سلسلة مقتطفات من السيرة [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنسأل الله عز وجل: ألا يدع لنا ذنباً إلا غفره، ولا مريضاً إلا شفاه، ولا عسيراً إلا يسره، ولا كرباً إلا أذهبه، ولا هماً إلا فرجه، ولا ديناً إلا سدده وقضاه، ولا ضالاً إلا هداه، ولا مظلوماً إلا نصره، ولا ظالماً إلا قصمه، ولا عيباً إلا ستره، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحه.

اللهم اشرح لنا صدورنا، اللهم اشرح لنا صدورنا، اللهم اشرح لنا صدورنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم من أراد بنا شراً فاجعل اللهم كيده في نحره.

اغفر لنا والمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

ارزقنا يا مولانا قبل الموت توبة وهداية، وعند الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ونعيماً، أكرمنا ولا تهنا، أعطنا ولا تحرمنا، زدنا ولا تنقصنا، كن لنا ولا تكن علينا، آثرنا ولا تؤثر علينا، نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، ومن الخوف إلا منك، ونعوذ بك ربي أن نقول زوراً، أو نغشى فجوراً، أو نكون بك من المغرورين.

نعوذ بك من عضال الداء، وشماتة الأعداء، وخيبة الرجاء، وزوال النعمة، وفجأة النقمة، اللهم أغننا بالافتقار إليك، اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تفقرنا بالاستغناء عنك، اغفر لنا وارحمنا، عافنا واعف عنا، سامحنا وتقبل منا.

اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، فرج كرب المكروبين.

اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ثقل بهذه الجلسات موازيننا يوم القيامة، اجعلها خالصة لوجهك الكريم، أنر بها على الصراط أقدامنا يوم القيامة، اللهم أنر لنا الطريق على الصراط يوم القيامة، أظلنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظله.

اللهم اسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً، نسألك أن نصحب رسول الله في جنة الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين، اللهم لا تحرمنا من النظر إلى وجهك الكريم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسيلماًكثيراً.

أيها الإخوة الأحباب! هذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة السادسة في حدثينا عن السيرة العطرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الليلة هي ليلة مولد خير إنسان عرفته البسيطة، وخير خلق الله عرفته السماوات والأرض، سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، اللهم احشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واحشرنا تحت لوائه، وحببنا فيه في الدنيا وفي الآخرة جواراً وقربة يا أكرم الأكرمين! ويا رب العالمين!

ويأتي مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العام وفي كل قلب مسلم كرب وغصة، وألم وأسى، مما وصلت إليه أحوال المسلمين، ولا يجب أبداً على المسلمين أن يظهروا مظاهر الاحتفال؛ لأن هناك ما يهمهم، وما يؤلمهم، فهناك معتد ومعتدى عليه، وهنا مسلم لا يحب أخاه المسلم، وهجوم من جميع الأطراف على جميع الأطراف بالكلام وبعدم الاقتناع، حتى خاض الناس في أهل العلم الذين يأخذون بأيدي الناس إلى الصراط المستقيم، ونسأل الله سبحانه العصمة والمغفرة والرحمة، إن لم نكن أهلاً لرحمتك فرحمتك أهل أن تصل إلينا.

اللهم عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك، اللهم إن عاملتنا بفضلك رحمتنا، وإن عاملتنا بعدلك أهلكتنا ولك الحق علينا، يا أكرم من سئل، ويا خير من أعطى، ويا أكرم الأكرمين!

يأتي المولد النبوي، والغرب الصليبي والشرق الشيوعي قد أعدا عدته لكي يستأصلا شأفة المسلمين، كل على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم قد اجتمعوا على شيء واحد، وهو عداوة الإسلام، وعداوة نبي الإسلام، وعداوة القرآن الكريم.

وللأسف الشديد نحن الذين مكناهم من هذا الأمر، فلو تمسك حكام المسلمين ومحكوموهم قيادة وشعوباً بالكتاب والسنة لما خرجت هذه الجرذان من جحورها لتتغلب علينا، ما غلب المسلمون أعداءهم ًبالعدد ولا بالعدد، رغم قلة عددهم وعتادهم إلا بطاعة المسلمين لله وبمعصية أعدائهم له.

نحن جئنا في زمن كشَّر الجميع عن أنيابه ضد الإسلام، وضد نبي الإسلام، وأعلن أغلب أعضاء الكنجرس الأمريكي أنهم لا يخافون أبداً من الشيوعية، وقالوا بالتعبير الواضح: لقد تقلمت أظافر الشيوعية، فلم يصر للشيوعية مكانة على الأرض، وإنما القوة التي يخافون منها أو الزحف القادم الذي يعملون حسابه هو الزحف الإسلامي.

فيستغلون أي فرصة للإيقاع بين المسلم وأخيه المسلم، وبين الدولة المسلمة والدولة المسلمة، وإقناع المسلمين بأشياء ليس طعناً في الإسلام ظاهراً، ولكن يظهر لمل ذي عقل وفقه أن هناك عداء مستحكماً ضد الإسلام والمسلمين وضد بلاد الإسلام.

هناك خطة لتجويع العالم الإسلامي، وخطة لنهب ثروات العالم الإسلامي، وخطة موضوعة سواء من الغرب الصليبي أو الشرق الشيوعي أو من اليهود والصهيونية العالمية في جميع مؤتمراتهم، فلا يجتمعون إلا وتقطر قلوبهم حقداً على الإسلام، يريدون إيقاف الزحف الإسلامي أو المد الإسلامي.

وأكثر ما يخيف أعداء الإسلام أن المسلمين بدءوا ينتبهون في بقاع الأرض للتربية الإسلامية في البيوت، فقال الأعداء: إن تربية الولد والبنت على الإسلام وعلى الكتاب والسنة دليل على أن المسلم عندما يتمسك بإسلامه لا يستطيع أحد مهما بلغ من قوة، ولا تستطيع قوة مهما بلغت من حجم أن تغلب مسلماً أو مسلمين يشهدون بحق: أن لا إله إلا الله، ولا خالق للكون ولا مدبر له ولا مصرف له إلا الله رب العالمين.

والعداء مستحكم لنبي الإسلام، وعلى مر الزمن تتلمذ على أيديهم أناس، مثل الدكتور: محمد حسين هيكل رحمه الله وغفر الله لنا وله، والدكتور طه حسين وأحمد لطفي السيد وغيرهم ممن تربوا تربية غربية، وأثر هذا الفكر الغربي فيهم ومن على منوالهم، وللأسف الشديد فقد امتلأت كتبهم بالمغالطات التاريخية.

ويجب على من يتصدر للتاريخ ألا يحكم فيه هواه، فالتاريخ حقائق مجردة كالكيمياء وكالرياضة وكقوانين الطبيعة، وعندما تسرد رأياً خاصاً يجب أن تعلم الناس أن هذا رأي خاص لك، أما أن تنقل أنه حقيقة تاريخية فهذا كلام سيئ.

فـمحمد حسين هيكل الذي له كتاب (منزل الوحي)، وأنصح بعدم قراءته إلا لمن تمكن من معرفة التاريخ الإسلامي، أو كانت له خلفية بالتاريخ الإسلامي، وكذلك كتب طه حسين ؛ لأن هؤلاء عبارة عن أبواق لهذا العالم الغربي أو لجماعة المستشرقين الذين كانوا يطعنون في الإسلام وفي نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

ويجب أن ننتبه أننا مستهدفون، ومسألة أن إنتاجنا مشكوك في إنتاجيته، هذه حقيقة للأسف موجودة على الساحة، نتيجة تقصيرنا في ناحيتين:

الناحية الأولى: في صلتنا بالله عز وجل.

الناحية الثانية: في اتخاذ الأسباب المعطاة لنا.

وهنالك عملوا إحصائية اقتصادية بحتة، من السوق الأوروبية المشتركة في إمكانيات العالم الإسلامي الاقتصادية، وجدوا أنه لو اجتمعت الدول الإسلامية، وعملت السوق الإسلامية المشتركة، فإن أرصدة العالم الإسلامية تستطيع أن تحتوي جزيرة الذهب التي هي رصيد أمريكا وجميع دول أوروبا الغنية، ودول أوروبا وأمريكا تملك عشر ما يملكه العالم الإسلامي، لكن اكتشفوا أن العالم الإسلامي بنسبة (98%) منه مديون للدول الغنية، وصارت هذه الدول الإسلامية أفقر الدول وأكثر الدول تخلفاً، حتى لا يذكر الإسلام اليوم في بقعة من بقاع الأرض إلا ويذكر بجواره التخلف أو التطرف أو البعد عن المدنية والحضارة.

رغم أن العظماء والعلماء أو المفكرين منهم قالوا كلاماً غير ذلك.

ولما سألوا ابنة إستالين عندما هربت من الاتحاد السوفيتي إلى الغرب الرأسمالي، قالوا لها: كيف تتركين بلدك وبلد آبائك وأجدادك، وأنت بنت إستالين من أكبر دعاة الشيوعية؟ قالت: الحياة بدون دين كحياة الإنسان بعيداً عن الماء والهواء.

وقال موليير الفرنسي : كيف لا أومن بوجود الله ولولا الله لخانتني زوجتي وسرقني خادمي؟

أي: لو لم يوجد هناك رب لكان المجتمع عبارة عن غابة، وقد صار غابة بالفعل؛ لبعد الناس عن الدين فـلا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:43] والذين سيرحمهم الله هم الذين سيتمسكون بكتاب الله عز وجل.

فالمسلمون عندهم قوى، وثروات بشرية وغيرها، لكن الأعداء بدءوا يحاربوننا فيها، ويفرضون علينا تحديد النسل وتنظيم الأسرة من أجل أن ينتصروا علينا بأعدادهم وبعلمهم.

أقول لأبنائنا في المدارس وفي معاهد العلم: تفوقوا.

وأقول لإخواننا الصناع والحرفيين: اعملوا بجد.

وأقول للموظف: اتق الله في عملك، يبارك الله لك في القليل، فاللهم بارك لنا في القليل وارزقنا من الحلال، وكثره لنا يا أكرم الأكرمين! وأبعدنا عن الحرام يا أرحم الراحمين! وبغضنا إليه حتى وإن كان كثيراًإنك يا مولانا على ما تشاء قدير.

وليس الكلام السابق نظرة تشاؤم في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يجب على الدعاة البيان، وهم أمناء على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما خلف النبي درهماً ولا ديناراً، وإنما ورث علماً للناس، والعلماء ورثة الأنبياء، وكما أخذ الله ميثاقاً على النبيين، أخذ ميثاقاً على العلماء أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نعيش هذا الدرس كله بإذن الله مع سيدنا الحبيب المصطفى، والمعيشة مع الحبيب المصطفى تشرح الصدر، وتشعر الإنسان بالأمل؛ فقد ولد نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يتيم الأب، وماتت أمه وهو صغير، ثم يكفله جده، ثم يموت فيكفله عمه، وعمل في رعي الأغنام وهو ابن أحد عشر عاماً، فإذا كنا نحبه حقاً فإن الواجب علينا أن نتأسى به.

وقد أخذته السيدة حليمة السعدية إلى بني سعد، وهناك في بني سعد تعلم أشياء أربعة:

تعلم اللغة العربية والفصاحة والبلاغة، فهذه القبيلة عربية أصيلة، وتعلم فيها لهجات العرب، لذلك لما كان يأتي إليه وفد من أي قبيلة كان يكلم الوفد بلهجته، رغم أنه ما تعلم في معهد ولا مدرسة، فقد كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2] صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض العلماء عن سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم إنه علمه ربه، وأتوا بأدلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم على مر الوقت.

وهذه القضية ليست بحاجة إلى تفسير أو تأويل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ولد في أمة متقدمة ومتحضرة كفارس أو كالروم، وما خرج من حدود مكة أبداً، إلا ما كان قبل بعثته حينما ذهب متاجراً للسيدة خديجة إلى الشام ورجع.

لذلك أنصح الذين يقرءون كتب محمد حسين هيكل أو طه حسين أو غيرهما أن يدققوا قليلاً، أو يقرءوا في سيرة ابن هشام أو ابن إسحاق ، أو السيرة النبوية لـأبي الحسن الندوي ، أو البداية والنهاية لـابن كثير ، من أجل أن يأمنوا على تاريخهم وعلى دينهم في هذه المراجع الطيبة.

فإن الدكتور هيكل يقول: إن محمداً ذهب إلى الشام، ثم تجادل مع الرهبان هناك، وتعلم منهم أشياء.

ويجاب عليه: بأن الرسول ما علمه إلا ربه، قال له ربه: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].

وقال تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52] أي: كنت قبل هذا لا تعرف أن تقرأ ولا تعرف ما معنى الإيمان.

وفي نهاية قصة سيدنا يوسف قال له: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف:102].

وعندما اختلف بنو إسرائيل في كفالة السيدة مريم يريدون من ذلك أخذ الثواب الذي لكفالة اليتيم، فأتوا إلى نهر الأردن، وعملوا القرعة، وهي عبارة عن قطع أو ألواح من الخشب، وكل واحد يكتب عليها اسمه، ويلقونها في نهر الأردن، فأي لوح أو قطعة من الخشب تصل أولاً فصاحبها هو الذي يتكفل باليتيم، يقول ربنا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].

فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زكريا وأقاربه والأحبار والرهبان من بني إسرائيل عندما ألقوا القرعة في نهر الأردن؟ فقد كان في عالم الغيب.

وفي آخر قصة سيدنا يوسف قال له: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف:102]، لماذا؟ قال تعالى في سورة أخرى: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان:32]، أي: من أجل أن نثبت العقيدة عندك يا حبيب الله، ولتعلم أن الله سبحانه ينصر رسله.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم تأت على لسانه كلمة: يا أبي أبداً، وبعد ست سنوات ماتت أمه، وما قال: أمي، إلا سنوات قليلة؛ لأجل أن يبقى قلبه معلقاً بالله، ومن أجل ألا يتدخل أحد من البشر في تربيته، ويعيش يتيماً في بيت عمه أبي طالب ، وقد كان كثير العيال، وكان الأكل لا يكفيهم، فعندما يأكل معهم الحبيب المصطفى، فإن العيال يشبعون ويفضل أكل، فكان أبو طالب يقول: انتظروا حتى يأتي ابني محمد.

إذاً: أبو طالب كان يرى أن الخير كله والبركة كلها في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد تعلم الرسول صلى الله عليه وسلم في بني سعد الفصاحة والبيان واللغة العربية، والرماية، وركوب الخيل، وتعلم السباحة في بئر كانت عندهم، ومر ذات يوم على بئر فتبسم، فقيل: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: هنا تعلم نبيكم السباحة.

والسباحة رياضة طيبة يقرها الإسلام، وهناك رياضات لا يقرها الإسلام.

وقد كان من طبيعة العرب أنهم يأخذون أبناءهم إلى البادية في جو الصحراء النقي من أجل أن يتعلم ما تقدم ذكره.

ثم عاد إلى أمه وذهبت به لتزور أخواله في بني النجار، ثم ماتت، ودفنت في الأبواء، وكان لا يزال يذكر عطفها وحنوها عليه فيبكي صلى الله عليه وسلم.

وبقي ست سنوات في كنف جده عبد المطلب ، وكان عبد المطلب الرئيس العام لقريش، أو زعيم قريش، وكانوا يضعون له فراشاً أو سجاداً عند الحجر الأسود، ولا يقترب من هذا الفراش أحد من أبنائه الكبار، فيحيطون بهذا الفراش، ويأتي عبد المطلب فيجلس، فعندما كان يأتي سيدنا محمد وكان عنده من العمر سبع سنوات كان جده يجلسه على الفراش، ويقول: دعوا ابني هذا، فإن له شأناً عظيماً، ثم يضعه بجواره ويمسح على ظهره، ويقول: إن فيه خيراً عظيماً. أي: إنه ليس ولداً عادياً وإنما هو إنسان سوف تكون له مكانته.

ويبقى سنتين في كفالة جده، وكان جده لا يتركه، وكان ينام معه، وكان عبد المطلب يقول: ينام معي في الليلة الظلماء وكأن الشمس في حجرتي.

ثم يموت جده عبد المطلب ، وقبل أن يموت أوصى ابنه أبا طالب أن يتكفل بسيدنا محمد، وقد كان عدد أبناء عبد المطلب عشرة، وقد قال: لو رزقت بعشرة لذبحت واحداً، ولم يؤمن منهم إلا اثنان: حمزة والعباس ، أسلم حمزة في السنة السادسة من البعثة، وبعد ثلاثة أيام من إسلامه أسلم عمر بن الخطاب ، فـحمزة كان ترتيبه في الدخول للإسلام برقم (39)، وعمر كان ترتيبه ورقمه (40).

ولأن المسلمين كانوا يشتكون من أبي جهل عمرو بن هشام ومن عمر بن الخطاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين عندك: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام)، فتحققت الدعوة في سيدنا عمر ، ونزل جبريل يوم أن أسلم وقال: يا رسول الله! إن أهل السماء قد كبروا عندما أسلم عمر .

أما المسلمون اليوم فإنهم أصفار تنضم إلى أصفار، فعددهم ألف مليون مسلم، ولو بصق كل واحد منا بصقة لأغرقنا إسرائيل، ولو نفخ كل واحد منا نفخة لطيرنا إسرائيل، وإذا كانت هذه النفخة لا تخرج من قبل موصول بالله فلا تطير أمامها ولا نملة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر الناس بالمناظر ولا الغلبة بالصدر وبالذراع، إنما الغلبة بالإيمان.

كما غلب سيدنا داود عليه السلام جالوت ، وذلك لما بعث الله طالوت ملكاً كان من ضمن جنوده سيدنا داود، وكان عمره خمس عشرة سنة، فوضع حجراً في مقلاع، وسمى الله وضرب بمقلاعه فطار الحجر فقتل جالوت ، قال تعالى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:251] قال الله له: يا داود! أنت عليك أن تضرب وأنا علي أن أقتل، أنت تأخذ بالأسباب، وأنا المسبب.

وكانت السيدة مريم في شبابها تتعبد الله عز وجل في المحراب، قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37] اللهم ارزقنا يا رب من حيث لا نحتسب يا رب العالمين.

أما لحظة الولادة فإنها أشد من حالة مريم وهي بدون حمل، ولذا فإن المرأة تضع وحولها فريق من المساعدين والمساعدات.

أريد أن أقول: إن القرآن عبارة عن دستور المسلم، وما علينا إلا أن نتخذ الأسباب، قال تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-23] أي: ألجأها ألم الوضع إلى جذع النخلة، قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا [مريم:23-24] وفي قراءة: (فناداها مَنْ تحتها) وكلتاهما صحيحتان، وقراءة ابن عباس (مَن) بمعنى: الذي، أي: أن عيسى هو الذي نادى، ولذلك قال أهل العلم: الذي نادى من تحتها حقيقة هو عيسى ليس جبريل؛ لأنها لما جاءت به وهو رضيع قال لها قومها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:28-29] فلو لم تعهد منه الكلام من قبل لما أشارت إليه، إذاً: بدليل أنها سمعته يتكلم قبل ذلك فأشارت إليه من أجل أن ينقذها من هذا الموقف ويشفع لها ويشهد معها.

فلما أشارت إليه استغرب اليهود وقالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29].

فأنطق الله عيسى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] فأثبت عبوديته لله؛ ليرد على جميع الفرى والأكاذيب القائلة أنه ابن الله أو أنه هو الله.

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ [مريم:30] وآتاني فعل ماض، ومعناه: أعطاني، فالله عندما يتحدث ليس هناك ماض أو مستقبل، فإن الزمان ملك لله عز وجل، وإذا أراد الله شيئاً كان، ومثل ذلك قوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96] وهو لا يزال غفوراً رحيماً، وفي قواعد اللغة العربية أن كان لا تدل على الماضي فقط، وإنما تدل على الماضي والحاضر والمستقبل، أي: كان الله غفوراً رحيماً في الماضي وما زال غفوراً رحيماً في الحاضر، وسوف يظل بمشيئته وبفضله ورحمته غفوراً رحيماً في المستقبل، فاللفظ له مدلولات في اللغة العربية.

وقوله تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:24-25] أي: قال لها سيدنا عيسى عليه السلام: لا تخافي ولا تحزني، والقرآن لا يأتي بمترادفات فالخوف شيء والحزن شيء آخر، مثل قوله تعالى وهو يمن على قريش: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، فإذا أمن شعب في لقمة عيشه وحريته سوف تأتي نتيجة طيبة من هذا الشعب، أما أن تحارب الناس في لقمة عيشها وفي أمنها فستكون هنالك نتيجة سيئة.

ذكر لي أحد الأساتذة أنه في كل يوم جمعة يضع حباً للعصافير في البلكونة ليحصل على ثواب، وفي يوم من الأيام وضع الحبوب ففوجئ بأن العصافير لا ترضى أن تنزل، اكتشف أنه نسي باب البلكونة مفتوحاً، فالعصافير فكرت أنه عمل لها فخ من أجل أن يمسكها، فتأمين الناس من الخوف أمر مهم فإن العصفورة إذا لم يأمن لا تنزل، ولذلك قال ابن القيم : طائر الطبع -أي: الهوى- يرى الحبة، وعين العقل ترى الفخ فتقول: حذار! حذار!

فالعاصي يرى المعصية حلوة، فينظر إلى امرأة ماشية، أو إلى فيلم، أو يسمع نكتة، أو حاجة جيدة، لكن لو فكر بقبله فإنه سيرى الفخ، وسيعلم أن الشيطان يضحك عليه، ويضع السم في العسل.

وقوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25] أمرها الله تعالى بأن تهز جذع النخلة وهي متعبة بآلام الوضع والولادة، وقد رزقها سابقاً وصحتها جيدة وبدون مجهود، وفي هذا درس للمسلمين بأن يأخذوا بالأسباب ويستعينوا بالله ولا يعجزوا، فالمزارع عليه أن يبذر الحب ويقول: يا رب! ولا يكون طوال السنة نائماً، كالطالب الذي لا يذاكر فيرسب فيحتج بالقضاء والقدر، فالمطلوب منه أن يتخذ السبب ويذاكر جيداً.

وقوله تعالى: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25] ما الحكمة من ذكر الرطب في هذه الآية مع أن الشام مليئة بالتفاح والحوامض وغيرها؟

فقد وجد علماء الكيمياء العضوية أن الرطب فيه مركب يوقف النزيف عند المرأة بعد الوضع، وهذا المركب لا يوجد إلا في الرطب فقط أما التمر والبلح الناشف فلا.

فعلى المؤمن أن يطرق السبب والله عليه فتح الأبواب، والذي يمسك باب الله يعطيه مفتاحه، والذي يريد الغنى في الآخرة ربنا عنده الدنيا والآخرة، والذي يريد الدنيا الله يعطيه الدنيا، والذي يريد الآخرة يعطيه الله الدنيا والآخرة؛ لأن الله يقول: يا دنيا! من خدمك فاستخدميه، أي: الذي يبقى عبداً لك فاستعبديه، ومن استخدمك فاخدميه.

فالإنسان إما في حالة حزن أو هم أو غم، والحزن هو ألم النفس على الماضي، والغم هو ألم النفس في الحاضر، والهم هو ألم النفس من الخوف من المستقبل، لكن المؤمن بفضل الله ما فات منه لا يندم عليه.

قال العرب في قصة رمزية: صياد اصطاد عصفورة، فقالت له: ماذا ستعمل بي؟ أنا لا أسمن من جوع، وإذا بعتني لا أساوي شيئاً، لكن أقول لك ثلاث حكم، حكمة وأنا لا زلت على يدك، وحكمة وأنا على الشجرة، وحكمة وأنا على الجبل، فأطلقها، فقالت: الحكمة الأولى: لا تندمن على ما فات، فطارت ووقفت على الشجرة.

ثم قالت له: الحكمة الثانية: لا تصدقن كل ما يقال لك أنه يكون رغم أنه لا يكون، أي: لا تصدق بالأمر المستحيل يا مسكين! لو ذبحتني لوجدت في حوصلتي قطعة من الذهب تزن مائة مثقال، فعض على إصبعه.

ثم قال: هات الثالثة. فقالت: من أين الثالثة؟ هي الأولى والثانية معك، قلت لك: لا تندمن على ما فات، وأنت ندمت، وقلت لك: لا تصدقن بكل ما يقال أنه يكون رغم أنه لا يكون، أنا لا أزن مثقالاً واحداً فكيف يكون بجوفي مائة مثقال من الذهب؟

فالمسلم لا يندم على ما فات، فإن ما فات قدر، واحمد الله أن مرت الأزمة بخير، سواء كانت أزمة مالية أو أزمة صحية أو غيرهما، فالمسلم يتعود على الأزمات ويصبر عليها.

فـأبو طالب أخذ الحبيب المصطفى، فصار الرسول صلى الله عليه وسلم في كفالة عمه، وكان عمه كثير العيال، وكان عمر الحبيب صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سنة وهو يرعى غنماً لقريش على قراريط في مكة، والقراريط أقل من الدراهم، فالفرد المسلم لابد أن يكون منتجاً وعاملاً وعنصراً فاعلاً في المجتمع.

وقيل: أن رجلاً من اليمن أعطى العاص بن وائل المال، ولم يرض أن يعطيه حقه، فاستجار اليمني بصناديد قريش، وهم أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وغيرهم من عظماء قريش.

فأرادوا من العاص بن وائل أن يعيد المال للرجل فرفض، فوقف الرجل في اليوم الثاني عند الحجر الأسود، ونادى: يا معشر قريش! يا من لا تظلمون أحداً، لي ظلامة عند العاص بن وائل ، فمن يعيد إلي حقي؟

فقام الحارث بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان أكبر أبناء عبد المطلب ، فجمع بعضاً من قومه وكان منهم أربعة يسمون بالفضل ، وهم: الفضل بن زيد ، والفضل بن وائل ، والفضل بن عبيد الله ، والفضل بن عبد الله ، فاجتمعوا وتواعدوا أو تعهدوا بنصرة المظلوم في مكة، سواء كان من مكة أو من خارجها، فسمي بحلف الفضول، وسبب تسميته بحلف الفضول؛ لأنه صاحب فضل في إعادة الحق لأهله؛ أو لأن المجتمعين كان أغلب أسماؤهم الفضل.

فقال أصحاب هذا الحلف: سوف نعيد الحق لأهله ما بل بحر صوفة، وما بقي جبلا ثبير وحراء مكانهما.

والرسول صلى الله عليه وسلم قد حضر حلف الفضول وهو ابن أربعة عشر عاماً في دار عبد الله بن جدعان وقال: (ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله لأجبت).

ولما كان عمر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، أرسلت السيدة خديجة إليه لكي يتاجر لها في تجارته، وذهب أبو طالب إليها وقال: يا خديجة ! بلغني أنك تعطين أجيرك بكرين يعني: جملين، وإني أطلب لابن أخي أربعة.

قالت: يا أبا طالب ! أنت كبيرنا وزعيمنا وعظيم قريش، فلو جئت لتطلب هذا في بعيد بغيض، أي: لو أن رجلاً ليس بيننا وبينه قرابة ونكرهه، فما بالك وأنت جئت في قريب حبيب؟!

فلمح أبو طالب هذه الكلمة، وقال بلسان الحال: ما الذي جعلها تتكلم بهذه اللهجة؟

قيل إن ابن عباس لما دخل على إحدى الصحابيات يعزيها في زوجها فقال: إذا كان زوجك قد مات، فإن زوجتي قد ماتت، قالت: عجباً يا ابن عباس ! أتخطبني في عدتي؟

قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (كل أرض يذكر فيها اسم الله تتيه على بقية الأراضي بجوارها).

والمسلم عندما يموت يبكي عليه مكانان: موضع سجوده في الأرض ومصعد عمله في السماء، وهناك أناس لا يقفل عملهم بعد الموت، فلا يغلق مصعد العمل بعد الموت، فالذي عمل صدقة جارية، أو لديه علم ينتفع به، أو له ولد صالح يدعو له، أو عمل خيراً في الناس، أو سن في الإسلام سنة حسنة، أو بنى مسجداً، أو بنى معهداً علمياً، أو ساعد في بناء مستشفى، أو زرع نخلة، أو كل ما يستظل به من الناس والطيور والحيوانات، أو عمل سبيل ماء للناس ليشربوا منه، فما يفعل من خير سوف يصعد، ولذلك يقول ربنا: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:5].

أي: ما قدمته في الحياة الدنيا وما أخرته بعد الموت، فهذه الآية تدل على أن العمل لا يوقف، اللهم اجعلنا من أهل الخير يا رب العالمين!

فالسيدة خديجة وافقت على ما قاله أبو طالب ، فتاجر الرسول ببضاعتها إلى بلاد الشام، فبيعت كل قوافل قريش إلا البضاعة التي للسيدة خديجة فإنها لم تبع، فبقي يومان على رحيل القافلة، وكان ميسرة وهو غلام خديجة حزيناً؛ لأن التجارة بارت وستخسر، فشاء الله أن تصاب المزروعات في الشام بمرض وإذا بقافلة السيدة خديجة تشتري بأغلى الأثمان، وهذا من بركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

جاء إلي رجل وقال لي: إنه سيفصل من وظيفته، وسيراقب من قبل أجهزة الأمن.

قلت له: إذا أراد الله شيئاً كان، فثق بالله وتوضأ وصل ركعتين خالصاً لوجه الله، واقرأ ياسين بنية قضاء الحاجة، واخلص لله في الدعاء، ففعل ذلك، ففي ذلك اليوم حدثت أحداث في الأمن المركزي، وحصل تغيير في الدولة كلها، وإذا بالرجل قد ترقى في وظيفته، وكان كلما يقابلني يقول: ليس لنا سوى الله.

فباع النبي صلى الله عليه وسلم تجارة السيدة خديجة ضعف ما كان ميسرة يأخذ البضاعة، وكان ميسرة ينظر إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وغصن الشجرة يتدلى إليه، وكان يمشي معه والسحابة تظلل الحبيب المصطفى ولا تظلل ميسرة ، وكلما ينظر إليه يرى وجهه منوراً، إلى أن عادا إلى مكة، وظل هكذا ثلاث سنوات وهو يتاجر للسيدة خديجة .

وقد حصلت حادثة لـخديجة ولها من العمر عشرون سنة، كانت جالسة مع نساء من قريش، فمر من أمامهن حبر من أحبار اليهود زار مكة للتجارة، فلقى هؤلاء النسوة قاعدات، فقال: يا معشر نساء قريش! النبي الخاتم سوف يكون من هنا، فيا سعادة من تزوجته، فحصبنه بالحصى، وذلك من حياء العذارى، فقد كانت البنت في زمن الجاهلية تستحي، وتصوب نظرها إلى الأرض، وبالذات عندما تخبر بخبر الزواج، فتستحي وتجري إلى خدرها؛ لأن هذا الكلام عيب عندها، أما الآن فإن البنت تقعد وتضع رجلاً على رجل وتقول: لكن هذا الرجل لا يعجبني.

والذي عنده حياء عنده دين، والذي ليس عنده دين ليس عنده حياء، فإن الحياء من الإيمان، فمن لا حياء عنده لا إيمان له، قالوا: إذا لم تستح فاعمل الذي يعجبك.

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل

أي: ما دام أن المرء لا يدنس عرضه بالكلام السيئ فأي رداء يلبسه فهو جميل، ففي ذلك الزمان كان يوجد حياء العذارى، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب تستأمر، والبكر تستأذن)، يعني: الدليل على أن البنت موافقة على الزواج إذا سكتت، فالسكوت علامة الرضا، ولو كانت معترضة فإنها ستقول: لا، ولذلك قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (استأمروا نساءكم في شأن بناتهن) يعني: لست أنت الذي تكلم البنت: ما رأيك في فلان؟ بل اجعل أمها هي التي تقول لها ذلك؛ لأن سرها يكون مع الأم.

أما قولهم: شاوروهن وخالفوهن، فليس هذا من الدين، فلو كان هذا القول صحيحاً فإن فيه تضييع الوقت، فينبغي للمسلم أن يشاور زوجته في أي أمر، فيقول لها: سنعمل كذا ولن نعمل كذا، وعلى المسلم أن يعرف أخلاق زوجته، فإذا كانت تغضب من بعض الأمور فلا يشاورها؛ لأن المشورة سيكون نهايتها لا تحمد.

وأقول للنساء: لا تكرهن أزواجكن في أهلهم، وأقول للرجال: لا تكرهوا زوجاتكم في أهاليهن.

ومن ضمن حقوق زوجتك عليك: أنك لا تمنع زوجتك أن تذهب كل جمعة على الأقل إلى أبويها ما داما أنهما في نفس البلد، ولا تحلف على منعها من ذلك، لا تحلف على ما أحل ولا تحرم ما أحل الله.

فالسيدة خديجة تذكرت هذه الحادثة، وكانت من قبل قد تزوجت من رجلين: رجل مات ولم تنجب منه، والرجل الآخر أنجبت منه هند بن أبي هالة ، فبعثت إلى رسول الله صاحبتها نفيسة أو نُفيسة أما نِفيْسة فلا يوجد هذا الاسم في قواميس اللغة العربية، يقال: الشيء النفيس، وهو النادر الغالي الثمين، وليس النِّفيس.

فقالت نفيسة : ألك في الزواج يا محمد؟! وأخذ الفقهاء من هذا: أن المرأة الصالحة تخطب لنفسها إذا كان الرجل فيه صلاح وتقوى.

وبعض الناس يفتح مع زوجته صفحات سوداء في كل يوم، بل الواجب عليه أن يعمق المحبة بينه وبينها فإنها تأتي بالود، وتأتي من الكلام الطيب.

قالت لي امرأة متبرجة أنها كانت تتكسب بالحرام، وقد سمعت مني حديثاً كان هو سبب الهداية، وهو أن السيدة عائشة كانت واقفة والحبيب صلى الله عليه وسلم واضع ذراعه على باب حجرة السيدة عائشة وساتر السيدة عائشة بكمه وهي واضعه ذقنها على ذراع الحبيب وتنظر إلى الأحباش وهم يلعبون في المسجد، وكان يقول لها: هل اكتفيت يا عائشة ؟ فتقول: انتظر يا رسول الله قليلاً، وكان يكرر عليها: هل اكتفيت؟ فتقول: انتظر يا حبيب الله، فهذا يدل على حنان رسول الله، فالمرأة هذه قالت: جلست أقارن بين حنان الرسول وفضاضة زوجي، وقلت: الإسلام عظيم جداً، وأنا غلطانة أني ما تزوجت رجلاً متديناً، وكان هذا سبب هدايتها، واستقامت على طريق الله، فاللهم اهدنا جميعاً يا رب.

فهذه القصة الصغيرة تنبئ عن حنان الحبيب ورحمته، فعلى المسلم أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق العظيم فيتعامل مع زوجته برفق وحنان، فإن ذلك سبب في تساقط ذنوبهما كما يتساقط ورق الشجر في اليوم الشاتي، فالزوج يصافح زوجته ويمد يده إليها وإن رفضت أن تمد يدها، فالرجل يكون ودوداً، صاحب القلب الكبير، يدخل عليها بوجه طلق.

لذلك سيدنا أيوب لما تأخرت عليه زوجته وكانت ذاهبة تأتي له بالأكل وهو طريح الفراش، حلف بالله أن يضربها مائة سوط، فعندما خرجت من عنده: إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، فقال له ربه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] فضرب برجله الأرض ولم يكن يستطيع أن يحرك رجله؛ لأنه كان مشلولاً، فضرب برجله فنبع الماء، فشرب قليلاً واغتسل بالباقي فعاد شاباً كما كان، وبرئ من المرض.

فدخلت عليه، فظنته رجلاً آخر فقالت له: هل رأيت زوجي؟ قال لها: رأيته، قالت: فأين ذهب؟ قال: هو الجالس أمامك، فسجدت لله سجدة الشكر، ثم أراد أن يبر بيمينه فيضربها مائة سوط، فقال له ربنا: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44] يعني: مائة عود من أعواد القمح، ويجعلها في حزمة واحدة ويضربها ضربة واحدة، إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].

فالمسلم يعامل زوجته بحنان ورقة، والله يبارك له فيها، وهذه المعاملة تجعل الزوجة تستحي من زوجها قليلاً، وإذا لم تؤثر فيها هذه المعاملة فقد أخذ ثواب الصبر.

قيل إن الجاحظ كان يمشي في الصحراء فرأى خيمة، فجاء إليها وقال: السلام عليكم يا أهل الخباء، فرد عليه السلام امرأة وقالت: من؟ قال: الضيف، قالت: وما للضيف عندنا؟ قال: يكرم، قالت: ما عندنا شيء، فخرج من الخباء وجه امرأة مقطب الجبين، فخاف الجاحظ منها، ثم رأى رجلاً مقبلاً هاشاً باشاً وضيء الوجه، فقال: مرحباً، أهلا أخا الإسلام، من أنت؟ قال: ضيف، قال: مرحباً بالضيف، وأتى به وأقعده وأكله.

ثاني يوم ألجأته الرحلة إلى خيمة، فقالت: السلام عليكم يا أهل الخباء؟ فقالت امرأة: من؟ قال: ضيف، قالت: مرحباً بالضيف، فجلس خارج الخيمة وأتت له بفرخة، فأكل حتى شبع، وبعد قليل أتى رجلاً مكشر الوجه، فنظرت إليه لكي يلقي السلام فلم يلق، قلت: فألق السلام، فأشاح إلي بيده، ودخل إلى الداخل، قال: فسمعت صياحاً بينه ويبن زوجته، فاستلقيت على قفاي من الضحك، وخرج الرجل فقال: أتضحك وأنا أتصارع مع زوجتي؟!

قال: لقد رأيت البارحة عجباً ورأيت اليوم عجباً، الأمس رأيت المرأة بخيلة جداً وزوجها كريم وبشوش، واليوم الرجل بخيل جداً وزوجته كريمة، قال: المرأة التي رأيتها بالأمس هي أختي، وهذه المرأة أخت الرجل الذي رأيته بالأمس.

فالمؤمن كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه.

قال صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة).

قيل: إن الأصمعي الأديب العربي المعروف لقي امرأة كالبدر ليلة التمام وزوجها يقطب في وجهها، وشكله دميم ومكشر، فقال: ما الذي يصبرك على هذا؟ قالت: لعله صنع حسنة ما فجازاه الله عنها خيراً بي، وصنعت أنا سيئة يوماً ما فجازاني الله بها شراً به.

زواج الرسول بخديجة

فالسيدة نفيسة جاءت لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم فقالت: أما لك في الزواج بـخديجة ؟ قال: ومن أين لي مهرها؟ أي: أنها رفضت صناديد العرب؛ لأن أبا جهل كان يريد أن يتزوجها وكذلك أبو لهب وعقبة بن أبي معيط ؛ لأنها كانت سيدة نساء قريش.

ثم قال لها: سوف آتي بأعمامي من الغد، والسيدة خديجة أتت بعمها أسد بن عبد الله بن أسد ، والسيدة خديجة تلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده السابع قصي .

فدخل أبو طالب والعباس ، فوقف أبو طالب ليخطب خطبة الزواج، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وضئضئ معد ، يعني: من الأصل أو من المعدن الذي من معد الذي هو جد العرب، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، أي: الخدم الذين في الحرم، وجعل لنا محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس.

ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش شرفاً ونبلاً وفضلاً إلا رجح به، وهو إن كان في قل فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، يعني: المال دول، اليوم معك وغداً يكون مع فلان وفلان، وهذا يكون غنياً ثم فقيراً، والفقير يصبح غنياً والدول هكذا، فما يصدق على الأفراد يصدق على الدول، وسبحان من يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويغني من يشاء ويفقر من يشاء، فاللهم أغننا بالافتقار إليك يا رب العباد.

وقد قسم أبو طالب الخطبة ثلاثة أقسام: المقدمة وتكلم فيها عن الأصل، والقسم الثاني تكلم عن أعظم عريس في العالم منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والقسم الثالث: قال: وبعد: هذا هو والله له نبأ عظيم وخطب جليل جسيم -يعني: له مكانة وهي النبوة المنتظرة- وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي.

قال عمها وهو رجل عظيم في قومه: ما تقوله يا أبا طالب فلا نقول نحن شيئاً، قال أبو طالب : هذا اثنا عشر مثقالاً من الذهب، وخمسمائة درهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومني عشرون بعيراً.

قال عمها: اشهدوا يا معشر قريش أني زوجت محمد بن عبد الله من بنت أخي خديجة بنت خويلد . فهذا أعظم زواج في العالم، لا يليه إلا زواج فاطمة من علي .

وقد كان رسول الله يسكن مع عمه أبي طالب ، وكان بيت أبي طالب قد ضاق عليه من كثرة العيال، فالسيدة خديجة كانت وحدها في بيت كبير، فطلبت من رسول الله أن يسكن معها في بيتها.

فعلى أبي الزوجة إذا وسع الله عليه أن يعطي زوج ابنته شقة، ولا يضيق عليهما، بل عليه أن يشعر الرجل بقوامته، وأنه هو رب البيت، لقوله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وقال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34].

وبيت السيدة خديجة مكون من ثلاثة سلالم على الأرض، ثم في داخل البيت فناء واسع عبارة عن ثلاثين متراً طولاً في ثلاثة عشر متراً عرضاً، وهذا الوصف من كتب السيرة، لكنني حولتها من الذراع إلى مقياس العصر، وعلى اليمين فيه غرفة ستة أمتار في سبعة أمتار، كان يستقبل فيها الحبيب المصطفى أصدقاءه، وكان أكبر صديق له أبا بكر الصديق وعمار بن ياسر ، وكان أصدقاؤه يأتون إلى البيت.

قيل: إن الناعم بن عبد الله كان من جنوب الجزيرة، فقعد بجنب العباس فرأى رجلاً يصلي ووراءه واحد ووراءه ولد صغير وخلفه امرأة، قال: ما هذه الصلاة الغريبة التي أراها؟ ومن هذا؟ قال له: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، يقول: إنه نبي الأمة، قال: ومن الذي خلفه هذا؟ قال: هذا صاحبه أبو بكر ، قال: ومن هذا الشاب الصغير؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ، قال: ومن المرأة التي خلفهم؟ قال: هذه خديجة بنت خويلد ، فلما أسلم بعد عشر سنين قال: يا ليتني كنت أسلمت ساعتها وكنت أنا الرابع، وذلك لأن هداية الله لم تأت بعد.

ثم الغرفة التي بعدها مثل الحجرة سبعة أمتار في أربعة أمتار كانت غرفة بنات النبي صلى الله عليه وسلم، والحجرة الثالثة كانت أحد عشر متراً في ستة أمتار، وهذه حجرة سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم والسيدة خديجة، وكان فيها جزء عنده محراب يتعبد فيه لله عز وجل.

اللهم اغفر لنا وتقبل منا واقبلنا في عبادك الصالحين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.