهوره، وذاك لا يندم على صبره، ففي الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

هذا هو الشجاع، وهذا هو البطل الذي يتحكم في عواطفه، ويملك مشاعره عند الغضب، أما كونك عادياً في الحالات العادية، فليست هذه بدرجات كمال فيك، ولا يعرف الشيء إلا بضده، ولا يعرف حلمك إلا عند الغضب. وفي الحالات العادية تكون حليماً طبيعياً فأنت حليم بطبيعتك، لكن متى يعرف حلمك؟

عند استثارتك، فالحلم: صبرٌ على كتم دوافع واستثارات الغضب والانتقام.

أيضاً سعة الصدر: يقال: فلان منشرح صدره.. واسع صدره.. عنده صبر عندما يضيق الصدر، لكن عندما يأتي شخص يدخل بيته يضيق صدره من أقل غلطة يراها، أو يضيق صدره من ضيف، أو من ولد، أو من زوجته، أو من مدير مدرسته، أو من مدرس أو موظف عنده، فهذا ضاق صدره، لكن إذا جاء بالصبر وسعة الصدر تجده يضيق صدره على امرأته فيوسعه، يقول: هذه أم أولادي، وهذه زوجتي، وإذا لم أصبر عليها فعلى من أصبر. ويضيق صدره على ولده، فيأتيه الصبر ويقول: هذا ولدي ومن يوسع صدره له إذا لم أوسعه أنا، وهو أحسن من غيره، وأصبر عليه، وأوجهه، ويضيق صبره على موظفه فكذلك، وهكذا ..

فعملية سعة الصدر، وتحويل الأمور من رأسٍ إلى عقب، ومن عقبٍ إلى رأس يأتي ثمرة للصبر.

كذلك القناعة: خلق كريم وهو صبر عن الكفاف، فالكفاف: رزق يكفيك لا لك ولا عليك، أي: قوت لكي لا تموت، وهذه منزلة القناعة التي تقنع بها، لكن إذا لم تكن عندك قناعة أيها الإنسان! وأنت تعيش مرتبة الكفاف فأنت تعيش في عذاب، تظل تنظر في كل شيء، وتتمنى كل شيء، ونفسك تستشرف كل شيء، ولا يحصل لك شيء، وإنما يحصل لك العذاب في نفسك، بينما بالقناعة تصبح زاهداً، وتصبح غنياً وإن لم يكن بيدك شيء، وتنظر إلى الناس فتقول: ما هذا؟ تنظر إلى الدنيا .. بماذا؟ بالقناعة.

والقناعة كنزٌ لا يفنى، لا ينقص منه شيء ودائماً يزيد، فكلما قنعت زادك الله عز وجل في كنزك، وكذلك ضبط النفس والرضا بالقضاء، والزهد في الدنيا، هذه الأمور كلها لا تأتي إلا بالصبر.

فغض البصر عن النظر المحرم صبر، عندما ترى امرأة متبرجة في الشارع فتغض بصرك، بماذا غضضت بصرك؟ بصبرٍ عن المحرم.

- صيانة أذنك عن سماع الأغاني: جاءت نتيجة الصبر على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، فالمهم أن جميع أعمال الإسلام من الأوامر أو النواهي لا تنال إلا بالصبر.

الصبر قاسم مشترك وقاعدة مهمة في حياة المسلم، ولذا قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] لماذا الله معهم ويؤيدهم وينصرهم؟ لماذا الله يكتنفهم برعايته ومحبته؟ لأنهم معه، يصبرون له، ويصبرون به، ولا يصبرون عنه.

يقول ابن القيم رحمه الله: الصبر ثلاثة أقسام من حيث نهايته: صبرٌ لله، وصبرٌ بالله، وصبرٌ عن الله.

فصبرٌ لله: بترك معصيته.

وصبرٌ بالله: بفعل طاعته.

وصبرٌ عن الله: وهو أسوأ أنواع الصبر، أن تصبر عن الله بفعل المعاصي، وكثير من الناس الآن يعملون المعاصي من أجل ماذا؟ يقول: أريد أن أشرح صدري وأستريح، وهو يحاول أن يغطي ما في قلبه من العذاب بالمعاصي ليصبر عن الله، ومن هو الذي يصبر عن مولاه، إلا من لا يحب الله.

هذا -أيها الإخوة- ما يتعلق باقتران الصبر بالمراتب العليا والكمالات التي جاء الإسلام ليربي الناس عليها.

قرن الله الصبر باليقين، واليقين هو قوة الإيمان، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

لأن الإنسان في هذه الدنيا يتسلط عليه شياطين الإنس والجن عن طريق الشهوات والشبهات، شهواتٍ تورث تقديم الهوى على طاعة الله، وشبهاتٍ تورث شكاً في دين الله، فلا يتغلب على الشهوات إلا بالصبر، ولا يتغلب على الشبهات إلا باليقين.

وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ولهذا لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين، قال عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة:24] متى جعلهم الله أئمة يهدون بأمر الله، ويدعون إلى الله، ويوجهون الناس إلى الله، ويدلون الخلق على خالقهم، ويحببون الله إلى خلقه، والخلق إلى الله؟ هذه وظيفة ليست سهلة: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [السجدة:24] متى؟ لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24] أي: بعد أن صبروا: وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

فهذه من أعظم الكماليات أن يكون عندك يقين، ومن أعظم الدرجات العليا أن يكون في قلبك تصديق، ولا يمكن أن يكون إلا بالصبر واليقين: لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

وأصحاب الشهوات المضللون الذين يخدعون البشرية بما يضعون لها من شحوم الشهوات، حتى ينزلقوا عليها إلى النار -والعياذ بالله- هؤلاء يريدون للإنسان العنت، يقول الله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ [النساء:27] ماذا؟ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] الله يريد أن يتوب وأن يغفر لكم، وأن يفتح ميادين الرحمة لكم، ولكن المضللون الذين يتبعون الشهوات، يريدون أن تميلوا إلى شهواتهم، ليس ميلاً يسيراً وإنما ميلاً عظيماً.

أما الشبهات وهي التي يزرعها الشيطان في قلب الإنسان وفي عقيدته من شكوك وأوهام، مثل هذا الرجل الذي قال لي: أنا لم يأخذ الله عليَّ الأمانة، هذه شبهة، وهي كفيلة بأن تنسف عقيدته من أسفلها، فإذا شك في هذا فمعنى ذلك أنه كفر بالقرآن، ولو صلى وصام، فهذه شبهة.

فما تنال الإمامة إلا بإبعاد الشبهة، والقضاء عليها عن طريق اليقين الصادق.

أيضاً قرن الله عز وجل الصبر في القرآن الكريم بالشكر، وهو ضد الصبر، يعني: نقيض له. الصبر يكون على الآلام، والشكر يكون على المنح والهدايا والعطايا من الله، ولكن الله جعل الصبر والشكر في آيات أربع معاً، لماذا؟

لأن الإنسان لا ينفك في كل أحواله من نعمةٍ أو محنة، أو عطية أو بلية.

فتجد في نفس اللحظة تأتيك رحمة من الله، تصور أنك تمشي في الطريق فيصطدم بسيارتك رجل ما، فهذه فتنة ومصيبة، ثم تنزل وتلقى الرجل ليس فيه شيء، هذه رحمة من الله، هذا حادث كفيل بأن يموت هذا الرجل فيه.

فالله ابتلاك بفتنة فتصبر عليها، وفي نفس الوقت أكرمك بأن نجاك منها، وذلك بنجاة هذا الإنسان ولم يصب بشيء، تنقلب سيارتك وتنزل منها، وترى السيارة، ومن يراها يقول: لم يبق فيها أحد سليم، ولكن الله سلمك، ينكسر الحديد ويتحطم ولا ينكسر فيك عظم، هل أنت أقوى من الحديد؟!

إنها منحة من الله عز وجل، فالله قرن الصبر والشكر معاً فقال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5] وصبار هنا صيغة مبالغة، ليس صابر فقط، بل صبار يعني: على كثرة البلايا يصبر على قضاء الله وقدره.

يقول عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31] وقال عز وجل عن قوم سبأ الذين جاءتهم المصيبة من الله تعالى، بعد أن كفروا وأعرضوا وبدلوا نعمة الله كفراً، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وبدلهم بجنانهم -التي كانوا يأكلون منها من كل نوعٍ وفاكهةٍ- جنتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثل وشيء من سدرٍ قليل، قال عز وجل: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17] ثم قال: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].

- وربطه الله عز وجل بالتقوى، وجعله قرين لها، قال عز وجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وربطه بالحق قال عز وجل: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] وربطه بالرحمة فقال عز وجل: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17].

يشتمل الصبر على أخلاق الإسلام كلها، إذ لا أمر ولا نهي إلا والصبر أساس فيه، وانظر إلى جميع الأوامر التي أمر الله بها.

- الصلاة مثلاً: ما الذي يعينك عليها؟

الصبر، كونك تقوم من بيتك، ومن عشائك أو من فراشك وتذهب وكذلك تترك عملك، أو تغلق دكانك، وتتوضأ في البرد وتذهب إلى المسجد وهو بعيد، وتأتي فهذه تحتاج إلى أطنان من الصبر.

- والزكاة حينما تخرجها: ما الذي يجعل حب المال يخرج من قلبك، ويستعلي عليه حب الله ورسوله؟ الصبر.

- والحج: حينما تخرج من بيتك، وتقطع الفيافي والقفار وتقف في عرفات ، وترمي الجمرات، وتدخل في الزحام، وتعرض نفسك للموت أكثر من مرة أو مرات هذا كله بالصبر.

- الصيام: حينما تصبر عن الطعام، وعن شهواتك، وعن زوجتك -وأنت تعاني هذا كله- بالصبر.

برك لوالديك، صلتك لأرحامك، صبرك على الناس، كل هذه الأوامر تأتي بها عن طريق الصبر على دين الله عز وجل.

بعد ذلك الشهوات كلها: كالعفة: ما هي العفة؟

عندما نقول: فلان رجلٌ عفيف، أو فلانة امرأة عفيفة، فالعفة: هي الصبر عن شهوة الفرج، وشهوة الفرج موجودة في كل إنسان، لكن يوجد رجل ينهزم أمام شهوته، وتوجد أنثى تنهزم أمام شهوتها فتمارس الجريمة، وتقع في لعنة الله وغضبه، وأخرى تترفع عن شهوة فرجها، وتتعفف وتلتحق بأهل العفة والطهر والنقاء، فتصبح عفيفة أو يصبح عفيفاً، لكن بماذا؟ بالصبر، فالعفة سببها الصبر.

- والشجاعة: كأن تقول: فلان شجاع، فما هي الشجاعة؟

- الشجاعة صبرٌ في موطن الموت، سئل عنترة -وهو مضرب المثل في الشجاعة- فقيل له: كيف صرت شجاعاً؟ فقال: ضع إصبعك في فمي، وأنا أضع إصبعي في فمك، قال: عض إصبعي وأنا أعض إصبعك، فلما عض كل واحد إصبع الآخر نزعها ذلك يوم عضها عنترة ، قال: والله لو صبرت قليلاً لنزعت إصبعي قبلك ولكن كلما أردت أن أنزعها صبرت وصبـرت، فالشجاعة صبر ساعة.

فالجبان لا يصير شجاعاً؛ لأنه لا يصبر، ولا يستطيع، بينما الشجاع يصبر فيثبت، فكل الأعمال والكمالات والفضائل تأتي عن طريق الصبر.

- كذلك الحلم، والحلم: هو صبر على دوافع الانتقام والغضب، تجد اثنين يحصل لهما مواقف تستثيرهما، فواحد صابر ضبط أعصابه، ووضعها في ثلاجة، وآخر لم يصبر بل يشتعل، ويحرق الناس، وبعد ذلك يندم على تهوره، وذاك لا يندم على صبره، ففي الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

هذا هو الشجاع، وهذا هو البطل الذي يتحكم في عواطفه، ويملك مشاعره عند الغضب، أما كونك عادياً في الحالات العادية، فليست هذه بدرجات كمال فيك، ولا يعرف الشيء إلا بضده، ولا يعرف حلمك إلا عند الغضب. وفي الحالات العادية تكون حليماً طبيعياً فأنت حليم بطبيعتك، لكن متى يعرف حلمك؟

عند استثارتك، فالحلم: صبرٌ على كتم دوافع واستثارات الغضب والانتقام.

أيضاً سعة الصدر: يقال: فلان منشرح صدره.. واسع صدره.. عنده صبر عندما يضيق الصدر، لكن عندما يأتي شخص يدخل بيته يضيق صدره من أقل غلطة يراها، أو يضيق صدره من ضيف، أو من ولد، أو من زوجته، أو من مدير مدرسته، أو من مدرس أو موظف عنده، فهذا ضاق صدره، لكن إذا جاء بالصبر وسعة الصدر تجده يضيق صدره على امرأته فيوسعه، يقول: هذه أم أولادي، وهذه زوجتي، وإذا لم أصبر عليها فعلى من أصبر. ويضيق صدره على ولده، فيأتيه الصبر ويقول: هذا ولدي ومن يوسع صدره له إذا لم أوسعه أنا، وهو أحسن من غيره، وأصبر عليه، وأوجهه، ويضيق صبره على موظفه فكذلك، وهكذا ..

فعملية سعة الصدر، وتحويل الأمور من رأسٍ إلى عقب، ومن عقبٍ إلى رأس يأتي ثمرة للصبر.

كذلك القناعة: خلق كريم وهو صبر عن الكفاف، فالكفاف: رزق يكفيك لا لك ولا عليك، أي: قوت لكي لا تموت، وهذه منزلة القناعة التي تقنع بها، لكن إذا لم تكن عندك قناعة أيها الإنسان! وأنت تعيش مرتبة الكفاف فأنت تعيش في عذاب، تظل تنظر في كل شيء، وتتمنى كل شيء، ونفسك تستشرف كل شيء، ولا يحصل لك شيء، وإنما يحصل لك العذاب في نفسك، بينما بالقناعة تصبح زاهداً، وتصبح غنياً وإن لم يكن بيدك شيء، وتنظر إلى الناس فتقول: ما هذا؟ تنظر إلى الدنيا .. بماذا؟ بالقناعة.

والقناعة كنزٌ لا يفنى، لا ينقص منه شيء ودائماً يزيد، فكلما قنعت زادك الله عز وجل في كنزك، وكذلك ضبط النفس والرضا بالقضاء، والزهد في الدنيا، هذه الأمور كلها لا تأتي إلا بالصبر.

فغض البصر عن النظر المحرم صبر، عندما ترى امرأة متبرجة في الشارع فتغض بصرك، بماذا غضضت بصرك؟ بصبرٍ عن المحرم.

- صيانة أذنك عن سماع الأغاني: جاءت نتيجة الصبر على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، فالمهم أن جميع أعمال الإسلام من الأوامر أو النواهي لا تنال إلا بالصبر.

الصبر قاسم مشترك وقاعدة مهمة في حياة المسلم، ولذا قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] لماذا الله معهم ويؤيدهم وينصرهم؟ لماذا الله يكتنفهم برعايته ومحبته؟ لأنهم معه، يصبرون له، ويصبرون به، ولا يصبرون عنه.

يقول ابن القيم رحمه الله: الصبر ثلاثة أقسام من حيث نهايته: صبرٌ لله، وصبرٌ بالله، وصبرٌ عن الله.

فصبرٌ لله: بترك معصيته.

وصبرٌ بالله: بفعل طاعته.

وصبرٌ عن الله: وهو أسوأ أنواع الصبر، أن تصبر عن الله بفعل المعاصي، وكثير من الناس الآن يعملون المعاصي من أجل ماذا؟ يقول: أريد أن أشرح صدري وأستريح، وهو يحاول أن يغطي ما في قلبه من العذاب بالمعاصي ليصبر عن الله، ومن هو الذي يصبر عن مولاه، إلا من لا يحب الله.

هذا -أيها الإخوة- ما يتعلق باقتران الصبر بالمراتب العليا والكمالات التي جاء الإسلام ليربي الناس عليها.

لا يكون الصابر صابراً إلا إذا توفرت فيه أمور، فليس كل صبر ينال عليه صاحبه ثواباً بل، لا بد من أشياء توجد في هذا الصابر ومعه:

الإخلاص

لابد أن يكون الصبر لله، لأن الصبر أمر مشترك عند كل الناس، حتى الكافر يصبر مضطراً، فيصبر على الدراسة، والحيوانات تصبر فالشاة تذبحها وهي صابرة.

ومثال ذلك الرجل الذي ضيف رجالاً وهو لا يريد أن يضيفهم، فأخذ تيساً من غنمه وذبحه فصاحت الذبيحة فيقول للتيس: اصبر والله إنك مغصوب وأنا مغصوب -يقول: ليس بإرادتي أن أذبحك ولكن ماذا نصنع فكلانا مغصوب-.

فالصبر أمر مشترك بين الإنسان والحيوان، وبين الكافر والمسلم، كل الناس لا بد أن يصبروا، لكن من هو الذي له الأجر؟

إن الذي له الأجر هو الذي يصبر لله قال الله عز وجل: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] ليس لشهواتك، ولا لمرادك، وهواك، وإنما لخالقك ومولاك، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22] الذين يصبرون ابتغاء وجه الله، ويريدون بهذا الصبر ما عند الله عز وجل: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً [الرعد:22].

لقد مدحهم الله وأثنى عليهم؛ لأنهم صبروا ابتغاء وجهه، وأنت عندما تصبر على ألم الدراسة لكنك لا تصلي؟ صحيح أنك صبرت حتى نلت الشهادة، ولكنك مقطوع الصلة بالله، هل صبرك هذا من أجل الله أم من أجل الشهادة؟ إنه من أجل الشهادة، فعندما حصلت على الشهادة هل تنال عليها أجراً؟ لا.

لكن لو أنك استصحبت النية الصالحة وكنت عبداً لله طيباً، ودرست هذه الدراسة من أجل طلب العلم، ومن أجل احتلال منصب ووظيفة، لأجل نصرة الحق، أو من أجل المشاركة في بناء وطنك، لكانت دراستك هذه وصبرك عليها صبراً لله.

فالمزارع الذي يزرع ويريد بهذه الزراعة جلب أقوات المسلمين، ويحتسب عند الله ما يأكله الطائر، وما يشرب من البهيم، وما يأخذه الغريب، وما يتصدق به على المسكين، فهذا يصير صبره على الزراعة صبراً لله، لكن من يصبر على الزراعة، ويضع عليها بيوتاً محميةً من كل اتجاه، ولا يدع عليها طائراً يأخذ منها حبة واحدة، ويكمم العنب بالصناديق، ويجعل عليها عمالاً لكي لا يمر أحد من عندها، ثم لماذا هذا كله؟ قال: أريد أن أبيعها.

وإذا جاء وقت جني الثمرة لا يحمل معه للبيت شيئاً، ولا يهدي لجاره ولا لصديقه حبة، وإنما في الصندوق هذا صَبَرَ، ولكن لماذا صبر؟ من أجل الأموال، وقد حصل على المال ولكن صبره هذا ليس لله عز وجل.

فالصبر لله يجب أن يكون خالصاً، ومصحوباً بالنية السليمة من أجل نيل ما عند الله من الثواب، ولهذا قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22].

الشكوى لله فقط

- ثانياً: ألا يكون مع هذا الألم والصبر شكوى لغير الله، وهذا معنى الصبر الجميل، يقول يعقوب عليه السلام عندما أخبروه أن ولده ليس موجوداً وقد أكله الذئب: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18] قيل: الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع، لا يجزع من قضاء الله، ولا يشكو إلى أحدٍ غير الله تبارك وتعالى، والذي يشكو الناس أو يشكو الله إلى الناس، هذا لم يعرف الله عز وجل، يقول:

وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها           صبر الكريم فإنه بك أعلم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما          تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

أي: تشكو الرحيم تبارك وتعالى إلى الذي لا يرحم، لا تشكو إلى أحد وإنما اشك إلى الله، ولهذا كان يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] تشكو بثك وحزنك وما تجده من لوعةٍ في قلبك إلى الله عز وجل، ولا تشك إلى أحد غيره، فإنك إن شكوت إلى الناس فالناس لا ينفكون عن رجلين:

رجلٌ يحبك، ورجلٌ يبغضك، فإن شكوت إلى الذي يحبك آلمته؛ لأنه يعاني معك، وإن شكوت إلى الذي يبغضك سررته وفرح، ولو هز رأسه لك، وقال: أنا آسف والله المستعان.

ولكن في السر يقول: يستحق، لماذا؟ لأنه يكرهك ويتمنى أي شيء يقع عليك، فلا تشتك إلى أحد، ولا تُحزن الذي يحبك، أليس الذي يحبك تحب ألا يحزن؟

إذاً لا تحزنه بشكواك إليه، ثم ماذا تتصور أن يعمل من أجلك هذا الذي شكوت إليه؟ شكوت إليه المرض.. فهل عنده عافية؟! شكوت إليه الفقر.. هل عنده أموال يعطيك؟! شكوت الهم.. هل عنده فرج؟! ليس عنده شيء، إنما تشكو إلى من؟ إلى الله الذي لا إله إلا هو.

كان الواحد من السلف إذا أتاه شخص وهو مريض وفي أشد المرض يقول له: كيف حالك؟

قال: الحمد لله.

قال له: من ماذا تشتكي؟

قال: أشتكي من ذنوبي -لا يشتكي من ربه بل يشتكي من ذنبه- لأنه يعرف أن المرض لم يأته إلا بذنب.

قال: ماذا تريد؟

قال: أريد رحمة ربي.

قال: هل جاءك الطبيب أو نأتي به؟

قال: قد جاءني.

قال: وماذا قال لك؟

قال: يقول: أنا الفعال لما أريد.

هذه حياتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فأنت حاول باستمرار ألا تشكو إلا إلى الله، فإن شكواك إلى الله عبودية، وشكوى ربك إلى الناس والعياذ بالله عدم معرفة بالله، وبجلاله عز وجل.

الصبر عند الصدمة الأولى

أيضاً أن يكون الصبر في مكانه، وفي وقته وأوانه، فمتى يعرف الصابر؟ (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أما بعد ذلك فستصبر غصباً عنك، إذا ماتت أمك أو أبوك أو لدك ثم بكيت وصحت ونحت وفعلت كل شيء وفي النهاية، ماذا تفعل؟ تصبر، ذلك اسمه صبر الاضطرار.

وهذا لا أجر لك فيه ولا ثواب، ولكن متى يكون الصبر لله، ويكون خالصاً لوجه الله؟ يكون عند الصدمة الأولى، عندما يأتيك الخبر وهو جديد وأنت تقول: لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال، هذا هو الصابر الصحيح.

لكن جاءك الأمر والخبر وقمت وصحت، وشققت جيبك، ورفعت صوتك، ونتفت شعرك، وبعد أيام وليالٍ صبرت، لم يعد لك شيء فيه. وفي البخاري ومسلم من حديث أنس يقول: (مر عليه الصلاة والسلام على امرأة عند قبرٍ وهي تبكي بكاءً حاراً، وهذا الولد الميت ولدها قد قطع قلبها -ومعذورة مسكينة ولكن قد زادت في البكاء- فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي).

وهي لم تعرفه، ما يدريك من هذا الذي أبكي عليه، فليس ولدك حتى تنصحني، هذا ولدي، أنت لا تعرف ما أعرف وما أعاني منه، فقيل لها لما تركها النبي صلى الله عليه وسلم: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كيف تردين عليه بهذا الكلام، هذا رسول الله يأمرك بتقوى الله ويأمرك بالصبر وتردين عليه بهذا الرد؟! فقامت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتت إلى الباب وقالت: يا رسول الله لم أعرفك وأنا الآن سأصبر، قال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

انتهى وقت الصبر، وهذا ما يسمونه بصبر الاضطرار وهو صبر أهل النار في النار، لكن هل معهم مخرج غيره، يقول أهل النار: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21].

ويقول عز وجل لهم: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].

ولا بد -أيها الإخوة- في الصبر من ثلاثة أمور:

- أولاً: لا بد أن يكون لله عز وجل.

- ثانياً: ألا يكون معه شكوى لغير الله.

ثالثاً: أن يكون عند الصدمة الأولى.

فإذا حصلت هذه كنت -أيها الإنسان- من الصابرين.

لابد أن يكون الصبر لله، لأن الصبر أمر مشترك عند كل الناس، حتى الكافر يصبر مضطراً، فيصبر على الدراسة، والحيوانات تصبر فالشاة تذبحها وهي صابرة.

ومثال ذلك الرجل الذي ضيف رجالاً وهو لا يريد أن يضيفهم، فأخذ تيساً من غنمه وذبحه فصاحت الذبيحة فيقول للتيس: اصبر والله إنك مغصوب وأنا مغصوب -يقول: ليس بإرادتي أن أذبحك ولكن ماذا نصنع فكلانا مغصوب-.

فالصبر أمر مشترك بين الإنسان والحيوان، وبين الكافر والمسلم، كل الناس لا بد أن يصبروا، لكن من هو الذي له الأجر؟

إن الذي له الأجر هو الذي يصبر لله قال الله عز وجل: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7] ليس لشهواتك، ولا لمرادك، وهواك، وإنما لخالقك ومولاك، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22] الذين يصبرون ابتغاء وجه الله، ويريدون بهذا الصبر ما عند الله عز وجل: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً [الرعد:22].

لقد مدحهم الله وأثنى عليهم؛ لأنهم صبروا ابتغاء وجهه، وأنت عندما تصبر على ألم الدراسة لكنك لا تصلي؟ صحيح أنك صبرت حتى نلت الشهادة، ولكنك مقطوع الصلة بالله، هل صبرك هذا من أجل الله أم من أجل الشهادة؟ إنه من أجل الشهادة، فعندما حصلت على الشهادة هل تنال عليها أجراً؟ لا.

لكن لو أنك استصحبت النية الصالحة وكنت عبداً لله طيباً، ودرست هذه الدراسة من أجل طلب العلم، ومن أجل احتلال منصب ووظيفة، لأجل نصرة الحق، أو من أجل المشاركة في بناء وطنك، لكانت دراستك هذه وصبرك عليها صبراً لله.

فالمزارع الذي يزرع ويريد بهذه الزراعة جلب أقوات المسلمين، ويحتسب عند الله ما يأكله الطائر، وما يشرب من البهيم، وما يأخذه الغريب، وما يتصدق به على المسكين، فهذا يصير صبره على الزراعة صبراً لله، لكن من يصبر على الزراعة، ويضع عليها بيوتاً محميةً من كل اتجاه، ولا يدع عليها طائراً يأخذ منها حبة واحدة، ويكمم العنب بالصناديق، ويجعل عليها عمالاً لكي لا يمر أحد من عندها، ثم لماذا هذا كله؟ قال: أريد أن أبيعها.

وإذا جاء وقت جني الثمرة لا يحمل معه للبيت شيئاً، ولا يهدي لجاره ولا لصديقه حبة، وإنما في الصندوق هذا صَبَرَ، ولكن لماذا صبر؟ من أجل الأموال، وقد حصل على المال ولكن صبره هذا ليس لله عز وجل.

فالصبر لله يجب أن يكون خالصاً، ومصحوباً بالنية السليمة من أجل نيل ما عند الله من الثواب، ولهذا قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد:22].

- ثانياً: ألا يكون مع هذا الألم والصبر شكوى لغير الله، وهذا معنى الصبر الجميل، يقول يعقوب عليه السلام عندما أخبروه أن ولده ليس موجوداً وقد أكله الذئب: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18] قيل: الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع، لا يجزع من قضاء الله، ولا يشكو إلى أحدٍ غير الله تبارك وتعالى، والذي يشكو الناس أو يشكو الله إلى الناس، هذا لم يعرف الله عز وجل، يقول:

وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها           صبر الكريم فإنه بك أعلم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما          تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

أي: تشكو الرحيم تبارك وتعالى إلى الذي لا يرحم، لا تشكو إلى أحد وإنما اشك إلى الله، ولهذا كان يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] تشكو بثك وحزنك وما تجده من لوعةٍ في قلبك إلى الله عز وجل، ولا تشك إلى أحد غيره، فإنك إن شكوت إلى الناس فالناس لا ينفكون عن رجلين:

رجلٌ يحبك، ورجلٌ يبغضك، فإن شكوت إلى الذي يحبك آلمته؛ لأنه يعاني معك، وإن شكوت إلى الذي يبغضك سررته وفرح، ولو هز رأسه لك، وقال: أنا آسف والله المستعان.

ولكن في السر يقول: يستحق، لماذا؟ لأنه يكرهك ويتمنى أي شيء يقع عليك، فلا تشتك إلى أحد، ولا تُحزن الذي يحبك، أليس الذي يحبك تحب ألا يحزن؟

إذاً لا تحزنه بشكواك إليه، ثم ماذا تتصور أن يعمل من أجلك هذا الذي شكوت إليه؟ شكوت إليه المرض.. فهل عنده عافية؟! شكوت إليه الفقر.. هل عنده أموال يعطيك؟! شكوت الهم.. هل عنده فرج؟! ليس عنده شيء، إنما تشكو إلى من؟ إلى الله الذي لا إله إلا هو.

كان الواحد من السلف إذا أتاه شخص وهو مريض وفي أشد المرض يقول له: كيف حالك؟

قال: الحمد لله.

قال له: من ماذا تشتكي؟

قال: أشتكي من ذنوبي -لا يشتكي من ربه بل يشتكي من ذنبه- لأنه يعرف أن المرض لم يأته إلا بذنب.

قال: ماذا تريد؟

قال: أريد رحمة ربي.

قال: هل جاءك الطبيب أو نأتي به؟

قال: قد جاءني.

قال: وماذا قال لك؟

قال: يقول: أنا الفعال لما أريد.

هذه حياتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فأنت حاول باستمرار ألا تشكو إلا إلى الله، فإن شكواك إلى الله عبودية، وشكوى ربك إلى الناس والعياذ بالله عدم معرفة بالله، وبجلاله عز وجل.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع