10 همسات في فقه الاحتساب
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
10 همسات في فقه الاحتسابمدخل:
كتبتُ موضوعًا سابقًا بعنوان "تطبيع الاحتساب..
بين الحقيقة والمأمول"، وهوَ منشورٌ في موقعيْ: "صيد الفوائد"، و"شبكة القلم الفكريَّة"، أشرتُ فيهِ إلى ضرورةِ تطبيع "فقه الاحتساب"، وتثبيته في قلوبِ طلبةِ العِلم والدُّعاةِ قبلَ عامَّة الناس؛ فكتبَ إليَّ أحدُ الإخوة يسألُ عن فِقه الاحتسابِ وماهيَّتِه، فأجبتُه إجابةً سريعة حينها، ثم إنِّي رأيتُ أن أكتبَ عشرَ همساتٍ في هذا الشأن؛ تذكيرًا للعالِمِ، وتعليمًا للجاهل، وتنبيهًا للغافل.
همساتٌ تقولُ بقولِ الله: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].
همساتٌ تُنادي: أنَّ القيامَ بشعيرةِ الاحتساب لم يعُد بتلكَ السهولة والوضوح التي كانَ عليها المجتمعُ في الأمسِ القريب؛ بل إنَّه أصبحَ من الضروريِّ والمهمِّ أن تكونَ عمليةُ الاحتساب عمليةً مدروسةً منظَّمة بقدرِ ما أصبحت فيه المنكراتُ الآن من تعقيد ونفوذٍ في الحياةِ والمجتمع.
همساتٌ تُعلِن: أنَّ عمليةَ الاحتساب أصبحت عِلمًا وفقهًا، ينبغي دراستُه وإتقانه بحكمةٍ وحِنكةٍ ووضوح، حتى تؤتيَ ثمارَها، وتتحقَّقَ الغايةُ من القِيام بها، ويحصلَ المقصودُ منَ الاحتسابِ والإنكار؛ ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164].
وإنِّي لأرى الشرفَ مترنِّمًا متربِّعًا على مُحيَّاكم، فاللهمَّ اجعلهم خيرًا مما أظنُّ.
الهمسةُ الأولى:
يا أبناءَ الإسلام، خُذوها ربَّانية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]، ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116، 117]، فالأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ سببُ الخيرية، ووسيلةُ النجاة من العذابِ الدنيويِّ والأخرويِّ.
يقول سيِّد قطب – رحمه الله – في "ظلاله": "وبهذا تعلم أنَّ دعاة الإصلاح المناهضين للطُّغيان والظُّلم والفساد هم صمامُ الأمان للأُمم والشُّعوب، وهذا يبرز قيمةَ كفاح المكافحين للخير والصلاح، الواقفين للظُّلم والفساد، إنَّهم لا يؤدُّون واجبهم لربِّهم ولدِينهم فحسبُ، إنَّما هم يحولون بهذا دون أُممهم وغضبِ الله واستحقاق النَّكال والضَّياع.
الهمسةُ الثانية:
إنَّ العملَ بما يدعو إليهِ المحتسِب ليسَ شرطًا للقيامِ بواجب الاِحتساب، وممَّا يدلُّ على هذا ما رواه الإمامان: أحمد والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن يأخذ عنِّي هؤلاء الكلماتِ فيعمل بهنَّ، أو يُعلِّم مَن يعمل بهنَّ؟))، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعدَّ خمسًا، وقال: ((اتَّق المحارمَ تكنْ أعبدَ الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكنْ أغنى الناس، وأحسِن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكثِر الضحك؛ فإنَّ كثرة الضحك تُميت القلب)).
وممَّا نجده في هذا الحديث الشريف: أنَّ النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يجعل العملَ بما جاء في هذا الحديث شرطًا لتعليم ما جاء فيه؛ بل قال - عليه الصلاة والسلام -: ((فيعمل بهنَّ، أو يُعلِّم مَن يعمل بهنَّ)).
كما ذَكرَ الحافظ الذهبيُّ - رحمه الله – في "سِيَر أعلام النُّبلاء"، عن أبي وائل، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "إنِّي لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعلَّ الله يَأْجُرُني فيه"، ولعلَّ تَرْك أبي الدرداء - رضي الله عنه - ذلك كان لعُذرٍ معقول، والله - تعالى - أعلم.
ولكن مع هذا كلِّه، ينبغي أن يكونَ الإنسانُ مجتنبًا ما يَنهى الناسَ عنه، ممتثلًا ما يأمرُ الناسَ به، حتى يكونَ ذلك أدعى للقَبول والاستجابة، وتجنُّب سخط الله - تعالى - وغضبِه.
الهمسةُ الثالثة:
أيْ حُماةَ الثغور، إنَّ مِن فقْه الاحتسابِ وأدبِه دعاءَ المحتسِب لِنفسِه، وللمُحتسَبِ عليهم، فالمحتسِبُ هوَ أحوجُ ما يكونُ إلى تأييدِ الله - تعالى - ونُصرتِه وتوفيقِه، ومَن تأمَّل تاريخَ الأنبياءِ وسيرتِهم تجلَّى لهُ ذلكَ وبدَا؛ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 16، 17].
وأمَّا دعاؤهُ للمحتَسَبِ عليهم، فهوَ لا يخلو من حالين:
• إمَّا أن يكونوا مسلمِين، فالدعاءُ لهم مشروعٌ ومندوب، سواءٌ استجابوا أم لا، ويكونُ أولى وأحقَّ لِمَن أطاعَ واستجاب؛ كما دعا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمغفرة للمحلِّقينَ والمقصِّرينَ في حجَّة الوداع، وأمَّا مَن لم يستجبْ من المسلمينَ وتعدَّى على المحتسبِينَ بضرْب أو شتْمٍ، أو أذىً أو ظلم، فإنَّ للمحتسِب حقَّ الدعاء عليهم؛ ترخُّصًا بقول الله – تعالى -: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 148].
• وإمَّا أن يكونوا كفَّارًا غيرَ مسلمين؛ فقد وردَ أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعا لهم بالمغفرة؛ كما صحَّ من حديثِ عبدالله بنِ مسعودٍ - رضيَ اللهُ عنه – قال: كأنِّي أنظر إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحكي نبيًّا من الأنبياء، ضَرَبه قومُه فأدمَوْه، وهو يمسحُ الدَّمَ عن وجهه ويقول: ((اللهمَّ اغفرْ لقومي، فإنَّهم لا يعلمون))، وقد ثبتَ أيضًا أنَّ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - قد دعا عليهم؛ كما وردَ في دُعائهِ عليهم يومَ الخندق، فيما صحَّ عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((حَبسُونا عن الصلاةِ الوُسطى حتى غابتِ الشمس، ملأَ الله قبورَهم وبُيوتَهم - أو أجوافَهم - نارًا)).
الهمسةُ الرابعة:
إنَّ من وسائل الإصلاحِ والاحتساب التفافَ المصلحِينَ حولَ العلماءِ الربَّانيِّين، وطلَبةِ العلمِ المُجدِّين، والدعاةِ البارزين، واستنهاضَ هِممهم، وتقوية عَزائِمهم، وتذكيرَهم المستمِرَّ باللهِ – تعالى - وبيان عِظَمِ مسؤوليتهم، ومحاولة النزولِ بهم إلى الأسواقِ والملتقيات؛ لإحياءِ شعيرةِ الاحتساب، كما كانَ يفعلُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية – رحمه الله تعالى -.
الهمسةُ الخامسة:
مِن الآدابِ التي يَنبغي على المُحتسِبِ القيامُ بها: مراعاةُ أحوالِ الناسِ في العِلم؛ ((حدِّثوا الناسَ بما يَعرفون، أتُحبُّون أن يُكذَّب الله ورسولُه؟!))، ومراعاتهم في المنزِلة؛ ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ [الزخرف: 32]، ومراعاة لُغة المجتمع التي يتخاطبُ معهم بها؛ ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44].
الهمسةُ السادسة:
من وسائلِ الاحتساب متابعةُ المنكرات، والسعي بالإنكارِ وقتَ حصولها قبلَ أن تتفشَّى في المجتمع، وتَنتشِر بين الناس، وكتابةُ الخِطاباتِ والتقاريرِ عنها مباشرةً، ثُمَّ رفعُها للمسؤولينَ وذوي الشأن، ويكونُ ذلك بالاجتماعاتِ المتكرِّرة واللقاءاتِ المتواصلة بينَ أهلِ الاحتساب؛ ليكونَ ذلك أدعى للترتيب والتنظيم، وعدم التفرُّدِ في الرأيِ واتِّخاذِ القرار.
الهمسةُ السابعة:
إنَّ الكلمةَ الهادِفة، والعِبارةَ الليِّنة، والجملةَ السَّهلةَ السلِسة - أدعى لقَبولِ النصيحة، وأجدر بالاستجابةِ والابتعاد عمَّا يُنهى عنه، لا سيِّما إن خرجتْ من قلبٍ صادقٍ ناصحٍ مُخلِص، فحريٌّ بالمحتسِبِ وقَمِنٌ به أن يكونَ ممتثلًا هذه الأخلاقَ ومتأدِّبًا بها.
الهمسةُ الثامنة:
كما أنَّ حُسنَ المعاملةِ وطِيبَ الكلمةِ معَ المحتسَبِ عليهم مطلوب؛ فإنَّ الشِّدَّة والقسوةَ والغِلظة على المتكبِّرِ والمتغطرسِ والمتعالي مطلوبٌ أيضًا؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة: 73]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 123] ﴾، وقدِ استخدمَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الشِّدةَ واللِّين والرِّفق، وضدَّه في طريقِ دعوته، فلا إفراطَ ولا تفريط.
الهمسةُ التاسعة:
قد يلجأ المُحتسب – أحيانًا – ويحتاج إلى التَّشهيرِ بصاحبِ المنكَر وفضْحِه علانيةً، وقد فَعَله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أَمَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالصدقة، فقيل: منَعَ ابنُ جميل، فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما يَنقِم ابنُ جميل إلَّا أنَّه كان فقيرًا فأغناه الله ورسولُه))، فإذا وُجِدَ كاتبٌ في صحيفة أعلنَ الحرْبَ على اللهِ ورسوله، أو متفيهقٌ في قناةٍ فضائية يتشدَّقُ بالسخفِ والمُنكر، أو مؤلِّفٌ ناشرٌ للسمومِ، فإنهُ ينبغي فضحُه والتشهيرُ به، والإنكارُ عليه علانيةً.
الهمسةُ العاشرة:
إنَّ المشاركة في وسائلِ الإعلامِ المعاصرة ( صحف – مجلات – إذاعات – شاشات – مواقع وشبكات) غَدَا واجبًا من واجباتِ العَصْر، وضرورةً من ضرورياتِ الحياة، ووسيلةً من أهمِّ الوسائلِ للمحتسبِ لِتبليغِ الرِّسالة، والقيامِ بواجبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكَر، والوصولِ إلى فئاتٍ ربَّما يصعبُ الوصولُ إليها في غيرِ هذه المجالات، فيا أيُّها العلماءُ وطلبةُ العلمِ والدُّعاة، ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41]، ولا تتركوا هذه المجالاتِ لأهلِ الشرِّ والسُّوء يَعبثون بها، ويُضلِّلونَ عباد الله بما يُعرضُ فيها.
رسالة:
"حمايةُ الثُّغور العقديَّةِ والفكريَّة التي يُحاصرها الأعداءُ خيرٌ من التَّرفِ العِلمي، وأهمُّ من تحقيقِ بعضِ المسائلِ الخلافيَّةِ التي يسوغُ الاجتهادُ فيها، وأفضلُ من نوافلِ العِبادات، وهو ضربٌ من ضروبِ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى"؛ الشيخ إبراهيم الحقيل.
هذا مُجملُ الهمسات في "فقهِ الاِحتساب"، لا أزعمُ أني أتيتُ بجديد، أو أتيتُ على كاملِ الموضوع؛ ولكنَّها مُقتضبةٌ مُختصرَةٌ يسيرة.
أسألُ اللهَ ألَّا تكونَ سراجًا في شمس، ولا مطرًا في سبخة، ولا جاريةً عندَ عنِّين، وأن تكونَ لي لا عليَّ، وأسأله أن ينفعَ ويرفعَ بها، وأن تكونَ خالصةً لوجهه الكريم، وبالله التوفيق.