خطب ومحاضرات
انشراح الصدر [1،2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالصحة والعافية في الأبدان، ولك الحمد بالأمن والطمأنينة والاستقرار في الأوطان، ولك الحمد بالأرزاق التي تُجلَب رغداً لنا من كل مكان، اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا، من قديم أو حديث، أو شاهد أو غائب، أو حي أو ميت، اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولا حول ولا قوة إلا بك.
أيها الإخوة في الله! إن من أجلِّ النعم ومن أعظم المنن على العبد في هذه الحياة، أن يشرح الله صدره للإسلام، نعمة ليست كسائر النعم، لأن جميع النعم تؤدي دوراً ثم تنتهي آثارها، أما نعمة شرح الصدر للإسلام فهي نعمة تلاحقك آثارها في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وفي عرصات القيامة حتى تدخل الجنة.
فالمال نعمة -ولا أحد ينكر هذا- وهو مما حبب إلى الناس، ولكن ينفع فقط إلى أن يموت الإنسان فإذا مات فلا مال له، والمال للورثة من بعده.
والمنصب نعمة، الأمر والنهي والتكريم والتبجيل نعمة، وكل إنسان يحبها، ولكنها نعمة تنتهي بانتهاء المنصب، فإذا انتهى المنصب انتهت النعمة.
والعافية نعمة، والأولاد نعمة، والزوجات نعمة، وكل متع هذه الحياة في الغالب نعم، ولكنها نعم وقتية زائلة تنفع ثم تنتهي، ولكن النعمة الكبرى هي النعمة التي لا تنتهي، ولا تنقطع آثارها، هي: (نعمة شرح الصدر لهذا الإسلام).
امتنان الله على رسوله بنعمة شرح الصدر
ناداه باسم النبوة والرسالة أكرم درجة على وجه الأرض، وهذا النبي الكريم امتن الله عليه بنعمة شرح الصدر، فقال له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] في معرض النعم، وجاءت هذه بعد قصة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ضاق لها صدره في هذه الأرض؛ لأن الله أخر الوحي عنه خمس عشرة ليلة، حينما جاء كفار قريش وأرسلوا مندوبين إلى يهود المدينة، وقالوا: إنكم قوم أهل كتاب، وقد ظهر فينا رجل يزعم إنه نبي، ونريد أن نسألكم: هل هو نبي أم لا؟ فقال اليهود عندما رجعوا إلى كتبهم: اسألوه ثلاثة أسئلة، فإن أعلمكم بالجواب فهو نبي، وإلا فهو كذاب متقول، قالوا: وما هي الأسئلة؟ قالوا: اسألوه عن رجل صالح طاف الأرض، واسألوه عن فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، واسألوه عن الروح، فأخذوا الأسئلة، وجاءوا إلى مكة، وقابلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقدموا له الأسئلة، وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يجيب إلا بما يوحى إليه من ربه، ولو تقدم بكلمة واحدة أو تأخر عن الوحي لعاقبه الله، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [الإسراء:73] إلى قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] بسبب الافتراء، ولكنه حاشاه صلى الله عليه وسلم، ولما قدمت له الأسئلة قال لهم: تعالوا في الغد، ونسي أن يقول: إن شاء الله، من بالغ اعتماده وثقته بربه أنه لن يتخلى عنه، خصوصاً في مثل هذا الموقف الحرج الذي يترتب عليه إسلام أهل مكة أو كفرهم، وهذا موقف مصيري جداً.
والله يربي نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلم تبارك وتعالى من هو الذي سيسلم ومن هو الذي لن يسلم، ويعلم أنهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146] فالقضية ليست قضية عدم قناعة إنما هي عدم رضا بالدين أصلاً، ويرون الآيات الدالات الواضحات، يقول الله تعالى فيهم: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51].
وتأملوا في القصة التالية مدى تأثرهم بالقرآن، يذكر أصحاب السير أنه اجتمع الأخنس بن شريق وأبو جهل والوليد بن المغيرة، ويأتون -وهم من صناديد قريش- في الليل ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسحرهم ويجذبهم ببلاغته وبيانه وفصاحته؛ لأنهم ملوك البيان وأساطين الفصاحة، وهم يتلذذون بالكلام العظيم، وأتوا يسمعون، فتلاقوا في الطريق، فقال بعضهم لبعض: أنتم الكبار، فإذا رآكم سفهاء قريش فماذا يصنعون؟! قال الأخنس بن شريق : نتعاهد على ألا نرجع، فتعاهدوا على ألا يرجعوا، وفي الليلة الثانية إذا بهم يتقابلون، وقد نقضوا العهد وجاءوا لسماع القرآن، لم يستطيعوا أن يصبروا عن بلاغة القرآن؛ لأنهم أصحاب تذوق في هذا المجال، فقال الأخنس : ما دمنا نحن العقلاء ونتعاهد ونخلف، فلماذا لا نسلم، ما يضرنا لو أسلمنا؟ فقام أبو جهل -عليه من الله ما يستحق، فرعون هذه الأمة- وقال: والله لا نسلم، قال: ولِمَ؟ قال: نحن سابقنا بني هاشم في المجد حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي، فمتى يصير هذا منا، والله لا نسلم!!
عنده عنجهية وعناد وإلا فهو واثق أنه رسول الله.
وأبو طالب الذي يلفظ أنفاسه على ملة عبد المطلب يعرف الحق، وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمـد من خير أديان البرية دينا |
هو على يقين من صدقه ويدافع عنه، ولكن رأسه (يابس) وصلب، على الكفر ما تزحزح -والعياذ بالله- فهم لا يكذبون الرسول؛ لأنهم يعلمون صدقه، ولكنه إنكار وجحود وتكبر وعناد، ولهذا قال الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
تأخر الإجابة عن أسئلة قريش والحكمة من ذلك
ونالوا من الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، ولكنه صامت وصابر، ومر اليوم الثاني، والليلة الثالثة، والرابعة، حتى مر خمسة عشر يوماً وليلة والوحي منقطع لا يأتيه، والرسول صلى الله عليه وسلم في حرج لا يعلمه إلا الله، ثم بعد ذلك ينزل الفرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول سورة الكهف، وهي تبدأ بالحمد، وبذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله، وتقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:1-5] ثم قال الله تعالى له: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6] أي: تريد أن تهلك نفسك إذ لم يؤمنوا ولم يهتدوا، لا. لا تهلك نفسك، فالمصير والمرجع إلينا، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف:6-8] ثم بدأ الله تعالى بالإجابة عن الأسئلة:
الجواب عن السؤال الأول: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف:9] هؤلاء الشباب المؤمنون إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ... [الكهف:13] إلى آخر القصة.
وجاء الجواب عن السؤال الثاني: وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ... [الكهف:83] الآيات.
وجاء الجواب عن السؤال الثالث في سورة الإسراء قبل سورة الكهف: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].
إكرام الله للرسول صلى الله عليه وسلم برفع ذكره
سبحان الله! كيف العذر؟! وما أعظم هذا الرسول عند الله! يقسم الله تعالى له بالضحى، والليل إذا سجى: أي: غطى الأكوان كلها، والضحى: حين شروق الشمس وانتشار الضياء، والليل إذا سجى أي: تسجى به الأرض -أي: مثل الغطاء- ما ودعك أي: ما تركك ولا قلاك ولا هجرك، ولكن هناك شيء محذوف فما هو؟
هو أن يربيك الله سبحانه وتعالى حتى لا تغلط فتقول غداً أفعل... ولكن قل: إن شاء الله؛ لأنك لا تعلم ما يكون غداً، قال الله تعالى له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] الأمر بيد الله وليس بيدك، اربط كل شيء في حياتك بمشيئة الله، أما أن تكون لك مشيئة خاصة منفردة عن مشيئة الله فلا، ولهذا قال واحد من الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: أجعلتني لله نداً، بل قل: ما شاء الله وحده) ما لي مشيئة إلا تحت مشيئة الله تبارك وتعالى، فقل: ما شاء الله وحده، وهذا من ضبط العقيدة، ومن سد ذرائع الشرك، فلا تقل لأحد: ما لي إلا الله وأنت! أو أنا متكل على الله وعليك! تعتقد أنه يضر وينفع؛ فلا ضار ولا نافع ولا معطي ولا مانع إلا الله.
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5] ثم امتن الله تعالى عليه بالنعم فقال له: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6-8] ثم بعد ذلك تنزل سورة الشرح يقول الله تعالى له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4] ليس على وجه البسيطة -ولن يكون إلى يوم القيامة- أعلى ذكراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فأكرم أهل الأرض وأكرم الخلق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهل يوجد الآن في الأرض أعظم ذكراً منه؟ فالمسلمون اليوم عددهم ألف مليون مسلم على وجه الأرض، وكل المصلين يصلون عليه كل يوم، وكل فرد منهم يصلي عليه ويشهد أنه رسول الله عدة مرات في الأذان والتشهد وغيرها، ولا تقبل صلاته إلا إذا قال في تشهده: (التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
وكم مؤذن يرتفع صوته ويشق عنان السماء في كل يوم! وهو يقول في أذانه: (أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله) فهل هناك أعظم من هذا الذكر؟ وهل هناك في الخلق أعظم ذكراً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا يوجد، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر حياً ويذكر ميتاً وكلما صلي عليه -صلوات الله وسلامه عليه صلاةً دائمةً متتابعة ما تتابع الليل والنهار- امتن الله عليه بالرفعة والمكانة العظيمة.
امتن الله بها على خير خلقه وأكرم رسله؛ خير من وطئ الثرى، وخير من أقلت الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، نادى الله كل الأنبياء في القرآن بأسمائهم: يا نوح .. يا إبراهيم .. يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ... [القصص:31] يا عيسى، كلهم بالاسم إلا محمداً لم يقل الله له: يا محمد، بل قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب:45] وقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67].
ناداه باسم النبوة والرسالة أكرم درجة على وجه الأرض، وهذا النبي الكريم امتن الله عليه بنعمة شرح الصدر، فقال له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] في معرض النعم، وجاءت هذه بعد قصة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ضاق لها صدره في هذه الأرض؛ لأن الله أخر الوحي عنه خمس عشرة ليلة، حينما جاء كفار قريش وأرسلوا مندوبين إلى يهود المدينة، وقالوا: إنكم قوم أهل كتاب، وقد ظهر فينا رجل يزعم إنه نبي، ونريد أن نسألكم: هل هو نبي أم لا؟ فقال اليهود عندما رجعوا إلى كتبهم: اسألوه ثلاثة أسئلة، فإن أعلمكم بالجواب فهو نبي، وإلا فهو كذاب متقول، قالوا: وما هي الأسئلة؟ قالوا: اسألوه عن رجل صالح طاف الأرض، واسألوه عن فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، واسألوه عن الروح، فأخذوا الأسئلة، وجاءوا إلى مكة، وقابلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقدموا له الأسئلة، وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يجيب إلا بما يوحى إليه من ربه، ولو تقدم بكلمة واحدة أو تأخر عن الوحي لعاقبه الله، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [الإسراء:73] إلى قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] بسبب الافتراء، ولكنه حاشاه صلى الله عليه وسلم، ولما قدمت له الأسئلة قال لهم: تعالوا في الغد، ونسي أن يقول: إن شاء الله، من بالغ اعتماده وثقته بربه أنه لن يتخلى عنه، خصوصاً في مثل هذا الموقف الحرج الذي يترتب عليه إسلام أهل مكة أو كفرهم، وهذا موقف مصيري جداً.
والله يربي نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلم تبارك وتعالى من هو الذي سيسلم ومن هو الذي لن يسلم، ويعلم أنهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146] فالقضية ليست قضية عدم قناعة إنما هي عدم رضا بالدين أصلاً، ويرون الآيات الدالات الواضحات، يقول الله تعالى فيهم: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51].
وتأملوا في القصة التالية مدى تأثرهم بالقرآن، يذكر أصحاب السير أنه اجتمع الأخنس بن شريق وأبو جهل والوليد بن المغيرة، ويأتون -وهم من صناديد قريش- في الليل ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسحرهم ويجذبهم ببلاغته وبيانه وفصاحته؛ لأنهم ملوك البيان وأساطين الفصاحة، وهم يتلذذون بالكلام العظيم، وأتوا يسمعون، فتلاقوا في الطريق، فقال بعضهم لبعض: أنتم الكبار، فإذا رآكم سفهاء قريش فماذا يصنعون؟! قال الأخنس بن شريق : نتعاهد على ألا نرجع، فتعاهدوا على ألا يرجعوا، وفي الليلة الثانية إذا بهم يتقابلون، وقد نقضوا العهد وجاءوا لسماع القرآن، لم يستطيعوا أن يصبروا عن بلاغة القرآن؛ لأنهم أصحاب تذوق في هذا المجال، فقال الأخنس : ما دمنا نحن العقلاء ونتعاهد ونخلف، فلماذا لا نسلم، ما يضرنا لو أسلمنا؟ فقام أبو جهل -عليه من الله ما يستحق، فرعون هذه الأمة- وقال: والله لا نسلم، قال: ولِمَ؟ قال: نحن سابقنا بني هاشم في المجد حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي، فمتى يصير هذا منا، والله لا نسلم!!
عنده عنجهية وعناد وإلا فهو واثق أنه رسول الله.
وأبو طالب الذي يلفظ أنفاسه على ملة عبد المطلب يعرف الحق، وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمـد من خير أديان البرية دينا |
هو على يقين من صدقه ويدافع عنه، ولكن رأسه (يابس) وصلب، على الكفر ما تزحزح -والعياذ بالله- فهم لا يكذبون الرسول؛ لأنهم يعلمون صدقه، ولكنه إنكار وجحود وتكبر وعناد، ولهذا قال الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
انتظروا أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، وانقطع عنه الوحي تلك الليلة، وفي اليوم الثاني جاءوا إليه، وقالوا: أخبرنا عن إجابة الأسئلة الثلاثة، قال: ما جاءني وحي من الله، فأقاموا الدنيا وما أقعدوها!! وأرغوا وأزبدوا، وقالوا: بطل سحر ابن أبي كبشة -وأبو كبشة هو زوج حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم به ويقولون: ابن أبي كبشة-.
ونالوا من الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، ولكنه صامت وصابر، ومر اليوم الثاني، والليلة الثالثة، والرابعة، حتى مر خمسة عشر يوماً وليلة والوحي منقطع لا يأتيه، والرسول صلى الله عليه وسلم في حرج لا يعلمه إلا الله، ثم بعد ذلك ينزل الفرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول سورة الكهف، وهي تبدأ بالحمد، وبذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله، وتقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:1-5] ثم قال الله تعالى له: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6] أي: تريد أن تهلك نفسك إذ لم يؤمنوا ولم يهتدوا، لا. لا تهلك نفسك، فالمصير والمرجع إلينا، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف:6-8] ثم بدأ الله تعالى بالإجابة عن الأسئلة:
الجواب عن السؤال الأول: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف:9] هؤلاء الشباب المؤمنون إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ... [الكهف:13] إلى آخر القصة.
وجاء الجواب عن السؤال الثاني: وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ... [الكهف:83] الآيات.
وجاء الجواب عن السؤال الثالث في سورة الإسراء قبل سورة الكهف: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].
وينزل الفرج بعدها بقوله تبارك وتعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3].
سبحان الله! كيف العذر؟! وما أعظم هذا الرسول عند الله! يقسم الله تعالى له بالضحى، والليل إذا سجى: أي: غطى الأكوان كلها، والضحى: حين شروق الشمس وانتشار الضياء، والليل إذا سجى أي: تسجى به الأرض -أي: مثل الغطاء- ما ودعك أي: ما تركك ولا قلاك ولا هجرك، ولكن هناك شيء محذوف فما هو؟
هو أن يربيك الله سبحانه وتعالى حتى لا تغلط فتقول غداً أفعل... ولكن قل: إن شاء الله؛ لأنك لا تعلم ما يكون غداً، قال الله تعالى له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] الأمر بيد الله وليس بيدك، اربط كل شيء في حياتك بمشيئة الله، أما أن تكون لك مشيئة خاصة منفردة عن مشيئة الله فلا، ولهذا قال واحد من الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: أجعلتني لله نداً، بل قل: ما شاء الله وحده) ما لي مشيئة إلا تحت مشيئة الله تبارك وتعالى، فقل: ما شاء الله وحده، وهذا من ضبط العقيدة، ومن سد ذرائع الشرك، فلا تقل لأحد: ما لي إلا الله وأنت! أو أنا متكل على الله وعليك! تعتقد أنه يضر وينفع؛ فلا ضار ولا نافع ولا معطي ولا مانع إلا الله.
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5] ثم امتن الله تعالى عليه بالنعم فقال له: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6-8] ثم بعد ذلك تنزل سورة الشرح يقول الله تعالى له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4] ليس على وجه البسيطة -ولن يكون إلى يوم القيامة- أعلى ذكراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فأكرم أهل الأرض وأكرم الخلق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهل يوجد الآن في الأرض أعظم ذكراً منه؟ فالمسلمون اليوم عددهم ألف مليون مسلم على وجه الأرض، وكل المصلين يصلون عليه كل يوم، وكل فرد منهم يصلي عليه ويشهد أنه رسول الله عدة مرات في الأذان والتشهد وغيرها، ولا تقبل صلاته إلا إذا قال في تشهده: (التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
وكم مؤذن يرتفع صوته ويشق عنان السماء في كل يوم! وهو يقول في أذانه: (أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله) فهل هناك أعظم من هذا الذكر؟ وهل هناك في الخلق أعظم ذكراً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا يوجد، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر حياً ويذكر ميتاً وكلما صلي عليه -صلوات الله وسلامه عليه صلاةً دائمةً متتابعة ما تتابع الليل والنهار- امتن الله عليه بالرفعة والمكانة العظيمة.
وقد سأل هذه النعمة -وهي انشراح الصدر- نبي الله موسى عليه السلام، وهو نبي من أولي العزم، وورد في فضله آيات كثيرة وأحاديث، منها قول الله عز وجل: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144].. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] ومنها قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] وهو رسول نبي من أولي العزم من الرسل، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (إني أبعث فإذا بموسى آخذ بساق العرش، فما أدري أبُعِثَ قبلي أم أنا قبله) وذلك من فضله، ولكن الصحيح أن أول من يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب اللواء يوم العرض صلى الله عليه وسلم.
وهو صاحب الشفاعة العظمى، حتى أن موسى يوم القيامة يأتي إليه الناس، ويقول لهم: (نفسي نفسي، إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً).
فيقول: أذنبت ذنباً، ولي سابقة لا أستطيع أن أقابل ربي بها، ولا أستطيع أن أتكلم شافعاً لديه، وكذلك إبراهيم يقول: (لا أستطيع) وعيسى يقول: (لا أستطيع، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم) قال: (فآتي فأسجد تحت العرش، وأثني على الله، فيقال: يا محمد! سل تعطه واشفع تشفع...).
موسى عليه السلام كلفه الله تعالى بحمل رسالة عظيمة، وهي دعوة طاغية من طغاة الأرض طغى وبغى وتجبر وادعى أنه الرب الأعلى، وقال لأهل مصر : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فهل هناك أعظم من هذا؟
وبعد ذلك يقول: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51].. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] وهو -والله- المهين.
خرج موسى من مصر هارباً بعد أن قتل نفساً، خرج وفرعون غاضب عليه لفعلته! ثم يقول الله له: اذهب إلى فرعون -فيا لله ما أعظمها من مهمة! اذهب إلى فرعون ..- هذا الذي يقول بأنه رب، وأَخْبِرْه أنه عبد، وادعه إلى عبودية الله وحده؛ فشقت عليه المهمة، ولكن لا خيار له في أمر الله، فاعتذر وقال: يا رب! أخي أفصح مني لساناً: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء:13] فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص:34] وبعد أن كلفه الله بالرسالة قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] أي: أعطني مؤهلات أستطيع بها أن أمارس هذه المهمة العظيمة، إن أعظم وسيلة تعينك على القيام بمهمة الدعوة أن يشرح الله صدرك للإسلام: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:25-32].
أذلك من أجل أن نبني عمارة أو ننشئ مؤسسة؟ كما يقول الواحد منا: أنت أخي وأنا أخوك، تعال نتعاون على الدنيا، نشتري مزرعة ونجعل فيها (رشاشات مياه)، وعشرين برجاً، ونعمل مؤسسة، ونشاطاً متعدداً، ولوحةً طولها عشرون متراً، من بداية العمارة إلى نهايتها (مؤسسة التجارة والمقاولات والمواد الغذائية والملبوسات والعطر والسباكة) ما ترك للمسلمين شيئاً، أخذ الدنيا كلها في راحة يده، لا يريد أحداً أن يُرزق معه -والعياذ بالله- إذا قيل له: دع الناس يربحون معك، فسيقول: لا؛ أريدها كلها، تدخل دكانه من باب، وتخرج من الباب الثاني، تجد الدنيا كلها في دكانه (سوبر ماركت) سوق مركزي، حتى أغلق أصحاب الدكاكين الصغيرة دكاكينهم، كان الناس يُرزقُ بعضُهُمْ من بعض، دكان بجوار دكان، وألف دكان يستفيد منها ألف بيت، الآن ألف دكان أصبحت في دكان واحد يستفيد منها بيت واحد، يدخل الزبون من باب ويخرج من الثاني، كما يقولون: من الملعقة إلى ... كل شيء، واللوحة العريضة في الواجهة يريد الدنيا بأجمعها.
لكن موسى يقول: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:31-32] لماذا؟
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى... [طه:33-37] إلى نهاية القصة.
فشرح الله تعالى صدره للقيام بهذه المهمة العظيمة.
وأنت تدرك -يا أخي- مدى وعظم أهمية الرسالة والدعوة، مثلاً يوم تجد نفسك عاجزاً عن هداية أهلك في بيتك، تمارس كل وسائل الدعوة، مع أمك وأبيك، وأختك وأخيك، وابنتك وزوجتك، وشخص يستجيب وعشرة لا يستجيبون، وهذا نبي يقول الله له: اذهب إلى فرعون ويقول: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا [طه:45] فهذا طاغية ملعون، كيف نقول له: أنت عبد وهو يدعي أنه رب؟ كيف يقبل منا الكلام؟ إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] فجاءهم الأمان من الله قال: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
اذهبا فقط والمظلة الربانية تحميكما، والعناية الإلهية معكما، فلا تخافا: إِنَّنِي مَعَكُمَا [طه:46] ومن كان الله معه فلا يخاف.
وإذا العناية لاحظتك عيونهـا نم فالمخاوف كلهن أمان |
انشراح صدر الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف
يخرج من مكة ويذهب إلى الطائف ، وكان يلاحقه عمه أبو لهب بن عبد المطلب -والرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- وهذا الخبيث متخصص في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من الناس يدعوهم إلى الله وإذا انتهى صلى الله عليه وسلم، قال لهم أبو لهب: من أنا؟ قالوا: أنت عمه، قال: والله! أنا أدرى به منكم، والله لو كان صادقاً لكنتُ أول من يصدقه، ولكنه كذاب، قالوا: مَن كذبه عمه كذبناه!
فـأبو لهب عدو لله ملعون، أنزل الله فيه سورة تتلى إلى يوم القيامة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] أي: خسرت يداه، وبارت صفقته، وعليه من الله ما يستحق.
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عن طريق مر الظهران، وقطع المسافة في يومين، ونحن نقطعها اليوم في ساعة بالسيارة الأمريكية، ويقول الشخص منا إذا نزل: ظهري يؤلمني، وإذا قيل له: لماذا؟
قال: والله! أنا كنت مسافراً من الطائف!! عجباً؛ تقول هذا وأنت قاعد على السيارة وتزعم أن ظهرك يؤلمك، سبحان الله! وأنت في سيارة مريحة تنزل وتقول: إن ظهرك يؤلمك وأنت جالس، وهذا الرسول عليه الصلاة والسلام يمشي في الجبال الشاهقة، وهو أيضاً مطارد مكذب، حافي القدم، خاوي البطن، ليس معه شيء. (ولما وقف على سوق عكاظ والناس موجودون في السوق، صعد على حجر ونادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا) فلما انتهى قام اللعين أبو لهب وراءه، وقال: يا قوم! من هذا؟ قالوا: ابن أخيك، قال: ومن أنا؟ قالوا: أنت عمه، قال: لو كان صادقاً ما كذبته أنا، أتصدقونه وأنا عمه أعلم به، قالوا: من كذبه عمه كذبناه!
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يريد النصرة منهم والدخول في الإسلام، لكنهم رفضوا دعوته ولم ينصروه بل أغروا به السفهاء، وجمعوا أطفالهم وقالوا لهم: خذوا الحجارة واطردوا هذا، وجاءوا وراءه صلى الله عليه وسلم يرمون ظهره وأقدامه بالحجارة حتى أُدميت رجلاه، وينزل وهو مكسور القلب، ويجلس تحت جبل ويقول دعاءً عظيماً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) نبي يوحى إليه، ويكذبه هؤلاء الكفار: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى صديق ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي) يقول: إن كان ما يأتيني ليس ناتجاً عن غضبك فلا أبالي، ولكن أخشى أن يكون هذا بغضب منك يا ربِّ! ثم قال: (غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
كلام عظيم من صدر منشرح بالإيمان، ليس لديه أدنى شك في موعود الله، وبعد أن عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن انشراح صدره ينزل جبريل عليه السلام في تلك اللحظات، ويقول: (يا محمد! السلام يقرؤك السلام، ويقول: هذا ملك الجبال، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل) والأخشبان هما الجبلان اللذان في مكة، يعني: يضع أحدهما على الآخر فيقضي على أهل مكة جميعاً، لو كان صلى الله عليه وسلم رجلاً يحب الانتقام لنفسه بعد هذه المواقف المؤلمة الصعبة لقال: نعم. هؤلاء ليس فيهم خير، مثل ما يقوله المتقولون، الذين إذا تعرض أحدهم لأي أذى في سبيل الدعوة غضب، وذهب يشتكي، وذهب يسب ويشتم، ولا يسمح ولا يحلم ولا يتنازل، ويقول: لماذا نتعرض للأذى، ونحن على حق؟!
يا أخي! هل عرضك أعظم من عرض النبي صلى الله عليه وسلم؟! فمن أنت قياساً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
فلا تشتك إذا تكلم عليك، ولا تضجر إذا كذبت، اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، هذه طريق الأنبياء، ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لا. إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده) فنظرة النبي صلى الله عليه وسلم عالية، وليست نظرة عند أقدامه، بل هي نظرة بعيدة المدى تتجاوز ذلك الجيل، وقال: إني أرجو الله أن يخرج من أصلاب هؤلاء الكفار من يعبده، وبالفعل فقد تحقق للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرجوه، وأخرج الله من صلب أبي جهل : عكرمة ، ومن صلب الوليد بن المغيرة : خالداً ، ومن صلب العاص بن وائل : عَمْراً ، ومن صلب أبي طالب : علياً ، وهكذا الصحابة الشباب جلُّهم أو أكثرهم جاءوا من أصلاب الكفار، وهذه هي نظرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله! مَنْ يقول هذا الموقف إلا من شرح الله صدره للإسلام؟!
انشراح صدر الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة
في أثناء تتبعهم وصلوا إلى الغار الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، فيقول أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا) يقول: هم الآن فوقنا لو خفض أحدهم رأسه لرآنا مباشرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا
من أين جاء هذا الكلام؟ هذا من شرح الصدر: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] وهذه نعمة لا تعدلها نعمة، وفي ضدها نقمة ومصيبة، وهي قسوة القلب.
شرح الله صدر الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف تضيق فيها صدور الرجال، ولكن صدره كان منشرحاً:
يخرج من مكة ويذهب إلى الطائف ، وكان يلاحقه عمه أبو لهب بن عبد المطلب -والرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- وهذا الخبيث متخصص في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من الناس يدعوهم إلى الله وإذا انتهى صلى الله عليه وسلم، قال لهم أبو لهب: من أنا؟ قالوا: أنت عمه، قال: والله! أنا أدرى به منكم، والله لو كان صادقاً لكنتُ أول من يصدقه، ولكنه كذاب، قالوا: مَن كذبه عمه كذبناه!
فـأبو لهب عدو لله ملعون، أنزل الله فيه سورة تتلى إلى يوم القيامة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] أي: خسرت يداه، وبارت صفقته، وعليه من الله ما يستحق.
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عن طريق مر الظهران، وقطع المسافة في يومين، ونحن نقطعها اليوم في ساعة بالسيارة الأمريكية، ويقول الشخص منا إذا نزل: ظهري يؤلمني، وإذا قيل له: لماذا؟
قال: والله! أنا كنت مسافراً من الطائف!! عجباً؛ تقول هذا وأنت قاعد على السيارة وتزعم أن ظهرك يؤلمك، سبحان الله! وأنت في سيارة مريحة تنزل وتقول: إن ظهرك يؤلمك وأنت جالس، وهذا الرسول عليه الصلاة والسلام يمشي في الجبال الشاهقة، وهو أيضاً مطارد مكذب، حافي القدم، خاوي البطن، ليس معه شيء. (ولما وقف على سوق عكاظ والناس موجودون في السوق، صعد على حجر ونادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا) فلما انتهى قام اللعين أبو لهب وراءه، وقال: يا قوم! من هذا؟ قالوا: ابن أخيك، قال: ومن أنا؟ قالوا: أنت عمه، قال: لو كان صادقاً ما كذبته أنا، أتصدقونه وأنا عمه أعلم به، قالوا: من كذبه عمه كذبناه!
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يريد النصرة منهم والدخول في الإسلام، لكنهم رفضوا دعوته ولم ينصروه بل أغروا به السفهاء، وجمعوا أطفالهم وقالوا لهم: خذوا الحجارة واطردوا هذا، وجاءوا وراءه صلى الله عليه وسلم يرمون ظهره وأقدامه بالحجارة حتى أُدميت رجلاه، وينزل وهو مكسور القلب، ويجلس تحت جبل ويقول دعاءً عظيماً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) نبي يوحى إليه، ويكذبه هؤلاء الكفار: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى صديق ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي) يقول: إن كان ما يأتيني ليس ناتجاً عن غضبك فلا أبالي، ولكن أخشى أن يكون هذا بغضب منك يا ربِّ! ثم قال: (غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
كلام عظيم من صدر منشرح بالإيمان، ليس لديه أدنى شك في موعود الله، وبعد أن عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن انشراح صدره ينزل جبريل عليه السلام في تلك اللحظات، ويقول: (يا محمد! السلام يقرؤك السلام، ويقول: هذا ملك الجبال، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل) والأخشبان هما الجبلان اللذان في مكة، يعني: يضع أحدهما على الآخر فيقضي على أهل مكة جميعاً، لو كان صلى الله عليه وسلم رجلاً يحب الانتقام لنفسه بعد هذه المواقف المؤلمة الصعبة لقال: نعم. هؤلاء ليس فيهم خير، مثل ما يقوله المتقولون، الذين إذا تعرض أحدهم لأي أذى في سبيل الدعوة غضب، وذهب يشتكي، وذهب يسب ويشتم، ولا يسمح ولا يحلم ولا يتنازل، ويقول: لماذا نتعرض للأذى، ونحن على حق؟!
يا أخي! هل عرضك أعظم من عرض النبي صلى الله عليه وسلم؟! فمن أنت قياساً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
فلا تشتك إذا تكلم عليك، ولا تضجر إذا كذبت، اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، هذه طريق الأنبياء، ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لا. إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده) فنظرة النبي صلى الله عليه وسلم عالية، وليست نظرة عند أقدامه، بل هي نظرة بعيدة المدى تتجاوز ذلك الجيل، وقال: إني أرجو الله أن يخرج من أصلاب هؤلاء الكفار من يعبده، وبالفعل فقد تحقق للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرجوه، وأخرج الله من صلب أبي جهل : عكرمة ، ومن صلب الوليد بن المغيرة : خالداً ، ومن صلب العاص بن وائل : عَمْراً ، ومن صلب أبي طالب : علياً ، وهكذا الصحابة الشباب جلُّهم أو أكثرهم جاءوا من أصلاب الكفار، وهذه هي نظرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله! مَنْ يقول هذا الموقف إلا من شرح الله صدره للإسلام؟!
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2930 استماع |
كيف تنال محبة الله؟ | 2929 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2805 استماع |
أمن وإيمان | 2678 استماع |
حال الناس في القبور | 2676 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2605 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2572 استماع |
النهر الجاري | 2478 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2468 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2403 استماع |