{وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} - وقفات قرآنية - خالد سعد النجار
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
قال تعالى:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87]
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} أي هارون {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا} أي من بني إسرائيل {بِمِصْرَ} أي بأرض مصر {بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي متقابلة، ومساجد تصلون فيها {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} على الوجه الذي شرع لكم.
وهذا بناء على أن بني إسرائيل بعد الانتصار على فرعون أخذوا ينحازون من مجتمع فرعون، فأمروا أن يكونوا حياً مستقلاً استعداداً للخروج من أرض مصر، فأمرهم الرب تبارك وتعالى أن يجعلوا بيوتهم قبلة أي متقابلة ليعرفوا من يدخل عليهم ومن يخرج منهم، وليصلوا فيها كالمساجد حيث منعوا من المساجد إما بتخريبها وإما بمنعهم منها ظلماً وعدواناً.
وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشر يا رسولنا المؤمنين الصادقين في إيمانهم الكاملين فيه بحسن العاقبة بكرامة الدنيا وسعادة الآخرة بدخول دار السلام.
(أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري:2/146)
قال ابن عاشور: "ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومؤازره".
والتبوؤ: اتخاذ مكان يسكنه، وهو تفعل من البوء، أي الرجوع، كأن صاحب المسكن يكلف نفسه الرجوع إلى محل سكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك.
فمعنى {تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا} اجعلا قومكما متبوئين بيوتا.
وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون عليهما السلام على طريقة المجاز العقلي، إذ كانا سبب تبوؤ قومهما للبيوت.
والقرينة قوله: {لِقَوْمِكُمَا} إذ جعل التبوؤ لأجل القوم.
ومعنى تبوؤ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به.
وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن، وقد كانوا ساكنين أرض "جاسان" قرب مدينة "منفيس" قاعدة المملكة يومئذ في جنوب البلاد المصرية، كما بيناه في سورة البقرة ، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها.
واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذ.
فقيل: أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها، وربما حمل على هذا التفسير من تأوله وقوع قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} عقبه، وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريبا بإذنه.
وقيل: البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت.
وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكني، والمناسب أيضا لإطلاق البيوت، وكونها بمصر.
فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في"جاسان" قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أول ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كل ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيدا بعد خروجهم.
وقوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها تجعلونها مفتوحة إلى القبلة.
قاله ابن عطية عن ابن عباس.
والقبلة: اسم في العربية لجهة الكعبة.
وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها، وهي قبلة إبراهيم، فيكون أمر بني إسرائيل يومئذ جاريا على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة.
والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة.
والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة: إما بمعنى متقابلة، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال.
وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة، أي جهة الكعبة.
وعن ابن عباس: كانت الكعبة قبلة موسى.
وعن الحسن: كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء.
وهذا التفسير يلائم تركيب {اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه.
وأسند فعل {اجْعَلُوا} إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة.
وأمرهم بإقامة الصلاة، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعا لإبراهيم عليه السلام وأبنائه.
والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم.(التحرير والتنوير:11/163 بتصرف يسير)
{وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: واجعلوها مساجد تصلون فيها، لأنهم كانوا يخافون فرعون أن يصلّوا في كنائسهم ومساجدهم، قاله الضحاك وابن زيد والنخعي.
الثاني: واجعلوا مساجدكم قِبل الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثالث: واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلة لكم في الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم قاله ابن بحر.
الرابع: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً، قاله سعيد بن جبير.
(النكت والعيون:2/179)
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية.
وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات.
ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة.
وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم الله إلى أمور:
- اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها -ما أمكن في ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
- اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد.
تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور.(في ظلال القرآن:4/178)
قال ابن عباس: كانوا خائفين من الظهور، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبلة، فيصلوا في بيوتهم.
وفيه دليل على أن الصلاة في المسجد أفضل إلا لعذر.
(أحكام القرآن، الكيا الهراسي:3/85)
شبهات وردود
قد يرى البعض تناقضا في صياغة الآية حيث ثنى (تبوءا) ثم جمع (اجعلوا، أقيموا) ثم أفرد (بشِّر).
وتوجيه ذلك: {تبوءا}: خاطب موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لأنهما المتبوعان.
{اجْعَلُواْ} و{أَقِيمُوا}: لهما ولقومهما لأن الصلاة واجبة على الجميع.
{وبشر}: خاص بموسى عليه الصلاة والسلام تشريفا له.
(المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام:6/339 بتصرف)
قال ابن القيم : هو من أحسن النظم وأبدعه فإنه ثنى أولا إذ كان موسى وهارون هما الرسولان المطاعان ويجب على بنى إسرائيل طاعة كل واحد منهما سواء، وإذا تبوءا البيوت لقومهما فهم تبع لهما ثم جمع الضمير فقال وأقيموا الصلاة لأن إقامتها فرض على الجميع ثم وحده في قوله وبشر المؤمنين أن موسى هو الأصل في الرسالة وأخوه ردءا ووزيرا وكما أرسلا برسالة واحدة كانا رسولا واحدا كقوله تعالى إني رسول رب العالمين فهذا الرسول هو الذي قيل له وبشر المؤمنين.
(بدائع الفوائد حـ4 صـ 10 ـ صـ 11) .
يقول عماد الشربيني في كتابه (كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها): وعن قبلة المسلمين الأولى، والتي لا ذكر لها في القرآن الكريم تراهم يتناقضون في تحديدها حسب استنباط كل منهم من القرآن الكريم.
فيذهب محمد نجيب إلى: أن القبلة الأولى هي بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بيت المقدس، ويعلل ذلك بأنه: "قد ورد في القرآن الكريم أن الله عز وجل أمر سيدنا موسى وسيدنا هارون باتخاذ بيوتهما قبلة لهما وللمؤمنين عندما يصلون متجهين إليها قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87] فكان لابد للرسول وللمسلمين معه أن يقتدوا بسيدنا موسى، ويتخذوا من بيت النبي الذى اختاره ليكون قبلة كما اتخذ موسى بيته قبلة، ويذهب إلى أن تلك القبلة لم تنسخ فيقول: "والأمر بالقبلة الأولى ليس أمراً قد انتهى أمره فلا لزوم له في القرآن إذ أنه أمر موجود ليتبعه المسلمون إذا اقتضى الأمر ذلك.
أ.هـ.
...
هذا في حين نرى مصطفى المهدوي يذهب إلى أن القبلة الأولى منسوخة، ويصرح بأن تلك القبلة الأولى لا علم له بها فيقول: "وكان الله تبارك وتعالى قد شاء أن يستقبل رسوله في صلاته قبلة أخرى، الله أعلم بها حيث جعلها من سنة نبيه ثم نسخها بقرآن".
...
أما أحمد صبحي؛ فيقر بتوجه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه نحو بيت المقدس فيقول: "فالعرب مسلمون ومشركون كانوا يتوجهون في الصلاة إلى الكعبة، وامتحنهم الله بأن أمرهم بالتوجه نحو القدس، وأطاع النبي والمؤمنون معه، وصبروا على أقاويل السفهاء، وبعد أن نجح النبي، والمؤمنون في الاختبار نزل الوحى يجيب برجاء رسول الله بالعودة إلى التوجه للبيت الحرام أ.هـ.
...
ولم يبين لنا أحمد صبحي من أين دليله في توجه النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه نحو بيت المقدس؟!!
ثم إن إقراره بذلك يتناقض مع عدم إيمانه بالنسخ في الشريعة الإسلامية بمعنى الحذف والإلغاء.
حيث نسخ القرآن الكريم ما ورد في السنة المطهرة من التوجه في الصلاة أول الأمر إلى بيت المقدس.
(كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها:1/592)
نصيحة
لابد أن يجعل البيت بيتاً يذكر الله فيه بأنواع الذكر ، سواءً كان ذكر القلب أو ذكر اللسان أو الصلوات أو قراءة القرآن في البيت، أو قراءة كتب العلم ، ومدارسة أنواع العلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» [رواه مسلم] وكثير من بيوت المسلمين اليوم -حقيقةً- ميتة بمعنى الكلمة؛ لأنها مليئة بالمنكرات والمعاصي، والألحان، والكذب، والغيبة، والنميمة، والاختلاط، والتبرج بين الأقارب من غير المحارم، أو الجيران الذين يدخلون في البيوت، كثير من البيوت مليئة بالمنكرات على جدرانها، وفي أرصفها، وفي خزاناتها، وفي أنواع اللهو المعمول فيها، هذه البيوت كيف تدخلها الملائكة ! البيت الذي يعج بالشياطين كيف تدخله الملائكة، البيت من هذا النوع كيف يمكن أن يكون مصدراً للإصلاح؟!
إذاً النصيحة: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» فأحيوا بيوتكم -رحمكم الله- بأنواع الذكر وأصنافه.[دروس الشيخ محمد المنجد:87/9]
د/ خالد سعد النجار
[email protected]