هذه الأيام مطايا [2،1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصف الله لحقيقة الدنيا

أيها الإخوة في الله! يقول الله عز وجل في كتابه العزيز مخبراً عن حقيقة هذه الحياة التي يبدو أننا لم نعرفها حتى الآن، وعرفنا منها ما لا يريده الله عز وجل منا، فجاء الأمر من الله عز وجل يصحح عقولنا ويلفت أنظارنا ويخبرنا عن حقيقة هذه الحياة؛ لأنه هو خالق هذه الحياة، فيقول عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ [الحديد:20] هذه خمسة أشياء عرفناها من هذه الدنيا، والله يقررنا على هذا بالأمر بالعلم بذلك، ولكن ما بعد هذه الحياة وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:20-21] فهذه الحياة الدنيا مضمار وميدان سباق، ولكن إلى أين؟! إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، لكن لما عاش الناس في غير الميدان الطبيعي الحقيقي لهم سابقوا ولكن إلى نار هاوية.

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21] لمن يا رب أعدت هذه الجنة؟ وهيئت وزينت؟ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

هذه الآيات تقرر حقيقة الدنيا، وحقيقة الآخرة، والمراد منا حينما أوجدنا الله في هذه الدار، إنها ميدان عمل، ومضمار تسابق، وإن الليل والنهار والشهر والسنة مطايا نركبها إلى الجنة أو إلى النار، بحسب السير، فمن الناس من قطع مراحل حياته متزوداً بغضب الله وسخطه ولعنته، يصبح على معصية الله، ويمسي على معصية الله، ويفتح عينه باستمرار في معصية الله، ويخصص أذنه على الدوام في سماع معاصي الله، ويتكلم بلسانه فيما يسخط الله، ويأكل بفمه وينزل في بطنه ما حرم الله، ويطأ بفرجه فيما حرم الله، ويمد يده إلى ما حرم الله، ويسير بقدمه ويسعى إلى ما يسخط الله، فهذا قد شد رحله وعزم وسافر إلى دار الدمار والنكال، أعاذنا الله وإياكم منها.

ومن الناس من عرف سر وجوده وحقيقة وجوده، وعلم أنه يناط به أمر:

قد هيأوك لأمر لو فطنت له     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

فشد راحلته، وحمل عصا السير على عاتقه، وشمر وقال: إليك ربي لا ألوي عن راحلتي إلا إليك، فقطع رحلة عمره متجهاً إلى خالقه، مسخراً كل ملكاته وإمكانياته في مرضاة الله، فهو مع الله في الليل والنهار والسر والجهار، يصلي مع الله، ويعمل في مكتبه وهو مع الله، ينام على ذكر الله، ويأكل ويأتي أهله باسم الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحب ويبغض في الله، ولا يصرف دقيقة من دقائق حياته الغالية إلا بما يعود عليه بالنفع في الدار الآخرة.

فهذا هنيئاً له هذا المسير، وليس بينه وبين الجنة إلا أن يقف في آخر مرحلة من مراحل هذه الحياة عند جدار يسمى الموت، وهناك يقال له: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

نسأل الله من فضله.

أثر مطية الدنيا على من امتطاها

عنوان المحاضرة (هذه الأيام مطايا) والناس راكبون عليها، ينزلون من مطية الليل ويركبون مطية النهار، وينزلون من مطية النهار ليركبوا مطية الليل، ومطية تحمل وأخرى تضع، حتى تنتهي الرحلة، وفي نهايتها يعامل الإنسان على ضوء ما عمل في هذه الرحلة.

هذه الأيام مطايا

أين العدة قبل المنايا

أين الأنفة من دار الأنايا

أين العزائم أرضيتم بالدنايا

إن بليَّة الهوى لا تشبه البلايا

وإن خطيئة الأحرار لا كالخطايا

يا مستورين ستظهر الخفايا

قضية الزمان لا كالقضايا

ملك الموت لا يقبل الوساطة ولا يأخذ الهدايا

أيها الشاب! ستسأل عن شبابك

أيها الكهل! تأهب لعتابك

أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك

يا مريض القلب! قف بباب الطبيب

يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب

لذ بالجناب قليلاً

وقف على الباب طويلاً

واستدرك العمر قبل رحيله

وأنت بداء التفريط عليلاً

يا من عليه نُذر الموت تدور

يا من هو مستأنس في المنازل والدور

لا بد من الرحيل إلى دار القبور

والتخلي عما أنت به مغرور

غرك والله الغَرور بفنون الخداع والغرور

يا مظلم القلب وما في القلب نور

الباطن خراب والظاهر معمور

إنما يُنظر إلى البواطن لا إلى الظهور

لو تفكرت في القبر المحفور

وما فيه من الدواهي والأمور

كانت العين منك تدور

يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه

يا معتقداً صحته في ما هو سقمه

يا من كلما زاد عمره زاد إثمه

يا قليل العبر وقد دق عظمه

يا قليل العقل وقد تيقن أن القبر عما قليل يضمه

كيف نعظ من قد نام قلبه لا عينه وجسمه

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك خطيئتك.

وقيل لـابن مسعود رضي الله عنه: [ما نستطيع قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم].

قال الأصمعي رحمه الله: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا أطوف بالكعبة بالليل، وكانت ليلة قمراء، إذ أنا بشاب ظريف الشمائل، حسن الوجه، عليه أثر الخير، وإذا هو متعلق بأستار الكعبة ويقول: [إلهي وسيدي ومولاي! غارت النجوم، وهدأت العيون، إلهي! أغلقت الملوك أبوابها، وقامت عليها حجابها، وبابك مفتوح للسائلين، جئت أنتظر رحمتك يا كريم] فما زال يردد هذا الدعاء حتى وقع مغشياً عليه، قال: فدنوت منه فرفعته فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال: فبكيت لبكائه، فوقعت قطرة من دمعي على خده فأفاق، وقال: من هذا الذي شغلني عن ذكر مولاي؟! فقلت له: يا ابن بنت رسول الله، أنا الأصمعي ، فما هذا البكاء وما هذا الجزع؟ أليس الله يقول فيكم أهل البيت: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33]؟ فقال: [هيهات هيهات يا أصمعي ، إن الله خلق النار لمن عصاه وإن كان حراً قرشياً، وخلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً] قال: فتركته على حاله ومضيت.

تُعرف حقيقة الدنيا بما يأتي بعدها

أيها الإخوة! هذه هي الدنيا، شباب ونضرة، ثم شيخوخة وهرم، قصور بعدها قبور، ونور بعده ظلام، وأنس بعده وحشة، وسعة في المنازل بعدها ضيق في القبور، ونعيم وطعام وشراب ولباس ولكن تنتهي أيام هذه الحياة، يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

هب أنهم تمتعوا بكل متاع، وتلذذوا بكل لذائذ الدنيا، ولكن ماتوا وقابلوا ربهم والله ساخط عليهم، فماذا يبقى معهم من النعيم، إن النعيم واللذائذ تفنى وتذهب وتبقى آثامها وتبعاتها، وإن الطاعات والمعاناة في إتيانها تذهب وتنتهي ويبقى ثوابها وأجورها، فلا تغتر يا أيها الأخ في الله! وأنت تسير في مراحل هذه الحياة، لا تغتر بالمعوقات والمثبطات، بل اسلك سبيل الصالحين، ولا يغرك قلة السالكين، واحذر من طريق الهالكين، ولا تغتر بكثرة السالكين وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116].

اسلك السبيل الواضح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستقيماً لا عوج فيه، ولا انحناءات ولا التواءات، بل محجة بيضاء ليلها كنهارها، ليس فيها غبش ولا ظلمة، لا يزيغ عنها إلا هالك.

صراط الله واحد، وسبل الشيطان متعددة

يقول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153] فالصراط واحد، والسبل المؤدية إلى النار كثيرة، أما الطريق المؤدي إلى الجنة واحد، ولكنه طريق متعدد المسارات، والناس يتسابقون فيه من كل مسار، والنهاية الجنة.

أما طريق النار فهي سبل ملتوية، وطرق متعددة على رأس كل منها شيطان، يزين للناس ويضلهم ويمنيهم، ويعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.

وأنت أيها المسلم في هذه الحياة تقف الآن على مفترق طرق: طريق الجنة وطريق النار، طريق الجنة قد نصبت لك أعلامه، ولاحت لك علاماته، وعليه لوحات إرشادية، بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللوحات الإرشادية التي على طريق الإسلام والجنة لوحات عظيمة، مكتوب فيها: الطريق فيه شيء من الصعوبة؛ أشواك، وحجارة، ومطبات... وغيرها، ولكن نهاية هذا الطريق جنة عرضها السماوات والأرض، فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فيها السرور والحبور، فيها القصور والحور، فيها أنهار اللبن والخمر والعسل وماء غير آسن: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] هذه طريق الجنة، وفي الطريق نوع من المعاناة؛ لأنها حفت بالمكاره: بالجهاد .. بالصلاة .. بالصيام .. بالزكاة .. بالحج .. بغض البصر .. بحفظ الفرج .. بصون السمع .. بحفظ اللسان .. بترك الحرام .. بفعل الطاعات.

لكن المؤمن إذا سار على هذا الطريق فإنه مأمور بالجدية، وبالمثابرة وبالتقوى، بحيث لا يضع يده ولا قدمه إلا في الطريق الصحيح، وهذا معنى التقوى: أن يشمر ويتقي الله.

ليل نهارٍ، وشهراً وسنة، وسنة بعد سنة، حتى يقف عند جدار الموت، ويقال له: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:70-72] ماذا تظن الجنة؟ حوش بقر! تريد اثنين وسبعين حورية، وملكاً ينفذه بصرك مسيرة مائة عام، وأن تنظر ببصرك إلى وجه الرحمن، وتسمع بأذنك خطابه، ويكون لك في الجنة قصور من ذهب ومن در مجوف، ومن تحت قصورك أنهار تجري ... تريد كل ذلك بالمعاصي والذنوب، وبالأماني والكذب، لا والله.

يقول ابن القيم رحمه الله:

والله لو أن القلوب سليمة     لتقطعت ألماً من الحرمان

لكنها سكرى بحب حياتهاالد     نيا وسوف تفيق بعد زمان

يا سلعة الرحمن لست رخيصة     بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها في     الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد     بين الأراذل سفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ     خطاب عنك وهم ذوو إيمان

يا سلعة الرحمن لولا أنها     حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف     وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة     ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي ترنو إلى     رب العلا في طاعة الرحمن

هذه امتحانات! وكلما كانت الرتبة أكثر كان الامتحان أصعب، أليس كذلك؟! الآن امتحانات الثانوية هل هي مثل امتحانات أول ابتدائي؟! وامتحانات الابتدائية هل هي مثل امتحانات الجامعة؟! كلما كانت العطية والغنيمة أكبر، كانت الأسئلة أكثر، لماذا؟

حتى لا يصل إلى هذا المكان إلا الأهل والكفء، أما لو أنها لمن جاء فكل واحد يريدها، لكن لا بد من الامتحان، ولا بد من الاختبار: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] أي: ليختبركم أيكم أحسن عملاً إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7] هذا الطريق الأول، طريق الجنة وفي هذا الطريق مع الصعوبة والمعاناة أربعة أعداء متربصون بهذا الإنسان:

إبليس والدنيا ونفسي والهوى     كيف النجاة وكلهم أعدائي

أيها الإخوة في الله! يقول الله عز وجل في كتابه العزيز مخبراً عن حقيقة هذه الحياة التي يبدو أننا لم نعرفها حتى الآن، وعرفنا منها ما لا يريده الله عز وجل منا، فجاء الأمر من الله عز وجل يصحح عقولنا ويلفت أنظارنا ويخبرنا عن حقيقة هذه الحياة؛ لأنه هو خالق هذه الحياة، فيقول عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ [الحديد:20] هذه خمسة أشياء عرفناها من هذه الدنيا، والله يقررنا على هذا بالأمر بالعلم بذلك، ولكن ما بعد هذه الحياة وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:20-21] فهذه الحياة الدنيا مضمار وميدان سباق، ولكن إلى أين؟! إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، لكن لما عاش الناس في غير الميدان الطبيعي الحقيقي لهم سابقوا ولكن إلى نار هاوية.

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21] لمن يا رب أعدت هذه الجنة؟ وهيئت وزينت؟ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

هذه الآيات تقرر حقيقة الدنيا، وحقيقة الآخرة، والمراد منا حينما أوجدنا الله في هذه الدار، إنها ميدان عمل، ومضمار تسابق، وإن الليل والنهار والشهر والسنة مطايا نركبها إلى الجنة أو إلى النار، بحسب السير، فمن الناس من قطع مراحل حياته متزوداً بغضب الله وسخطه ولعنته، يصبح على معصية الله، ويمسي على معصية الله، ويفتح عينه باستمرار في معصية الله، ويخصص أذنه على الدوام في سماع معاصي الله، ويتكلم بلسانه فيما يسخط الله، ويأكل بفمه وينزل في بطنه ما حرم الله، ويطأ بفرجه فيما حرم الله، ويمد يده إلى ما حرم الله، ويسير بقدمه ويسعى إلى ما يسخط الله، فهذا قد شد رحله وعزم وسافر إلى دار الدمار والنكال، أعاذنا الله وإياكم منها.

ومن الناس من عرف سر وجوده وحقيقة وجوده، وعلم أنه يناط به أمر:

قد هيأوك لأمر لو فطنت له     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

فشد راحلته، وحمل عصا السير على عاتقه، وشمر وقال: إليك ربي لا ألوي عن راحلتي إلا إليك، فقطع رحلة عمره متجهاً إلى خالقه، مسخراً كل ملكاته وإمكانياته في مرضاة الله، فهو مع الله في الليل والنهار والسر والجهار، يصلي مع الله، ويعمل في مكتبه وهو مع الله، ينام على ذكر الله، ويأكل ويأتي أهله باسم الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحب ويبغض في الله، ولا يصرف دقيقة من دقائق حياته الغالية إلا بما يعود عليه بالنفع في الدار الآخرة.

فهذا هنيئاً له هذا المسير، وليس بينه وبين الجنة إلا أن يقف في آخر مرحلة من مراحل هذه الحياة عند جدار يسمى الموت، وهناك يقال له: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

نسأل الله من فضله.

عنوان المحاضرة (هذه الأيام مطايا) والناس راكبون عليها، ينزلون من مطية الليل ويركبون مطية النهار، وينزلون من مطية النهار ليركبوا مطية الليل، ومطية تحمل وأخرى تضع، حتى تنتهي الرحلة، وفي نهايتها يعامل الإنسان على ضوء ما عمل في هذه الرحلة.

هذه الأيام مطايا

أين العدة قبل المنايا

أين الأنفة من دار الأنايا

أين العزائم أرضيتم بالدنايا

إن بليَّة الهوى لا تشبه البلايا

وإن خطيئة الأحرار لا كالخطايا

يا مستورين ستظهر الخفايا

قضية الزمان لا كالقضايا

ملك الموت لا يقبل الوساطة ولا يأخذ الهدايا

أيها الشاب! ستسأل عن شبابك

أيها الكهل! تأهب لعتابك

أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك

يا مريض القلب! قف بباب الطبيب

يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب

لذ بالجناب قليلاً

وقف على الباب طويلاً

واستدرك العمر قبل رحيله

وأنت بداء التفريط عليلاً

يا من عليه نُذر الموت تدور

يا من هو مستأنس في المنازل والدور

لا بد من الرحيل إلى دار القبور

والتخلي عما أنت به مغرور

غرك والله الغَرور بفنون الخداع والغرور

يا مظلم القلب وما في القلب نور

الباطن خراب والظاهر معمور

إنما يُنظر إلى البواطن لا إلى الظهور

لو تفكرت في القبر المحفور

وما فيه من الدواهي والأمور

كانت العين منك تدور

يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه

يا معتقداً صحته في ما هو سقمه

يا من كلما زاد عمره زاد إثمه

يا قليل العبر وقد دق عظمه

يا قليل العقل وقد تيقن أن القبر عما قليل يضمه

كيف نعظ من قد نام قلبه لا عينه وجسمه

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك خطيئتك.

وقيل لـابن مسعود رضي الله عنه: [ما نستطيع قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم].

قال الأصمعي رحمه الله: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا أطوف بالكعبة بالليل، وكانت ليلة قمراء، إذ أنا بشاب ظريف الشمائل، حسن الوجه، عليه أثر الخير، وإذا هو متعلق بأستار الكعبة ويقول: [إلهي وسيدي ومولاي! غارت النجوم، وهدأت العيون، إلهي! أغلقت الملوك أبوابها، وقامت عليها حجابها، وبابك مفتوح للسائلين، جئت أنتظر رحمتك يا كريم] فما زال يردد هذا الدعاء حتى وقع مغشياً عليه، قال: فدنوت منه فرفعته فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال: فبكيت لبكائه، فوقعت قطرة من دمعي على خده فأفاق، وقال: من هذا الذي شغلني عن ذكر مولاي؟! فقلت له: يا ابن بنت رسول الله، أنا الأصمعي ، فما هذا البكاء وما هذا الجزع؟ أليس الله يقول فيكم أهل البيت: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33]؟ فقال: [هيهات هيهات يا أصمعي ، إن الله خلق النار لمن عصاه وإن كان حراً قرشياً، وخلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً] قال: فتركته على حاله ومضيت.

أيها الإخوة! هذه هي الدنيا، شباب ونضرة، ثم شيخوخة وهرم، قصور بعدها قبور، ونور بعده ظلام، وأنس بعده وحشة، وسعة في المنازل بعدها ضيق في القبور، ونعيم وطعام وشراب ولباس ولكن تنتهي أيام هذه الحياة، يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

هب أنهم تمتعوا بكل متاع، وتلذذوا بكل لذائذ الدنيا، ولكن ماتوا وقابلوا ربهم والله ساخط عليهم، فماذا يبقى معهم من النعيم، إن النعيم واللذائذ تفنى وتذهب وتبقى آثامها وتبعاتها، وإن الطاعات والمعاناة في إتيانها تذهب وتنتهي ويبقى ثوابها وأجورها، فلا تغتر يا أيها الأخ في الله! وأنت تسير في مراحل هذه الحياة، لا تغتر بالمعوقات والمثبطات، بل اسلك سبيل الصالحين، ولا يغرك قلة السالكين، واحذر من طريق الهالكين، ولا تغتر بكثرة السالكين وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116].

اسلك السبيل الواضح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستقيماً لا عوج فيه، ولا انحناءات ولا التواءات، بل محجة بيضاء ليلها كنهارها، ليس فيها غبش ولا ظلمة، لا يزيغ عنها إلا هالك.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع